من قَصْر «الحمراء» إلى جَنَّات العريف

كان علينا أن نترك مساءات مدينة مربيلا باكرًا ونأوي إلى الأحلام علّها تقرب لنا صباحا نعانق فيه مدينة غرناطة بكل ما تحمله من أبهة المجد والتاريخ. المجد الذي صنعه أجدادنا العرب عندما عبروا إلى هنا فاتحين وحاملين مشاعل النور التي ظلت تنير سماء الأندلس ثمانية قرون. كنا على مدى خمسة أيام مضت ننتظر لحظة العناق الموعودة، وعناق المدن العريقة على شاكلة غرناطة، ليس أقل حميمية ولذة من عناق حسناء نافرة تختال بحسنها وهي تعبر «جنات العريف» التي قدّت - على رأي كل من زارها - من جنان السماء.
ولأننا تركنا مربيلا بكل ما تحمله من جمال شواطئ، وجبال تتماهى مع البحر في مشهد أقرب إلى التماهي والحلول الصوفي، كان علينا أن نختار من غرناطة درتها وجوهرتها، والحق أنها درة إسبانيا كلها إن لم تكن أوربا بكل عظمتها. كان علينا إذن أن نوجه المسير باتجاه «الحمراء» أعجوبة المسلمين في بلاد الأندلس، أو كما يحلو لنا اليوم أن نسميها «الفردوس المفقود».
في طريق الصعود إلى «الحمراء» كانت فيروز تلح بالحضور وهي تشدو بصوتها الملائكي «جادك الغيث إذا الغيث همى، يا زمان الوصل بالأندلس»... وتفتح الموشحات جراح الأندلس يوم كان هذا القصر إمبراطورية عربية تحميها سباع متوقدة، وتهندسها عبقرية عربية لا تتكرر.
كان نيكولاس في انتظارنا عند بوابة الحمراء، ونيكولاس ليس مجرد دليل سياحي فقط، إنه عاشق للحمراء حد الهيام، وقد قرأ كل الكتب التي كتبت عن غرناطة، لكنه أكثر قربا وحبا للأمريكي واشنطن إيرفينج صاحب كتابي «حكايات الحمراء» و«أخبار سقوط غرناطة».
نيكولاس الذي اصطحبنا إلى أعلى الربوة التي يقع عليها مجمع قصور الحمراء، قرأ «حكايات الحمراء» وهو في العاشرة من عمره، فكان أن عشق الحمراء إلى الأبد واختارها مكانا لعمله اليومي.
أما نحن القادمون من أعماق جزيرة العرب، فكان علينا أن ننصت لتفاصيل التاريخ وهي تروى من دليلنا السياحي، ومن عشرات الكتب التي تستقر بلا ثقل على جهاز «الآيباد»، فهذه الحكايات لا تروى مرتين.
شموخ بلون أحمر
تذهب أغلب المراجع التاريخية إلى أن سبب تسمية «الحمراء» بهذا الاسم عائد إلى نوع التربة التي بني بها «القصر»... فلونها أحمر وهو لون حاضر بقوة في كل القصر أو الإضافات التي شهدها في المراحل التالية.
ويبدو قصر الحمراء شامخا، يحكي قصة حضارة كانت تنير العالم في يوم من الأيام، فوق أعلى تل السبيكة على الضفة اليسرى لنهر الدارو شرقي غرناطة وأمام أحياء البيازين والقصبة.
بني قصر الحمراء في المرحلة التي شهدت تقلص الدولة الإسلامية من الأندلس وتراجعها نتيجة حروب النصارى لاستعادة إسبانيا... وكان محمد الأول، أول من بدأ في بناء القصر، يبحث عن مكان يحتمي فيه ويبقي على بعض أمجاد عائلته. ولذلك اختار موقعا استراتيجيا يصلح أن يكون برج مراقبة لكل من يقترب من المدينة أو يحاول الصعود إلى تلالها.
ووفق المراجع التاريخية فإن غرناطة لم تكن إلا قرية صغيرة يوم الفتح الإسلامي للأندلس بداية القرن الثامن الميلادي، لكنها أخذت تنمو وتكبر منذ القرن العاشر، حتى أنها حلت لاحقا محل البيرة مع بدء سقوط الممالك الإسلامية هناك، لتصبح لاحقا مملكة غرناطة لقرنين ونصف القرن ولتكون آخر معقل يسقط للمسلمين في الأندلس، بتوقيع أبي عبدالله الصغير.
