ديفيد لينش ... البحث عن الذات

ديفيد لينش ... البحث عن الذات

لا‭ ‬يلجأ‭ ‬المخرج‭ ‬الأمريكي‭ ‬الكبير‭ ‬ديفيد‭ ‬لينش‭ ‬للمنطق‭ ‬العادي‭ ‬في‭ ‬أفلامه،‭ ‬بل‭ ‬يستبدل‭ ‬به‭ ‬منطق‭ ‬الأحلام؛‭ ‬وبتحديد‭ ‬أكثر‭: ‬منطق‭ ‬الكوابيس‭. ‬لكن‭ ‬ذلك‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬شخصيات‭ ‬لينش‭ ‬تعيش‭ ‬داخل‭ ‬كابوس‭ ‬ستفيق‭ ‬منه‭ ‬عاجلاً‭ ‬أو‭ ‬آجلاً؛‭ ‬فالحقيقة‭ ‬أنها‭ ‬لن‭ ‬تفيق‭ ‬أبداً؛‭ ‬والمُشاهد‭ ‬الذي‭ ‬يوافق‭ ‬على‭ ‬دخول‭ ‬مملكة‭ ‬لينش،‭ ‬يكون‭ ‬منذ‭ ‬البداية‭ ‬قد‭ ‬وافق‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يحكم‭ ‬العالم‭ ‬المنطق‭ ‬الكابوسي‭. ‬

أفلام‭ ‬لينش‭ ‬تعد‭ ‬المُشاهد‭ ‬في‭ ‬بدايتها‭ ‬بفيلم‭ ‬من‭ ‬نوعية‭ ‬‮«‬من‭ ‬الفاعل‮»‬‭ (‬?whodunit‭)‬،‭ ‬لكنه‭ ‬في‭ ‬الحقيقة‭ ‬وعد‭ ‬كاذب،‭ ‬فكشف‭ ‬هوية‭ ‬القاتل،‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬هدف‭ ‬أفلام‭ ‬‮«‬من‭ ‬الفاعل؟‮»‬،‭ ‬لا‭ ‬يهم‭ ‬لينش‭ ‬أساساً،‭ ‬ولا‭ ‬هو‭ ‬يسعى‭ ‬وراءه‭. ‬لم‭ ‬يسع‭ ‬مثلاً‭ ‬وراء‭ ‬القاتل‭ ‬الحقيقي‭ ‬في‭ ‬‮«‬الطريق‭ ‬المفقود‮»‬،‭ ‬ولا‭ ‬لكشف‭ ‬غموض‭ ‬جريمة‭ ‬القتل‭ ‬التي‭ ‬تفتتح‭ ‬فيلم‭ ‬‮«‬طريق‭ ‬مولهولاند‮»‬،‭ ‬ولا‭ ‬سار‭ ‬وراء‭ ‬جريمة‭ ‬القتل‭ ‬الغامضة‭ ‬التي‭ ‬يُقتل‭ ‬فيها‭ ‬أبطال‭ ‬الفيلم‭ ‬البولندي‭ ‬في‭ ‬فيلمه‭ ‬الروائي‭ ‬الأخير‭ ‬‮«‬مملكة‭ ‬الداخل‮»‬‭. ‬إن‭ ‬لينش‭ ‬يستخدم‭ ‬جريمة‭ ‬القتل‭ ‬بنفس‭ ‬باستخدام‭ ‬هيتشكوك،‭ ‬لما‭ ‬كان‭ ‬يُطلق‭ ‬عليه‭ ‬‮«‬الماكجوفين‮»‬‭ (‬أو‭ ‬سمكة‭ ‬الرنجة‭ ‬الحمراء‭): ‬أي‭ ‬كطعم‭ ‬لاصطياد‭ ‬المُشاهد؛‭ ‬كعامل‭ ‬إغراء‭ ‬لإدخاله‭ ‬مملكته‭ ‬الأسلوبية‭ ‬الخاصة؛‭ ‬مملكة‭ ‬لينش‭ ‬الكابوسية،‭ ‬وبدخول‭ ‬المُشاهد‭ ‬تلك‭ ‬المملكة،‭ ‬يسقط‭ ‬في‭ ‬سلسلة‭ ‬من‭ ‬الاستدراجات‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يستطيع‭ ‬الفكاك‭ ‬منها،‭ ‬والتي‭ ‬لا‭ ‬يصلح‭ ‬معها‭ ‬المنطق‭ ‬في‭ ‬فهم‭ ‬الأحداث؛‭ ‬حيث‭ ‬يصبح‭ ‬اللامنطق‭ ‬هو‭ ‬المنطق‭ ‬في‭ ‬صرامته،‭ ‬ولا‭ ‬يملك‭ ‬المرء‭ ‬هنا‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬يستدعي‭ ‬رحلة‭ (‬ك‭) ‬في‭ ‬رواية‭ ‬القصر‭ ‬لكافكا،‭ ‬وهو‭ ‬يحاول‭ ‬جاهداً‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬القصر‭ ‬دون‭ ‬جدوى‭.‬

