حساسية الروائـي وذائقة المتلقي
الدخول إلى عالم الرواية انفتاح على عالم جديد، ولهذا فإن عالم الرواية يستقطب جمهوراً هائلاً من مختلف الشرائح، لأن هؤلاء بالفعل يرغبون في قراءة ذواتهم من خلال قراءة الرواية التي تتحول في بعض مراحلها كرواية التحليل النفسي على يد دستويفسكي وتولستوي وستيفان زفايج، ورواية تفاصيل واقعية الحياة الشخصية على يد بلزاك، مرآة ينظر فيها القارئ إلى ذاته بنقاء.
نقرأ ذلك في كتاب جديد صادر عن وزارة الثقافة والإعلام في المملكة العربية السعودية، ضمن سلسلة كتاب المجلة العربية، للروائي السوري عبد الباقي يوسف، وعنوانه «حساسية الروائي وذائقة المتلقي».
ليس عبثاً أن أجدادنا كانوا يمضون الليالي الطوال على أضوء الفوانيس لقراءة الروايات الضخمة التي تحتوي على آلاف الصفحات، ذاك الجمهور العريق والمحب للروايات الطويلة على أضواء القناديل ليلاً، وفي النهار تحت الأشجار وفي الذهاب والإياب على حافة الترع والطرق الزراعية القروية الهادئة، وهم يقلبون صفحات تلك الروايات ويستمتعون بالدخول إلى عالمها، هذا الجمهور يمتد إلى أيامنا هذه ومازال يتلهف لقراءة الرواية والدخول إلى عالمها.
وهنا يمكن للرواية أن تقدم شيئاً حتى للمرضى، إنها تؤدي دور الموسيقى في تقديم العلاج لهم.
ويرى عبدالباقي يوسف في هذا الكتاب أن الرواية تقدم شخوصاً يمكن أن نتعلم منهم، يمكن أن نحذو حذوهم في العقل والحرية والجنون معاً، لأن الرواية عالم صادق جريء، ويحمل كل حساسيات الإنسان تجاه قضية النقاء الروحي، وتجاه الشفافية الإنسانية التي بات يفتقدها إنساننا المعاصر.
الرواية هي الحبيبة وهي الأم التي تنتظر أولادها ليعودوا من العمل متعبين فيرتاحوا على صدرها ويرضعوا حليبها، الأم الأبدية التي دوماً تنتظر أولادها في سكنهم الآمن.
بعد ذلك يقول: «دوماً تقول الرواية لكاتبها: لست أنت الذي تريد أن تكون روائياً, ولكن أنا التي أريد أن أكونك، لست أنت من يريد أن يكتبني ويرويني، ولكن أنا من أكتبك وأرويك وأقدمك».
فكرة الرواية تلح عليه ولا يستطيع فكاكاً من الهيمنة الروائية، إنها توصله إلى ذروة المعنى، لن يستطيع أن يغمض عينيه، أن يستقر، ما لم يكتبها، وأحياناً تبلغ في عنادها التحدي مع مؤلفها فتتحداه أن يستطيع الخلود للراحة أو حتى الخروج من البيت قبل أن يكتبها، أو حتى يكون قادراً على إجراء مكالمة هاتفية، فيستسلم لطغيانها وجبروتها، وهو يحاول أن يقنع نفسه بأنه هو الذي يكتب الرواية ويتحكم بزمام مفاصلها.
أما المتعة فتكون بعد إنجازها، فتكون حاله كحال الذي أدار الباب الحديدي الضخم على نفسه من دون أن يدري أنه نسي المفتاح في الخارج، وكل محاولاته تفشل في إسماع مَن هو في الخارج ليأتي ويفتح له هذا الباب، ينظر إلى الأعلى حيث النافذة المرتفعة على مسافة عشرة أمتار والمحكمة بالبللور.
