من قَصْر «الحمراء» إلى جَنَّات العريف

من قَصْر «الحمراء»  إلى جَنَّات العريف

كان‭ ‬علينا‭ ‬أن‭ ‬نترك‭ ‬مساءات‭ ‬مدينة‭ ‬مربيلا‭ ‬باكرًا‭ ‬ونأوي‭ ‬إلى‭ ‬الأحلام‭ ‬علّها‭ ‬تقرب‭ ‬لنا‭ ‬صباحا‭ ‬نعانق‭ ‬فيه‭ ‬مدينة‭ ‬غرناطة‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬تحمله‭ ‬من‭ ‬أبهة‭ ‬المجد‭ ‬والتاريخ‭. ‬المجد‭ ‬الذي‭ ‬صنعه‭ ‬أجدادنا‭ ‬العرب‭ ‬عندما‭ ‬عبروا‭ ‬إلى‭ ‬هنا‭ ‬فاتحين‭ ‬وحاملين‭ ‬مشاعل‭ ‬النور‭ ‬التي‭ ‬ظلت‭ ‬تنير‭ ‬سماء‭ ‬الأندلس‭ ‬ثمانية‭ ‬قرون‭.  ‬كنا‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬خمسة‭ ‬أيام‭ ‬مضت‭ ‬ننتظر‭ ‬لحظة‭ ‬العناق‭ ‬الموعودة،‭ ‬وعناق‭ ‬المدن‭ ‬العريقة‭ ‬على‭ ‬شاكلة‭ ‬غرناطة،‭ ‬ليس‭ ‬أقل‭ ‬حميمية‭ ‬ولذة‭ ‬من‭ ‬عناق‭ ‬حسناء‭ ‬نافرة‭ ‬تختال‭ ‬بحسنها‭ ‬وهي‭ ‬تعبر‭ ‬‮«‬جنات‭ ‬العريف‮»‬‭ ‬التي‭ ‬قدّت‭ - ‬على‭ ‬رأي‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬زارها‭ - ‬من‭ ‬جنان‭ ‬السماء‭.‬

ولأننا‭ ‬تركنا‭ ‬مربيلا‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬تحمله‭ ‬من‭ ‬جمال‭ ‬شواطئ،‭ ‬وجبال‭ ‬تتماهى‭ ‬مع‭ ‬البحر‭ ‬في‭ ‬مشهد‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬التماهي‭ ‬والحلول‭ ‬الصوفي،‭ ‬كان‭ ‬علينا‭ ‬أن‭ ‬نختار‭ ‬من‭ ‬غرناطة‭ ‬درتها‭ ‬وجوهرتها،‭ ‬والحق‭ ‬أنها‭ ‬درة‭ ‬إسبانيا‭ ‬كلها‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬أوربا‭ ‬بكل‭ ‬عظمتها‭. ‬كان‭ ‬علينا‭ ‬إذن‭ ‬أن‭ ‬نوجه‭ ‬المسير‭ ‬باتجاه‭ ‬‮«‬الحمراء‮»‬‭ ‬أعجوبة‭ ‬المسلمين‭ ‬في‭ ‬بلاد‭ ‬الأندلس،‭ ‬أو‭ ‬كما‭ ‬يحلو‭ ‬لنا‭ ‬اليوم‭ ‬أن‭ ‬نسميها‭ ‬‮«‬الفردوس‭ ‬المفقود‮»‬‭.‬

في‭ ‬طريق‭ ‬الصعود‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬الحمراء‮»‬‭ ‬كانت‭ ‬فيروز‭ ‬تلح‭ ‬بالحضور‭ ‬وهي‭ ‬تشدو‭ ‬بصوتها‭ ‬الملائكي‭ ‬‮«‬جادك‭ ‬الغيث‭ ‬إذا‭ ‬الغيث‭ ‬همى،‭ ‬يا‭ ‬زمان‭ ‬الوصل‭ ‬بالأندلس‮»‬‭... ‬وتفتح‭ ‬الموشحات‭ ‬جراح‭ ‬الأندلس‭ ‬يوم‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬القصر‭ ‬إمبراطورية‭ ‬عربية‭ ‬تحميها‭ ‬سباع‭ ‬متوقدة،‭ ‬وتهندسها‭ ‬عبقرية‭ ‬عربية‭ ‬لا‭ ‬تتكرر‭.‬

كان‭ ‬نيكولاس‭ ‬في‭ ‬انتظارنا‭ ‬عند‭ ‬بوابة‭ ‬الحمراء،‭ ‬ونيكولاس‭ ‬ليس‭ ‬مجرد‭ ‬دليل‭ ‬سياحي‭ ‬فقط،‭ ‬إنه‭ ‬عاشق‭ ‬للحمراء‭ ‬حد‭ ‬الهيام،‭ ‬وقد‭ ‬قرأ‭ ‬كل‭ ‬الكتب‭ ‬التي‭ ‬كتبت‭ ‬عن‭ ‬غرناطة،‭ ‬لكنه‭ ‬أكثر‭ ‬قربا‭ ‬وحبا‭ ‬للأمريكي‭ ‬واشنطن‭ ‬إيرفينج‭ ‬صاحب‭ ‬كتابي‭ ‬‮«‬حكايات‭ ‬الحمراء‮»‬‭ ‬و«أخبار‭ ‬سقوط‭ ‬غرناطة‮»‬‭.‬

نيكولاس‭ ‬الذي‭ ‬اصطحبنا‭ ‬إلى‭ ‬أعلى‭ ‬الربوة‭ ‬التي‭ ‬يقع‭ ‬عليها‭ ‬مجمع‭ ‬قصور‭ ‬الحمراء،‭ ‬قرأ‭ ‬‮«‬حكايات‭ ‬الحمراء‮»‬‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬العاشرة‭ ‬من‭ ‬عمره،‭ ‬فكان‭ ‬أن‭ ‬عشق‭ ‬الحمراء‭ ‬إلى‭ ‬الأبد‭ ‬واختارها‭ ‬مكانا‭ ‬لعمله‭ ‬اليومي‭.‬

أما‭ ‬نحن‭ ‬القادمون‭ ‬من‭ ‬أعماق‭ ‬جزيرة‭ ‬العرب،‭ ‬فكان‭ ‬علينا‭ ‬أن‭ ‬ننصت‭ ‬لتفاصيل‭ ‬التاريخ‭ ‬وهي‭ ‬تروى‭ ‬من‭ ‬دليلنا‭ ‬السياحي،‭ ‬ومن‭ ‬عشرات‭ ‬الكتب‭ ‬التي‭ ‬تستقر‭ ‬بلا‭ ‬ثقل‭ ‬على‭ ‬جهاز‭ ‬‮«‬الآيباد‮»‬،‭ ‬فهذه‭ ‬الحكايات‭ ‬لا‭ ‬تروى‭ ‬مرتين‭.‬

‮ ‬

شموخ‭ ‬بلون‭ ‬أحمر

تذهب‭ ‬أغلب‭ ‬المراجع‭ ‬التاريخية‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬سبب‭ ‬تسمية‭ ‬‮«‬الحمراء‮»‬‭ ‬بهذا‭ ‬الاسم‭ ‬عائد‭ ‬إلى‭ ‬نوع‭ ‬التربة‭ ‬التي‭ ‬بني‭ ‬بها‭ ‬‮«‬القصر‮»‬‭... ‬فلونها‭ ‬أحمر‭ ‬وهو‭ ‬لون‭ ‬حاضر‭ ‬بقوة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬القصر‭ ‬أو‭ ‬الإضافات‭ ‬التي‭ ‬شهدها‭ ‬في‭ ‬المراحل‭ ‬التالية‭.‬