يؤسس‭ ‬لينش‭ ‬معمار‭ ‬أفلامه‭ ‬على‭ ‬المنطق‭ ‬الكابوسي،‭ ‬ويستخدم‭ ‬الألعاب‭ ‬السيريالية‭ ‬لتحقيق‭ ‬ذلك‭: ‬تشويه‭ ‬المنظور‭ (‬الدرامي‭ ‬والبصري‭)‬،‭ ‬لعبة‭ ‬المرايا‭ ‬المتقابلة‭ (‬التي‭ ‬تعكس‭ ‬الصورة‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬نهاية‭)‬،‭ ‬لعبة‭ ‬العروس‭ ‬الروسية‭ (‬عروس‭ ‬صغيرة‭ ‬داخل‭ ‬عروس‭ ‬أكبر،‭ ‬وهكذا‭)‬،‭ ‬الغرائبية‭ (‬التي‭ ‬هي‭ ‬أكبر‭ ‬من‭ ‬مجرد‭ ‬شذوذ‭ ‬بعض‭ ‬الشخصيات‭ ‬والسلوكيات؛‭ ‬فهي‭ ‬منطق‭ ‬كامل‭ ‬صلد،‭ ‬يستطيع‭ ‬الصمود‭ ‬والدفاع‭ ‬عن‭ ‬نفسه‭ ‬في‭ ‬وجه‭ ‬المألوف‭)‬،‭ ‬الزمن‭ ‬الدائري‭ (‬اللاخطي‭)‬،‭ ‬وتسييل‭ ‬الحواجز‭ ‬بين‭ ‬الذات‭ ‬والعالم‭.‬

إن‭ ‬مملكة‭ ‬لينش‭ ‬ليست‭ ‬مملكة‭ ‬من‭ ‬سهول‭ ‬وتلال،‭ ‬وصحاري‭ ‬وجبال،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬أساساً‭ ‬وحصرياً‭ ‬مملكة‭ ‬‮«‬الداخل»؛‭ ‬مملكة‭ ‬النفس‭ ‬البشرية‭. ‬وهي‭ ‬مملكة‭ ‬أسلوبية‭ ‬مستبدة،‭ ‬لا‭ ‬جمهورية‭ ‬شعبوية‭ ‬ديمقراطية‭. ‬قد‭ ‬نستطيع‭ ‬رصد‭ ‬أشهر‭ ‬العناصر‭ ‬الأسلوبية‭ ‬درامياً‭ ‬وبصرياً‭ ‬لتلك‭ ‬المملكة‭ ‬في‭: ‬سيولة‭ ‬الوجود‭ ‬بين‭ ‬الذات‭ ‬والعالم،‭ ‬منطق‭ ‬الحلم‭ ‬الكابوسي،‭ ‬المغالطات‭ ‬الحوارية‭ ‬التي‭ ‬تنفي‭ ‬قيمة‭ ‬الكلمات،‭ ‬المعاناة‭ ‬التي‭ ‬يسببها‭ ‬الشبق‭ ‬واستحواذ‭ ‬العامل‭ ‬الجنسي‭ (‬والرغبات‭ ‬تبتلع‭ ‬الوجود‭ ‬ابتلاعاً‭)‬،‭ ‬والسادية‭ ‬المدفونة‭ ‬في‭ ‬أعماق‭ ‬الإنسان،‭ ‬الهوس‭ ‬بالتلصص،‭ ‬خداع‭ ‬النفس‭ ‬بالرومانسية‭ ‬والبراءة،‭ ‬النسيان،‭ ‬الأحلام‭ ‬كمصدر‭ ‬للمعرفة،‭ ‬ارتفاع‭ ‬سقف‭ ‬العنف،‭ ‬لاعقلانية‭ ‬الإنسان،‭ ‬الغموض،‭ ‬وتفضيل‭ ‬مناطق‭ ‬الظل‭ ‬في‭ ‬النفس‭ ‬البشرية،‭ ‬الإضاءات‭ ‬المعتمة‭ ‬للصورة،‭ ‬وأجواء‭ ‬الفيلم‭ ‬نوار،‭ ‬شكل‭ ‬الرحلة‭ ‬في‭ ‬الفيلم‭ (‬رحلة‭ ‬من‭ ‬عماوة‭ ‬القلب‭ ‬إلى‭ ‬كابوسية‭ ‬التنوير‭)‬،‭ ‬التحولات‭ ‬الفجائية‭ ‬للشخصيات‭ ‬في‭ ‬الزمان‭ ‬والمكان‭ ‬والهوية،‭ ‬وتغير‭ ‬الذات‭ ‬من‭ ‬شكل‭ ‬إلى‭ ‬شكل،‭ ‬رهافة‭ ‬وجمالية‭ ‬شريط‭ ‬الصوت،‭ ‬التوائم‭ ‬المتناقضة،‭ ‬الاحتفاء‭ ‬بالشكل،‭ ‬الحنين‭ ‬إلى‭ ‬جماليات‭ ‬عقد‭ ‬الخمسينيات،‭ ‬والاحتفاء‭ ‬بالبلاستيك‭ ‬وثقافة‭ ‬البلاستيك،‭ ‬وبأدوات‭ ‬وإكسسوارات‭ ‬البيوت،‭ ‬الجنوح‭ ‬لمنطق‭ ‬الفلسفات‭ ‬الشرقية‭ (‬وخصوصاً‭ ‬البوذية‭)‬،‭ ‬العلاقة‭ ‬الجدلية‭ ‬مع‭ ‬هوليوود‭ (‬كراهية‭ ‬واحتياج‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭. ‬لينش‭ ‬هو‭ ‬حامل‭ ‬لواء‭ ‬التجريب‭ ‬والجنون‭ ‬والإسراف‭ ‬في‭ ‬هوليوود‭)‬،‭ ‬المشاهد‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تكتمل،‭ ‬وقطع‭ ‬التسلسل‭ ‬في‭ ‬السرد،‭ ‬الرموز‭ ‬الفلسفية‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تتكشف‭ ‬إلا‭ ‬عبر‭ ‬المشاهدات‭ ‬المتكررة‭ ‬لأعماله؛‭ ‬خصوصاً‭ ‬ثلاثيته‭ ‬الأسلوبية‭ ‬الأروع‭ ‬والأكثر‭ ‬تعقيداً‭: ‬‮«‬الطريق‭ ‬المفقود‮»‬،‭ ‬و«طريق‭ ‬مولهولاند‮»‬،‭ ‬و«امبراطورية‭ ‬الداخل‮»‬‭.‬