إنه يفعل أي شيء ليُخرج نفسه من هذه الغرفة، فيستعين بأصابعه وأسنانه وقطع النقود المعدنية في جيبه، يحفر حفراً صغيرة، وفي النهاية يفلح بأعجوبة في أن ينحت مواطئ لقدميه في الحائط، فيتسلق كالقطة إلى أن يبلغ النافذة المرتفعة الوحيدة ويخرج، عندها فقط يشعر بنشوة وهو يومئ برأسه لينظر إلى المسافة التي تسلقها لمدة يومين متواصلين.
تتشكل خيوط الرواية لتؤرخ إنساناً في موقف، تؤرخ موقفاً في إنسان، تؤرخ المجد وكذلك تؤرخ الفشل، كل هذه الصيحات الروائية المدوية في عالم الإبداع الأدبي هي دموع تنهمر من ضمير الإنسان ومن روحه، تحاول أن تُلفت النظر إلى رؤية هذا الإنسان، إلى اللحظات القصيرة التي تحمل أحداثاً لا يلتفت إليها أحد، أجل، إن وظيفة الرواية تكمن في مقدرتها على أن تجعلك تلتفت لوقائع مرت وفاتك أن تتأملها، وهي بذلك تمنحك هذه الفرصة الذهبية مجدداً.
الواقع أن الموهبة وحدها لا تكفي ليقدم الموهوب رواية جيدة، ولكن ثمة تفاصيل لا يراها ولا يلمسها ولا يحياها إلا المبدع نفسه، ثمة أسرار لا تنكشف إلا أمام روح المبدع ذاته، إنه يمتلئ بالعالم والحياة مع كتابة كل صفحة جديدة.
إن الرواية هي هواه الوحيد، وعندما يبعد عنها يشعر بأنه خسر العالم برمته، لذلك يهرع عائداً إليها بحرقة وألم وهو ينفجر ندماً على تركه لها، فيقدم لها الاعتذار ويطبع على جبينها قبلات ساخنة.
تنير الرواية الدروب أمام الروح، تفسح هامشا أوسع للرؤية، لرؤية ما لا يُرى.
الكلمات الروائية هي القناديل العالية المعلقة في دروب البشر، إنها القناديل الكبرى، وهي الرشيد إلى نهارات لا تنتهي من الضوء، والكاتب الذي يشتغل في الكلمات المضيئة، هو شخص يضيء ويمتلئ إشراقا وحياة.
عندما نقول «رواية» فهذا يعني أننا أمام حكاية نتخذ منها عبرة، لأن أي رواية في العالم تحمل في جوهرها رسالة، حتى تلك القصص التي ترويها الجدات لأحفادهن، فإنها تحمل مغزى وعبرة وغاية.
هذا أمر مهم بالنسبة لتقويم أي عمل روائي، بيد أنه لا يكفي، إذ لا بد من لغة بيانية معبرة، ولا بد من حبكة، ولا بد من فنية، ولا بد من تقنيات سردية جمالية حتى تتجمّل، وتتزيّن بها تلك الفكرة وتتشكل لبنة لبنة في درجات معمارية العمل الروائي، ثم تتقدم إلى أفئدة المتلقي بحلتها الجمالية على طبق من ذهب القص.
إن أي رواية جديدة عليها أن تشرق على العالم كعروس جديدة ليلة دخلتها، تمتلك آمالاً وأحلاماً وأمنيات، ومقومات حياتية جديدة حتى تستطيع أن تجد لها منزلاً، وتؤسس لعلاقات اجتماعية وإنسانية رحبة.
إن الرواية الجيدة هي تلك الرواية التي تُكتب بحبر ذهب القَص.
الرواية والنقد
وعن علاقة الرواية بالنقد، يقول المؤلف: نحن نحتاج إلى الاستعانة بالنقد الذي يضيء لنا جوانب مظلمة من النص الروائي.
