لمــاذا اخــتــرت هــذه الــقــصــص؟

توصلت بست عشرة قصة قصيرة، ينتمي كتابها إلى ثمانية بلدان عربية، بل وثمة أكثر من قصة من البلد الواحد (مصر والجزائر والمغرب)، ما يشي بمدى إقبال فئة الكتَّاب الشباب على كتابة القصة القصيرة، في الوقت الذي ارتمى فيها كثيرون، من أجيال مختلفة، في أحضان كتابة الرواية، لاعتبارات مختلفة، لا مجال هنا للتعرض لها.
لكن ما يهمنا نحن، على مستوى هذه المسابقة الرائدة، هو ما تكشف عنه من مؤشرات، تهم أساساً الاهتمام المتزايد لكتابنا الشباب بكتابة القصة القصيرة، برغبة ملحِّة، وبأشكال سردية وجمالية متنوعة، وبتنويعات مضمونية ودلالية مختلفة، كما هي الحال بالنسبة إلى القصص المرشحة، برغم بعض الهنات والأخطاء التعبيرية واللغوية والإملائية والنحوية التي طبعت جل مساهماتهم، فضلا عن المساهمة اللافتة لكتَّاب القصة القصيرة من الذكور والإناث في هذه التجربة، بشكل لا يمكن تجاهله.
وإذا كانت قصص مسابقة هذا العدد تتفاوت في ما بينها على مستويات مختلفة، على مستوى النفس القصصي وطرائق الكتابة وطبيعة الموضوعات المرصودة وغيرها، فهي تحاول مع ذلك، في مجملها، ملامسة قضايا وتعقيدات وتحولات وسلوكيات الواقع الذي تستوحيه، بإبداعية وجرأة أحياناً، وبخجل أحيانا أخرى، ما جعلها قصصاً متفاوتة في ما بينها، بين قصص واقعية وسوريالية وتجريدية وتقريرية، بل إن بعض القصص يغلب عليها الطابع الوعظي المباشر، ما يفرغها من أي روح إبداعية أو جمالية، وإن خضعت جميعها لنوع من المنطق والعفوية والصدق في كتابة القصة القصيرة، وخصوصاً على مستوى تشخيصها للمشاعر الجياشة، وللأبعاد الدرامية، وللأحاسيس الصافية.
ومع ذلك، فاللافت للنظر في مجموع هذه القصص القصيرة، أنها أيضا جاءت متفاوتة بين قصص يغلب عليها الطابع الذاتي، وأخرى أتت محملة بحكايات وأمكنة وأزمنة ودلالات متنوعة، في تمثلها لفضاءي الريف والمدينة على حد سواء، وفي رصدها لثيمات مختلفة تغني فضاءها الحكائي العام، من قبيل ثيمات الحلم والكتابة والحب والموت والوهم والألم والأمل والحصار والحنان والفقر والقلق والخوف والفرح والضياع والحرمان والطفولة، وغيرها، فضلا عن تمثلها لمختلف مراحل حياة الإنسان من طفولته إلى مراهقته إلى شبابه إلى شيخوخته، ما يجعل منها أسئلة مؤرقة لشخوص قصصها، موجهة لصيروراتها، ومحددة لمصائرها، وذلك بشكل يجعلنا، نحن القراء، أمام أفق مضيء لأصوات قصصية عربية واعدة.
وإذا كان من الصعوبة، هنا، اختيار خمسة نصوص من بين مجموع القصص المتوصل بها، فإن تنوع القصص على مستوى طرائق صوغها وثيماتها ودلالاتها يسمح لنا، مع ذلك، بتحديد هذه القصص وترتيبها كالتالي:
المرتبة الأولى: «الدمية الدامية» لـ نوار الحمودي/ لبنان
تعتبر هذه القصة من بين أطول قصص المسابقة، بنفسها الحكائي المسترسل وبتقنياتها السردية المختلفة، وعلى رأسها تقنية الوصف التي نجحت هذه القصة في استثمارها بلغة سردية مقبولة، على الرغم من الأخطاء الملحوظة، بما هو وصف لحالات ولمشاعر إنسانية قاسية، تمكنت القصة من التعبير عنها بفنية تضفي على عالمها مسحة واقعية ودرامية.