ويبدو‭ ‬قصر‭ ‬الحمراء‭ ‬شامخا،‭ ‬يحكي‭ ‬قصة‭ ‬حضارة‭ ‬كانت‭ ‬تنير‭ ‬العالم‭ ‬في‭ ‬يوم‭ ‬من‭ ‬الأيام،‭ ‬فوق‭ ‬أعلى‭ ‬تل‭ ‬السبيكة‭ ‬على‭ ‬الضفة‭ ‬اليسرى‭ ‬لنهر‭ ‬الدارو‭ ‬شرقي‭ ‬غرناطة‭ ‬وأمام‭ ‬أحياء‭ ‬البيازين‭ ‬والقصبة‭.‬

بني‭ ‬قصر‭ ‬الحمراء‭ ‬في‭ ‬المرحلة‭ ‬التي‭ ‬شهدت‭ ‬تقلص‭ ‬الدولة‭ ‬الإسلامية‭ ‬من‭ ‬الأندلس‭ ‬وتراجعها‭ ‬نتيجة‭ ‬حروب‭ ‬النصارى‭ ‬لاستعادة‭ ‬إسبانيا‭... ‬وكان‭ ‬محمد‭ ‬الأول،‭ ‬أول‭ ‬من‭ ‬بدأ‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬القصر،‭ ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬مكان‭ ‬يحتمي‭ ‬فيه‭ ‬ويبقي‭ ‬على‭ ‬بعض‭ ‬أمجاد‭ ‬عائلته‭. ‬ولذلك‭ ‬اختار‭ ‬موقعا‭ ‬استراتيجيا‭ ‬يصلح‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬برج‭ ‬مراقبة‭ ‬لكل‭ ‬من‭ ‬يقترب‭ ‬من‭ ‬المدينة‭ ‬أو‭ ‬يحاول‭ ‬الصعود‭ ‬إلى‭ ‬تلالها‭.‬

ووفق‭ ‬المراجع‭ ‬التاريخية‭ ‬فإن‭ ‬غرناطة‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬إلا‭ ‬قرية‭ ‬صغيرة‭ ‬يوم‭ ‬الفتح‭ ‬الإسلامي‭ ‬للأندلس‭ ‬بداية‭ ‬القرن‭ ‬الثامن‭ ‬الميلادي،‭ ‬لكنها‭ ‬أخذت‭ ‬تنمو‭ ‬وتكبر‭ ‬منذ‭ ‬القرن‭ ‬العاشر،‭ ‬حتى‭ ‬أنها‭ ‬حلت‭ ‬لاحقا‭ ‬محل‭ ‬البيرة‭ ‬مع‭ ‬بدء‭ ‬سقوط‭ ‬الممالك‭ ‬الإسلامية‭ ‬هناك،‭ ‬لتصبح‭ ‬لاحقا‭ ‬مملكة‭ ‬غرناطة‭ ‬لقرنين‭ ‬ونصف‭ ‬القرن‭ ‬ولتكون‭ ‬آخر‭ ‬معقل‭ ‬يسقط‭ ‬للمسلمين‭ ‬في‭ ‬الأندلس،‭ ‬بتوقيع‭ ‬أبي‭ ‬عبدالله‭ ‬الصغير‭.‬

 

خطوة‭... ‬خطوة‭... ‬نحو‭ ‬القصر‮ ‬

كانت‭ ‬غرناطة‭ ‬تحكم‭ ‬من‭ ‬داخل‭ ‬قصر‭ ‬الحمراء‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬مجرد‭ ‬قصر‭ ‬فقط،‭ ‬بل‭ ‬كان‭ ‬مدينة‭ ‬متكاملة‭ ‬تقول‭ ‬الروايات‭ ‬إنها‭ ‬تضم‭ ‬قرابة‭ ‬40‭ ‬ألف‭ ‬جندي،‭ ‬غير‭ ‬عائلة‭ ‬بني‭ ‬نصر‭ ‬ووزراء‭ ‬بلاطه‭.‬

وكان‭ ‬بنو‭ ‬نصر‭ ‬قد‭ ‬وصلوا‭ ‬إلى‭ ‬الحكم‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬الثالث‭ ‬عشر‭ ‬الميلادي‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬محمد‭ ‬بن‭ ‬الأحمر‭ (‬محمد‭ ‬الأول‭ ‬1238‭ - ‬1273‭) ‬الذي‭ ‬اتخذ‭ ‬من‭ ‬الحمراء‭ ‬مقرا‭ ‬للأسرة‭ ‬الحاكمة‭. ‬ليبدأ‭ ‬بذلك‭ ‬العصر‭ ‬الذهبي‭ ‬للحمراء‭.‬

وعزز‭ ‬محمد‭ ‬الأول‭ ‬‮«‬القصبة‮»‬‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬قائمة‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يفكر‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬قصر‭ ‬الحمراء‭... ‬مخمنا‭ ‬بحسه‭ ‬العسكري‭ ‬أن‭ ‬تلك‭ ‬المنطقة‭ ‬هي‭ ‬المكان‭ ‬الأنسب‭ ‬لحماية‭ ‬أسرته‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬هجوم،‭ ‬ولمراقبة‭ ‬تحركات‭ ‬العدو،‭ ‬فشيد‭ ‬برجا‭ ‬للحراسة‭ ‬ليكون‭ ‬نواة‭ ‬لما‭ ‬سيكون‭ ‬عليه‭ ‬القصر‭ ‬لاحقا‭. ‬واستكمل‭ ‬ابنه‭ ‬محمد‭ ‬الثاني‭ ‬ولاحقا‭ ‬محمد‭ ‬الثالث‭ ‬مشوار‭ ‬البناء،‭ ‬وألحق‭ ‬بالقصر‭ ‬المسجد‭ ‬الجامع‭ ‬الذي‭ ‬أنشئت‭ ‬فوقه‭ ‬كنيسة‭ ‬سانتا‭ ‬ماريا‭ ‬الحالية‭. ‬وهو‭ ‬حال‭ ‬كل‭ ‬المساجد‭ ‬في‭ ‬الأندلس‭ ‬التي‭ ‬استبدل‭ ‬المنتصر‭ ‬كنائس‭ ‬بها‮»‬‭.‬

إلا‭ ‬أن‭ ‬أغلب‭ ‬المباني‭ ‬في‭ ‬قصر‭ ‬الحمراء‭ ‬تنسب‭ ‬إلى‭ ‬يوسف‭ ‬الأول‭ (‬1333-1353‭) ‬ومحمد‭ ‬الخامس‭ (‬1353-1391‭). ‬على‭ ‬أن‭ ‬أبدع‭ ‬ما‭ ‬بناه‭ ‬يوسف‭ ‬الأول‭ ‬هو‭ ‬بهو‭ ‬الأسود،‭ ‬وهو‭ ‬من‭ ‬أجمل‭ ‬أركان‭ ‬القصر‭.‬

 

