«وَيْ . إذنْ لستُ بإفرنجي»

«وَيْ . إذنْ لستُ بإفرنجي»

من‭ ‬دار‭ ‬الفارابي‭ ‬في‭ ‬بيروت‭ ‬أطلت‭ ‬علينا‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬َويْ‭ . ‬إذنْ‭ ‬لستُ‭ ‬بإفرنجي‮»‬‭ ‬بطبعة‭ ‬جديدة‭ ‬محققة‭ ‬ومصدّرة‭ ‬بمقدمة،‭ ‬ومرفقة‭ ‬بدراسة‭ ‬أكاديمية‭ ‬تليق‭ ‬بالذكرى‭ ‬المائة‭ ‬والخمسين‭ ‬لصدور‭ ‬الطبعة‭ ‬الأولى،‭ ‬وتليق‭ ‬أيضاً‭ ‬بمكانة‭ ‬خليل‭ ‬الخوري،‭ ‬مؤلف‭ ‬الرواية‭ ‬العربية‭ ‬الأولى‭. ‬ما‭ ‬الذي‭ ‬حرّك‭ ‬الدكتور‭ ‬شربل‭ ‬داغر‭ ‬لتحقيق‭ ‬هذه‭ ‬الرواية؟‭ ‬سؤال‭ ‬تخيلت‭ ‬نفسي‭ ‬أطرحه‭ ‬على‭ ‬المحقق،‭ ‬فأتاني‭ ‬الجواب‭ ‬من‭ ‬الشرح‭ ‬والتعليقات‭ ‬والنصوص‭ ‬التي‭ ‬ألحقها‭ ‬بنص‭ ‬الرواية‭.‬

أما‭ ‬السؤال‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬أمل‭ ‬في‭ ‬الجواب‭ ‬عنه،‭ ‬فهو‭ ‬ذاك‭ ‬الــــذي‭ ‬تخيلت‭ ‬نفسي‭ ‬أطرحه‭ ‬على‭ ‬المؤلــف‭: ‬هل‭ ‬وعــى‭ ‬خلـــيل‭ ‬الخوري‭ ‬دوره‭ ‬التأسيسي‭ ‬في‭ ‬النهضة‭ ‬حين‭ ‬أسس‭ ‬الجريدة‭ ‬العربية‭ ‬الأهلــــية‭ ‬الأولــــى،‭ ‬وحين‭ ‬نشر‭ ‬الرواية‭ ‬العربية‭ ‬الأولى؟‭ ‬هل‭ ‬قدّر‭ ‬جيداً‭ ‬دوره‭ ‬في‭ ‬تحديث‭ ‬موضــوعات‭ ‬الشعر‭ ‬ولغته،‭ ‬ودوره‭ ‬في‭ ‬تطويع‭ ‬أساليب‭ ‬العربية‭ ‬للترجمة،‭ ‬ودوره‭ ‬في‭ ‬وضع‭ ‬المصطلحات‭ ‬الجديدة‭ ‬التي‭ ‬تعج‭ ‬بها‭ ‬أعداد‭ ‬جريدته‭ ‬‮«‬حديقة‭ ‬الأخبار»؟

