جمال بن حويرب يُجسِّد سر الشعر هياماً وعصفاً وجدانياً

جمال بن حويرب  يُجسِّد سر الشعر هياماً وعصفاً وجدانياً

ديوان الشاعر الإماراتي جمال بن حويرب «الفاتنة» الصادر حديثاً عن دار «ضفاف» – بيروت، ومنشورات «الاختلاف» - الجزائر هو أشبه بمفاجأة جميلة حملها إلى أصدقائه وعارفيه الذين قرأوا قصائده منشورة في الصحافة أو استمعوا إليها في مناسبات عدة. جمع الشاعر أخيراً قصائده في ديوان هو أكثر من ديوان، نظراً إلى تنوع أجوائه وتعدد أغراضه الشعرية ومدارسه أو اتجاهاته. وقد حان فعلاً نشر هذا الديوان الذي من أولى مهماته أن يضع هذا الشاعر الحقيقي على خريطة الشعر الإماراتي والعربي، وأن يرسخ حضوره في المشهد الشعري الراهن. 

 

من يقرأ قصائد الديوان التي كتبت في مراحل عدة يكتشف أن هذا الشاعر الذي غالباً ما آثر الابتعاد عن صخب الإعلام والمنابر هو بحق صاحب تجربة أصيلة، متجذرة في أديم الشعر العربي، ومنفتحة في آنٍ على هموم الإنسان المعاصر. ولئن اختار الشاعر أن يسلك مسلك القصيدة العمودية القائمة على الوزن والقافية، معرجاً في أحيان على قصيدة التفعيلة، فهو نجح في بث أنفاس غير مألوفة في هذه القصائد، لاسيما قصائد الحب والغزل، وقصائد الوجد والشكوى، متجهاً نحو حال من الغنائية الراقية والجمالية المشبعة بالعفوية والبعيدة عن التصنع والتكلف وما يسمى «نظماً» مفتعلاً. الشعر هنا يحرص تمام الحرص على رقة حواشيه وعلى عاطفته الجياشة وعلى نبل مراميه.. ولعل المقدمة التي استهل بها الشاعر ديوانه هي خير مدخل إلى تجربته وأسرار هذه التجربة، وإلى سيرته الشعرية التي اختطها ليبلغ ما بلغ من مقصد وموقع.

مرآة عقل الإنسان
لم يتخيل جمال بن حويرب أن يوماً سيأتي يجمع فيه قصائده في ديوان، فيقف بين أيدي قرائه وكأنه يقرأ عليهم أشعاره، علماً بأن الشعر كما يقول هو «مرآة عقل الإنسان, ودلالة على فكره وعلمه ومدى سعة اطلاعه». ولا يتوانى عن إعلان ميله إلى الشعراء المتأنين في نشر شعرهم وفي مقدمتهم زهير بن أبي سلمى. كان هؤلاء الشعراء يمكثون سنة كاملة حتى يطلوا على الناس بقصيدة واحدة لا يتجاوز عدد أبياتها ستين أو سبعين بيتاً. ما الذي كان يدفع الشعراء إلى هذا التمهل أو التباطؤ في الكتابة؟ هل الخوف من أقلام النقاد كان يجعلهم يغرقون في صوغ قصائدهم وسبكها وترصيعها، لئلا يدعوا أحداً يأخذ عليهم هنة أو ضعفاً أو ركاكة؟ أم إنهم كانوا يبتغون أن يروعوا ممدوحيهم بما فخم من الشعر فيجزل هؤلاء عليهم العطاء؟ أم إن الشاعر، ومثاله هنا هو زهير، كان يرى أن الشعر يمثل ما يملك من عقل وشرف وثروة، فلابد من الدفاع عنه؟ هذه الأسئلة يطرحها شاعرنا، ليخلص  إلى أن صرف الشاعر «حولا» لينشئ قصيدة هو ضرب من هدر الوقت وإضاعة العمر، لاسيما في عصرنا، عصر السرعة. ولكن في رأيه أيضاً أن التسرع في كتابة الشعر، كما يحصل اليوم لدى بعض الشعراء، هو ضرب من الهباء والعبث. ويعرب الشاعر عن تمنيه أن يجتهد الشاعر في صنيعه، معنى وشكلاً ولغة، فلا يعجِّل في إنهائه ونشره، فـ «الجودة تحتاج إلى وقت، وانتقاء الألفاظ وقنص المعاني يحتاجان إلى التريث والصبر». ولعله أصاب في هذه المسألة، وبخاصة أن المشهد الشعري العربي الراهن يعاني حالا من الفوضى يختلط  فيها القمح والزؤان، الصالح والطالح، الجيد والرديء، فضلاً عن الاضطراب اللغوي الذي يعانيه الشعر اليوم، ومن مظاهره الأخطاء في الصرف والنحو والركاكة في الأسلوب والهنات التعبيرية... مع أن قصيدة النثر هي قصيدة صعبة وليست بسيطة أو سهلة كما يظن بعضهم، وكتابتها تحتاج إلى الوعي اللغوي والخبرة والثقافة، تماماً مثلما يحتاج الشعر العمودي والتفعيلي إلى الدربة والمراس والرهافة، وإلا فهو يضحي نظماً لا روح فيه ولا رواء. ويسترجع الشاعر قولاً لأحمد شوقي هو: «إذا كثر الشعراء قل الشعر»، وهو قصد حينذاك الشعراء النظَّامين الذين هتكوا حرمة الشعر والعروض.