قصر‭ ‬كارلوس‭ ‬الخامس

بعد‭ ‬أن‭ ‬تنفسنا‭ ‬هواء‭ ‬الحمراء‭ ‬وشعرنا‭ ‬بقداسة‭ ‬المكان‭ ‬والزمان‭ ‬الذي‭ ‬مر‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬البقعة‭ ‬من‭ ‬فردوس‭ ‬العرب‭ ‬المفقود،‭ ‬ابتسم‭  ‬نيكولاس‭ ‬وقال‭: ‬لندخل‭ ‬إلى‭ ‬قصر‭ ‬كارلوس‭ ‬الخامس‭. ‬وكان‭ ‬نيكولاس‭ ‬يعني‭ ‬ما‭ ‬يفعل،‭ ‬أراد‭ ‬أن‭ ‬يرينا‭ ‬الفرق‭ ‬بين‭ ‬القصرين،‭ ‬قصر‭ ‬الحمراء‭ ‬وقصر‭ ‬كارلوس،‭ ‬والفرق‭ ‬بين‭ ‬عبقرية‭ ‬الهندسة‭ ‬الإسلامية‭ ‬والهندسة‭ ‬الإسبانية‭. ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬قصر‭ ‬كارلوس‭ ‬متناغما‭ ‬مع‭ ‬المكان‭ ‬الذي‭ ‬وضع‭ ‬فيه،‭ ‬رغم‭ ‬أن‭ ‬كارلوس‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬تاريخ‭ ‬المدينة‭ ‬عاشق‭ ‬للفن‭... ‬ولكن‭ ‬القصر‭ ‬ظُلِم‭ ‬كثيرا‭ ‬لأنه‭ ‬بني‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬المنطقة،‭ ‬كان‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬له‭ ‬مكانته‭ ‬التاريخية‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬لو‭ ‬بني‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬مكان‭ ‬آخر‭... ‬لكن‭ ‬ليس‭ ‬إلى‭ ‬جوار‭ ‬الحمراء‭.‬

والحق‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬يميز‭ ‬قصر‭ ‬كارلوس‭ ‬هو‭ ‬بهوه‭ ‬المستدير‭ ‬النادر،‭ ‬وهو‭ ‬لذلك‭ ‬يعتبر‭ ‬أبرز‭ ‬عمل‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬النهضة‭ ‬الإسبانية‭.  ‬عندما‭ ‬خرجنا‭ ‬كان‭ ‬نيكولاس‭ ‬يبتسم‭ ‬ويقول‭: ‬سنرى‭ ‬قصر‭ ‬الحمراء‭ ‬بعد‭ ‬قليل‭. ‬كنا‭ ‬نتقدم‭ ‬نحو‭ ‬الداخل،‭ ‬إلى‭ ‬القصر،‭ ‬نمر‭ ‬بين‭ ‬الردهات‭ ‬والممرات‭ ‬التي‭ ‬أصاخت‭ ‬السمع‭ ‬للكثير‭ ‬من‭ ‬الحكايات‭ ‬والمؤامرات‭ ‬وقصص‭ ‬الحب‭ ‬والغرام،‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬انتهت‭ ‬بروائع‭ ‬الأدب‭ ‬العربي‭ ‬حينا،‭ ‬وبجريان‭ ‬دماء‭ ‬الغدر‭ ‬والخيانة‭ ‬في‭ ‬أحيان‭ ‬أخرى‭:‬

هذا‭ ‬هو‭ ‬قصر‭ ‬الحمراء‭ ‬إذن،‭ ‬كعبة‭ ‬زوار‭ ‬إسبانيا‭ ‬كما‭ ‬يصفه‭ ‬واشنطن‭ ‬إيرفينغ‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬حكايات‭ ‬الحمراء‭ ‬‮«‬للذين‭ ‬ينشدون‭ ‬رؤية‭ ‬الجانب‭ ‬التاريخي‭ ‬والشعري‭ ‬والرومنطيقي‭ ‬لتلك‭ ‬البلاد‭. ‬فكم‭ ‬من‭ ‬أسطورة‭ ‬وتقليد‭ ‬صحيح‭ ‬ووهمي،‭ ‬وكم‭ ‬من‭ ‬رقصة‭ ‬وأغنية‭ ‬عربية‭ ‬وإسبانية‭ ‬حول‭ ‬الحب‭ ‬والحرب‭ ‬والفروسية،‭ ‬مرتبطة‭ ‬بهذا‭ ‬الركن‭ ‬التاريخي،‭ ‬فهو‭ ‬سرير‭ ‬ملك‭ ‬العرب‭ ‬هناك،‭ ‬المحاط‭ ‬بالروائع‭ ‬والعجائب‭ ‬من‭ ‬أفخم‭ ‬ما‭ ‬صنعته‭ ‬يد‭ ‬الفن‭ ‬الجميل،‭ ‬بهدف‭ ‬تشخيص‭ ‬وتكريس‭ ‬تصور‭ ‬الجنة‭ ‬السماوية‭ ‬عند‭ ‬المسلمين‭ ‬في‭ ‬إمبراطوريتهم‭ ‬الإسبانية‮»‬‭. ‬وصار‭ ‬اليوم‭ ‬لسان‭ ‬كل‭ ‬زائر‭ ‬يزور‭ ‬الحمراء‭ ‬يقول‭: ‬‮«‬إذا‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬تصور‭ ‬عن‭ ‬الجنة‭ ‬السماوية‭... ‬فكيف‭ ‬حقيقتها‭ ‬إذن»؟

‮ ‬

تبدأ‭ ‬الرحلة‭... ‬ولا‭ ‬تنتهي‭ ‬الحكاية

‮ ‬ندخل‭ ‬القصر‭ ‬وتبدأ‭ ‬حكايات‭ ‬لا‭ ‬تنتهي‭ ‬أبدا،‭ ‬حكاية‭ ‬الهندسة‭ ‬المعمارية،‭ ‬وعقلية‭ ‬البناء‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يوازيها‭ ‬بناء‭ ‬آخر‭ ‬في‭ ‬الأندلس‭ ‬كلها‭. ‬ومن‭ ‬أولى‭ ‬العتبات‭ ‬كان‭ ‬شعار‭ ‬بنو‭ ‬الأحمر‭ ‬‮«‬لا‭ ‬غالب‭ ‬إلا‭ ‬الله‮»‬‭ ‬حاضرا‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مكان‭... ‬أينما‭ ‬وليت‭ ‬فثمة‭ ‬‮«‬لا‭ ‬غالب‭ ‬إلا‭ ‬الله‮»‬‭ ‬تذكر‭ ‬أي‭ ‬غافل‭ ‬أو‭ ‬ناسٍ‭.‬