أصدر‭ ‬خليل‭ ‬خوري‭ ‬الطبعة‭ ‬الأولى‭ ‬من‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬َويْ‭ . ‬إذنْ‭ ‬لستُ‭ ‬بإفرنجي‮»‬‭ ‬عام‭ ‬1859‭ ‬بعدما‭ ‬نشرها‭ ‬مسلسلة‭ ‬في‭ ‬‮«‬حديقة‭ ‬الأخبار‮»‬‭ ‬عام‭ ‬1858،‭ ‬أي‭ ‬قبل‭ ‬سبع‭ ‬سنوات‭ ‬من‭ ‬‮«‬غابة‭ ‬الحق‮»‬‭ ‬لفرنسيس‭ ‬المراش‭ ‬1865،‭ ‬واثنتي‭ ‬عشرة‭ ‬سنة‭ ‬من‭ ‬‮«‬الهيام‭ ‬في‭ ‬جنان‭ ‬الشام‮»‬‭ ‬سليم‭ ‬البستاني‭ ‬1870،‭ ‬وأربع‭ ‬وعشرين‭ ‬سنة‭ ‬من‭ ‬‮«‬علم‭ ‬الدين‮»‬‭ ‬لعلي‭ ‬مبارك‭ ‬1882،‭ ‬وإحدى‭ ‬وأربعين‭ ‬سنة‭ ‬من‭ ‬أول‭ ‬رواية‭ ‬نسائية‭ ‬عربية‭ ‬‮«‬حسن‭ ‬العواقب‭ ‬أو‭ ‬غادة‭ ‬الزاهرة‮»‬‭ ‬لزينب‭ ‬فواز‭ ‬1899،‭ ‬وخمس‭ ‬وخمسين‭ ‬سنة‭ ‬من‭ ‬‮«‬زينب‮»‬‭ ‬لحسين‭ ‬هيكل‭ ‬1913‭. ‬أذكر‭ ‬هذا‭ ‬لأن‭ ‬كلا‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الروايات‭ ‬وجدت‭ ‬من‭ ‬يدافع‭ ‬عن‭ ‬ريادتها‭ ‬ويحمل‭ ‬رايتها‭ ‬كأول‭ ‬رواية‭ ‬عربية،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬جاء‭ ‬من‭ ‬يرفع‭ ‬راية‭ ‬‮«‬ويْ‭ . ‬إذنْ‭ ‬لستُ‭ ‬بإفرنجي‮»‬‭ ‬فوق‭ ‬رايات‭ ‬الآخرين‭ ‬ويكتب‭ ‬على‭ ‬غلافها‭ ‬عبارة‭ ‬‮«‬الرواية‭ ‬العربية‭ ‬الأولى‭ ‬الرائدة‮»‬‭.‬

ريادة‭ ‬خليل‭ ‬الخوري‭ ‬للرواية‭ ‬العربية‭ ‬لا‭ ‬تظهر‭ ‬أسبقيته،‭ ‬بل‭ ‬في‭ ‬أمر‭ ‬لا‭ ‬يقل‭ ‬عنها‭ ‬أهمية‭ ‬هو‭ ‬اعترافه‭ ‬بفنه‭. ‬فحين‭ ‬نشر‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬َويْ‭ . ‬إذنْ‭ ‬لستُ‭ ‬بإفرنجي‮»‬‭ ‬كانت‭ ‬النظرة‭ ‬إلى‭ ‬الرواية‭ ‬متأثرة‭ ‬بالانطباع‭ ‬السائد‭ ‬عن‭ ‬الحكايات‭ ‬الشعبية،‭ ‬بل‭ ‬ومتأثرة‭ ‬بالنظرة‭ ‬الفوقية‭ ‬إلى‭ ‬الفنون‭ ‬والفنانين‭.‬

لهذا‭ ‬كان‭ ‬اعتــــراف‭ ‬خليل‭ ‬الخــــوري‭ ‬بروايته‭ ‬ودفاعه‭ ‬عن‭ ‬هــذا‭ ‬الفن،‭ ‬وهو‭ ‬الشاعر‭ ‬والصحافي‭ ‬المعروف،‭ ‬موقفاً‭ ‬ريادياً‭. ‬وتتــــضح‭ ‬لنا‭ ‬قـــيـــمة‭ ‬هذا‭ ‬الاعتراف‭ ‬لو‭ ‬قـــارنّاه‭ ‬بموقــــف‭ ‬محمد‭ ‬حسين‭ ‬هيكل‭ ‬الذي‭ ‬أصدر‭ ‬روايته‭ ‬‮«‬زينب‮»‬‭ ‬بعد‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬نصـــف‭ ‬قرن‭ ‬من‭ ‬رواية‭ ‬الخوري،‭ ‬لكنه‭ ‬لم‭ ‬يتجرأ‭ ‬على‭ ‬توقيعــها‭ ‬باســــمه‭ ‬الحقــيقي،‭ ‬فنشرها‭ ‬باسم‭ ‬مستعار‭ ‬هو‭ ‬‮«‬فلاح‭ ‬مصري‮»‬‭.‬