العلاقة بين الأدب والنقد هي علاقة جمالية فنية ذوقية تكاملية، يغتني الأدب بالنقد كما يغتني النقد بالأدب. عندما يتحدث الإنسان جملة، فإن هذه الجملة تولّد لديه ولدى مستمعيه جملاً عدة من النقد والتحليل والتأويل.
ما دام الإنسان يستخدم لسانه للحديث بشكل جيد، فعليه أيضاً أن يطلق سمعه للاستماع بشكل جيد لكل ما يمكن أن يُقال تعقيباً، أو تأويلاً، أو نقداً، أو مديحاً، أو تحليلاً لِما أبدى به من وجهات نظر، أو مواقف.
وحقيقة الأمر، أن الكلام يغتني بالكلام، والرأي يغتني بالرأي، ووجهة النظر تغتني بوجهة النظر، والموقف يغتني بالموقف.
عندما أتحدث طويلاً ولا أجد مَن يبدي تعقيباً، أو تأويلاً، أو نقداً، أو وجهة نظر، فإن علي عند ذاك الركون إلى الصمت، لأنني أتحدث لأناس يعرفون ما أقول، ولا أحرّك نزعة معرفة أو تحاور في أفئدتهم، أو أنهم لا يفقهون شيئاً مما أقول.
إن الحديث الذي يفتقد روح التحاور هو حديث عقيم لا نفع منه سواء من المتحدث، أو من المتلقي.
أريد أن أقول هنا إن الناقد الجاد هو محلل أدبي أكثر مما يركن إلى النقد، وفي تقديري فإن المحلل الأدبي هو أقرب إلى هذا اللون من ألوان الكتابة، لأن الناقد لا يكون ناقداً قبل أن يكون محللاً يضع ما يقرأ تحت مشكاة تحليله.
يشرح رولان بارت منهجه في قراءة النصوص الأدبية في مؤلفاته، ومنها: هسهسة اللغة،خطاب عاشق، لذة النص، والكتابة في درجة الصفر، فيقول مجيباً على سؤال تم طرحه عليه: الكتابة ليست شيئاً سوى بقايا الأشياء الفقيرة والهزيلة للأشياء الرائعة والجميلة في دواخلنا.
لذلك يمكننا أن نرى أن غالبية النقاد الذين تحولوا إلى كتابة الرواية، كانوا روائيين متواضعين إلا أنهم تشتتوا بين النقد والرواية، لأنهم كانوا يكتبون بقلم الناقد أكثر مما يكتبون بقلم الروائي، فكانت رواياتهم شبيهة بدراسات نقدية أكاديمية محكومة مسبقاً بمعايير النقد، إضافة إلى أنه كان يشعر وهو يقرأها بأنها كـتبت للنقاد وللمناهج الجامعية أكثر مما كـُتبت لعامة القراء.
كانت تفتقر إلى الفضاءات الروائية المفتوحة, تفتقر إلى دفء النسيج الروائي والألفة الروائية، إلى خصوبة مساحات الخيال الشاسعة، إلى رقة وعذوبة الدفق الشعري، إلى قوة ملاحظة الروائي في التقاط أدق التفاصيل التي تتفاعل مع نسيج روايته التي يعيشها ويكتبها ويتنفسها معاً. إضافة إلى ذلك فالقارئ عندما يقرأ هذه الرواية فإن اسم الناقد لا يبرح مخيلته، وطوال القراءة يشعر بأنه يقرأ رواية لناقد وليس لروائي، وهذا له شأن آخر في مسألة التذوق ومسألة التلقي والتفاعل مع ذهنية القارئ.
يشعر قارئ الرواية بأنه في حضرة أستاذ جامعي موقر وناقد أدبي رصين في قاعة محاضرات محكمة أكثر مما يشعر بأنه في بستان منزل روائي مفتوح لاستقبال كل عناصر الطبيعة... روائي مفتوح الأفق، واسع الخيال، غني التعابير، مغامر في تقنياته الفنية.