نفي‭ ‬قوانين‭ ‬الزمان‭ ‬والمكان

في‭ ‬تلك‭ ‬الثلاثية‭ ‬ينفي‭ ‬لينش‭ ‬القوانين‭ ‬المعتادة‭ ‬للزمان‭ ‬والمكان،‭ ‬وينفي‭ ‬مفهوم‭ ‬وحدة‭ ‬الهوية،‭ ‬لمصلحة‭ ‬السيولة،‭ ‬والتغير‭ ‬الدائم،‭ ‬وعدم‭ ‬الاستقرار‭ ‬على‭ ‬حال،‭ ‬لكل‭ ‬من‭: ‬الزمان‭ ‬والمكان‭ ‬والهوية‭. ‬في‭ ‬‮«‬الطريق‭ ‬المفقود‮»‬،‭ ‬مثلاً‭: ‬تتحول‭ ‬الشخصية‭ ‬الواحدة‭ ‬من‭: ‬عازف‭ ‬ساكسفون‭ ‬اسمه‭ ‬فريد،‭ ‬إلى‭ ‬ميكانيكي‭ ‬سيارات‭ ‬يصغره‭ ‬كثيراً‭ ‬اسمه‭ ‬بيل‭. ‬وتتحول‭ ‬زوجة‭ ‬الموسيقي‭ (‬القتيلة‭)‬،‭ ‬التي‭ ‬اسمها‭ ‬رينيه،‭ ‬إلى‭ ‬حبيبة‭ ‬الميكانيكي‭ ‬التي‭ ‬اسمها‭ ‬أليس‭. ‬وبينما‭ ‬تلعب‭ ‬الممثلة‭ ‬نفسها‭ ‬دوري‭ ‬البطولة‭ ‬النسائية،‭ ‬يلعب‭ ‬ممثلان‭ ‬مختلفان‭ ‬دوري‭ ‬البطولة‭ ‬الرجالية،‭ ‬وتستمر‭ ‬لعبة‭ ‬التحولات‭ ‬في‭ ‬الهويات‭ ‬على‭ ‬طول‭ ‬الفيلم،‭ ‬الذي‭ ‬تربطه‭ ‬شخصية‭ ‬غرائبية‭ ‬ليس‭ ‬لها‭ ‬اسم،‭ ‬ولكننا‭ ‬نعرف‭ ‬كنيتها‭ ‬من‭ ‬تترات‭ ‬الفيلم‭: ‬‮«‬الرجل‭ ‬الغامض‮»‬‭.‬

أيضاً،‭ ‬في‭ ‬فيلم‭ ‬‮«‬طريق‭ ‬مولهولاند‮»‬‭: ‬يبدأ‭ ‬الفيلم‭ ‬بريتا‭ ‬التي‭ ‬تجلس‭ ‬في‭ ‬المقعد‭ ‬الخلفي‭ ‬لسيارة‭ ‬ليموزين‭ ‬تسير‭ ‬عبر‭ ‬طريق‭ ‬مولهولاند‭ ‬في‭ ‬لوس‭ ‬أنجلوس،‭ ‬ثم‭ ‬نرى‭ ‬السائق‭ ‬يوجّه‭ ‬مسدساً‭ ‬إلى‭ ‬رأسها،‭ ‬وتصطدم‭ ‬سيارة‭ ‬مسرعة‭ ‬بسيارتهما‭ ‬على‭ ‬النحو‭ ‬الذي‭ ‬تشتعل‭ ‬فيه‭ ‬السيارة،‭ ‬وتُقتل‭ ‬ريتا‭ - ‬على‭ ‬ما‭ ‬نفهم،‭ ‬لأن‭ ‬موتها‭ ‬الفعلي‭ ‬لا‭ ‬يظهر‭ ‬أبداً‭ ‬على‭ ‬الشاشة‭ - ‬ثم‭ ‬نراها‭ ‬في‭ ‬اللقطة‭ ‬التالية‭ ‬تخرج‭ ‬من‭ ‬السيارة‭ ‬وكأنها‭ ‬تتعلم‭ ‬المشي‭ ‬للمرة‭ ‬الأولى،‭ ‬ونعرف‭ ‬أنها‭ ‬قد‭ ‬فقدت‭ ‬ذاكرتها،‭ ‬ثم‭ ‬تخوض‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬رحلة‭ ‬تتعرف‭ ‬فيها‭ ‬على‭ ‬بيتي،‭ ‬التي‭ ‬تساعدها‭ ‬في‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬هويتها‭ ‬المنسية،‭ ‬وتتسمى‭ ‬مؤقتاً‭ ‬بـ«ريتا‮»‬،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬التقطت‭ ‬الاسم‭ ‬من‭ ‬بوستر‭ ‬فيلم‭ ‬لريتا‭ ‬هيوارث‭. ‬وتتعقد‭ ‬رحلة‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬الهوية،‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬تختلط‭ ‬فيه‭ ‬الهويات؛‭ ‬فتسيل‭ ‬الحدود‭ ‬الفاصلة‭ ‬بين‭ ‬هوية‭ ‬ريتا‭ ‬مع‭ ‬هوية‭ ‬ممثلة‭ ‬سينمائية‭ ‬اسمها‭ ‬كاميليا،‭ ‬بينما‭ ‬تتداخل‭ ‬هوية‭ ‬بيتي‭ ‬مع‭ ‬هوية‭ ‬شخصية‭ ‬أخرى‭ ‬تنتحر‭ ‬لاحقاً‭ ‬في‭ ‬الفيلم‭.‬