وريادة‭ ‬خليل‭ ‬الخوري‭ ‬الروائية‭ ‬تظهر،‭ ‬ثانياً،‭ ‬في‭ ‬استخدام‭ ‬النص‭ ‬لخدمة‭ ‬المجتمع‭. ‬فهو‭ ‬لم‭ ‬يكتب‭ ‬الرواية‭ ‬للمتعة‭ ‬وحدها،‭ ‬بل‭ ‬للفائدة‭ ‬أيضا‭. ‬وتظهر‭ ‬هذه‭ ‬الفائدة‭ ‬في‭ ‬النقد‭ ‬الاجتماعي‭ ‬الذي‭ ‬يتركز‭ ‬خصوصاً‭ ‬في‭ ‬الفصول‭ ‬الأولى‭ ‬من‭ ‬الرواية‭. ‬وهذا‭ ‬المنحى‭ ‬النقي‭ ‬سوف‭ ‬نجده‭ ‬في‭ ‬كتابات‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬قصاصينا‭ ‬في‭ ‬الوطن‭ ‬والمهجر‭.‬

وريادة‭ ‬خليل‭ ‬الخـــوري‭ ‬تظهر،‭ ‬ثالثا،‭ ‬في‭ ‬موضوع‭ ‬الحكاية‭ ‬وطريقة‭ ‬المعالجة‭ ‬وغاية‭ ‬المؤلف‭. ‬فقد‭ ‬طرح‭ ‬الخوري‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الزمن‭ ‬المبكر‭ ‬موضوعة‭ ‬معاصرة‭ ‬هي‭ ‬العولمة،‭ ‬وبنى‭ ‬الحكاية‭ ‬على‭ ‬إشكالية‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬العرب‭ ‬والغرب،‭ ‬وعالج‭ ‬هذه‭ ‬العلاقة‭ ‬بحس‭ ‬قومي‭ ‬ناضج‭ ‬بعيد‭ ‬عن‭ ‬الخطابية،‭ ‬وبعيد‭ ‬عن‭ ‬التفاخر‭ ‬بالأمجاد،‭ ‬وعن‭ ‬كراهية‭ ‬الآخر‭. ‬ولا‭ ‬أدري‭ ‬إن‭ ‬كان‭ ‬خليل‭ ‬الخوري‭ ‬اختار‭ ‬قصداً‭ ‬شخصيات‭ ‬مسيحية‭ ‬لكي‭ ‬يزيل‭ ‬عن‭ ‬بعض‭ ‬العيون‭ ‬الغـــــشاوة‭ ‬التي‭ ‬نمـــاها‭ ‬الجهل‭ ‬بتاريخ‭ ‬العرب‭ ‬ومكـــــونات‭ ‬مجتمعهم‭. ‬غير‭ ‬أن‭ ‬حوادث‭ ‬الحكاية‭ ‬تجري‭ ‬بعيدة‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬الجو‭. ‬فميخالي‭ ‬يظن‭ ‬نفسه‭ ‬إفرنجياً‭ ‬لسبب‭ ‬واحد‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬جده‭ ‬الأعلى‭ ‬تــــزوج‭ ‬بامرأة‭ ‬شــــاهد‭ ‬زواج‭ ‬أخيها‭ ‬إفرنجي‭. ‬ولا‭ ‬شك‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬القارئ‭ ‬يدرك‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬هذه‭ ‬السخرية‭ ‬الكاريكاتيرية‭ ‬أن‭ ‬خليل‭ ‬الخوري‭ ‬لا‭ ‬يرى‭ ‬قيمة‭ ‬لأي‭ ‬رابط‭ ‬غير‭ ‬الرابط‭ ‬القومي‭.‬