أول‭ ‬مكان‭ ‬نصل‭ ‬إليه‭ ‬في‭ ‬داخل‭ ‬القصر‭ ‬هو‭ ‬المصلى،‭ ‬أو‭ ‬كما‭ ‬قال‭ ‬نيكولاس‭ ‬‮«‬المهراب‮»‬‭ ‬بنطق‭ ‬الحاء‭ ‬هاء‭. ‬وقاعة‭ ‬المحراب‭ ‬هي‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬تبقى‭ ‬من‭ ‬جامع‭ ‬الحمراء‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬نجد‭ ‬له‭ ‬بقايا‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬كتب‭ ‬الشعراء‭ ‬والمؤرخون‭. ‬ووفق‭ ‬تلك‭ ‬الأخبار‭ ‬فإن‭ ‬الجامع‭ ‬بني‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1308‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬محمد‭ ‬الثالث،‭ ‬وظل‭ ‬الجامع‭ ‬محتفظا‭ ‬بمعالمه‭ ‬حتى‭ ‬فترة‭ ‬الاحتلال‭ ‬الفرنسي‭ ‬الذي‭ ‬دمره‭ ‬بشكل‭ ‬كامل‭. ‬يصف‭ ‬لسان‭ ‬الدين‭ ‬ابن‭ ‬الخطيب‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬الإحاطة‭ ‬في‭ ‬أخبار‭ ‬غرناطة‮»‬‭ ‬الجامع‭ ‬بالقول‭: ‬‮«‬زين‭ ‬بعمل‭ ‬الفسيفساء،‭ ‬وتوريق‭ ‬من‭ ‬أجمل‭ ‬وأعقد‭ ‬النقوش‭ ‬تمازجت‭ ‬مع‭ ‬وردات‭ ‬فضية‭ ‬وقناطر‭ ‬مشرقة،‭ ‬تستند‭ ‬إلى‭ ‬دعائم‭ ‬من‭ ‬الرخام‭ ‬المصقول،‭ ‬فعلا‭ ‬لا‭ ‬يضاهيه‭ ‬شيء‭ ‬بتلك‭ ‬الأناقة‭ ‬في‭ ‬التصميم‭ ‬مع‭ ‬صلابة‭ ‬البناء‭ ‬الذي‭ ‬تحرى‭ ‬عنه‭ ‬السلطان‭ ‬بنفسه،‭ ‬وجمال‭ ‬التناسق،‭ ‬فلا‭ ‬يوجد‭ ‬لهذا‭ ‬البناء‭ ‬مثيل‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬البلاد،‭ ‬وكثيرا‭ ‬ما‭ ‬سمعت‭ ‬أفضل‭ ‬مهندسينا‭ ‬يقولون‭ ‬إنهم‭ ‬لم‭ ‬يشاهدوا‭ ‬أو‭ ‬يسمعوا‭ ‬قط‭ ‬ببناء‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يقارن‭ ‬به‮»‬‭.‬

لكن‭ ‬شيئا‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬لم‭ ‬يبق‭ ‬اليوم،‭ ‬وحده‭ ‬المحراب‭ ‬بقي‭ ‬شاهدا‭ ‬على‭ ‬جامع‭ ‬لا‭ ‬مثيل‭ ‬له‭. ‬والمحراب‭ ‬بشكله‭ ‬الحالي‭ ‬جدد‭ ‬مطلع‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬بقي‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬سيئة‭ ‬نتيجة‭ ‬انفجار‭ ‬مخزن‭ ‬للبارود‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1590‭. ‬ومع‭ ‬الاقتراب‭ ‬من‭ ‬المحراب‭ ‬تتضح‭ ‬أربع‭ ‬شرفات‭ ‬صغيرة‭ ‬ذات‭ ‬أقواس‭ ‬متطابقة‭ ‬ونوافذ‭ ‬صغيرة‭ ‬تكشف‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬تفاصيل‭ ‬المدينة‭ ‬في‭ ‬الخارج،‭ ‬وتسمح‭ ‬للضوء‭ ‬بدخول‭ ‬المصلى‭ ‬على‭ ‬شكل‭ ‬خيوط‭ ‬من‭ ‬نور‭.‬

ومن‭ ‬المحراب‭ ‬إلى‭ ‬فناء‭ ‬الريحان‭ ‬تستمر‭ ‬الرحلة‭ ‬داخل‭ ‬القصر،‭ ‬حيث‭ ‬البركة‭ ‬الأكبر‭ ‬التي‭ ‬تعكس‭ ‬في‭ ‬صفاء‭ ‬مائها‭ ‬قبة‭ ‬السماء،‭ ‬ويتسابق‭ ‬زوار‭ ‬القصر‭ ‬للوقوف‭ ‬ثوان‭ ‬والتقاط‭ ‬صورة‭ ‬تذكارية‭ ‬تخلد‭ ‬الزيارة‭ ‬ولكنها‭ ‬تكشف‭ ‬عن‭ ‬روعة‭ ‬الهندسة‭ ‬المعمارية‭.‬

وتبلغ‭ ‬مساحة‭ ‬الحوض‭ ‬34‭ ‬مترا‭ ‬في‭ ‬17‭.‬10‭ ‬ويقسم‭ ‬الفناء‭ ‬بشكل‭ ‬طولي،‭ ‬وتصل‭ ‬المياه‭ ‬إلى‭ ‬الحوض‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬حوضين‭ ‬رخاميين‭ ‬واقعين‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬طرف‭. ‬‮ ‬وعلى‭ ‬جانبي‭ ‬الفناء‭ ‬يمتد‭ ‬رواقان‭ ‬معمدان‭ ‬قائمان‭ ‬على‭ ‬أعمدة‭ ‬ذات‭ ‬تيجان‭ ‬مكعبة‭ ‬ذات‭ ‬سبعة‭ ‬أقواس‭ ‬شبه‭ ‬دائرية‭ ‬مزخرفة‭ ‬بزخارف‭ ‬مفرغة‭ ‬معينة‭ ‬الشكل‭ ‬ونقوشات‭ ‬تسبيح‭ ‬لله‭. ‬وتبدو‭ ‬هندسة‭ ‬الأقواس‭ ‬معتمدة‭ ‬على‭ ‬نظريات‭ ‬رياضية‭ ‬أبدعها‭ ‬العلماء‭ ‬العرب،‭ ‬فالقوس‭ ‬المركزي‭ ‬أكبر‭ ‬من‭ ‬الستة‭ ‬الآخرين،‭ ‬وعليه‭ ‬أشكال‭ ‬مثلثية‭ ‬مزينة‭ ‬بزخارف‭ ‬نباتية‭ ‬وتيجان‭ ‬أعمدة‭ ‬مقرنصة‭.‬

ويمكن‭ ‬أن‭ ‬يقرأ‭ ‬الزائر‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬النقوش‭ ‬والكتابات‭ ‬على‭ ‬الممرين،‭ ‬من‭ ‬قبيل‭ ‬‮«‬العون‭ ‬والحماية‭ ‬من‭ ‬الله،‭ ‬والنصر‭ ‬المؤزر‭ ‬لمولانا‭ ‬أبو‭ ‬عبد‭ ‬الله،‭ ‬أمير‭ ‬المسلمين‮»‬‭. ‬ويمكن‭ ‬اعتبار‭ ‬فناء‭ ‬الريحان‭ ‬امتدادا‭ ‬لقاعة‭ ‬السفراء‭... ‬أو‭ ‬قاعة‭ ‬العرش‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬فيها‭ ‬عرش‭ ‬الملك‭. ‬وتعتبر‭ ‬قاعة‭ ‬السفراء‭ ‬من‭ ‬أفخم‭ ‬قاعات‭ ‬القصر،‭ ‬وكان‭ ‬الملك‭ ‬يستقبل‭ ‬فيها‭ ‬زواره‭ ‬الرسميين،‭ ‬وكان‭ ‬مطلوبا‭ ‬أن‭ ‬تبدو‭ ‬القاعة‭ ‬مهيبة‭ ‬وتبعث‭ ‬الخوف‭ ‬في‭ ‬نفوس‭ ‬الزوار‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬يطمع‭ ‬أحد‭ ‬في‭ ‬القصر‭... ‬ومن‭ ‬ورائه‭ ‬مملكة‭ ‬غرناطة‭.‬

وتتصل‭ ‬القاعة‭ ‬بفناء‭ ‬الريحان‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬قوس‭ ‬مزدوج‭. ‬وشعار‭ ‬بني‭ ‬الأحمر‭ ‬في‭ ‬وسط‭ ‬القاعة‭ ‬تمكن‭ ‬مشاهدته‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬الاتجاهات،‭ ‬أو‭ ‬هو‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬المهندسون‭ ‬محور‭ ‬النظر‭ ‬مع‭ ‬مكان‭ ‬جلوس‭ ‬الملك‭. ‬وفي‭ ‬كل‭ ‬جدار‭ ‬من‭ ‬جدران‭ ‬القاعة‭ ‬ثلاثة‭ ‬أقواس‭ ‬تصل‭ ‬إلى‭ ‬محاريب‭ ‬مفتوحة‭ ‬في‭ ‬الجدار‭.‬