أما‭ ‬في‭ ‬آخر‭ ‬أفلام‭ ‬الثلاثية‭ ‬‮«‬امبراطورية‭ ‬الداخل‮»‬،‭ ‬فيبدو‭ ‬لنا‭ ‬الفيلم‭ ‬كله‭ ‬وكأنه‭ ‬لعبة‭ ‬مرايا‭ ‬عظيمة‭: ‬هناك‭ ‬الممثلة‭ ‬نيكي‭ ‬المُرشحة‭ ‬للقيام‭ ‬بدور‭ ‬شخصية‭ ‬اسمها‭ ‬سو‭ ‬في‭ ‬فيلم‭ ‬اسمه‭ ‬‮«‬نحو‭ ‬السماء‭ ‬في‭ ‬الغد‭ ‬الحزين‮»‬‭. ‬وقبل‭ ‬أن‭ ‬يتأكد‭ ‬حصولها‭ ‬على‭ ‬الدور،‭ ‬تزورها‭ ‬جارتها‭ ‬العرافة‭ ‬البولندية‭ ‬المسنة،‭ ‬وتتنبأ‭ ‬لها‭ ‬بأنها‭ ‬ستحصل‭ ‬فعلاً‭ ‬على‭ ‬الدور،‭ ‬وتحكي‭ ‬لها‭ ‬حكايتين‭ ‬مختلفتين‭ (‬سنرى‭ ‬آثارهما‭ ‬وتوابعهما‭ ‬على‭ ‬طول‭ ‬الفيلم‭ ‬نفسه‭)‬،‭ ‬وبسبب‭ ‬ارتباك‭ ‬الجارة‭ ‬العجوز‭ ‬بشأن‭ ‬تاريخ‭ ‬اليوم،‭ ‬تنتقل‭ ‬الأحداث‭ ‬إلى‭ ‬المستقبل‭ ‬القريب،‭ ‬فنرى‭ ‬نيكي‭ ‬وهي‭ ‬تمثل‭ ‬دور‭ ‬سو‭ ‬في‭ ‬الفيلم‭ ‬الذي‭ ‬يتم‭ ‬تصويره،‭ ‬وتختلط‭ ‬هويتا‭ ‬نيكي‭ ‬وسو‭ ‬أثناء‭ ‬ذلك،‭ ‬وتختلط‭ ‬الأزمنة‭ ‬أيضاً‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬الماضي‭ ‬والحاضر‭ ‬والمستقبل،‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬ترى‭ ‬فيه‭ ‬نيكي‭ ‬نفسها‭ ‬وهي‭ ‬تقوم‭ ‬بأفعال‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬تعلم‭ ‬أنها‭ ‬هي‭ ‬من‭ ‬قامت‭ ‬بها،‭ ‬بل‭ ‬تختلط‭ ‬الهويتان‭ ‬الاثنتان‭ ‬للممثلة‭ ‬بهوية‭ ‬ثالثة‭ ‬هي‭ ‬هوية‭ ‬عاهرة‭ ‬تسمى‭ ‬نيكو‭ ‬لديها‭ ‬قرد‭ ‬أليف،‭ ‬ثم‭ ‬تختلط‭ ‬الهويات‭ ‬الثلاث‭ ‬السابقة‭ ‬بهوية‭ ‬أحد‭ ‬الأرانب‭ ‬في‭ ‬عائلة‭ ‬الأرانب‭ ‬في‭ ‬المشهد‭ ‬المسرحي‭ ‬الغرائبي‭ ‬في‭ ‬الفيلم‭. ‬ولا‭ ‬يقتصر‭ ‬الأمر‭ ‬على‭ ‬شخصية‭ ‬الممثلة‭ ‬التي‭ ‬تتعدد‭ ‬هوياتها‭ ‬خلال‭ ‬الفيلم‭ ‬الذي‭ ‬نشاهده،‭ ‬ولا‭ ‬خلال‭ ‬الفيلم‭ ‬الذي‭ ‬يتم‭ ‬تصويره‭ ‬داخل‭ ‬الفيلم،‭ ‬ولا‭ ‬خلال‭ ‬المسرحية‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬داخل‭ ‬الفيلم‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬داخل‭ ‬الفيلم،‭ ‬فـ«امبراطورية‭ ‬الداخل‮»‬‭ ‬كله،‭ ‬وبكل‭ ‬شخصياته،‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬متاهة‭ ‬كبيرة‭ ‬تختلط‭ ‬فيها‭ ‬هويات‭ ‬جميع‭ ‬الشخصيات،‭ ‬كما‭ ‬تتعدد‭ ‬انعكاسات‭ ‬الأحداث‭ ‬أيضاً،‭ ‬في‭ ‬لعبة‭ ‬مرايا‭ ‬جديرة‭ ‬بفنان‭ ‬عظيم‭ ‬متمكن‭. ‬لكن‭ ‬مع‭ ‬التدقيق‭ ‬والمشاهدات‭ ‬المتكررة،‭ ‬يمكن‭ ‬التقاط‭ ‬ثلاثة‭ ‬خطوط‭ ‬رئيسة‭ ‬مستمرة‭ ‬معنا‭ ‬على‭ ‬طول‭ ‬الفيلم،‭ ‬يتم‭ ‬عكسها‭ ‬باستمرار‭ ‬خلال‭ ‬لعبة‭ ‬المرايا‭ ‬التي‭ ‬يلعبها‭ ‬لينش‭ ‬مع‭ ‬المُشاهد‭. ‬هذه‭ ‬الخطوط‭ ‬الثلاثة‭ ‬هي‭: ‬
‭(‬1‭) - ‬أطول‭ ‬مسرحية‭ ‬إذاعية‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭ ‬‮«‬آكسون‭ ‬إن‮»‬،‭ ‬
‭(‬2‭) - ‬العاهرة‭ ‬الصغيرة‭ ‬مجهولة‭ ‬الاسم‭ ‬التي‭ ‬تُسمى‭ ‬في‭ ‬تترات‭ ‬الفيلم‭ ‬‮«‬الفتاة‭ ‬الضائعة‮»‬؛‭ ‬والتي‭ ‬تبكي‭ ‬باستمرار‭ ‬أثناء‭ ‬مشاهدتها‭ ‬لجهاز‭ ‬تليفزيون‭ ‬يُذيع‭ ‬مسرحية‭ ‬سريالية‭ ‬لعائلة‭ ‬الأرانب‭ ‬التي‭ ‬تتحدث‭ ‬لغة‭ ‬غير‭ ‬مفهومة،‭ (‬3‭)- ‬تصوير‭ ‬نيكي‭ ‬للفيلم‭ ‬السينمائي‭ ‬الجديد؛‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬صورة‭ ‬مكررة‭ ‬من‭ ‬الفيلم‭ ‬البولندي‭ ‬المشؤوم‭ ‬‮«‬نحو‭ ‬السماء‭ ‬في‭ ‬الغد‭ ‬الحزين»؛‭ ‬الذي‭ ‬قُتل‭ ‬أبطاله‭ ‬أثناء‭ ‬التمثيل‭ ‬بسبب‭ ‬لعنة‭ ‬غامضة‭ ‬مرتبطة‭ ‬بحبكة‭ ‬الفيلم‭ ‬نفسه‭.‬

