سبيل محمد علي... متحف للمنسوجات التاريخية

عرفت الحضارة العربية مواطن الجمال والذوق الرفيع قبل آلاف عدة من السنين، وبقيت شواهد حضارات اليمن وفارس والعراق ماثلة للتدليل على صناعة الجمال، ومن قبلها كذلك كانت الحضارة المصرية قدمت نماذج رفيعة لجمال المنسوجات.
وقد صنع الإنسان في المنطقة العربية الإسلامية أذواقًا من الجمال والإبداعات تركها تراثًا للإنسانية على مر التاريخ يحار الفكر الإنساني كيف تم إبداعها في هذا الزمن المبكر للحياة البشرية، وفي قلب القاهرة التاريخية تجمعت الآن نماذج وقطع أثرية نادرة لهذه الفنون العبقرية من «النسيج» الذي حوَّله إلى «فن» تداخلت فيه كل فنون صناعة الجمال من إبداعات الألوان إلى تداخلات طرازية بكل أنواع التطريزات، حتى أنه عرف منذ 7 آلاف سنة كيف يصنع الأقمشة «البليسة» التي يفتخر بها الغرب الآن، وتركوا لنا في مقابر الفراعنة قطعًا من هذه المنسوجات، وكان قرار تجميع كل هذه التحف العربية والإسلامية داخل متحف هو إضافة لشارع المعز بجانب التحف الإسلامية المعمارية المنتشرة على امتداد الشارع العجوز الذي وصل عمره إلى ألف عام.
سبيل محمد علي
وكان اختيار سبيل محمد علي باشا في النحّاسين الرابط في أبهة وعظمة أمام مجموعة «السلطان قلاوون» اختيارًا موفقًا، ذلك السبيل الذي يعد أحد أجمل عناصر العمارة الإسلامية بالقاهرة التاريخية، وأحد أدق النماذج الفنية الجميلة التي تزخر بها مصر، والــــذي يـــعبر عن حقبة تاريخــــية مهمة، كما أنه يمــــثل تطـــورًا في عمارة الأسبلة كعنصر من عناصر التشكيل العمراني، والتي انفردت بها العمارة الإسلامية، كما يمثل طراز أحد المباني الخيرية الإسلامية فــــهو منشأة تعليمية خيرية تعمل على خدمة المجتـــمع، وتلك الخدمة جعلت القيمة الوظيــــفية للأثر من أهم القيم التي ساهمت في استمرارية وجوده وتألقه.
ويحكي التاريخ أن السبيل الذي تحول إلى متحف للنسيج كان قد أمر والي مصر محمد علي باشا الكبير بإنشائه سنة 1828م. وقد أنشأه كعمل خيري على روح ابنه إسماعيل باشا الذي توفي في السودان سنة 1822م. ويعتبر هذا السبيل «المتحف» من الأسبلة العثمانية بمصر التي تظهر فيها زخارف «الباروك» و«الركوكو» العثمانيين، وتوجد فوقه مدرسة صغيرة تتكون من حجرة مستطيلة مغطاة بقبة بيضاوية آية في زخارف «الباروك» و«الركوكو» العثمانيين، وهي ذات واجهة منحنية تطل على شارع المعز بأربعة شبابيك للتسبيل، مغشى كل منها بالنحاس مشكلًا زخارف نباتية، كما نجد الواجهة الرخامية الرائعة وما عليها من أعلى من كتابات شعرية تركية. وقد اتسع السبيل في طابقيه السفلي والعلوي لإنشاء 5 قاعات تضمن مقتنيات نسيجية عصور وتضم كل قاعة قطعًا رائعة التكوين والألوان بقيت من كل هذه العصور وتحمل كل منها ملامح وفنون عصرها.
