خصخصة الحروب ومستقبلها

خصخصة الحروب ومستقبلها

لا أذكر أنني قرأت كتاباً في التاريخ، حتى لوكان حول تاريخ الفن أو تاريخ الحب، إلا وكان الصراع والدم والموت والقسوة هي السّمَة الدامغة لتاريخ يبدو عنيفاً وعبثياً ومشيناً، والذي يشقيني أن الفارق بين مجرم الحرب والبطل ضئيل للغاية في مسار التاريخ الطويل، وهو فارق يتحدد وفقاً لوجهة نظر، وموقف مسبق، وتأويل ملتبس (على سبيل المثال لا الحصر: في الفن فان جوخ، وفي الحب ديك الجن).

أبدأ بفاتحة تقول إن التاريخ منذ خطواته الأولى كان ساحة حرب، وكما يقول أرنولد توينبي، كان نزوع الإنسان البدائي إلى الحرب واضحاً وجلياً حين حوَّل حجر الصوان إلى أداة حادة قاطعة.

السلام المستحيل
برتراند راسل كان له رأي غريب ليس من المعقول أن يصدر عن فيلسوف كبير مثله، حيث قال ما معناه إنه يتمنى أن يتعرض كوكب الأرض لغزو واجتياح من كواكب أخرى، لأن ذلك هو الحل المحتمل الوحيد لتقف الإنسانية جمعاء ضده، ويتوحد البشر، وتتوقف الحروب، ويعم السلام! لقد خاضت أسبرطة حرباً شرسة ضد جارتها أثينا استمرت ربع قرن، وحين هاجم الفرس هاتين الجارتين اتحدتا وقاتلتا الغازي البعيد! وكأن برتراند راسل استلهم واستوحى ما قاله من هذه الواقعة التاريخية بعد أن وسَّع نطاقها.
ولأن ذلك لم ولن يحدث، فقد حاول مئات الفلاسفة والمفكرين منذ أيام سن تزو الصيني الذي ألَّف كتابه «فن الحرب» قبل الميلاد بستة قرون، وإلى أيامنا هذه، والكتب حول نظريات الحرب واستراتيجياتها تملأ رفوف المكتبات، لأن وباء الصراع ينتشر، وكل أطباء التاريخ ذاهلون وعاجزون عن رسم طريق الخلاص للخروج من لعنة الحروب، والثابت أن صناعة السلام بضاعة كاسدة، وأن استراحة المحارب أكذوبة.

حتمية الحروب واستمرارها 
بعد انتهاء الحربين العُظْميين، الأولى والثانية، وولادة هيئة الأمم المتحدة، وانتهاء الحرب الباردة بسقوط الشيوعية واندثار الاتحاد السوفييتي (1991) ومعه كل الأنظمة الشمولية، وظهور بوادر نصر مؤزر للرأسمالية والغرب الليبرالي، توقع الباحثون والمفكرون أن العالم ذاهبٌ حتماً إلى عصر جديد يسوده السلم. لكن الذي حدث غير ذلك، إذ تعددت بؤر الصراع في أكثر من مكان، وبدا جلياً أن العجز في خفض حدّة الصراعات هو السيد المطلق.
يقول د. أحمد وهبان في دراسة مهمة له تتناول إدارة الصراع الدولي، ويستخلص فيها أن البيئة الدولية تنفتح اليوم على تنامي آفاق الصراع، ويعزى هذا الأمر في رأيه إلى خاصيّة طارئة: (تتمثل هذه الخاصيّة في تراجع مَبْدَأي «السيادة» و «عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول»، وتغير النظرة إلى هذين المبدأين اللذين طالما حكما العلاقات الدولية لقرون عديدة تمتد من معاهدة وستفاليا عام 1648)، إذ آلت الأمور إلى عكس ذلك في عالم ما بعد الحرب الباردة، وصار انتهاك سيادة الدول، والتدخل في شؤونها الداخلية، «مُشرعَناً» في ظل مبدأ «حفظ السلم والأمن الدوليين»، وأحياناً باستخدام القوة المسلحة على نحو ما ينص الفصل السابع في ميثاق هيئة الأمم المتحدة التي أنشئت - كما تنص مدوناتها - على إنقاذ «الأجيال المقبلة من ويلات الحرب»، وإذا بالحروب اليوم في كل مكان، ويتدخل الجميع من اللاعبين الكبار والقوى العظمى من دون قيد أو شرط في صب الزيت على لهيبها. وهكذا فإن الأرجح كما تجمع دراسات وتقارير مراكز البحوث أن النصف الأول من هذا القرن سيكتظ بساحات المعارك تحت ذرائع وأسباب مختلفة، بدءاً بحقوق الإنسان مروراً بالإرهاب ووصولاً إلى الديمقراطية! فكيف تستمر الحروب من دون عداوات ومن دون أعداء؟