 

عوالم‭ ‬كابوسية

هذا‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬العوالم‭ ‬الكابوسية،‭ ‬هذه‭ ‬المملكة‭ ‬التي‭ ‬ينتفي‭ ‬فيها‭ ‬الإدراك‭ ‬المعتاد‭ ‬لمنطقية‭ ‬الظواهر،‭ ‬ولخطية‭ ‬الزمن‭ ‬وتراتبيته،‭ ‬ولثبات‭ ‬المكان‭ ‬وتماسكه،‭ ‬ووحدانية‭ ‬الذات‭ ‬في‭ ‬الشخصية‭ ‬عينها،‭ ‬تضع‭ ‬الثقافة‭ ‬العالمية‭ ‬الراهنة‭ ‬في‭ ‬مأزق‭ ‬لا‭ ‬تستطيع‭ ‬معه‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬تحكم‭ ‬على‭ ‬أفلام‭ ‬لينش‭ ‬حكماً‭ ‬سلبياً؛‭ ‬حكماً‭ ‬بأنها‭ ‬لا‭ ‬تستحق‭ ‬المشاهدة،‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬غير‭ ‬قابلة‭ ‬للمشاهدة‭. ‬والنقاد‭ ‬الغربيون‭ ‬الذين‭ ‬حاولوا‭ ‬إيجاد‭ ‬مفاتيح‭ ‬لفهم‭ ‬مملكة‭ ‬لينش‭ ‬اقتصرت‭ ‬محاولات‭ ‬معظمهم‭ ‬على‭ ‬التفسير‭ ‬الفانتازي‭ ‬أو‭ ‬الخيالي‭. ‬وبتعبير‭ ‬تزيفتان‭ ‬تودوروف‭: ‬الأحداث‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬تفسيرها‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬معرفتنا‭ ‬بالعالم‭ ‬المعتاد‭ ‬لنا،‭ ‬نميل‭ ‬إلى‭ ‬تفسيرها‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬خيالات‭ ‬أو‭ ‬أوهام‭. ‬أي‭ ‬أنها‭ ‬صور‭ ‬ذهنية‭ ‬غير‭ ‬حقيقية‭ ‬لا‭ ‬تحدث‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬الإمبريقي‭ ‬وغير‭ ‬قابلة‭ ‬للاختبار؛‭ ‬وكأنها‭ ‬صور‭ ‬تنبثق‭ ‬من‭ ‬اللاوعي‭. ‬