والقاعة‭ ‬متخمة‭ ‬بالنقوش،‭ ‬وكلما‭ ‬تعمقنا‭ ‬إلى‭ ‬الداخل‭ ‬تزداد‭ ‬النقوش‭ ‬والزخارف‭ ‬حضورا‭ ‬وإبهارا‭.‬

وهذه‭ ‬القاعة‭ ‬من‭ ‬أكثر‭ ‬القاعات‭ ‬ازدحاما‭ ‬بين‭ ‬قاعات‭ ‬القصر،‭ ‬ومن‭ ‬أكثرها‭ ‬ألما‭ ‬بالنسبة‭ ‬لزواره‭ ‬العرب،‭ ‬ففيها‭ - ‬على‭ ‬أكثر‭ ‬الروايات‭ - ‬وقَّع‭ ‬أبو‭ ‬عبدالله‭ ‬الصغير‭ ‬وثيقة‭ ‬الاستسلام‭. ‬ولذلك‭ ‬لم‭ ‬أستغرب‭ ‬عندما‭ ‬سمعت‭ ‬شيخا‭ ‬عربيا‭ ‬كبيرا‭ ‬في‭ ‬السن‭ ‬ينشد‭ ‬بيتا‭ ‬شعريا‭ ‬بصوت‭ ‬مسموع‭ ‬وهو‭ ‬يقترب‭ ‬من‭ ‬مكان‭ ‬العرش‭:‬

ابك‭ ‬مثل‭ ‬النساء‭ ‬ملكا‭ ‬مضاعا

لم‭ ‬تحافظ‭ ‬عليه‭ ‬مثل‭ ‬الرجال

أعاد‭ ‬الشيخ‭ ‬العربي‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬شك‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬المشهد‭ ‬كان‭ ‬موجعا‭ ‬بالنسبة‭ ‬له،‭ ‬تفاصيل‭ ‬المشهد‭ ‬الأخير‭ ‬لخروج‭ ‬أبي‭ ‬عبدالله‭ ‬الصغير‭ ‬من‭ ‬الحمراء‭ ‬واستسلامه‭ ‬لمصلحة‭ ‬فرديناند‭... ‬كان‭ ‬المشهد‭ ‬ينطق‭ ‬الصخر‭ ‬عندما‭ ‬رأت‭ ‬أمه‭ ‬عائشة‭ ‬دموعه‭ ‬تنهمر،‭ ‬فقالت‭ ‬له‭ ‬ببديهة‭ ‬عربية‭ ‬وسليقة‭ ‬صافية‭ ‬البيت‭ ‬الذي‭ ‬سار‭ ‬مثلا،‭ ‬وكثر‭ ‬ترديده‭ ‬لاحقا‭ ‬مع‭ ‬توالي‭ ‬سقوط‭ ‬المعاقل‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مكان‭.‬

اقتربت‭ ‬من‭ ‬الشيخ‭ ‬الذي‭ ‬عرفت‭ ‬أنه‭ ‬سوري‭ ‬وسألته‭: ‬هل‭ ‬تبك‭ ‬على‭ ‬سقوط‭ ‬الأندلس‭ ‬بعد‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬القرون؟

فرد‭ ‬سريعا‭:‬

‮«‬كل‭ ‬المدن‭ ‬والعواصم‭ ‬العربية‭ ‬تسير‭ ‬في‭ ‬طريق‭ ‬غرناطة‭ ‬يا‭ ‬ولدي‮»‬‭. ‬أرعبني‭ ‬الرد‭ ‬وأنا‭ ‬أقترب‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ساحة‭ ‬العرش‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يتربع‭ ‬فوقها‭ ‬أبو‭ ‬عبدالله‭ ‬الصغير‭ ‬بقلق‭ ‬وارتباك‭ ‬في‭ ‬أيامه‭ ‬الأخيرة،‭ ‬وكانت‭ ‬أصوات‭ ‬الخسائر‭ ‬وسقوط‭ ‬مماليكه‭ ‬لا‭ ‬يحتاجان‭ ‬إلى‭ ‬الصعود‭ ‬فوق‭ ‬الأبراج‭ ‬العالية‭ ‬المنتشرة‭ ‬حول‭ ‬الحمراء،‭ ‬فهي‭ ‬تصله‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬النوافذ‭ ‬والشبابيك،‭ ‬بل‭ ‬وتسير‭ ‬في‭ ‬قنوات‭ ‬الماء‭ ‬وسواقيه‭... ‬إنها‭ ‬النهاية‭ ‬بكل‭ ‬تجلياتها‭.‬

 

سباع‭ ‬تحرس‭ ‬الحقيقة

يمضي‭ ‬الوقت‭ ‬سريعا‭ ‬في‭ ‬القصر‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬نستطيع‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬كل‭ ‬ردهاته،‭ ‬ودون‭ ‬أن‭ ‬نستطيع‭ ‬رسم‭ ‬خارطة‭ ‬ذهنية‭ ‬كاملة‭ ‬له،‭ ‬نسأل‭ ‬مرافقنا‭: ‬أين‭ ‬نحن‭ ‬الآن؟‭ ‬لا‭ ‬يبطئ‭ ‬في‭ ‬الإجابة‭: ‬نحن‭ ‬في‭ ‬الربع‭ ‬الجنوبي‭ ‬الشرقي‭ ‬من‭ ‬القصر‭... ‬إنه‭ ‬بهو‭ ‬الأسود،‭ ‬أو‭ ‬السباع‭ ‬كما‭ ‬يسميه‭ ‬البعض‭.‬

وقف‭ ‬نيكولاس‭ ‬في‭ ‬وسط‭ ‬البهو‭ ‬وحرك‭ ‬يديه‭ ‬وسط‭ ‬خصل‭ ‬شعره‭ ‬المتساقطة‭ ‬فوق‭ ‬وجهه‭ ‬وقال‭ ‬متذكرا‭ ‬واشنطن‭ ‬إرفينج‭: ‬‮«‬لا‭ ‬يوجد‭ ‬قسم‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬القصر‭ ‬من‭ ‬شأنه‭ ‬أن‭ ‬يعطينا‭ ‬فكرة‭ ‬كاملة‭ ‬عن‭ ‬جماله‭ ‬الأصلي‭ ‬وروعته‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬هذا‮»‬‭.‬

ويعلل‭ ‬نيكولاس‭ ‬كلام‭ ‬واشنطن‭ ‬بالقول‭ ‬إن‭ ‬هذا‭ ‬المكان‭ ‬لم‭ ‬تطله‭ ‬يد‭ ‬الزمان‭ ‬بالتخريب‭ ‬إلا‭ ‬قليلا‭. ‬وتقوم‭ ‬في‭ ‬وسط‭ ‬البهو‭ ‬النافورة‭ ‬المشهورة‭ ‬التي‭ ‬تغنى‭ ‬بها‭ ‬الشعراء‭ ‬وحبكت‭ ‬حولها‭ ‬الحكايات‭ ‬في‭ ‬الذاكرة‭ ‬العربية‭ ‬عندما‭ ‬تستعيد‭ ‬ذكريات‭ ‬الأندلس‭. ‬وبجانب‭ ‬النافورة‭ ‬أحواض‭ ‬المرمر‭ ‬التي‭ ‬لاتزال‭ - ‬رغم‭ ‬تعاقب‭ ‬
القرون‭ - ‬‭ ‬تصب‭ ‬قطراتها‭ ‬الماسية،‭ ‬يدعمها‭ ‬الاثنا‭ ‬عشر‭ ‬أسدا‭ ‬تجعل‭ ‬نبعها‭ ‬البللوري‭ ‬يتدفق‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬أيام‭ ‬أبي‭ ‬عبدالله‭ ‬الصغير‭.‬