خطوة... خطوة... نحو القصر
كانت غرناطة تحكم من داخل قصر الحمراء الذي لم يكن مجرد قصر فقط، بل كان مدينة متكاملة تقول الروايات إنها تضم قرابة 40 ألف جندي، غير عائلة بني نصر ووزراء بلاطه.
وكان بنو نصر قد وصلوا إلى الحكم في القرن الثالث عشر الميلادي على يد محمد بن الأحمر (محمد الأول 1238 - 1273) الذي اتخذ من الحمراء مقرا للأسرة الحاكمة. ليبدأ بذلك العصر الذهبي للحمراء.
وعزز محمد الأول «القصبة» التي كانت قائمة قبل أن يفكر في بناء قصر الحمراء... مخمنا بحسه العسكري أن تلك المنطقة هي المكان الأنسب لحماية أسرته من أي هجوم، ولمراقبة تحركات العدو، فشيد برجا للحراسة ليكون نواة لما سيكون عليه القصر لاحقا. واستكمل ابنه محمد الثاني ولاحقا محمد الثالث مشوار البناء، وألحق بالقصر المسجد الجامع الذي أنشئت فوقه كنيسة سانتا ماريا الحالية. وهو حال كل المساجد في الأندلس التي استبدل المنتصر كنائس بها».
إلا أن أغلب المباني في قصر الحمراء تنسب إلى يوسف الأول (1333-1353) ومحمد الخامس (1353-1391). على أن أبدع ما بناه يوسف الأول هو بهو الأسود، وهو من أجمل أركان القصر.
قصر كارلوس الخامس
بعد أن تنفسنا هواء الحمراء وشعرنا بقداسة المكان والزمان الذي مر على هذه البقعة من فردوس العرب المفقود، ابتسم نيكولاس وقال: لندخل إلى قصر كارلوس الخامس. وكان نيكولاس يعني ما يفعل، أراد أن يرينا الفرق بين القصرين، قصر الحمراء وقصر كارلوس، والفرق بين عبقرية الهندسة الإسلامية والهندسة الإسبانية. لم يكن قصر كارلوس متناغما مع المكان الذي وضع فيه، رغم أن كارلوس كما يقول تاريخ المدينة عاشق للفن... ولكن القصر ظُلِم كثيرا لأنه بني في تلك المنطقة، كان يمكن أن تكون له مكانته التاريخية في ما لو بني في أي مكان آخر... لكن ليس إلى جوار الحمراء.
والحق أن ما يميز قصر كارلوس هو بهوه المستدير النادر، وهو لذلك يعتبر أبرز عمل في عصر النهضة الإسبانية. عندما خرجنا كان نيكولاس يبتسم ويقول: سنرى قصر الحمراء بعد قليل. كنا نتقدم نحو الداخل، إلى القصر، نمر بين الردهات والممرات التي أصاخت السمع للكثير من الحكايات والمؤامرات وقصص الحب والغرام، تلك التي انتهت بروائع الأدب العربي حينا، وبجريان دماء الغدر والخيانة في أحيان أخرى:
هذا هو قصر الحمراء إذن، كعبة زوار إسبانيا كما يصفه واشنطن إيرفينغ في كتابه حكايات الحمراء «للذين ينشدون رؤية الجانب التاريخي والشعري والرومنطيقي لتلك البلاد. فكم من أسطورة وتقليد صحيح ووهمي، وكم من رقصة وأغنية عربية وإسبانية حول الحب والحرب والفروسية، مرتبطة بهذا الركن التاريخي، فهو سرير ملك العرب هناك، المحاط بالروائع والعجائب من أفخم ما صنعته يد الفن الجميل، بهدف تشخيص وتكريس تصور الجنة السماوية عند المسلمين في إمبراطوريتهم الإسبانية». وصار اليوم لسان كل زائر يزور الحمراء يقول: «إذا كان هذا تصور عن الجنة السماوية... فكيف حقيقتها إذن»؟
تبدأ الرحلة... ولا تنتهي الحكاية
ندخل القصر وتبدأ حكايات لا تنتهي أبدا، حكاية الهندسة المعمارية، وعقلية البناء التي لا يوازيها بناء آخر في الأندلس كلها. ومن أولى العتبات كان شعار بنو الأحمر «لا غالب إلا الله» حاضرا في كل مكان... أينما وليت فثمة «لا غالب إلا الله» تذكر أي غافل أو ناسٍ.