اختراع الأعداء
الحروب تحتاج إلى عدو - أولى حروب التاريخ يُطلق عليها حروب النار - من يملك حجرتي صوّان لقدح شرارة النار ويحتفظ بـ«وَلْعة» هو عدو من لا يملك ذلك. واختلاق عدو أو تدبير سبب للحرب مسألة ساذجة وسخيفة أحياناً. أما نزال نحن العرب نذكر البسوس وداحس والغبراء إلى اليوم؟! كل شعب له أيقونة حرب ومعركة: طروادة، أُحُد، ذي قار، بيرل هاربر، العلمين،  واترلو، ستالينجراد. وفي الحربين العظميين كان العدو للقوى الصناعية والرأسمالية يتمثل في حركة الفاشية والنازية. 
في تحليل للكاتب ديلان رايلي بعنوان «ألغاز الفاشية» ينقل عن ميشيل مان رأياً عن هاتين الحركتين، إذ يقول: «مهما كانت التركيبة الاجتماعية لهذه الحركات فهي لم تكن لتظهر إلا عندما شاء لها المتسيدون التقليديون في هرم السلطة أن تمارس دور الدولة»، ويستنتج «أن الأنظمة الفاشية لو تمكنت من أن تتطور بأشكالها النقية لاستطاعت أن ترسخ نموذجاً مميزاً لمجتمع ما  بعد الرأسمالية»، ويذكر المقال بالحرف شيئاً عن «حروب صناعية» محتدمة، وأن هذه القوى الصناعية ورأس المال العالمي هما من سمحا لهذا العدو النازي والفاشي أن يظهر، ثم التحكم في مساراته وضربه.
وقد أشارت عشرات الدراسات حديثاً إلى العدو الأخضر (الإسلام) وضرورة مجابهته بعد سحق العدو الأحمر (الشيوعية) وشاع مصطلح الخوف من الإسلام (إسلاموفوبيا)، وهناك من قال إن يداً غربية وراء ولادة تنظيم «داعش» وتطرفه الصارخ واختراعه كعدو تمهيداً في ما بعد للنيل من الدين الإسلامي الصحيح أو شكله النقي، كما جاء في وصف الأنظمة الفاشية آنفاً. 
إن «الإسلاموفوبيا» كعدو يجري الترويج له بشكل مُمنهَج هو آخر اختراع لاستمرار ملحمة الحروب التي يخوضها الجميع وكأنها ديانة منزَّلة من السماء.
يقول الكاتب الفرنسي فنسان جيسير في كتاب حديث عنوانه «الإسلاموفوبيا»: «في الوقت الذي أوشك فيه الإسلام أن يصبح حقيقة وطنية وفرنسية - فرنسية، نجد تشكُّل رفض واضح للدين، كما لو أن العنصرية بوصفها شيئاً بدهياً أصبحت تبحث عن «غنيمة» جديدة لعدائها: فكان الدين الإسلامي محدداً لهوية غير قابلة للاختزال عند حد الـ«نحن» و«هم». 
 