حيوية المصطلح الشعري
خصت الناقدة الفلسطينية الكبيرة سلمى الخضراء الجيوسي، جمال بن حويرب، بشهادة قد يحسده عليها شعراء كثر، وفيها تقول: «لقد وجدت أن شعر جمال بن حويرب يضمر المثال الأوضح على حيوية المصطلح الشعري المتوارث والمتجدد في آن. لم أجد مثله إلا عند الجواهري وبدوي الجبل». وهي أصابت فعلاً في كلامها عن المتوارث والمتجدد في شعر بن حويرب، فمن يقرأ قصائده يدرك أن هذا الشاعر هو خير وارث للشعر العربي في حقباته وعصوره المتوالية، منذ العصر الجاهلي والعصور الأموي والعباسي والأندلسي حتى عصر النهضة والثورة التفعيلية الحديثة. وقد تمكن الشاعر من تطوير تجربته الشعرية القائمة على معرفة عميقة بالشعر العمودي أو الكلاسيكي، منفتحاً على جماليات عصر النهضة وبلاغته الجديدة والآفاق التي افتتحها، سواء في اللغة أو في الموضوعات والقضايا المعاصرة. وقد تسنى للشاعر أن يجمع بين متانة الكلاسيكية وقوتها وسلاسة الشعر النهضوي، الرومنطيقي خصوصاً. ولئن تطرق إلى أغراض الشعر القديم كالنسيب والغزل والرثاء والمدح، فهو بدا كأنه يعيد إحياءها في منأى عن التقليد أو المحاكاة الظاهرة. وقد كتب قصائد عدة تصب في خانة الشعر الوطني ومنها «بلادي» و«دبي الفاتنة». حتى قصائد المدح التي حملها الديوان، غدت قصائد وطنية من شدة ما تحمل من رموز وأبعاد تاريخية وأخلاقية. فالمدح هنا اعتراف وبوح وصدق وتدفق وجداني، وليس يشبه مديح الشعراء القدامى الذين كانوا يبغون من ورائه كسباً ورزقاً. 