أول مكان نصل إليه في داخل القصر هو المصلى، أو كما قال نيكولاس «المهراب» بنطق الحاء هاء. وقاعة المحراب هي كل ما تبقى من جامع الحمراء الذي لا نجد له بقايا إلا في ما كتب الشعراء والمؤرخون. ووفق تلك الأخبار فإن الجامع بني في عام 1308 من قبل محمد الثالث، وظل الجامع محتفظا بمعالمه حتى فترة الاحتلال الفرنسي الذي دمره بشكل كامل. يصف لسان الدين ابن الخطيب في كتابه «الإحاطة في أخبار غرناطة» الجامع بالقول: «زين بعمل الفسيفساء، وتوريق من أجمل وأعقد النقوش تمازجت مع وردات فضية وقناطر مشرقة، تستند إلى دعائم من الرخام المصقول، فعلا لا يضاهيه شيء بتلك الأناقة في التصميم مع صلابة البناء الذي تحرى عنه السلطان بنفسه، وجمال التناسق، فلا يوجد لهذا البناء مثيل في تلك البلاد، وكثيرا ما سمعت أفضل مهندسينا يقولون إنهم لم يشاهدوا أو يسمعوا قط ببناء يمكن أن يقارن به».
لكن شيئا من ذلك لم يبق اليوم، وحده المحراب بقي شاهدا على جامع لا مثيل له. والمحراب بشكله الحالي جدد مطلع القرن العشرين، بعد أن بقي في حالة سيئة نتيجة انفجار مخزن للبارود في عام 1590. ومع الاقتراب من المحراب تتضح أربع شرفات صغيرة ذات أقواس متطابقة ونوافذ صغيرة تكشف الكثير من تفاصيل المدينة في الخارج، وتسمح للضوء بدخول المصلى على شكل خيوط من نور.
ومن المحراب إلى فناء الريحان تستمر الرحلة داخل القصر، حيث البركة الأكبر التي تعكس في صفاء مائها قبة السماء، ويتسابق زوار القصر للوقوف ثوان والتقاط صورة تذكارية تخلد الزيارة ولكنها تكشف عن روعة الهندسة المعمارية.
وتبلغ مساحة الحوض 34 مترا في 17.10 ويقسم الفناء بشكل طولي، وتصل المياه إلى الحوض عن طريق حوضين رخاميين واقعين في كل طرف. وعلى جانبي الفناء يمتد رواقان معمدان قائمان على أعمدة ذات تيجان مكعبة ذات سبعة أقواس شبه دائرية مزخرفة بزخارف مفرغة معينة الشكل ونقوشات تسبيح لله. وتبدو هندسة الأقواس معتمدة على نظريات رياضية أبدعها العلماء العرب، فالقوس المركزي أكبر من الستة الآخرين، وعليه أشكال مثلثية مزينة بزخارف نباتية وتيجان أعمدة مقرنصة.
ويمكن أن يقرأ الزائر الكثير من النقوش والكتابات على الممرين، من قبيل «العون والحماية من الله، والنصر المؤزر لمولانا أبو عبد الله، أمير المسلمين». ويمكن اعتبار فناء الريحان امتدادا لقاعة السفراء... أو قاعة العرش التي كان فيها عرش الملك. وتعتبر قاعة السفراء من أفخم قاعات القصر، وكان الملك يستقبل فيها زواره الرسميين، وكان مطلوبا أن تبدو القاعة مهيبة وتبعث الخوف في نفوس الزوار حتى لا يطمع أحد في القصر... ومن ورائه مملكة غرناطة.
وتتصل القاعة بفناء الريحان عن طريق قوس مزدوج. وشعار بني الأحمر في وسط القاعة تمكن مشاهدته من كل الاتجاهات، أو هو كما يقول المهندسون محور النظر مع مكان جلوس الملك. وفي كل جدار من جدران القاعة ثلاثة أقواس تصل إلى محاريب مفتوحة في الجدار.