‮ ‬بنى‭ ‬هذا‭ ‬البهو‭/ ‬القصر‭ ‬محمد‭ ‬الخامس‭ ‬الذي‭ ‬خلفه‭ ‬والده‭ ‬يوسف‭ ‬الأول‭. ‬كان‭ ‬بهو‭ ‬الأسود‭ ‬وما‭ ‬يحيط‭ ‬به‭ ‬يمثل‭ ‬قصر‭ ‬العائلة‭ ‬الذي‭ ‬بني‭ ‬على‭ ‬مقربة‭ ‬من‭ ‬الحمامات‭ ‬وفناء‭ ‬الريحان‭.‬

ويرى‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬المتخصصين‭ ‬في‭ ‬التراث‭ ‬الأندلسي‭ ‬وتراث‭ ‬بني‭ ‬نصر‭ ‬بشكل‭ ‬خاص‭ ‬أن‭ ‬ذروة‭ ‬فنهم‭ ‬وإبداعهم‭ ‬ظهر‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬القصر‭ ‬الذي‭ ‬اهتم‭ ‬بالأناقة‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬الفخامة‭ ‬على‭ ‬حد‭ ‬تعبير‭ ‬ألبرت‭ ‬كالفرت‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬غرناطة‭ ‬وقصر‭ ‬الحمراء‮»‬‭. ‬وفي‭ ‬البهو‭ ‬يتناغم‭ ‬الضوء،‭ ‬والماء،‭ ‬واللون،‭ ‬والزخرفة‭ ‬ويشكلان‭ ‬سمفونية‭ ‬الإبداع‭ ‬العربي‭ ‬التي‭ ‬يمكن‭ ‬سماعها‭ ‬بوضوح‭ ‬وأنت‭ ‬تجول‭ ‬ببصرك‭ ‬مشدوها‭ ‬في‭ ‬وسط‭ ‬البهو‭ ‬الباذخ‭ ‬والساحر‭... ‬فتحسب‭ ‬أنك‭ ‬تسمع‭ ‬تفاصيل‭ ‬سهرة‭ ‬عود‭ ‬بطلها‭ ‬الأول‭ ‬زرياب‭ ‬وضيفها‭ ‬الأوحد‭ ‬الخليفة‭... ‬أمير‭ ‬المؤمنين‭.‬

يأسرنا‭ ‬بهو‭ ‬الأسود،‭ ‬نقترب‭ ‬منها‭ ‬أكثر،‭ ‬عددها‭ ‬اثنا‭ ‬عشر‭ ‬أسدا،‭ ‬تخرج‭ ‬المياه‭ ‬من‭ ‬أفواها‭. ‬وكانت‭ ‬السلطات‭ ‬الإسبانية‭ ‬قد‭ ‬أخذت‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬2002‭ ‬الأسود‭ ‬لتنظيف‭ ‬جوفها‭ ‬من‭ ‬الترسبات‭ ‬التي‭ ‬باتت‭ ‬تعيق‭ ‬حركة‭ ‬المياه،‭ ‬ولكن‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أعادتها‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬2011‭ ‬لم‭ ‬يستطع‭ ‬الخبراء‭ ‬أن‭ ‬يعيدوا‭ ‬المياه‭ ‬كما‭ ‬كانت‭!!. ‬وبعد‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬عام‭ ‬وبجهود‭ ‬مؤرخين‭ ‬وخبراء‭ ‬وعلماء‭ ‬متخصصين‭ ‬في‭ ‬قصر‭ ‬الحمراء‭ ‬عادت‭ ‬المياه‭ ‬لتخرج‭ ‬من‭ ‬أفواه‭ ‬الأسود‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭... ‬على‭ ‬أن‭ ‬فكرة‭ ‬الأسود‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬دليلنا‭ ‬السياحي‭ ‬والتاريخي‭ ‬كانت‭ ‬لدلالة‭ ‬على‭ ‬الوقت،‭ ‬حيث‭ ‬يخرج‭ ‬الماء‭ ‬من‭ ‬فم‭ ‬الأسد‭ ‬الأول‭ ‬في‭ ‬الساعة‭ ‬الواحدة،‭ ‬ومن‭ ‬فم‭ ‬الثاني‭ ‬في‭ ‬الساعة‭ ‬الثانية،‭ ‬وهكذا‭ ‬على‭ ‬مدار‭ ‬الساعة‭ ‬لتُعلم‭ ‬سكان‭ ‬القصر‭ ‬بحركة‭ ‬الزمن‭ ‬من‭ ‬حولهم‭.‬

تبدو‭ ‬الأسود‭ ‬مستكينة‭ ‬ومستقرة‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬وقّع‭ ‬أسيادها‭ ‬صكوك‭ ‬الاستسلام،‭ ‬ولم‭ ‬يعودوا‭ ‬ملوكا‭ ‬لغرناطة‭ ‬ولا‭ ‬لضاحية‭ ‬من‭ ‬ضواحيها‭... ‬فلا‭ ‬صوت‭ ‬لزئير‭ ‬ولا‭ ‬أي‭ ‬رهبة‭ ‬في‭ ‬شكلها‭... ‬إنها‭ ‬كائنات‭ ‬وديعة‭ ‬جدا‭... ‬رغم‭ ‬أنها‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬يوم‭ ‬من‭ ‬الأيام‭ ‬السباع‭ ‬التي‭ ‬تحمي‭ ‬الحقيقة‭ ‬والمكان‭.‬

يتكون‭ ‬البهو‭ ‬من‭ ‬باحة‭ ‬تحيط‭ ‬بها‭ ‬الأعمدة‭ ‬على‭ ‬طريقة‭ ‬الأديرة‭ ‬المسيحية،‭ ‬والبهو‭ ‬يتمركز‭ ‬في‭ ‬نقطة‭ ‬تحيط‭ ‬بها‭ ‬كل‭ ‬القاعات‭ ‬الأخرى‭ ‬المرتبط‭ ‬به‭... ‬بدءا‭ ‬من‭ ‬قاعة‭ ‬القباب‭ ‬المقرنصة‭ ‬في‭ ‬الغرب‭ ‬إلى‭ ‬قاعة‭ ‬الملوك‭ ‬في‭ ‬الشرق،‭ ‬وقاعة‭ ‬الأختين‭ ‬في‭ ‬الشمال‭ ‬ومنظرة‭ ‬دار‭ ‬عائشة‭ ‬في‭ ‬الجنوب‭.‬

وقاعة‭ ‬الملوك‭ ‬من‭ ‬القاعات‭ ‬التي‭ ‬تبهر‭ ‬زائرها‭ ‬بزخارفها‭ ‬الغريبة،‭ ‬ومقرنصاتها‭ ‬المزخرفة‭ ‬بالألماس‭ ‬المفرغ‭. ‬وتنقسم‭ ‬القاعة‭ ‬لسبعة‭ ‬أجزاء‭: ‬ثلاث‭ ‬غرف‭ ‬مربعة‭ ‬ومنفصلة‭ ‬بواسطة‭ ‬قسم‭ ‬مستطيل‭ ‬الشكل‭ ‬وقباب‭ ‬في‭ ‬الأطراف‭. ‬ويخترق‭ ‬الضوء‭ ‬القاعة‭ ‬بسهولة،‭ ‬وتتباين‭ ‬فيها‭ ‬جاذبية‭ ‬الأقواس‭ ‬مع‭ ‬زخارف‭ ‬جدرانها‭ ‬الرقيقة‭ ‬التي‭ ‬تكسوها‭ ‬النقوش‭.‬