من هي الفاتنة؟
يكاد يطغى على الديوان شعر الغزل والحب والنسيب، وقد يحار القارئ حيال صفة «الفاتنة» التي حملها الديوان عنواناً: من هي؟ أهي المرأة الفاتنة بجمالها الظاهر والروحي أم هي الأرض والبلاد مسقط الرأس والمشاعر؟ في قصيدة «دبي الفاتنة» يتحدث الشاعر علانية حديث القلب والكبد عن مدينته قائلاً في ما يشبه البوح الوجداني: 
فهوى دبي هو الكبير السرمد
لدبي فاتنتي وفيها أنشد 
يكفي بأن ترابها امتزجت به
 أرواحنا وبها الحقيقة تعقد
 فيها الرجال الخالدون وقائد
 بلغ السماء ومثله لا يوجد
 وكان الشاعر كتب هذه القصيدة بعيد رحلة قام بها مع أصدقائه، جابوا خلالها بلداناً ومدناً عدة، منها ميونيخ والنمسا وسلوفينيا وكرواتيا وبلغراد واسطنبول، لكنه ما إن حط الرحال في مدينته حتى انبثق الحنين في قلبه.
أما «الفاتنة» الأخرى فهي لا شك الحبيبة في شتى وجوهها. الحبيبة التي يمكن وصفها بـ«المثال» الذي تفيض عنه صور عدة. إنها الحبيبة في لحظات الوصال والنجوى كما في لحظات السلوى والفراق، في لحظات التتيم والهوى كما في لحظات الشكوى والألم والعتاب... على أن شعر الحب هنا يميل إلى أن يكون عذرياً، نقياً وعذباً، يخفق له القلب وتلتهب الدخيلاء ويفتر مبسم، وفي أحيان ينكسر له الفؤاد ضنى وجوى. لا يقترب الشاعر من مضارب الشعر الإباحي إلا لماما، وفي ما يشبه لمح البصر، فهو شاعر وجداني النزعة، صادق العاطفة، رقيق الشعور، نبيل المرام، يدمع لكن الدمعة تظل حبيسة مقلتيه. وفي مطلع الديوان يكتب هذين البيتين اللذين يندان عشقا ويجعلان من الحبيبة هي بداية الشعر وخاتمته: 
ولم أكتب من الأشعار بيتا
ولم أنطق بحرف أو كلامِ
سوى إني ذكرتك في ابتداء
 وإني قد ذكرتك في الختام»
إنها «الفاتنة» حقا تشقي الحبيب وتحدث في القلب جرحا عاطفيا كأن يقول:
أشقيت حبيبك... فاتنتي 
وظلمت الحب فواكبدي
 الشاعر العاشق يتيِّمه الحب ويشعل الفراق في نفسه جمر الضنى على خلاف المعشوقة كما يقول النفري «المعشوق حي أما العاشق فميت». ولعل الحب الحقيقي هو هذا الحب الذي قاساه معظم الشعراء على مر العصور وألهمهم أجمل القصائد المضطرمة وجدا: 
لو يعلم الناس بما في مهجتي
وأدركوا السر الذي في خاطري
لو يشعرون بعذابي لحظة
من الجوى ومن فراق جائر
ويبلغ به الهوى مبلغاَّ حتى ليعرب عن جواه متحدياً غرور الرجل وكبرياءه، جاعلاً من نفسه شبيه قيس المعذب والنشوان بحبه روحياً: 
وفي الشوق لذات يعيش بها الهوى
وأنت كروحي والبعاد عذاب
 لكنّ الحب يظل هو النبع الذي لا ينضب والذي يجود بمياهه في أحايين اليباب والجفاف. وفي قصيدته الجميلة «حال الحبيب»، تبرز صورة الشاعر الذي يعاني مرّ الفراق والوصل في آنٍ واحد، قائلاً: 
أما زلت في غبطة هانئا
بوصلكها والهوى شامل
أم إنك من مرّ كأس الفراق
شربت وإن النوى قاتل
فقلت لهم ما الهوى ناضر
ولا القلب من وصلها عاطل
ولا أنا في قربها هانئ
وكلي لها عائل سائل
كأني غريب إذا أقبلت
وإن ملت قالت أيا مائل
وعلى غرار الشعراء القدامى والمحدثين الذين كتبوا عن الحبيب بصفته مذكرا ومنهم الأخطل الصغير الذي أبدع رائعته «جفنه علم الغزل» (لحنها وغناها عبدالوهاب)، يكتب بن حويرب ببراعة وطلاوة قائلا: 
يا مالكاً رقّي ولست بعبده
ارفق فإني منكم وإليكمُ