تحكي القصة حكاية قد تبدو، للوهلة الأولى، كلاسيكية وعادية، وهي حكاية فتاة يتم إرغامها على الزواج من قبل والدها تحديداً، برجل غريب يكبرها سناً بكثير، رجل بملامح حادة وبأسنان ذهبية بدت كأنها خردة لامعة في فمه، لتصير الفتاة أماً في وقت قصير برغم أنف الزمن، تلد طفلة، في وقت مازالت معلقة فيه بصباها وبلعبتها المفضلة، لعبة العرائس البلاستيكية، لتجد نفسها فجأة رهينة لعبة شبيهة بالأولى، وإن بدت هذه المرة لعبة حقيقية، هي لعبة عريس جائر وعروس بريئة.
هي، إذن، قصة تصور لنا بعنف وبقساوة، حالة من حالات اغتصاب الطفولة في مجتمعاتنا العربية، هاته التي ترغم الفتاة على المرور قسراً من عالم الصبا، ببراءته وفرحه ولعبه، إلى عالم الكبار، بما هو عالم مجهول وطافح بالقسوة والغربة والاختناق والقمع والخوف والتردد والفراق والوحدة وتجريد الإنسان من آدميته ومن كلماته؛ عالم تحول فيه اللعب بالدمية إلى لعب لعين مع الشيطان.
وتكمن أهمية هذه القصة في تمكنها، بفنية وتشويق، من التعبير عن عقدتها الحكائية، في قالب من التوازي والتقابل بين الأزمنة، بعيداً عن اشتراطات المحكي القصصي التقليدي، وذلك ما يعكسه استمرار انشداد تلك الفتاة إلى زمنها الأول، برغم ارتمائها القسري في عالم الأمومة، إذ يعيدها وجه تلك الدمية، ابنتها الرضيعة، إلى زمن كانت قد غادرته مكرهة، فتشعر أخيراً بالحرية، وتنسى غرفة العمليات ووجه الطبيب.
المرتبة الثانية: «لا أقول وداعاً» لـ إسلام محمود عبدالموجود أبو طالب / مصر
خلافاً للقصة الأولى التي اتخذت من فتاة بطلتها، تتخذ هذه القصة من شخصية صبي بطلاً لها، كما تتمثل، أيضاً، شخصيتا الأم والأب فيها، عبر سرد واقعي مكثف، يتم عبره تقديم حكاية صبي يبيع الشاي لمرتادي القطارات، إذ الأب قعيد والأم مهتمة بشؤونه، فكان لابد للصبي أن يخرج للعمل بائعاً لأكواب الشاي لمرتادي القطارات، ذهاباً وإياباً، من أجل الحصول على بعض الجنيهات.
وتكمن أهمية هذه القصة، برغم بساطة حكايتها، في كونها تمكنت من تكثيف الحدث القصصي فيها بشكل فني لافت، يجعلنا معه أمام حالة إنسانية، يؤطرها حلم بدأ ضائعاً، كما تصفه القصة، لصبي، هو حلم بيع براد الشاي كاملاً، وحلم اللعب فرحاً بهذا الإنجاز، وإن لم يكتب له الاكتمال، إذ يصدم الصبي قطار وهو يلهو بالبالون فيلقى حتفه.
وإذا كانت من دلالة تضمرها هذه القصة من خلال حكاية الصبي بائع أكواب الشاي، فهي تصويرها لحالة الحرمان، التي يولدها الفقر أساساً، حرمان الطفل من طفولته، نتيجة لما يعترضه من إكراهات اجتماعية واقتصادية، تُكبِّل انطلاقته، وتحد من تحقق حلمه، هذا الذي بدأ ضائعا وظل عبوره إلى دنيا النور مستحيلاً.
المرتبة الثالثة: «واجهة العرض» لـ أسماء رمضان محمد علي / مصر
تبدو هذه القصة مختلفة عن سابقتيها، على مستوى طبيعة المحكي وشخصياته فيها؛ فهي قصة، خلافاً لقصص أخرى، تتخذ من الفساتين (الألبسة) شخصيات لها، إذ تمنحها الكاتبة الصوت وتنفخ فيها الروح، لتعبر عن مشاعرها تجاه مصائرها، سواء وهي معروضة في الواجهات الزجاجية للمتاجر، أو وهي في خزانة الملابس، بعد أن يتم اقتناؤها.
تكمن قيمة هذه القصة في كونها تقلِّب المنطق السردي فيها، إذ تجعل من الفساتين شخصيات رئيسة فيها، لها حيواتها وحكاياتها وأحلامها في مواجهات شخصيات أخرى، آدمية، تبدو فقط شخصيات عرضية ولا صوت لها في القصة.