والقاعة متخمة بالنقوش، وكلما تعمقنا إلى الداخل تزداد النقوش والزخارف حضورا وإبهارا.
وهذه القاعة من أكثر القاعات ازدحاما بين قاعات القصر، ومن أكثرها ألما بالنسبة لزواره العرب، ففيها - على أكثر الروايات - وقَّع أبو عبدالله الصغير وثيقة الاستسلام. ولذلك لم أستغرب عندما سمعت شيخا عربيا كبيرا في السن ينشد بيتا شعريا بصوت مسموع وهو يقترب من مكان العرش:
ابك مثل النساء ملكا مضاعا
لم تحافظ عليه مثل الرجال
أعاد الشيخ العربي الذي لا شك في أن المشهد كان موجعا بالنسبة له، تفاصيل المشهد الأخير لخروج أبي عبدالله الصغير من الحمراء واستسلامه لمصلحة فرديناند... كان المشهد ينطق الصخر عندما رأت أمه عائشة دموعه تنهمر، فقالت له ببديهة عربية وسليقة صافية البيت الذي سار مثلا، وكثر ترديده لاحقا مع توالي سقوط المعاقل العربية في كل مكان.
اقتربت من الشيخ الذي عرفت أنه سوري وسألته: هل تبك على سقوط الأندلس بعد كل هذه القرون؟
فرد سريعا:
«كل المدن والعواصم العربية تسير في طريق غرناطة يا ولدي». أرعبني الرد وأنا أقترب أكثر من ساحة العرش التي كان يتربع فوقها أبو عبدالله الصغير بقلق وارتباك في أيامه الأخيرة، وكانت أصوات الخسائر وسقوط مماليكه لا يحتاجان إلى الصعود فوق الأبراج العالية المنتشرة حول الحمراء، فهي تصله من كل النوافذ والشبابيك، بل وتسير في قنوات الماء وسواقيه... إنها النهاية بكل تجلياتها.
سباع تحرس الحقيقة
يمضي الوقت سريعا في القصر دون أن نستطيع الوصول إلى كل ردهاته، ودون أن نستطيع رسم خارطة ذهنية كاملة له، نسأل مرافقنا: أين نحن الآن؟ لا يبطئ في الإجابة: نحن في الربع الجنوبي الشرقي من القصر... إنه بهو الأسود، أو السباع كما يسميه البعض.
وقف نيكولاس في وسط البهو وحرك يديه وسط خصل شعره المتساقطة فوق وجهه وقال متذكرا واشنطن إرفينج: «لا يوجد قسم في هذا القصر من شأنه أن يعطينا فكرة كاملة عن جماله الأصلي وروعته أكثر من هذا».
ويعلل نيكولاس كلام واشنطن بالقول إن هذا المكان لم تطله يد الزمان بالتخريب إلا قليلا. وتقوم في وسط البهو النافورة المشهورة التي تغنى بها الشعراء وحبكت حولها الحكايات في الذاكرة العربية عندما تستعيد ذكريات الأندلس. وبجانب النافورة أحواض المرمر التي لاتزال - رغم تعاقب
القرون - تصب قطراتها الماسية، يدعمها الاثنا عشر أسدا تجعل نبعها البللوري يتدفق كما في أيام أبي عبدالله الصغير.
بنى هذا البهو/ القصر محمد الخامس الذي خلفه والده يوسف الأول. كان بهو الأسود وما يحيط به يمثل قصر العائلة الذي بني على مقربة من الحمامات وفناء الريحان.
ويرى الكثير من المتخصصين في التراث الأندلسي وتراث بني نصر بشكل خاص أن ذروة فنهم وإبداعهم ظهر في هذا القصر الذي اهتم بالأناقة أكثر من الفخامة على حد تعبير ألبرت كالفرت في كتابه «غرناطة وقصر الحمراء». وفي البهو يتناغم الضوء، والماء، واللون، والزخرفة ويشكلان سمفونية الإبداع العربي التي يمكن سماعها بوضوح وأنت تجول ببصرك مشدوها في وسط البهو الباذخ والساحر... فتحسب أنك تسمع تفاصيل سهرة عود بطلها الأول زرياب وضيفها الأوحد الخليفة... أمير المؤمنين.