وريادة‭ ‬خليل‭ ‬الخوري‭ ‬الروائية‭ ‬تظهر،‭ ‬رابعاً،‭ ‬في‭ ‬الأسلوب‭ ‬والألفاظ‭. ‬فقد‭ ‬عاش‭ ‬خليل‭ ‬الخوري‭ ‬في‭ ‬عراك‭ ‬مع‭ ‬اللغة‭ ‬يريدها‭ ‬أن‭ ‬تستجيب‭ ‬لمتطلباته‭ ‬صحفياً‭ ‬ومترجماً‭ ‬وشاعراً‭ ‬عصرياً‭. ‬فكان‭ ‬عليه‭ ‬أن‭ ‬يكتب‭ ‬لجريدته‭ ‬نثراً‭ ‬تفهمه‭ ‬طبقات‭ ‬القراء‭ ‬كلها،‭ ‬وأن‭ ‬يسابق‭ ‬الوقت‭ ‬في‭ ‬ترجمة‭ ‬مقالات‭ ‬الصحف‭ ‬الأجنبية‭. ‬لهذا‭ ‬كان‭ ‬يعنيه‭ ‬كثيراً‭ ‬أن‭ ‬يحدد‭ ‬خصائص‭ ‬الأسلوب‭ ‬الذي‭ ‬يناسبه‭ ‬ومميزات‭ ‬اللغة‭ ‬التي‭ ‬سيكتب‭ ‬بها‭. ‬وقد‭ ‬استقر‭ ‬رأيه‭ ‬على‭ ‬البساطة‭ ‬والسهولة‭ ‬في‭ ‬الأسلوب‭ ‬وعلى‭ ‬الألفاظ‭ ‬التي‭ ‬تفي‭ ‬بمفاهيم‭ ‬العصر‭. ‬وكان‭ ‬لا‭ ‬يتردد‭ ‬في‭ ‬استعارة‭ ‬هذه‭ ‬الألفاظ‭ ‬من‭ ‬معجم‭ ‬الكتابة‭ ‬الصحفية‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬ردته‭ ‬لغة‭ ‬الأدب‭ ‬الشائعة‭ ‬خائــبا‭. ‬وهــــكذا‭ ‬رســــم‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬يدري‭ ‬خصائص‭ ‬أسلــــوب‭ ‬ومن‭ ‬حيث‭ ‬لا‭ ‬يدري‭ ‬خصائص‭ ‬الأسلوب‭ ‬الروائي‭ ‬في‭ ‬زمنه‭.‬