وإذا كانت بعض السرود العربية تستثمر المكون الحيواني فيها لصوغ حكيها وبناء دلالاتها، فهذه القصة نجحت في تمرير محكيها القصصي على لسان الألبسة، وهي تحكي أحلامها بالاستقرار وبإدراك هوية من سيرتديها والاستمتاع برائحة مرتدياتها وبنتف من ذاكرتها وبتسارع نبضات قلبها، بغاية إدراك بعض من حياة، كما تقول القصة، لكنها أحلام سرعان ما تصطدم، في الأخير، بإكراهات اللاتحقق.
وعموماً، فإن هذه القصة، بما تحققه من فنية سردية، وبما تكشف عنه من دلالات موازية، إنما تراهن، عبر أسلوبها القصصي المختلف، على أن تشعرنا بأن المعاناة والفرح هما قدران مسلطان على الإنسان، في علاقته بذاته وبمحيطه وبأشيائه.
المرتبة الرابعة: «ساعي الحياة» لـ بونيني طه / الجزائر
تكمن أهمية هذه القصة في كونها تتفاعل مع عالم جديد أصبح ملجأً وبديلاً جديداً لشبابنا، ألا وهو عالم التواصل الاجتماعي، أمام تسلط شبح البطالة في واقعنا الراهن.
القصة تحكي عن الشاب وليد الذي انخرط في بعض المجموعات بموقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، إذ عاد بعد انقطاع مشاركاً فيه، ليثبت وجوده، فاتحاً في مجموعة موضوعا تارة، ومناقشاً منشوراً تارة أخرى.
لكن هذه العودة سرعان ما تعرض وليد لما يشبه الكابوس الذي أفاق منه فجأة، ليجد أنه كان يعيش داخل عالم افتراضي، وأنه كان يحلم فقط، ما يجعله في مواجهة جديدة لواقع من الفوضى وخراب النفس والغرفة؛ واقع تُشكِّل البطالة أحد مولداته، قبل أن يطفو أمام عينيه استدعاء لحضور مسابقة توظيف.
وتختم القصة حكايتها، بإظهارها لوليد، وقد تخلص من حاسوبه بعد أن وضعه من دون مراعاة في ركن الغرفة، فسكنت أعصابه، ليباشر وضع برنامج للمراجعة.
إذن، هي قصة عن عالم الشباب وشبكة الإنترنت، بما تكشف عنه القصة من إكراهات تولدها الإنترنت، وقد بدا سالباً للشباب حرية التفكير في مستقبلهم الدراسي والمهني، إذ تمكنت هذه القصة من تمرير ذلك بشكل إبداعي جميل، بعيداً عن أي مباشرية أو وعظية.
المرتبة الخامسة: «أنين الزجاج» لـ قادة بن سلطان صفية / الجزائر
هي قصة حب ريفية، بين الفتاة بلقيس، التي لم تبلغ العشرين من عمرها بعد، والتي اعتادت على الأعمال الشاقة في كوخها الريفي البارد، الذي تعيش فيه مع والدتها المتسلطة، في غياب والدها المتوفى، الذي كان قد منعها من دخول المدارس، وبين راعي الغنم، سليمان، الذي يعيش مع خاله، كما يعيش صدمة فراق قريب، إثر ما تعانيه أمه الطيبة المطلقة، نتيجة إصابتها بالسرطان.
داخل هذه الأجواء المفارقة، المليئة بالحب والجنون والمشاعر والأحلام والألم والصدمات والمعاناة والقسوة والملل، يعيش كل من سليمان وبلقيس تجربة حب، ويخططان للاستقرار وتكوين أسرة، قبل أن تفاجئهما رغبة خال سليمان، هو أيضاً، في الزواج ببلقيس، ليختار العشيقان الهروب إلى المدينة، حيث الحرية والأمان، بعيداً عن جشع الخال، وقساوة أم بلقيس، وألم أم سليمان.
لكن قرار الهروب من الواقع لم يصمد كثيراً، إذ قرر الحبيبان العودة إلى القرية، لكن لعنة الظلام، وغزارة المطر، جعلتا سائق التاكسي ينحرف عن الطريق، لتنقلب السيارة وتنفجر، ويلقى سليمان حتفه.
هكذا، إذن، تقدم لنا هذه القصة، بكثافة سردية، حكاية حب تقليدية موقوفة التنفيذ، في ريف بشمال إفريقيا، وداخل عوالم مشحونة بالرغائب والإكراهات، في تمثلها لشخصيات مفارقة، تعيش أزمة وجود وقلق وخيبات أمل، وهي تبحث عن خلاص محتمل لمصائرها، إذ يصبح الصمت إلى الأبد عند بلقيس، بعد وفاة سليمان، هو ما يعوض، بالنسبة إليها، سعادة مؤقتة لم تعرف طريقها إلى الاكتمال .