يأسرنا بهو الأسود، نقترب منها أكثر، عددها اثنا عشر أسدا، تخرج المياه من أفواها. وكانت السلطات الإسبانية قد أخذت في عام 2002 الأسود لتنظيف جوفها من الترسبات التي باتت تعيق حركة المياه، ولكن بعد أن أعادتها في عام 2011 لم يستطع الخبراء أن يعيدوا المياه كما كانت!!. وبعد أكثر من عام وبجهود مؤرخين وخبراء وعلماء متخصصين في قصر الحمراء عادت المياه لتخرج من أفواه الأسود مرة أخرى... على أن فكرة الأسود كما يقول دليلنا السياحي والتاريخي كانت لدلالة على الوقت، حيث يخرج الماء من فم الأسد الأول في الساعة الواحدة، ومن فم الثاني في الساعة الثانية، وهكذا على مدار الساعة لتُعلم سكان القصر بحركة الزمن من حولهم.
تبدو الأسود مستكينة ومستقرة بعد أن وقّع أسيادها صكوك الاستسلام، ولم يعودوا ملوكا لغرناطة ولا لضاحية من ضواحيها... فلا صوت لزئير ولا أي رهبة في شكلها... إنها كائنات وديعة جدا... رغم أنها كانت في يوم من الأيام السباع التي تحمي الحقيقة والمكان.
يتكون البهو من باحة تحيط بها الأعمدة على طريقة الأديرة المسيحية، والبهو يتمركز في نقطة تحيط بها كل القاعات الأخرى المرتبط به... بدءا من قاعة القباب المقرنصة في الغرب إلى قاعة الملوك في الشرق، وقاعة الأختين في الشمال ومنظرة دار عائشة في الجنوب.
وقاعة الملوك من القاعات التي تبهر زائرها بزخارفها الغريبة، ومقرنصاتها المزخرفة بالألماس المفرغ. وتنقسم القاعة لسبعة أجزاء: ثلاث غرف مربعة ومنفصلة بواسطة قسم مستطيل الشكل وقباب في الأطراف. ويخترق الضوء القاعة بسهولة، وتتباين فيها جاذبية الأقواس مع زخارف جدرانها الرقيقة التي تكسوها النقوش.
وفي صدر القاعة يمكن رصد الرسوم التي تمثل أول عشرة ملوك من سلالة بني نصر، ومشاهد تمثل الفروسية ورحلات الصيد، إضافة إلى مشاهد تمثل الجانب الرومانسي في حياة غرناطة وقصر الحمراء.
نترك البهو بتثاقل كبير إلى الجانب الجنوبي، حيث تقع «قاعة بني سراج»، ووفق دليلنا فإن الكثير من الروايات غير المحققة ترى أنها كانت مسرحا لأحداث مذبحة 36 رجلا من أعيان تلك الأسرة، والتي جرت بأمر أبي عبدالله الصغير، ويمكن مشاهدة عرق محمر في الأرضية الرخامية يشار إليه على أنه لطخات دم ضحايا يتعذر محوها. وواشنطن (صاحب كتاب حكايات الحمراء) يسخر كثيرا من هذه القصة ويعتبرها مثيرة للضحك.
وبين حكاية وردهة ونافذة وشرفة تستمر الرحلة في قصر الحمراء، ومن زيارة حماماته وأبراجه إلى غرف نسائه التي كانت شاهدا صامتا على الكثير من حكايات الحب والغرام... إلى متزين الملكة ودار عائشة وبرج قمارش، الذي يستقر فوق قاعة السفراء، وقاعة الأختين وقاعة القضاء التي يبلغ بها الإسراف والبذخ في الزخرفة مداه الأكبر في القصر. ويقال إنه في هذه القاعة كانت بركة للوضوء، هي الآن في المتحف. وعليها منحوتات نافورة جميلة لأسود، وغزلان ونسور. وفي هذه القاعة بالتحديد أمر فرناندو وإيزابيلا بعد أن دانت لهم الحمراء وغرناطة بأكملها، بإقامة قداس للاحتفال بعودتهما إلى العرش.