وريادة‭ ‬الخوري‭ ‬تظهر،‭ ‬خامساً،‭ ‬في‭ ‬تأثيره‭ ‬في‭ ‬مَنْ‭ ‬ألّف‭ ‬الرواية‭ ‬بعده‭. ‬فعندما‭ ‬تصدى‭ ‬لكتابة‭ ‬الرواية‭ ‬كان‭ ‬الأدب‭ ‬السردي‭ ‬العربي‭ ‬المزدهر‭ ‬حينذاك‭ ‬هو‭ ‬أدب‭ ‬الرحلة‭. ‬وكانت‭ ‬الرحلات‭ ‬تجري‭ ‬في‭ ‬اتجاهين‭: ‬الأول‭ ‬وجهته‭ ‬الخارج،‭ ‬أي‭ ‬البلاد‭ ‬الأجنبية،‭ ‬وغايته‭ ‬تشويق‭ ‬القارئ‭ ‬بأخبار‭ ‬غريبة‭ ‬وحوادث‭ ‬طريفة،‭ ‬وصور‭ ‬لعوالم‭ ‬غير‭ ‬مألوفة‭. ‬والآخر‭ ‬وجهته‭ ‬الداخل،‭ ‬أي‭ ‬المدن‭ ‬العربية‭ ‬القريبة،‭ ‬وغايته‭ ‬تعريف‭ ‬القارئ‭ ‬ببلاده،‭ ‬بمدنها‭ ‬وطبيعتها‭ ‬وآثارها‭ ‬وعاداتها‭ ‬وتاريخها‭. ‬وقد‭ ‬سلك‭ ‬خليل‭ ‬الخوري‭ ‬الاتجاه‭ ‬الثاني،‭ ‬ولكنه‭ ‬خط‭ ‬فيه‭ ‬طريقاً‭ ‬جديداً‭ ‬حيــــن‭ ‬ركز‭ ‬اهتمامه‭ ‬على‭ ‬الحكاية‭ ‬وجعل‭ ‬الرحلة‭ ‬مجرد‭ ‬إطار‭ ‬لها‭. ‬فليست‭ ‬الحكاية‭ ‬في‭ ‬رواية‭ ‬الخوري‭ ‬جزءاً‭ ‬من‭ ‬زمن‭ ‬الرحلة‭ ‬ولا‭ ‬من‭ ‬حوادثها،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬كيان‭ ‬مندرج‭ ‬في‭ ‬الرحلة‭ ‬ومستقل‭ ‬عنها‭ ‬في‭ ‬آن‭ ‬واحد‭. ‬فلا‭ ‬صلة‭ ‬بيــــن‭ ‬الرحــلة‭ ‬إلى‭ ‬حلب‭ ‬وحكاية‭ ‬الإفرنجي‭ ‬سوى‭ ‬أن‭ ‬الرحلة‭ ‬سمحت‭ ‬للرحالة‭ ‬بأن‭ ‬يطلع‭ ‬على‭ ‬الحكاية‭ ‬وينقلها‭ ‬إلى‭ ‬القارئ‭.‬

وقد‭ ‬بقي‭ ‬الارتباط‭ ‬بين‭ ‬الرحلة‭ ‬والحكاية‭ ‬قائماً‭ ‬في‭ ‬السرديات‭ ‬العربية‭ ‬زمناً‭ ‬طويلاً‭ ‬بعد‭ ‬خليل‭ ‬الخوري،‭ ‬ثم‭ ‬بدأت‭ ‬مساحة‭ ‬الرحلة‭ ‬تتراجع‭ ‬حتى‭ ‬لم‭ ‬يبق‭ ‬منها‭ ‬سوى‭ ‬مدخل‭ ‬بسيط‭ ‬إلى‭ ‬الحكاية‭ ‬الرئيسة‭. ‬

ففي‭ ‬روايتي‭ ‬سليم‭ ‬البستاني‭ (‬الهيام‭ ‬في‭ ‬جنان‭ ‬الشام،‭ ‬وزنوبيا‭) ‬احتلت‭ ‬الرحلة‭ ‬مساحة‭ ‬كبيرة،‭ ‬بينما‭ ‬ضمرت‭ ‬هذه‭ ‬المساحة‭ ‬في‭ ‬روايات‭ ‬بداية‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬مثل‭ ‬‮«‬كتاب‭ ‬خالد‮»‬‭ ‬لأمين‭ ‬الريحاني‭ ‬و«كتاب‭ ‬مرداد‮»‬‭ ‬لميخائيل‭ ‬نعيمة،‭ ‬حيث‭ ‬تحولت‭ ‬إلى‭ ‬ترجيع‭ ‬أو‭ ‬موتيف‭ ‬سردي‭ ‬يرمي‭ ‬إلى‭ ‬تبرير‭ ‬وصول‭ ‬الراوي‭ ‬إلى‭ ‬مخطوط‭ ‬الحكاية،‭ ‬وإلى‭ ‬إحاطة‭ ‬هذه‭ ‬الحكاية‭ ‬بجو‭ ‬من‭ ‬الغموض‭ ‬بغية‭ ‬تشويق‭ ‬القارئ‭ ‬إلى‭ ‬مطالعتها‭. ‬