يقدم النقد الكثير للمبدع، ويسلط له الأضواء على الكثير من الجوانب المظلمة التي لا يكون بوسعه رؤيتها إلا بواسطة قنديل الناقد، الناقد الذي يفتح له أبواباً جديدة ما كان ليلجها لولاه، ولذلك فإن العلاقة بين المبدع والناقد هي علاقة تكميلية، والمبدع يأخذ من الناقد كما أن الناقد يأخذ من المبدع، لأن الناقد يتذوّق النص الأدبي الذي يشرع في تأويله وتحليله وتسليط الضوء على جوانب مظلمة فيه، لا أقول إنه يقرأ ما بين السطور فحسب، بل إنه يقرأ السطور أيضاً، ويستمتع بدفئها، ويقطف عناقيد النص ربما أكثر من بقية القرّاء لحكم التخصص وبحكم الذائقة النقدية والتحليلية التي يتمتع بها. إنه يحرّك البنى المترسبة بغية تأويلها وتحليلها.
يقول د. هـ. لورانس عن مهنته الروائية: بما أنني روائي, فإنني أعد نفسي أسمى درجة من القديس والعالم والفيلسوف والشاعر، فالرواية هي كتاب الحياة المشع.
ويقول الناقد لايونل تريلنيج: إن الرواية بحث مستمر وميدان بحثها هو العالم الاجتماعي, ومادة تحليلها هي عادات الناس التي تتخذ دليلاً على الاتجاه الذي تسير فيه نفس الإنسان. ويتحدث ماريو بارغاس يوسا عن الكتابة النقدية، وأهمية الاستفادة من النقد من خلال توجيهه لأديب شاب.
من أعمدة الرواية في العالم
إن منظر جندي جريح أمام حبيبته دفع كاتباً كتولستوي ليبدع عملاً إبداعياً ضخماً كـ «الحرب والسلم»، و حادثة تعرض لها جان جاك روسو في طفولته دفعته لإبداع عمله الشهير «في العقد الاجتماعي»، وواقعة فُرضت على مازوخ فجرت لديه نزعة المازوخية، وأن طريفاً تعرض له المركيز دي ساد دفعه لاكتشاف النزعة السادية، وأن العزلة التي فُرضت على شوبنهور كانت خلف إبداعه لفلسفة الضجر.
الاكتشافات البشرية الكبرى دوماً اقترنت بوجود المبدعين رعاة أي حضارة، فالإبداع هو هوية أي مجتمع، والحضارات البشرية هي حضارات بالإبداع والمبدعين وليست بعدد السكان، أو برقعة الجغرافيا، أو الموقع التاريخي، ولذلك فقد اقترن حضور الأمم والشعوب دوماً بقدر ما قدمت من إبداعات، دوما يتفتح ورد كتابة جديدة في حدائق القلم، وهو يشبه فصول السنة فيمر بفصول مختلفة، أحياناً يكون ربيعاً، وأحياناً يكون خريفاً، أحياناً يكون صيفاً، وأحياناً يكون شتاء.
ليس للمبدع إلا إبداعه، لذلك يمضي الليالي الطويلة في عزلة عن العالم مع إبداعه، يكون معه في فرحه وحزنه، في كل أحواله، وهذا الإبداع ذاته يقف إلى جانبه في الأيام العصيبة.
عندما يتخلى الجميع عن المبدع فلن يجد إلى جانبه إلا إبداعه، الا كتبه وأفكاره وقلمه وأوراقه، هذا الإبداع يخفف من وطأة الحزن.
إن الكاتب قوي بقوة كتبه، بقوة إبداعه، إنه محترم بقدر تقديم إبداعه له، وعندما يتقدم الكاتب في السن فلا يجد بجواره غير ما خلفه من كتب وأفكار. هذا التاريخ الناصع يدفع الحشود الكبرى إلى أن تشير إليه بالحب والتقدير، وتلك الشخصيات السياسية والدينية والاقتصادية والاجتماعية تكرمه وتفسح له المكان الأبرز في مجالسها.