لكن‭ ‬إذا‭ ‬سلمنا‭ ‬بهذه‭ ‬القراءة‭ ‬الأقرب‭ ‬إلى‭ ‬التفسير‭ ‬السيكولوجي‭ (‬والسيكولوجيا‭ ‬سلاح‭ ‬ذو‭ ‬حدين،‭ ‬يتحمَّل‭ ‬الشيء‭ ‬وعكسه،‭ ‬كما‭ ‬يخبرنا‭ ‬المحامي‭ ‬فيتوكوفتش‭ ‬في‭ ‬مرافعته‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬‮«‬الإخوة‭ ‬كارامازوف‮»‬‭ ‬لدوستويفسكي‭)‬،‭ ‬نقول‭ ‬إذا‭ ‬سلمنا‭ ‬بالتفسير‭ ‬السيكولوجي‭ ‬لشخوص‭ ‬وعوالم‭ ‬لينش؛‭ ‬أي‭ ‬أنها‭ ‬عوالم‭ ‬ذهنية‭ ‬لا‭ ‬تجري‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬لاوعي‭ ‬شخصياته‭ ‬السيكوباتية،‭ ‬فكيف‭ ‬لنا‭ ‬أن‭ ‬نفسر،‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال،‭ ‬أن‭ ‬الذات‭ ‬الواحدة‭ ‬تنقسم‭ ‬إلى‭ ‬ذاتين،‭ ‬ثم‭ ‬تعرف‭ ‬إحدى‭ ‬الذاتين‭ ‬معلومات‭ ‬ووقائع‭ ‬يستحيل‭ ‬عليها‭ ‬أن‭ ‬تعرفها‭ ‬لو‭ ‬اقتصر‭ ‬الأمر‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬جزء‭ ‬فقط‭ ‬من‭ ‬اللاوعي؟‭! ‬كيف‭ ‬لنا‭ ‬أن‭ ‬نفسر،‭ ‬مثلاً،‭ ‬أن‭ ‬ريتا‭ ‬في‭ ‬فيلم‭ ‬‮«‬طريق‭ ‬مولهولاند‮»‬‭ ‬تشاهد‭ ‬بأم‭ ‬عينيها‭ ‬عشيقتها‭ ‬دايان‭ ‬منتحرة‭ ‬بعد‭ ‬مقتل‭ ‬ريتا‭ ‬نفسها‭ ‬بعدة‭ ‬أسابيع؟‭! ‬ولو‭ ‬كان‭ ‬صحيحاً‭ ‬أن‭ ‬الميكانيكي‭ ‬الشاب‭ ‬هو‭ ‬وهم‭ ‬متخيل‭ ‬في‭ ‬العقل‭ ‬اللاواعي‭ ‬للموسيقي‭ ‬المسجون‭ ‬بتهمة‭ ‬قتل‭ ‬زوجته‭ ‬في‭ ‬فيلم‭ ‬‮«‬الطريق‭ ‬المفقود‮»‬،‭ ‬فكيف‭ ‬نفسر‭ ‬أن‭ ‬جميع‭ ‬الشخوص‭ ‬الأخرى‭ ‬تراه‭ ‬وتتفاعل‭ ‬معه؟‭! ‬لا،‭ ‬إن‭ ‬ما‭ ‬يحدث‭ ‬في‭ ‬أفلام‭ ‬لينش‭ ‬يحدث‭ ‬درامياً‭ ‬ضمن‭ ‬منطق‭ ‬‮«‬الحياة‭ ‬الفعلية‮»‬،‭ ‬وليس‭ ‬ضمن‭ ‬منطق‭ ‬التخيلات‭ ‬والأوهام،‭ ‬ولا‭ ‬كامتدادات‭ ‬فانتازية‭ ‬داخل‭ ‬عقل‭ ‬الشخصية‭. ‬إن‭ ‬عالم‭ ‬لينش‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬تفسيره‭ ‬بحق‭ ‬وفقاً‭ ‬للسيكولوجيا،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬النظام‭ ‬الفلسفي‭ ‬الغربي‭ ‬بأكمله،‭ ‬والقائم‭ -‬منذ‭ ‬أفلاطون‭- ‬على‭ ‬ثنائية‭ (‬الذات‭/‬الخارج‭)‬،‭ ‬لا‭ ‬يبدو‭ ‬قادراً‭ ‬على‭ ‬تقديم‭ ‬قراءة‭ ‬مقنعة‭ ‬لما‭ ‬يقوم‭ ‬به‭ ‬لينش‭ ‬في‭ ‬أفلامه‭.‬

 

تأملات‭ ‬صوفية

متأثراً‭ ‬ربما‭ ‬بتأملاته‭ ‬الصوفية‭ ‬البوذية؛‭ ‬لا‭ ‬يعتبر‭ ‬لينش‭ ‬العالم‭ ‬الظاهري‭ ‬المألوف‭ ‬لنا‭ ‬إلا‭ ‬مغالطة‭ ‬ووهماً‭ ‬ينبغي‭ ‬نزع‭ ‬القناع‭ ‬الزائف‭ ‬عنه‭ ‬حتى‭ ‬تتكشف‭ ‬لنا‭ ‬الحقيقة؛‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬موجودة‭ ‬دائماً،‭ ‬ولكنها‭ ‬تغيب‭ ‬عنا،‭ ‬لانغماسنا‭ ‬في‭ ‬تفاهات‭ ‬الوجود‭ ‬اليومي،‭ ‬تماماً‭ ‬كما‭ ‬يغيب‭ ‬السكر‭ ‬الذائب‭ ‬في‭ ‬الماء،‭ ‬فلا‭ ‬نراه،‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬وجوده‭ ‬هناك‭. ‬وإذا‭ ‬كان‭ ‬العالم‭ ‬الظاهري‭ ‬هو‭ ‬خدعة‭ ‬تمنعنا‭ ‬من‭ ‬رؤية‭ ‬الحقيقة،‭ ‬فينبغي‭ ‬إذن‭ ‬التخلص‭ ‬منه؛‭ ‬أي‭ ‬التخلص‭ ‬من‭ ‬قوانين‭ ‬الزمان‭ ‬والمكان،‭ ‬ومن‭ ‬ثقل‭ ‬الجسد‭ ‬وحضوره‭ ‬الفيزيقي‭. ‬