ثم قطع من نسيج الصوف كلها زخارف منسوجة بطريقة القباطي من العصر الأموي، وقطع من نسيج الكتان بزخارف منسوجة بالحرير عليها كتابات «فتح قريب لعبدالله ووليه نزار أبي منصور العزيز بالله أمير المؤمنين» من العصر الفاطمي. وقطع من نسيج الصوف عليها رسوم لفرس النهر بالألوان من العصر الطولوني، وقطع من نسيج الحرير باللون الأزرق عليها كتابات باسم الناصر محمد بن قلاوون، وسجاد صلاة للتعليق من الحريق الأحمر المطرز بالفضة المموهة بالذهب، أهداها الوالي محمد علي باشا إلى كريمته زينب هانم عند زفافها. والعديد من القطع من كسوة الكعبة «شعاره باب التوبة» عليها زخارف نباتية وآيات قرآنية مطرزة بخيوط من الفضة بأسلوب «السيرما».
المنسوجات الإسلامية في اليمن
اشتهر اليمن بصناعة المنسوجات منذ أقدم العصور قبل الإسلام، حيث كان يصنع كسوة الكعبة من نسيج أطلق عليه اسم «الوصايل»، أي الثياب المخططة، وقد استمرت صناعة الوصايل في العصر الإسلامي مع احتفاظها بخصائصها التي تميزها بين أقمشة العالم الإسلامي، وهي الخطوط التي تتناسب طولية أو عرضية، وتتصل وتنفصل لتعطي منظر ألوان متعددة، حيث كانت تغطي خطوط السدى في بعض المواضع بالشمع، بحيث تظهر الصباغة في الأماكن غير المحجوزة وتبقى المواضع المحجوزة بيضاء، وكانت تطرز على هذه المنسوجات القطنية الكتابات الكوفية في القرنين الثالث والرابع الهجريين، والتي اشتملت على أسماء الخلفاء العباسيين وطراز صنعاء وتاريخ الصناعة.
واشتملت بعض المنسوجات اليمنية على زخارف هندسية من خطوط متعرجة ونقط ومعينات، إما بتطريز أو بإحدى طرق الصناعة المركبة (النقش الزائد من الســــداة أو اللحمة).
النسيج الإسلامي في إيران
لا شك في أن إيران قد برعت في صناعة المنسوجات الحريرية منذ أقدم العصور، وتمدنا المصادر التاريخية والأثرية بمعلومات غزيرة عن المنسوجات الإيرانية الحريرية المطرزة بخيوط من الذهب والفضة ومنسوجات الديباج المبطن من اللحمة. وزينت المنسوجات بالرسوم الحيوانية والزخارف النباتية والهندسية من جامات ودوائر تحصر بينها زخارف نباتية محوّرة.
وازدهرت صناعة النسيج في العصر الإسلامي، وخاصة في مدن خوزستان وشوشتر التي صنعت فيها كسوة الكعبة، ومدينة خوارزم وبخارى وسمرقند التي أنتجت منسوجات كتانية تشبه النسيج المصري، هذا بالإضافة إلى مدن عدة أخرى اشتهرت بصناعة أنواع مختلفة من النسيج، مثل مدينة آمل التي عرفت بمنسوجات سميكة استخدمت كأغطية للسروج.
المنسوجات في العراق
عرف العراق صناعة النسيج في العصور السابقة للإسلام في عصر الساسانيين، حيث توافرت المواد الخام من القطن والصوف والحرير والكتان، وقد تكون مصانع النسيج التي ألحقت بالمعابد قبل الإسلام هي نواة لنظام الطراز الذي ازدهر في العصر الإسلامي، وخاصة في العصر العباسي.
استخدمت طريقة القباطي (اللحمات غير الممتدة) في تنفيذ الزخارف على المنسوجات الصوفية التي كانت تشبه المنسوجات المصرية المعاصرة لها، وخاصة في القرون الأولى للهجرة، مع غلبة التأثيرات الساسانية على العناصر الزخرفية المنفذة، على المنسوجات التي وصلت إلينا، مثل رسوم الحيوانات والطيور والعناصر النباتية المجنحة وحبات المسبحة، بالإضافة إلى الكتابات الكوفية، وبالإضافة إلى المنسوجات الصوفية وصلتنا مجموعة من منسوجات الطراز المصنوعة من القطن بطريقة نسيج السادة أو الملحم، والتي اشتملت على أشرطة كتابية كوفية منسوجة أو مطرزة أو مكتوبة بالمداد، مدون عليها أسماء الخلفاء والوزراء ودور الطراز مثل «مدينة السلام»، «بغداد» وتاريخ الصناعة وأحيانا توقيعات الصناع.