ليس للمبدع إلا إبداعه
لقد مات شكسبير العظيم لكن إبداعه خلَّده إلى الأبد، ومات طاغور وبقي منه شعره، ومات سقراط وبقيت منه فلسفتُه، وكل الأسماء المذهلة في تاريخ العبقرية البشرية، الفارابي... ابن رشد... ابن الفارض.
ثم يتحدث الكاتب عن مدارج الدخول إلى عالم فرانز كافكا الروائي:
المركيز دي ساد... النزوع السادي في الرواية.
دينو بوتزاتي... قوة الإصرار على العمل.
ستيفان زفايج... الروائي الذي تناول تفاصيل النفس البشرية.
غابرييل غارسيا ماركيز... الروائي الذي أحب في زمن الكوليرا.
يوكيو ميشيما... إيقاع الحياة الروائية.
كنزا بورو أويـه... دفق شاعرية الخيال.
ماريو بارغاس يوسا... بين الرواية والسياسة.
وليم فوكنر... البحث عن البراءة المفقودة.
يتحدث عن هذه الأسماء بشيء من التفصيل، ويتناول جانباً من إبداعهم بما يتناسق مع المحور العام لفكرة الكتاب، وهذا ما يضفي متعة وجاذبية على القارئ.
ومما يقوله عن ماريو بارغاس يوسا في هذا الفصل:
يتمتع الفكر الروائي بخصائص ومقومات تؤهله لإشاعة أنماط الأفكار والثقافات والمفاهيم ووجهات النظر الجديدة، وهو يؤدي دوراً بارزاً وفاعلاً في تعزيزها وجعلها واقعاً معيشاً.
عبر الأحقاب والعقود الزمنية، كان المثقف هو منظّر المعاهدات والكيانات التحولية الكبرى في تاريخ الشعوب، وكان السياسي يستأنس بوجهات نظره وما يراه من تحليل مستقبلي، لأنه يمتلك المخيلة المتقدة التي هي ركن أساس من أركان عمله الإبداعي، ولذلك فهو قادر على التخيل والتحليل والتكهن، بشكل قريب إلى الدقة.
لذلك فإن عمليات التحول المهمة في تاريخ الشعوب والدول، اشترك الثقافي والسياسي في صناعتها.
المثقف كان دوماً يمتلك البلاغة في التأثير، وكان يستخدم ثقافته، وحججه وبراهينه في سبيل إقناع الآخرين بمشروعه التنويري الذي يدعو إليه. لقد أدى دوراً أساسياً مهماً إلى جانب دور السياسي الذي يمتلك صلاحية اتخاذ القرارات المصيرية، والأمر بتنفيذها بشكل مباشر حتى تغدو واقعاً يومياً ملموساً ومعيشاً.
إن المثقف هو الشخص المنظّر، والعقل المدبر، وهو واضع المواثيق، والمعاهدات، والأناشيد الوطنية، والفنون، وهو مصمم الرايات الخفاقة، وصانع الإعلام المسموع والمقروء والمرئي، ومبتكر الفلسفات والأيديولوجيات، وهو صانع ثورة الملتي ميديا، إنه بشكل مختصر مشكِّل هوية البلاد والعباد في موطنه.
منذ الأزل يكون اسم الثقافي بارزاً وحاضراً إلى جانب الاسم السياسي، منذ أرسطو طاليس، وسقراط، وشكسبير، ومروراً بالمتنبي، وابن رشد إلى سنغور، وسوينكا، وغورديمير، وطه حسين، وليس انتهاء بفوكوياما، وهنتغتن، سواء كان هذا الدور إيجابياً أو سلبياً، لأن المثقف يمكن له أن يؤدي دوراً سلبياً ويكون شريكاً للسياسي في كوارث كبرى، بل قد تسهم أفكاره في تكوين شخصية سياسية سلبية كما الأمر بالنسبة لأفكار نيتشه عن الإنسان الجبار والقوي والسوبرمان، وتمثيل بعض الشخصيات القيادية الكبرى التي تمثلت هذه الأفكار وتأثرت بها بشكل سلبي، وبالتالي قادت العالم إلى حروب ومعارك كان الإنسان في غنى عنها.