ولذلك‭ ‬يخوض‭ ‬الموسيقي‭ ‬في‭ ‬‮«‬الطريق‭ ‬المفقود‮»‬‭ ‬رحلة‭ ‬للبحث‭ ‬عن‭ ‬ذاته‭ ‬الحقة،‭ ‬كما‭ ‬تخوض‭ ‬ريتا‭ ‬في‭ ‬‮«‬طريق‭ ‬مولهولاند‮»‬‭ ‬رحلة‭ ‬لاكتشاف‭ ‬نفسها‭ ‬الضائعة،‭ ‬وهو‭ ‬أيضاً‭ ‬مسعى‭ ‬الممثلة‭ ‬نيكي‭ ‬في‭ ‬‮«‬مملكة‭ ‬الداخل‮»‬‭. ‬ولا‭ ‬تخوض‭ ‬الشخوص‭ ‬في‭ ‬مملكة‭ ‬لينش‭ ‬رحلة‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬الذات‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تعصف‭ ‬بهم‭ ‬تجربة‭ ‬قاسية‭ ‬عنيفة‭. ‬في‭ ‬‮«‬الطريق‭ ‬المفقود»؛‭ ‬شكوك‭ ‬الموسيقي‭ ‬في‭ ‬سلوك‭ ‬زوجته‭ ‬هو‭ ‬بداية‭ ‬الرحلة‭ ‬للبحث‭ ‬عن‭ ‬الذات‭ ‬الحقة،‭ ‬والغيرة‭ ‬التي‭ ‬تشتعل‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬الميكانيكي‭ ‬الشاب‭ ‬عندما‭ ‬تخبره‭ ‬عشيقة‭ ‬رجل‭ ‬المافيا‭ ‬بما‭ ‬يجبرها‭ ‬على‭ ‬القيام‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬أفعال‭ ‬شبقية‭ ‬تحت‭ ‬تهديد‭ ‬السلاح،‭ ‬هو‭ ‬أيضاً‭ ‬بداية‭ ‬رحلته‭ ‬لاكتشاف‭ ‬الذات‭. ‬وفي‭ ‬‮«‬طريق‭ ‬مولهولاند»؛‭ ‬تصويب‭ ‬المسدس‭ ‬إلى‭ ‬ريتا‭ ‬في‭ ‬سيارتها‭ ‬ثم‭ ‬قتلها،‭ ‬هو‭ ‬أيضاً‭ ‬بداية‭ ‬رحلة‭ ‬بحثها‭ ‬عن‭ ‬نفسها‭. ‬وفي‭ ‬‮«‬مملكة‭ ‬الداخل‮»‬‭ ‬تبدأ‭ ‬رحلة‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬الذات‭ ‬بالنسبة‭ ‬لنيكي‭ ‬في‭ ‬أعقاب‭ ‬خيانتها‭ ‬لزوجها؛‭ ‬وهي‭ ‬المرأة‭ ‬المحافظة‭ ‬المتحفظة‭. ‬

في‭ ‬هذا‭ ‬السياق،‭ ‬يمكننا‭ ‬أن‭ ‬نفهم‭ ‬ما‭ ‬جرى‭ ‬في‭ ‬لحظة‭ ‬معينة‭ ‬في‭ ‬بروفة‭ ‬التمثيل‭ ‬التي‭ ‬تجريها‭ ‬نيكي‭ ‬مع‭ ‬زميلها‭ ‬الممثل‭ ‬في‭ ‬‮«‬مملكة‭ ‬الداخل‮»‬‭. ‬فقبيل‭ ‬إقامة‭ ‬نيكي‭ ‬علاقة‭ ‬مع‭ ‬زميلها‭ ‬الممثل،‭ ‬تسمع‭ ‬دربكة‭ ‬غريبة‭ ‬في‭ ‬كواليس‭ ‬الديكور،‭ ‬وتكتشف‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬أنها‭ ‬هي‭ ‬ذاتها‭ ‬التي‭ ‬سببتها‭ ‬وهي‭ ‬تتفرج‭ ‬على‭ ‬نفسها‭ ‬من‭ ‬وراء‭ ‬الكواليس‭ ‬بعد‭ ‬أسابيع‭ ‬عدة‭ ‬من‭ ‬البروفة‭ ‬نفسها؛‭ ‬وكأن‭ ‬الإنسان‭ ‬هنا‭ ‬يفتح‭ ‬عينيه‭ ‬على‭ ‬الحقيــــقــة‭ ‬المرة‭: ‬إنــــه‭ ‬هو‭ ‬هو‭ ‬السبب‭. ‬يماثل‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬فـــــيلم‭ ‬‮«‬الطريق‭ ‬المفقود‮»‬‭ ‬الصرخة‭ ‬الأنثوية‭ ‬التي‭ ‬سمعها‭ ‬الموسيقي‭ (‬والتي‭ ‬أطلقها‭ ‬هو‭ ‬نفسه‭) ‬وهو‭ ‬يحكي‭ ‬لزوجته‭ ‬عن‭ ‬الكابوس‭ ‬الذي‭ ‬رآه‭ ‬في‭ ‬حجرة‭ ‬نومهما؛‭ ‬وكأن‭ ‬النفس‭ ‬هنا‭ ‬أيضاً‭ ‬تصبح‭ ‬هي‭ ‬نفسها‭ ‬أداة‭ ‬عذابها‭.‬