وعرف العراقيون النول البسيط الأفقي والرأسي، كما عرفوا الأصباغ النباتية والحيوانية، فحصلوا على اللون الأحمر ودرجاته من لحاء شجر البلوط، أو من الحشرات والديدان التي تعيش على الأشجار وخاصة دودة القرمز، وذلك بعد تجفيفها وغليها ثم وضعها في محلول ملحي حامض.
وحصلوا على اللون الأزرق من نبات النيلة، وعرفوا مزج الألوان لاستخراج ألوان جديدة، كما عرفوا استعمال الزعفران والورس.
وكانت في العراق عند الفتح الإسلامي مراكز عدة لصناعة النسيج، نذكر منها مدينتي المدائن والأنبار اللتين اشتهرتا بنسيج الطيالس (جمع طيلسان) التي تلبس على الأكتاف، وكذلك الجزيرة التي اشتهرت بمنسوجات الصوف، والموصل التي ازدهرت فيها صناعة النسيج وخاصة في العصر الإسلامي، ومن أهم منسوجاتها الملابس القطنية والشاش والمنسوجات الصوفية والموسلين (نسبة إلى الموصل)، وفي المناطق الكردية الشمالية ساعد المناخ المعتدل والحار على إنتاج المنسوجات الصوفية والقطنية والستائر.
وعندما فتح المسلمون العراق أقاموا مدنا جديدة مثل البصرة والكوفة وواسط وبغداد وسامراء، ازدهرت فيها صناعة النسيج، وخاصة عندما استوطنها عدد كبير من أهل اليمن الذين اشتهروا بمهارتهم في صناعة النسيج، واشتهرت مدينة الكوفة بصناعة الخز من الحرير والصوف كملابس للأغنياء، وصنعت الكوفيات التي حول الرأس.
وأصبحت بغداد (مدينة السلام) منذ تأسيسها (145هـ/1750م) من أهم مراكز صناعة النسيج من الحرير والصوف.
وعرفت صناعة نسيج القصب والملحم (وهو نسيج لحمته من القطن أو الكتان وسداته من الحرير)، وكذلك الخز من الحرير والصوف والبز من القطن الدقيق، ومنسوجات الوشي من الحرير المطرز برسوم الأشخاص والحيوانات، وهو من الملابس التي يفضلها الخلفاء وكبار رجال الدولة ومنسوجات الديباج من الحرير، وغيرها من الأنواع المختلفة التي تبين مدى الاهتمام بصناعة النسيج وخاصة في العصر العباسي في العراق.
ومن أهم قطع المنسوجات التي وصلتنا من العصر العباسي قطعة من نسيج الصوف (بمتحف بوسطن) باللون البني تزينها زخارف منسوجة باللونين البني والأزرق الداكن، عبارة عن شكل وعل أو حمل بأسلوب زخرفي محور داخل منطقة هندسية، وتظهر عليها التأثيرات الساسانية وهي ترجع إلى القرن الثاني الهجري الموافق الثامن الميلادي.
ويحتفظ متحف كليفلاند بقطعة من نسيج الحرير الأصفر وخيوط الفضة تزخرفها أشكال هندسية عبارة عن معينات تزينها حبات اللؤلؤ والأوراق النباتية، وتظهر عليها التأثيرات الساسانية متمثلة في حبات اللؤلؤ وأنصاف المراوح التخيلية، والزخرفة المنفذة بأسلوب القباطي بألوان براقة حمراء وخضراء وزرقاء، كما استخدم اللونان الوردي والأبيض في بعض المناطق.
وقد وصلتنا قطع من منسوجات الطراز صنعت في بغداد (مدينة السلام) من القطن مطرزة عليها أشرطة طراز موزعة بين المتاحف والمجموعات المختلفة، وخاصة متحف الفن الإسلامي بالقاهرة ومتحف المنسوجات في واشنطن ومتحف النسيج المصري.