من هنا، فإن الأفكار السياسية هي أفكار بالغة الحساسية، وتحتاج إلى الكثير من التفسير والتأويل والشرح، وكذلك تحتاج إلى المناسبات والأسباب التي فجرت تلك الأفكار، سواء كانت أسباباً شخصية للكاتب أو أسباباً جماعية، ولذلك فإننا لا نستطيع أن نفرّق بين الثورات الفكرية التي ظهرت في العالم، وبين الحربين العالميتين، سواء أكانت أفكاراً ومذاهب عدمية أو وجودية، أو فانتازية، أو تنويرية.
يتمتع الأديب بسحرية التأثير، ويحالفه النجاح غالباً في مسألة الإقناع لأنه يعيش أفكاره وقناعاته ويتغلغل في دواخلها.
ولذلك رأينا في العالم وفي مختلف الحقب الزمنية ثنائية الأديب السياسي، والسياسي الأديب، فكان الأديب يعمل في الحقل السياسي، وكان السياسي يكتب أدباً، وكما أن الأديب يخلّف مواقف سياسية، فإن السياسي يخلّف أعمالاً أدبية.
من هنا، فإن دور المثقف هو دور بالغ الحساسية في الحركات والثورات والكيانات، وتعقد عليه آمال المشاريع الإنسانية التنويرية، والوطنية العظمى.
يميل ماريو بارغاس يوسا في مجمل أعماله الروائية إلى نزعة التغيير في المجتمع، وكتاباته تتميز باجتماعيتها بامتياز .
أسرار الرواية النسوية
إنه فصل جديد يأتي ليكون مكملاً للفصلين السابقين، حيث يتناول هنا الحساسية التي تتمتع بها المرأة وهي تتجه بأعمالها السردية والروائية إلى مختلف شرائح القراء. يأتي إلى أسماء مهمة في تاريخ الرواية النسوية، فيقول: إنها ثنائية مكملة لبعضها، وهذا ما يجعل التمايز ثراء لكل واحد بالنسبة للآخر، وبالتالي يجعل ما هو مفقود لدى أحدهما موجوداً في الآخر.
إنني كثيراً ما أقرأ الأدب النسوي، وعندما أقع على مجلة تحتوي على مجموعة إبداعات نسوية، فإنني ألمح تلك الخصوصية المتميزة في هذا الأدب، وعلى الأغلب فإنني عندما أقرأ قصة لكاتبة ينتابني شعور بأنني أقف في حافلة ما أمام امرأة تسرد حكاية لصديقتها وأنا أختلس السمع منهما، في حين عندما أقرأ قصة لكاتب ينتابني شعور بأنني أقف خلفه خلسة وهو جالس على مائدة كتابة يكتب شيئاً سرياً بينه وبين نفسه بسرية تامة. إذن عندما تكتب المرأة يكون الآخر موجوداً بقوة وهي تكتب، بينما الرجل يلغي هذا الآخر أثناء عملية الكتابة كما أظن في الروايات التي قرأتها سواء في بلادنا أو في العالم، فعندما أقرأ رواية لكاتب حتى لو كانت تتناول حياة امرأة، فإنني لا أجد حضور المرأة في تلك الرواية على قدر ما أجد رأي الرجل في المرأة، بينما عندما أقرأ رواية لكاتبة تتحدث عن امرأة فإنني عند ذاك أقرأ المرأة.