إلى أن يقول: 
ولئن يسرّك أن تراني ذاويا
فلكم سررت بأنّ ثغرك يبسم
أشقيتني من غير ذنب والنوى
يشقي وإني في هواك متيم
ارحم محبك واشف جرحي واسقني
من ماء وصلك فالنوى لا يرحم
نادراً فعلاً ما نقرأ اليوم شعراً عمودياً في مثل هذه الطلاوة والسلاسة والتلميح والصدق والرقة وحسن الأداء. ويفيض ديوان «الفاتنة» بكثير من هذه القصائد الوامضة واللامحة والمغرقة في عذوبة التدفق الوجداني والبعيدة الأثر في النفس ومنها: «من أنت؟»، «سحر الجمال»، «لبنى»، «عناق»، «طال اشتياقي» «خذوني إليها»، «حنين وشجون»  وسواها. وتقارب قصائد عدة الغزل الصرف الذي يتغنى بجمال الحبيبة ورقتها ويبدو الشعر خلاله وكأنه «يستخفه الطرب» ويحرك العشق لواعج أنسه: 
شوقي إليك يزيد
فهل لديك مزيدُ؟ 
ويقول:
كهربت قلبي يا غزال
وحبذا هذا المكهرب
ولئن كتب بعض الشعراء، غربيين وعرباً، قصيدة شخصية معروفة بعنوان «فن شعري» يضمّنونها رؤيتهم إلى الشعر وكيف يعيشونه (لابد أن نتذكر هنا قصيدة الشاعر الفرنسي الكبير بول فيرلين «فن شعري» ويقول في مطلعها: «الموسيقى قبل أي آمر آخر»)، فإنّ الشاعر  جمال بن حويرب جسد نظرته إلى الشعر في قصيدة عنوانها «الشعر»، وفيها يعبر عن التجربة الشعرية كما عاشها وكتبها، ويعلن أن: 
الشعر سر ليس يعرف كنهه
قلب ذكي لا ولا عقل كمُلُ
الشعر هو سر حقا، يحياه الشاعر بروحه ووجدانه ووعيه في آن، ويظل عاجزا عن تفسيره تماما كما يصعب تفسير الجمال والخيال والموت والكينونة... ويقول: 
من يسأل الشعراء عن أحلامهم
فلقد أساء إلى القصيد وما عدل
 لا يمكن للشعراء أن يفسروا سرهم كما تُفسر بعض الأمور موضوعيا. لا يمكنهم أن يفسروا لحظة الإشراق التي تلمع في دخيلائهم  فيتدفق الشعر من جرائها طالعاً من عمق الوجدان، مشبعاً بالحدس والشعور العميق بالذات، فضلاً عن الإلهام الذي طالما تحدث عنه شعراء الإغريق وفلاسفتهم. «الشعر لوحة شاعر في فكره» يقول أيضاً، ويضيف:
 والشعر ليس حقيقة في كونه 
لكنه شمس الحقيقة لم تزل
 والشعر يسري في الضمائر مثلما
سرت العُقار بعقل صبّ قد ثمل
ولعل من أجمل ما يُسبغ على الشعر أنه «دم القلب» وقد استحال حبراً مضيئاً، ويقول الشاعر في قصيدة «حبر الشريان»: 
في قلبي قلم
يكتب ما لا تكتبه الأقلام
في قلمي حبر
من صنع القلب
يتدفق من نهر الشريان
هذا الكلام الجميل والمؤثر يذكِّر بما قاله الشاعر الرومنطيقي اللبناني الكبير إلياس أبوشبكة: 
اجرح القلب واسق شعرك منه
 فدم القلب خمرة الأقلام
ديوان «الفاتنة» الذي يصعب على  مقال أن يختصره، هو فعلا هدية جميلة يقدمها جمال بن حويرب إلى أصدقائه والقراء أياً كانوا، هدية تكشف الوجه المضيء لهذا الشاعر الذي طالما آثر الابتعاد عن صخب الشعر وضوضاء الشعراء، منصرفا إلى الكتابة بمـــراس ودُربة. الآن لم يعد جمال بن حويرب قادراً على الاختفاء أو التواري بعدما وضعه ديوانه في موقع الصدارة في حركة الشعر العربي الأصيل، الذي لم يتخلّ ولن يتخلى عن شعر الوزن والقافية، عمودياً كان أو تفعيلياً. لكنّ هذا الموقف لا يعني أن الشاعر يناهض قصيدة النثر ويعاديها كما يفعل شعراء عموديون وتفعيليون كثر، بل يؤمن بحرية الشعر والشعراء، كما قال واصفاً الشعر: 
كالكون الفسيح توسعت
أرجاؤه وبه المشاعر ترتحل ■