وفي‭ ‬صدر‭ ‬القاعة‭ ‬يمكن‭ ‬رصد‭ ‬الرسوم‭ ‬التي‭ ‬تمثل‭ ‬أول‭ ‬عشرة‭ ‬ملوك‭ ‬من‭ ‬سلالة‭ ‬بني‭ ‬نصر،‭ ‬ومشاهد‭ ‬تمثل‭ ‬الفروسية‭ ‬ورحلات‭ ‬الصيد،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬مشاهد‭ ‬تمثل‭ ‬الجانب‭ ‬الرومانسي‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬غرناطة‭ ‬وقصر‭ ‬الحمراء‭.‬

نترك‭ ‬البهو‭ ‬بتثاقل‭ ‬كبير‭ ‬إلى‭ ‬الجانب‭ ‬الجنوبي،‭ ‬حيث‭ ‬تقع‭ ‬‮«‬قاعة‭ ‬بني‭ ‬سراج‮»‬،‭ ‬ووفق‭ ‬دليلنا‭ ‬فإن‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الروايات‭ ‬غير‭ ‬المحققة‭ ‬ترى‭ ‬أنها‭ ‬كانت‭ ‬مسرحا‭ ‬لأحداث‭ ‬مذبحة‭ ‬36‭ ‬رجلا‭ ‬من‭ ‬أعيان‭ ‬تلك‭ ‬الأسرة،‭ ‬والتي‭ ‬جرت‭ ‬بأمر‭ ‬أبي‭ ‬عبدالله‭ ‬الصغير،‭ ‬ويمكن‭ ‬مشاهدة‭ ‬عرق‭ ‬محمر‭ ‬في‭ ‬الأرضية‭ ‬الرخامية‭ ‬يشار‭ ‬إليه‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬لطخات‭ ‬دم‭ ‬ضحايا‭ ‬يتعذر‭ ‬محوها‭. ‬وواشنطن‭ (‬صاحب‭ ‬كتاب‭ ‬حكايات‭ ‬الحمراء‭) ‬يسخر‭ ‬كثيرا‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬القصة‭ ‬ويعتبرها‭ ‬مثيرة‭ ‬للضحك‭.‬

وبين‭ ‬حكاية‭ ‬وردهة‭ ‬ونافذة‭ ‬وشرفة‭ ‬تستمر‭ ‬الرحلة‭ ‬في‭ ‬قصر‭ ‬الحمراء،‭ ‬ومن‭ ‬زيارة‭ ‬حماماته‭ ‬وأبراجه‭ ‬إلى‭ ‬غرف‭ ‬نسائه‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬شاهدا‭ ‬صامتا‭ ‬على‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬حكايات‭ ‬الحب‭ ‬والغرام‭... ‬إلى‭ ‬متزين‭ ‬الملكة‭ ‬ودار‭ ‬عائشة‭ ‬وبرج‭ ‬قمارش،‭ ‬الذي‭ ‬يستقر‭ ‬فوق‭ ‬قاعة‭ ‬السفراء،‭ ‬وقاعة‭ ‬الأختين‭ ‬وقاعة‭ ‬القضاء‭ ‬التي‭ ‬يبلغ‭ ‬بها‭ ‬الإسراف‭ ‬والبذخ‭ ‬في‭ ‬الزخرفة‭ ‬مداه‭ ‬الأكبر‭ ‬في‭ ‬القصر‭. ‬ويقال‭ ‬إنه‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬القاعة‮ ‬‭ ‬كانت‭ ‬بركة‭ ‬للوضوء،‭ ‬هي‭ ‬الآن‭ ‬في‭ ‬المتحف‭. ‬وعليها‭ ‬منحوتات‭ ‬نافورة‭ ‬جميلة‭ ‬لأسود،‭ ‬وغزلان‭ ‬ونسور‭. ‬وفي‭ ‬هذه‭ ‬القاعة‭ ‬بالتحديد‭ ‬أمر‭ ‬فرناندو‭ ‬وإيزابيلا‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬دانت‭ ‬لهم‭ ‬الحمراء‭ ‬وغرناطة‭ ‬بأكملها،‭ ‬بإقامة‭ ‬قداس‭ ‬للاحتفال‭ ‬بعودتهما‭ ‬إلى‭ ‬العرش‭.‬

‮ ‬

إلى‭ ‬الجنان‭... ‬إلى‭ ‬جنة‭ ‬العريف

مرورا‭ ‬بحدائق‭ ‬دار‭ ‬عائشة‭ ‬وجدنا‭ ‬أنفسنا‭ ‬نخرج‭ ‬من‭ ‬قصر‭ ‬الحمراء‭ ‬إلى‭ ‬جناته‭ ‬المقابلة‭: ‬جنة‭ ‬الخليفة‭ ‬وجنات‭ ‬العريف‭ ‬وفناء‭ ‬السرو‭. ‬وعالم‭ ‬من‭ ‬الجمال‭ ‬والسحر‭ ‬لا‭ ‬مثيل‭ ‬له‭. ‬لا‭ ‬تبعد‭ ‬ربوة‭ ‬الشمس‭ ‬التي‭ ‬تتمركز‭ ‬فوقها‭ ‬كل‭ ‬الجنان‭.‬

ورغم‭ ‬أن‭ ‬‮«‬جنة‭ ‬العريف‮»‬‭ ‬تعود‭ ‬إلى‭ ‬ثاني‭ ‬سلاطين‭ ‬بني‭ ‬الأحمر‭ ‬محمد‭ ‬الثاني‭ ‬فإن‭ ‬أول‭ ‬إشارة‭ ‬تاريخية‭ ‬لها‭ ‬تظهر‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬لسان‭ ‬الدين‭ ‬ابن‭ ‬الخطيب‭ ‬‮«‬الإحاطة‭ ‬بتاريخ‭ ‬غرناطة‮»‬،‭ ‬‮«‬والذي‭ ‬اعتبرها‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬سبعة‭ ‬عشر‭ ‬بستانا‭ ‬تنتمي‭ ‬للتراث‭ ‬الملكي،‭ ‬وأشار‭ ‬إلى‭ ‬تميزها‭ ‬بكثافة‭ ‬أشجارها‭ ‬التي‭ ‬تحجب‭ ‬أشعة‭ ‬الشمس،‭ ‬كما‭ ‬أشاد‭ ‬بسحر‭ ‬وعذوبة‭ ‬مياهها‭ ‬ونقاء‭ ‬هوائها‮»‬‭.‬

وإذا‭ ‬كان‭ ‬الكثيرون‭ ‬قد‭ ‬ربطوا‭ ‬بعلاقة‭ ‬بين‭ ‬باني‭ ‬قصر‭ ‬الحمراء‭ ‬وبين‭ ‬السحر،‭ ‬فإن‭ ‬الربط‭ ‬بينهما‭ ‬في‭ ‬إنشاء‭ ‬جنة‭ ‬العريف‭ ‬أولى‭... ‬إنها‭ ‬جنة‭ ‬حقيقية‭ ‬وليست‭ ‬مجازية،‭ ‬تقف‭ ‬بجمالها‭ ‬وبذخها‭ ‬في‭ ‬موازاة‭ ‬قصر‭ ‬الحمراء‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬الروعة‭ ‬وتناغم‭ ‬التفاصيل‭.‬