ولم‭ ‬يقتصر‭ ‬ترجيع‭ ‬الرحلة‭ ‬على‭ ‬الرواية،‭ ‬بل‭ ‬استخدمته‭ ‬الأقصوصة‭ ‬أيضا‭. ‬فكثير‭ ‬من‭ ‬قصص‭ ‬النصف‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬تعتمد‭ ‬موضوعة‭ ‬المغترب‭ ‬العائد‭ ‬الذي‭ ‬يخبر‭ ‬الراوي‭ ‬حكايته‭ ‬في‭ ‬بلاد‭ ‬الغربة‭. ‬ونجد‭ ‬أمثلة‭ ‬كثيرة‭ ‬منها‭ ‬في‭ ‬أقاصيص‭ ‬ميخائيل‭ ‬نعيمة‭ ‬وخليل‭ ‬تقي‭ ‬الدين‭ ‬وغيرهما‭.‬

كثيرة‭ ‬هي‭ ‬ريادات‭ ‬خليل‭ ‬الخوري‭ ‬التي‭ ‬كشفتها‭ ‬لنا‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬وَيْ‭ . ‬إذنْ‭ ‬لستُ‭ ‬بإفرنجي‮»‬،‭ ‬وكلها‭ ‬تحثنا‭ ‬علــــى‭ ‬إعادة‭ ‬نـــشر‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭. ‬وقــد‭ ‬حقق‭ ‬المجلس‭ ‬الأعلى‭ ‬للثــــقافة‭ ‬بمـــصـــر‭ ‬هذا‭ ‬الأمر‭ ‬بإعادة‭ ‬نشـر‭ ‬الرواية‭ ‬مصــــورة‭ ‬عــــن‭ ‬الأصل،‭ ‬فما‭ ‬الداعي‭ ‬إلى‭ ‬نشرها‭ ‬مجدداً‭ ‬في‭ ‬بيروت؟

إن‭ ‬قيمة‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭ ‬قائمة‭ ‬في‭ ‬تاريخيتها‭ ‬قبل‭ ‬طاقتها‭ ‬على‭ ‬الإمتاع،‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬قارئ‭ ‬اليوم‭. ‬فنشرها‭ ‬عارية‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬تعليق،‭ ‬على‭ ‬أهمية‭ ‬الأمر،‭ ‬يخفي‭ ‬ريادتها‭ ‬وأهميتها‭. ‬كما‭ ‬أن‭ ‬نصها‭ ‬يحمل‭ ‬من‭ ‬رواسب‭ ‬زمانها‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬الإملاء‭ ‬والألفاظ‭ ‬والمسميات‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يصبر‭ ‬عليه‭ ‬سوى‭ ‬المهتمين‭. ‬لهذا‭ ‬كان‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يرافقها‭ ‬دليل‭ ‬يعرّف‭ ‬بها‭ ‬وصاحبها،‭ ‬ويوضح‭ ‬ألفاظـــها‭ ‬وعباراتها،‭ ‬ويضبط‭ ‬إشاراتها‭ ‬واقتباساتها،‭ ‬ويفتح‭ ‬طريقها‭ ‬إلى‭ ‬زمن‭ ‬القارئ‭. ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬فعله‭ ‬شربل‭ ‬داغر‭.‬