من هنا، فإنني عندما أقرأ سيمون دي بوفوار في «الجنس الآخر» أو في «مذكرات فتاة رصينة» أو في «المرأة العجوز» سأرى خلافا في التعابير عندما أقرأ «الوجود والعدم» لسارتر رغم قوة العلاقة بينهما، وعندما أقرأ إيزابيل الليندي في «إيفالونا» أو في «بيت الأرواح» فستختلف قراءتي عندما أقرا «مائة عام من العزلة»، أو «الحب في زمن الكوليرا» لماركيز، ورغم قوة تأثير سارتر على «إيزابيلا»، وكذلك مع «أنديانا»، و«كونسويللو»، و«مستنقع الشيطان»، و«الساحرة الصغيرة» لجورج ساند، فهي مختلفة من حيث المبنى والمعنى عن «مدام بوفاري» التي أبدعها غوستاف فلوبير رغم خصوصية العلاقة بين الكاتبين، وهذا يكون مع توني موريسون في «أشد العيون زرقة» و«سولا» ومع فوكنر في «الصخب والعنف» أو «في نور في آب». ومع فرنسواز ساغان في «صباح الخير أيها الحزن» وألبير كامو في «الغريب». وعلى قدر هذه الخصوصية وهذا التمايز الإبداعي بين الأدبين يكمن الثراء في الإبداع، وتكون المرأة مبدعة أصيلة ومتميزة إلى جانب الرجل في ثنائية إبداعية مكملة لبعضها.
إن المرأة هي التي تنجح في أن تقدم نفسها كامرأة، هذا التقديم الذي ليس بوسع أحد أن يقدمه غيرها.
وحيث إن المرأة تميل إلى سردية الحكي أكثر من ميلها إلى العبارات المختصرة، فقد اغتنى تاريخ الرواية بأسماء روائية مهمة، وبشكل عام فإن المرأة حققت نجاحات مهمة في مجال الرواية أكثر من بقية المجالات الأدبية، ويمكنني القول إن المرأة سجلت حضوراً لافتا في مشهد الرواية العالمي، وقد حصلت على جائزة نوبل للآداب في أكثر من بلد من العالم.
ومن النساء الفائزات بجائزة نوبل للآداب: نادرين جورديمر من جنوب إفريقيا سنة 1991.
- توني موريسون من أمريكا 1993.
- الفريدا يلنك من النمسا 2004.
- دوريسن ليسينغ من المملكة المتحدة 2007.
- هيرتا مولر من ألمانيا 2009.
لقد استطاعت الرواية النسوية في العالم أن تطبع بصمتها العميقة، وتترك آثاراً جيدة في مكتبة التراث الروائي.
محاور حول الأدب النسوي
- آغاتا كريستي الملكة الثانية للإمبراطورية البريطانية.
- توني موريسون سيدة الواقعية الأمريكية السوداء.
- سيمون دي بوفوار قوة التضامن مع بنات جنسها.
- شارلوت برونتي الروائية التي أوقدت شمعة في ظلام دامس.
- جورج سانـد الروائية التي أرّخت لتجربتها الشخصية.
- فرنسواز ساغان الروائية التي قالت وعاشت: صباح الخير أيها الحزن.
يقول عبدالباقي يوسف في هذا الفصل عن تجربة فرنسواز ساغان:
جاءت هذه الكاتبة إلى عالم الأدب لتقول للناس إن اللحظة الأولى التي يفقد فيها الإنسان ثقته بنفسه، هي اللحظة ذاتها التي تعطي إشارة أولى للمحيطين به كي يترددوا في منحه هذه الثقة.
لذلك قررت أن تعتمد على نفسها وهي تطرق وتدخل أبواب الحياة الأدبية، إلى أن استطاعت أن توصل أفكارها إلى الكثير من لغات العالم، وهذا ما كانت تنظر إليه عندما حملت القلم لتضع الكلمة الأولى في حياتها على مساحة صفحة بيضاء.