ولا‭ ‬شك‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬أجمل‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬جنة‭ ‬العريف‭ ‬‮«‬فناء‭ ‬الساقية‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬بات‭ ‬يرمز‭ ‬إلى‭ ‬الجنة‭ ‬أو‭ ‬يرتبط‭ ‬ذهنيا‭ ‬باسمها‭. ‬وهو‭ ‬مكان‭ ‬مسور‭ ‬مستطيل‭ ‬الشكل‭ ‬يمر‭ ‬بالمحور‭ ‬الكبير‭ ‬للساقية‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬القناة‭ ‬الملكية‭. ‬وتشكل‭ ‬نوافير‭ ‬المياه‭ ‬التي‭ ‬تحيط‭ ‬بالساقية‭ ‬وتلتقي‭ ‬في‭ ‬وسطها‭ ‬المشهد‭ ‬الأجمل‭ ‬والأروع‭.‬

كانت‭ ‬جنة‭ ‬العريف‭ ‬تشكل‭ ‬الملاذ‭ ‬الأجمل‭ ‬لملوك‭ ‬غرناطة‭ ‬حين‭ ‬تشتد‭ ‬الخطوب،‭ ‬وتكون‭ ‬الجنة‭ ‬هي‭ ‬المهرب‭ ‬الأكثر‭ ‬أمنا‭ ‬والأكثر‭ ‬برودة‭ ‬حينما‭ ‬تشتد‭ ‬حرارة‭ ‬الجنوب‭.‬

ويذكر‭ ‬غير‭ ‬مؤرخ‭ ‬أنه‭ ‬من‭ ‬الصعب‭ ‬تمييز‭ ‬الشكل‭ ‬الأصلي‭ ‬لجنة‭ ‬العريف،‭ ‬فقد‭ ‬شهدت‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الترميمات‭ ‬والكثير‭ ‬من‭ ‬التعديلات‭ ‬خلال‭ ‬الحقب‭ ‬الإسلامية‭ ‬والمسيحية‭. ‬ويرى‭ ‬دليلنا‭ ‬السياحي‭ ‬أن‭ ‬أغلب‭ ‬ملامح‭ ‬جنة‭ ‬العريف‭ ‬قد‭ ‬طمست،‭ ‬وما‭ ‬نراه‭ ‬اليوم‭ ‬لا‭ ‬يمت‭ ‬لشكل‭ ‬‮«‬الجنة‮»‬‭ ‬كما‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬عهد‭ ‬أصحابها‭ ‬من‭ ‬بني‭ ‬الأحمر‭ ‬بصلة‭.‬

‮ ‬

لكل‭ ‬شيء‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬تم‭ ‬نقصان

كان‭ ‬يومنا‭ ‬في‭ ‬الحمراء‭ ‬هو‭ ‬يوم‭ ‬سبت‭ ‬النور،‭ ‬وفق‭ ‬روزنامة‭ ‬الأعياد‭ ‬الاسبانية،‭ ‬وكان‭ ‬يوما‭ ‬مناسبا‭ ‬ليذر‭ ‬زوار‭ ‬المدينة‭ ‬والقصر‭ ‬من‭ ‬المسلمين‭ ‬دموع‭ ‬الحسرة‭ ‬على‭ ‬ملك‭ ‬كان‭ ‬وما‭ ‬عاد‭. ‬ولا‭ ‬بد‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الحضرة‭ ‬من‭ ‬تذكر‭ ‬ما‭ ‬أبدعه‭ ‬الشاعر‭ ‬الأندلسي‭ ‬أبوالبقاء‭ ‬الرندي‭ ‬في‭ ‬رائعته‭ ‬‮«‬لكل‭ ‬شيء‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬تم‭ ‬نقصان‮»‬‭. ‬وصولا‭ ‬إلى‭ ‬البيتين‭ ‬

يا‭ ‬من‭ ‬لذلة‭ ‬قوم‭ ‬بعد‭ ‬عزهم

أحال‭ ‬حالهم‭ ‬جور‭ ‬وطغيان

بالأمس‭ ‬كانوا‭ ‬ملوكًا‭ ‬في‭ ‬منازلهم

واليوم‭ ‬هم‭ ‬في‭ ‬بلاد‭ ‬الكفر‭ ‬عبدانُ

نترك‭ ‬الحمراء‭ ‬تختفي‭ ‬كلما‭ ‬أمعنا‭ ‬في‭ ‬المسير‭ ‬باتجاه‭ ‬المدينة‭ ‬التي‭ ‬بدأت‭ ‬تحتفل‭ ‬جديا‭ ‬بسبت‭ ‬النور‭ ‬وعيد‭ ‬القيامة‭. ‬وكان‭ ‬صوت‭ ‬الشاعر‭ ‬اللبناني‭ ‬المسيحي‭ ‬الوليد‭ ‬بن‭ ‬طعمة‭ ‬يرن‭ ‬في‭ ‬أذني‭ ‬وهو‭ ‬ينشد‭ ‬في‭ ‬رثاء‭ ‬الأندلس‭:‬

 

أهكذا‭ ‬كانت‭ ‬‮«‬الحمراء‮»‬‭ ‬موحشةً

إذ‭ ‬كنت‭ ‬ترقب‭ ‬أفواج‭ ‬المغنينا

وللبرود‭ ‬حفيف‭ ‬فوق‭ ‬مرمرها

وقد‭ ‬تضوع‭ ‬منها‭ ‬مسك‭ ‬دارينا

ويا‭ ‬غمام‭ ‬افتقد‭ ‬جنات‭ ‬مُرسيةٍ

ورد‭ ‬من‭ ‬زهرها‭ ‬وردًا‭ ‬ونسرينا

وأمطر‭ ‬النخل‭ ‬والزيتون‭ ‬غادية‭ ‬‮ ‬

والتوت‭ ‬والكرم‭ ‬والرمان‭ ‬والتينا

كنا‭ ‬الملوك‭ ‬وكان‭ ‬الكون‭ ‬مملكة

فكيف‭ ‬بتنا‭ ‬المماليك‭ ‬المساكينا؟

وفي‭ ‬رقاب‭ ‬العِدى‭ ‬انفلّت‭ ‬صوارمنا

واليوم‭ ‬قد‭ ‬نزعوا‭ ‬منا‭ ‬السكاكينا‭ .

بهو‭ ‬البركة‭ ‬الواقع‭ ‬مباشرة‭ ‬أمام‭ ‬قاعة‭ ‬السفراء‭ ‬إحدى‭ ‬أهم‭ ‬قاعات‭ ‬القصر‭. ‬وتعكس‭ ‬البركة‭ ‬صفحة‭ ‬السماء‭ ‬بشكل‭ ‬فني‭ ‬نادر‭.‬

لم‭ ‬يبق‭ ‬للسلاح‭ ‬حضور‭ ‬في‭ ‬مشهد‭ ‬حصن‭ ‬الحمراء‭ ‬إلا‭ ‬للزينة‭.. ‬وتبدو‭ ‬المدافع‭ ‬أمام‭ ‬قصر‭ ‬كارلوس‭ ‬الخامس‭ ‬موجهة‭ ‬باتجاه‭ ‬غرناطة‭.‬

منظر‭ ‬عام‭ ‬على‭ ‬مدينة‭ ‬غرناطة‭ ‬من‭ ‬فوق‭ ‬جنات‭ ‬العريف‭... ‬ويبدو‭ ‬قصر‭ ‬الحمراء‭ ‬مشرفاً‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬تفاصيل‭ ‬المكان‭.‬