آلهة النسيج
ولعل أكثر ما يمكن أن يثير دهشة الزائرين هذا الإعجاز الفريد من ألوان المنسوجات التي بقيت على حالها، برغم مرور آلاف السنين على صناعتها. ويعرض المتحف قطعًا رائعة من المنسوجات الفرعونية من «الكتان» الذي اشتهر به الفراعنة، تتميز بالرقة والنعومة التي تقترب من نعومة الحرير، فقد كانت هذه القطع ضمن الهدايا المتبادلة بين ملوك الفراعنة وملوك العالم القديم! إذ برع المصري القديم في غزل ونسج وصباغة ألياف الكتان، فعرفوا التراكيب النسجية المختلفة من النسيج السادة والقباطي والنسيج الحرير، بالإضافة إلى تمكنهم من تطريز منسوجاتهم وبخاصة الملكية منها بالأساليب المختلفة، مثل شغل الإبرة والتطعيم بالأقمشة واستخدام الخرز من الفيانس وعجينة الزجاج الملونة، وكذلك استخدام الحليات الذهبية.
وبلغ عشق الفراعنة واهتمامهم بصناعة النسيج أن ظهر في هذا الزمان «آلهة النسيج» التي تحمي الصناعة ويتعبد في محرابها العاشقون المحبون لهذه الفنون، وقد تضمن المتحف قسمًا خاصًا عرضت فيه تماثيل «آلهة النسيج» في العصر الفرعوني.
ويحكي التاريخ القديم كيف كان بطليموس الثاني يستعين بالمعلقات والوسائد في تزويد زورقه وخيمته، وكانت مدينة الإسكندرية قد شهدت في العصر الروماني إنشاء مصانع «الجينسيوم» التي كانت النساء تقوم بالنسج والتطريز فيها لإنتـــاج ما يحتاج إليه البلاط الملكي من أقمـــشة منـــــفذة بأســــــلوب «الزردخان» «Apolymita»، ومع انتشار المسيحية تجمع الفنانان المصري والروماني في روحانية ورمزية وتحريرية وعبرت المنسوجات القبطية عن هذا الفن الجديد، حيث تميزت بغناء وغزارة عناصرها الزخرفية ذات الألوان البراقة. وقد اهتم الأمراء المسلمون بإنشاء مصانع النسيج والتي كانت تتميز بالكتابة عليه.
مئزر سباحة الملك توت!
وما يثير دهشة الزائرين لهذا المتحف القطع الفرعونية التي تسمى «مئزرات»، والتي عثر عليها في مقبرة الملك توت عنخ آمون، وهو رداء بسيط يشبه المثلث من نسيج الكتان الملكي الرقيق يلبس مثل «لباس البحر» في العصر الحالي. وأيضًا قطع من نسيج ملون في مقبرة الملك تحتمس الرابع نسجت بطريق القباطي بمهارة فائقة وصبغت باللونين الأحمر والأزرق، تحمل جزءًا من اسم جده الملك تحتمس الثالث يرجح أنها جزء من رداء احتفالي موروث عبر الأسرة.
أين مصممو الأزياء العرب؟
إنها قطع من الفنون الباهرة تصور مراحل من الإبداع في هذه الصناعة التي سبقت كل الدنيا، وأغلب الظن أن ملوك الأزياء في العالم سوف يحضرون لمشاهدة هذه التحف واقتباس بعض الأذواق وإعادة صناعتها وطرحها في الأسواق العالمية «كموضة جـــديــــدة» تبهر العالم، وبالذات قطع الملابس التي كانــت ترتديها ملكات مصــــر الفرعونـــية، وكذلك منسوجات وأذواق سكان المنطقــــتيــــن العربية والإسلامية، إنها تصلح لأن تــــكون قمــة في الموضــــة والذوق، وليت مصـــممي الموضة في المنطقة يسبقون في إعادة صنـــاعة هذه القطع من الأزياء الملكية والتـــاريخــية بخطوطها وألوانها المذهلة، قبل أن يخطف الفكرة النشطاء من صانعي الموضة في كل أنحاء الدنيا ثــم إعــــادة تصديرها إلى المنطقة العربية .
مدخل المتحف وفي الأساس هو سبيل أنشأه محمد علي عام 1828