إلى الجنان... إلى جنة العريف
مرورا بحدائق دار عائشة وجدنا أنفسنا نخرج من قصر الحمراء إلى جناته المقابلة: جنة الخليفة وجنات العريف وفناء السرو. وعالم من الجمال والسحر لا مثيل له. لا تبعد ربوة الشمس التي تتمركز فوقها كل الجنان.
ورغم أن «جنة العريف» تعود إلى ثاني سلاطين بني الأحمر محمد الثاني فإن أول إشارة تاريخية لها تظهر في كتاب لسان الدين ابن الخطيب «الإحاطة بتاريخ غرناطة»، «والذي اعتبرها واحدة من بين سبعة عشر بستانا تنتمي للتراث الملكي، وأشار إلى تميزها بكثافة أشجارها التي تحجب أشعة الشمس، كما أشاد بسحر وعذوبة مياهها ونقاء هوائها».
وإذا كان الكثيرون قد ربطوا بعلاقة بين باني قصر الحمراء وبين السحر، فإن الربط بينهما في إنشاء جنة العريف أولى... إنها جنة حقيقية وليست مجازية، تقف بجمالها وبذخها في موازاة قصر الحمراء من حيث الروعة وتناغم التفاصيل.
ولا شك في أن أجمل ما في جنة العريف «فناء الساقية» الذي بات يرمز إلى الجنة أو يرتبط ذهنيا باسمها. وهو مكان مسور مستطيل الشكل يمر بالمحور الكبير للساقية من خلال القناة الملكية. وتشكل نوافير المياه التي تحيط بالساقية وتلتقي في وسطها المشهد الأجمل والأروع.
كانت جنة العريف تشكل الملاذ الأجمل لملوك غرناطة حين تشتد الخطوب، وتكون الجنة هي المهرب الأكثر أمنا والأكثر برودة حينما تشتد حرارة الجنوب.
ويذكر غير مؤرخ أنه من الصعب تمييز الشكل الأصلي لجنة العريف، فقد شهدت الكثير من الترميمات والكثير من التعديلات خلال الحقب الإسلامية والمسيحية. ويرى دليلنا السياحي أن أغلب ملامح جنة العريف قد طمست، وما نراه اليوم لا يمت لشكل «الجنة» كما كانت في عهد أصحابها من بني الأحمر بصلة.
لكل شيء إذا ما تم نقصان
كان يومنا في الحمراء هو يوم سبت النور، وفق روزنامة الأعياد الاسبانية، وكان يوما مناسبا ليذر زوار المدينة والقصر من المسلمين دموع الحسرة على ملك كان وما عاد. ولا بد في هذه الحضرة من تذكر ما أبدعه الشاعر الأندلسي أبوالبقاء الرندي في رائعته «لكل شيء إذا ما تم نقصان». وصولا إلى البيتين
يا من لذلة قوم بعد عزهم
أحال حالهم جور وطغيان
بالأمس كانوا ملوكًا في منازلهم
واليوم هم في بلاد الكفر عبدانُ
نترك الحمراء تختفي كلما أمعنا في المسير باتجاه المدينة التي بدأت تحتفل جديا بسبت النور وعيد القيامة. وكان صوت الشاعر اللبناني المسيحي الوليد بن طعمة يرن في أذني وهو ينشد في رثاء الأندلس:
أهكذا كانت «الحمراء» موحشةً
إذ كنت ترقب أفواج المغنينا
وللبرود حفيف فوق مرمرها
وقد تضوع منها مسك دارينا
ويا غمام افتقد جنات مُرسيةٍ
ورد من زهرها وردًا ونسرينا
وأمطر النخل والزيتون غادية
والتوت والكرم والرمان والتينا
كنا الملوك وكان الكون مملكة
فكيف بتنا المماليك المساكينا؟
وفي رقاب العِدى انفلّت صوارمنا
واليوم قد نزعوا منا السكاكينا .
بهو البركة الواقع مباشرة أمام قاعة السفراء إحدى أهم قاعات القصر. وتعكس البركة صفحة السماء بشكل فني نادر.
لم يبق للسلاح حضور في مشهد حصن الحمراء إلا للزينة.. وتبدو المدافع أمام قصر كارلوس الخامس موجهة باتجاه غرناطة.
منظر عام على مدينة غرناطة من فوق جنات العريف... ويبدو قصر الحمراء مشرفاً على كل تفاصيل المكان.