صباح الخيـر أيها الحزن
في اليوم السادس من عام 1954، دخلت فتاة في الثامنة عشرة من عمرها أشهر وأبرز دار نشر في بلادها (جوليار) وهي تحمل مخطوطة كُتبت بخط اليد على دفترها المدرسي في 188 صفحة، تحت عنوان لافت هو «صباح الخير أيها الحزن». لكاتبة مبتدئة تدعى فرنسواز ساغان. كانت الدار حينها في ذروة الازدهار والمنافسة مع ناشرَين شهيرين هما: غاستون غاليمار، وبرنار غراسيه، بعد أن انتزعت ثلاث جوائز (غرنكور) في ثلاث سنوات متتالية بمطبوعاتها لكل من: جان جاك غوتينيه 1946، وجان لوي كوريتس 1947، وموريس دروون 1948.
تركت هذه الفتاة مخطوطتها حتى يتم الاطلاع عليها، وإمكان تبنيها للطباعة، وعادت إلى بيتها.
بعد ثمانية أيام، مد جوليار يده يتصفح المخطوطة بعد تناول العشاء، وما إن قرأ الصفحة الأولى حتى بدأت المخطوطة تجتذبه وتُدخله إلى عالمها، إلى درجة أن جوليار لم يرغب في أن ينام ليؤجل شيئا من متعة القراءة إلى الغد، فسهر معها إلى آخر صفحة.
عندها لم يندم لأن الصباح أدركه، لأنه أحس بمتعة هي أعلى من متعة أي نوم من جهة, ومن جهة أخرى راودته سعادة باكتشاف كاتبة سيعني تقديمه لها الشيء الكثير.
قبل أي شيء طلب الرجل أن يلتقي الكاتبة الشابة في أقصى سرعة.
عندما تلقت ساغان دعوة اللقاء، سارعت بالاستجابة، وعند الساعة الخامسة من مساء اليوم ذاته دخلت عليه حتى ترى ما حصل بشأن المخطوطة، فأمضى جوليار معها في حديث طويل عن كيفية كتابتها لهذا العمل، وعن تفاصيل حياتها، وعن أفكارها ما يزيد على ثلاث ساعات متواصلة.
بعد هذا اللقاء أخبرها أنه بالفعل وافق على تبني هذا العمل الذي يتوقع أن يفتح أمامها طريقاً للمجد والشهرة رغم صغر سنها.
وحيث إن عمرها القاصر لم يكن يسمح لها بالتوقيع على عقد الطباعة وفق القانون، فقد أحضرت ولي أمرها ليتولى أمر التوقيع.
حساسيـة الجيل الجديد بعد الحربين العالميتين
تولت هذه الفتاة المراهقة مهمة تمثيل حساسية الجيل الجديد في فرنسا بعد الحربين العالميتين، وبعد انفجار الأفكار والفلسفات والمذاهب الأدبية الكبرى. ولم يكن أحد في ذاك الوقت يلتفت لسيكولوجية وحساسية هذه الشريحة البالغة الأهمية، وما ميز هذا الكتاب أن كاتبته هي أحد أصوات هذا الجيل الذي يتغلغل ويشعر بضياع من دون أن يلتفت إليه أحد. من هنا كان لنشر الكتاب دوي الانفجار، ونفدت خمسون ألف نسخة بصورة عجيبة في عدة أشهر، وأما كبار النقاد فبدأوا يلفتون النظر إليها ككاتبة بارعة ويشيدون بمهاراتها وقدراتها اللغوية، والفنية، والفكرية.
تحولت فرنسواز ساغان بين ليلة وضحاها إلى نجمة أدبية تنافس أبرز نجمات السينما في فرنسا بصورها على أغلفة المجلات والجرائد، وبالحديث الطويل عنها في الملتقيات الثقافية.
إنه من الكتب المهمة التي لا يستغني عنها القارئ الأكاديمي، كما لا يستغني عنها القارئ بشكل عام، وهنا تكمن أهمية مثل هذا العمل ■