خصخصة الحروب
لفتت نظري مقالة صغيرة في النسخة العربية لمجلة «فورِن بوليسي» عنوانها «أسلحة مُستأجرة» يكتب فيها ويليام هارتونج صاحب كتاب «كم تجني من الحرب يا أبي؟» ما يلي: «بينما اهتمام العالم مسلط على أسلحة الدمار الشامل، تستمر التجارة الفتاكة للأسلحة الصغيرة في إيقاع مئات القتلى والجرحى يومياً». 
بضع كلمات تجعل المرء يشعر بأن مصير البشر والناس صار سلعة مُستأجرة، تجني من الحرب، التجارة. إننا في «سوبر ماركت» وكل شيء قابل للبيع والشراء، ويمكن في ظل مفهوم حرية السوق أن نستأجر جيشاً، وقد ننشئ في المستقبل بورصة للمعارك، ولتبادل بيع أسهم الجيوش وشرائها، والاستثمار في شركات الحروب ومجالس إداراتها، بل نزع ملكية الدول الوطنية لها وخصخصتها! وكأن المواجهة الأيديولوجية بين الفضاء الاشتراكي وأطيافه والفضاء الليبرالي الرأسمالي مازالت مستمرة وقائمة، أي بين التأميم والخصخصة.
في مقالة قديمة لباحث إستراتيجي غربي هو بيتر وارين سنجر نشرها بـ«الفورين أفيرز» (مارس/أبريل 2005) وعنوانها «خصخصة الحرب والشركات العسكرية الخاصة»، وكانت بغداد قد سقطت في قبضة اليد العسكرية الأمريكية الطويلة، يكتب: «إن قصص الحرب والربح والطمع... إلخ، والتي غالباً ما ترافق الصناعة الحربية الخاصة تشبه قصص هوليوود، ففيها الكثير من الأحداث والإثارة، وتهم المتاجرة بالحرب التي وصلت إلى أروقة البيت الأبيض الأمريكي نفسه». والمقالة تستقصي الوقائع مما حدث في العراق، وتستنتج منها مدى الأخطار المترتبة على توجه الحكومات إلى التخصصية ونقل مهمات الجيوش الوطنية إلى شركات الأمن الخاصة  (PMFs private military firms) التي تستقي فلسفة عملها من «عالم التجارة والتعهدات والمقاولات»، ما دفع وزارة دفاع أكبر قوة عسكرية في العالـــم (البنتاجون) فــــــي الولايات المتحدة الأمريكية إلى تفعيل أكثر «من 3000 عقد خلال السنوات العشر المنصرمة» مع هذه الشركات، أي بين عامي 1995 و2005. وينهي الكاتب مقالته بالمأثور المعروف: «إنه من المؤكد أن الحرب عمل خطر جداً لتترك للجنرالات وحدهم», لكنه يضيف إليه: والحقيقة أن الأمر هو كذلك أيضاً بالنسبة لرجال الأعمال.

ماذا يحمل لنا عام 2015؟
أصدرت «مؤسسة الفكر العربي» كتاباً شاملاً عنوانه «أوضاع العالم 2015... الحروب الجديدة» وهو من إعداد نخبة من الكتّاب الغربيين الإستراتيجيين والمؤرخين الأكاديميين المحايدين (32 باحثاً)، ويمتد في حوالي 300 صفحة, كلها عن حروب أمس واليوم، جذورها، أسبابها، ساحاتها ومسارحها، أكلافها المالية وتمويلها، دور الاستخبارات، الأسلحة الجديدة، قرصنة البحر، المنظمات الإنسانية والحروب، العنف ضد النساء في مناطق النزاع، الحرب على المخدرات، وخصوصاً عن الميليشيات بالوكالة، خصخصة الحروب: الشركات المتعددة الجنسية والمحاربون المرتزقة، وهو كتاب مهم لا يجوز تلخيصه، وهو وثيقة دامغة تقول إن العالم يعاني التفكك الاجتماعي والمؤسسي وإن الفوضى والنزاعات ستحوّل البشر إلى وحوش كاسرة في غابة محكومة بقانون القوة، وإن على العلم والمعرفة والفلسفة أن تنكس أعلامها. 

خاتمة 
العالم مختل... هذا ما قاله الأديب الكبير أمين معلوف، وأضيف إليه أنه عالم معتل وباطل ورذيل ومجنون. نحن لا نحتاج إلى مفكر أو فيلسوف أو حكيم ليؤكد لنا ذلك، فلعبة الحياة السياسية والاقتصادية والدبلوماسية المعاصرة أصبحت مكشوفة، ولم تعد الأقنعة الأخلاقية الزائفة كافية لإخفاء قباحة البضائع المعروضة من الغطرسة والعنف والكراهية والقتل والعنصرية والقهر واللصوصية والجشع والخداع والتجسس المستشري في دهاليز العولمة ورأس المال المتوحش. وهذه البضائع هي الوقود المستدام للحروب الجديدة والمستقبلية. 
يقول آلان دينو، وهو كاتب وأستاذ في الفلسفة، في مقالته «خصخصة الحروب» التي شارك بها في كتاب «أوضاع العالم» ما يلي: «تبدو الشركات الخصوصية أفضل تكيّفاً من جيوش الدول للتحرك في جغرافية «جيوبوليتيك» العنف الجديدة. فالعسكريون الذين يقاتلون من أجل مكافأة وأجر، هم على شاكلة النظام العالمي الجديد، مفرطو الليبرالية، مفرطو التحلل. إنهم الذراع المسلحة لقانونٍ لم يعد قانون الدولة الدستورية، بل قانون السوق، وقانون المنافسة، وقانون المال»، وفي هذه البيئة تتآكل الدولة وتسقط، ومعها تسقط سعادة المواطن، وبهذين تنعدم السياسة، وهذا ما قاله أفلاطون منذ أكثر من ألفي عام. كأننا نعيش في عصر «شهوة الدم» ■