تلبّس‭ ‬شربل‭ ‬داغر‭ ‬دور‭ ‬المحقق‭ ‬في‭ ‬البداية‭. ‬فقدم‭ ‬لنا‭ ‬المؤلف،‭ ‬وفك‭ ‬أغلال‭ ‬الإهمال‭ ‬عنه،‭ ‬وعرّفنا‭ ‬به‭ ‬دورا‭ ‬وإبداعاً‭ ‬وتعدد‭ ‬مواهب‭. ‬ثم‭ ‬انتقل‭ ‬إلى‭ ‬نص‭ ‬الرواية،‭ ‬فقرنه‭ ‬إلى‭ ‬أصله‭ ‬المنشور‭ ‬على‭ ‬حلقات‭ ‬في‭ ‬جريدة‭ ‬‮«‬حديقة‭ ‬الأخبار‮»‬‭. ‬وأتاح‭ ‬لنا‭ ‬أن‭ ‬نقرأ‭ ‬النصين‭ ‬معاً‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الهوامش‭ ‬التي‭ ‬تنبه‭ ‬إلى‭ ‬الاختلاف‭. ‬وتوقف‭ ‬عند‭ ‬أسماء‭ ‬الأماكن‭ ‬والأعلام،‭ ‬فعرف‭ ‬المجهول‭ ‬منها‭. ‬وتوقف‭ ‬عند‭ ‬المسميات‭ ‬كالغروش‭ ‬الأسدية‭ ‬والفرتيكة‭ ‬والفابور‭ ‬والدوتة،‭ ‬ففسر‭ ‬المهمل‭ ‬منها‭. ‬

وتوقف‭ ‬عند‭ ‬بعض‭ ‬المفاهيم‭ ‬الجديدة،‭ ‬كالرومانس،‭ ‬فبسط‭ ‬معانيها‭. ‬وتوقف‭ ‬عند‭ ‬بعض‭ ‬الأمثلة‭ ‬العامية‭ ‬فأوضح‭ ‬دلالتها‭. ‬وتوقف‭ ‬عند‭ ‬بعض‭ ‬الكلمات‭ ‬كالموسيقى‭ ‬ومئة،‭ ‬فأشار‭ ‬إلى‭ ‬الاضطراب‭ ‬في‭ ‬إملائها‭. ‬وتوقف‭ ‬عند‭ ‬التلميحات،‭ ‬فأوضح‭ ‬المقصود‭ ‬بها‭. ‬وتوقف‭ ‬عند‭ ‬اقتباسات‭ ‬المؤلف‭ ‬من‭ ‬المتنبي‭ ‬والإربلي‭ ‬ولامارتين‭ ‬فقارنها‭ ‬بالأصل‭ ‬وعلق‭ ‬عليها‭.‬

وبعدما‭ ‬انتهى‭ ‬نص‭ ‬الرواية‭ ‬نزع‭ ‬شربل‭ ‬داغر‭ ‬قبعة‭ ‬المحقق،‭ ‬واعتمر‭ ‬قبعة‭ ‬الناقد‭. ‬فدرس‭ ‬العناصر‭ ‬المكونة‭ ‬للرواية،‭ ‬وهي‭ ‬الراوي‭ ‬والقارئ‭ ‬والمكان‭ ‬والزمان‭ ‬والأحداث‭ ‬والـــشخصيات‭ ‬والحوار‭ ‬والحبكة‭. ‬ثم‭ ‬نظر‭ ‬في‭ ‬المسائل‭ ‬التي‭ ‬طرحتها‭ ‬خصوصية‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭ ‬وهي‭ ‬المرجعية‭ ‬والريادة‭ ‬والعلاقة‭ ‬بالجهــود‭ ‬السردية‭ ‬في‭ ‬زمانها‭.‬

كل‭ ‬هذا‭ ‬جعل‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬العمل‭ ‬كتابا‭ ‬على‭ ‬كتاب،‭ ‬يتخيله‭ ‬الناظر‭ ‬بعينيه‭ ‬شبيهاً‭ ‬بحواشي‭ ‬المصنفات‭ ‬القديمة‭. ‬ويجده‭ ‬الناظر‭ ‬بعقله‭ ‬عملاً‭ ‬علمياً‭ ‬منهجياً‭ ‬في‭ ‬تتبعه،‭ ‬غنياً‭ ‬في‭ ‬المعلومات‭ ‬التي‭ ‬استند‭ ‬إليها،‭ ‬وضرورياً‭ ‬لمن‭ ‬يريد‭ ‬تصنيف‭ ‬الكتاب‭ ‬كأول‭ ‬رواية‭ ‬عربية‭ .