لا‭ ‬تبدأ‭ ‬رحلة‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬الذات‭ ‬إلا‭ ‬عبر‭ ‬التخلي‭ ‬أولاً‭ ‬عن‭ ‬المنـــطق‭ ‬الجــــاري‭ ‬المعتاد‭. ‬ولذلك‭ ‬نجد‭ ‬النسيان‭ ‬حاضراً‭ ‬دائماً‭ ‬في‭ ‬أفلام‭ ‬لينش‭. ‬في‭ ‬‮«‬الطريق‭ ‬المفقود‮»‬‭ ‬لا‭ ‬يتذكر‭ ‬الموسيقي‭ ‬الذي‭ ‬قتل‭ ‬زوجته‭ ‬أنه‭ ‬قتلها‭. ‬وفي‭ ‬‮«‬طريق‭ ‬مولهولاند‮»‬‭ ‬تفقد‭ ‬ريتا‭ ‬ذاكرتها‭ ‬فلا‭ ‬تتذكر‭ ‬شيئاً‭ ‬عن‭ ‬حياتها‭ ‬الماضية‭. ‬إن‭ ‬ما‭ ‬يبدو‭ ‬كأنه‭ ‬فقد‭ ‬للهوية،‭ ‬وضياع‭ ‬لذاكرة‭ ‬ريتا،‭ ‬هو،‭ ‬على‭ ‬العكس،‭ ‬البداية‭ ‬للتعرف‭ ‬على‭ ‬الذات‭ ‬الحقة‭. ‬الفقد‭ ‬هنا‭ ‬هو‭ ‬بداية‭ ‬الامتلاء‭. ‬إن‭ ‬ريتا‭ ‬تتخلص‭ ‬من‭ ‬قناع‭ ‬زائف‭ ‬للذات،‭ ‬سعياً‭ ‬للعثور‭ ‬على‭ ‬ذاتها‭ ‬الحقيقية‭. ‬ويلعب‭ ‬لينش‭ ‬هنا‭ ‬بعظمة‭ ‬على‭ ‬المفارقة‭: ‬إن‭ ‬ريتا‭ ‬وصديقتها‭ ‬بيتي‭ ‬تبحثان‭ ‬عن‭ ‬هوية‭ ‬ريتا‭ ‬القديمة‭ (‬الحقيقية‭ ‬كما‭ ‬تظنان،‭ ‬وكما‭ ‬يظن‭ ‬المُشاهد‭)‬،‭ ‬عبر‭ ‬البحث‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭ ‬الشخصي‭ ‬السابق‭ ‬لريتا‭: ‬أقربائها،‭ ‬معارفها،‭ ‬الأماكن‭ ‬التي‭ ‬اعتادت‭ ‬التردد‭ ‬عليها‭... ‬إلخ،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬أنه‭ ‬من‭ ‬المستحيل‭ ‬العثور‭ ‬على‭ ‬الذات‭ (‬الحقة‭) ‬لريتا‭ ‬بتلك‭ ‬الطريقة،‭ ‬لأن‭ ‬تلك‭ ‬الطريقة‭ ‬لن‭ ‬تقود‭ ‬إلا‭ ‬إلى‭ ‬هوية‭ ‬ميتة،‭ ‬تم‭ ‬التخلص‭ ‬منها‭ ‬بالفعل‭ ‬منذ‭ ‬البداية‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬القيام‭ ‬برحلة‭ ‬اكتشاف‭ ‬الذات،‭ ‬أي‭ ‬أنها‭ ‬لن‭ ‬تقود‭ ‬إلا‭ ‬إلى‭ ‬كاميليا‭ ‬التي‭ ‬قُتلت‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬الفيلم‭ ‬على‭ ‬طريق‭ ‬مولهولاند‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬طريق‭ ‬يصل‭ ‬بين‭ ‬تلال‭ ‬مدينة‭ ‬لوس‭ ‬أنجلوس‭ (‬مدينة‭ ‬الملائكة‭) ‬واستـــديوهات‭ ‬هوليوود‭ (‬وكأنه‭ ‬طريق‭ ‬الآمال‭ ‬بالسعادة‭ ‬والتحقق‭). ‬إذن‭ ‬المســعى‭ ‬الذي‭ ‬تقوم‭ ‬به‭ ‬ريتا‭ ‬وبيتي‭ ‬هو‭ ‬مسعى‭ ‬مستحيل،‭ ‬ولن‭ ‬يقود‭ ‬إلا‭ ‬إلى‭ ‬طريق‭ ‬مسدود‭ (‬كما‭ ‬يقود‭ ‬طريق‭ ‬مولهولاند‭ ‬نفسه‭ ‬إلى‭ ‬أبواب‭ ‬هـــولـــيوود‭ ‬المغــلقــة‭ ‬في‭ ‬وجه‭ ‬الآملين‭)‬؛‭ ‬إنه‭ ‬طريق‭ ‬مستحيل،‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬الطريق‭ ‬إلى‭ ‬القصر‭ ‬في‭ ‬رواية‭ ‬كافكا‭ ‬مستحيلاً‭ ‬على‭ ‬‮«‬ك‮»‬‭.‬

 

إنسان‭ ‬زرادشت

ولكن‭ ‬من‭ ‬هو‭ ‬الإنسان‭ ‬الذي‭ ‬وصل‭ ‬إلى‭ ‬حالة‭ ‬من‭ ‬معرفة‭ ‬الذات‭ ‬الحقة،‭ ‬ولم‭ ‬يعد‭ ‬يعاني‭ ‬الانقسامات‭ ‬الثنائية‭ ‬في‭ ‬الشخصية؟‭! ‬إن‭ ‬هناك‭ ‬دلائل‭ ‬كثيرة‭ ‬تشير‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬صورة‭ ‬ذلك‭ ‬الإنسان‭ ‬قد‭ ‬تم‭ ‬التعبير‭ ‬عنها‭ ‬في‭ ‬شخصيات‭ ‬‮«‬فوق‭ ‬طبيعية»؛‭ ‬إنسان‭ ‬حقق‭ ‬تعاليه،‭ ‬ونجح‭ ‬في‭ ‬رحلته،‭ ‬ووصل‭ ‬إلى‭ ‬هدف‭ ‬زرادشت‭. ‬من‭ ‬أبرز‭ ‬تلك‭ ‬الشخصيات‭ ‬في‭ ‬أفلامه‭ ‬شخصية‭ ‬‮«‬الرجل‭ ‬الغامض‮»‬‭ ‬في‭ ‬‮«‬الطريق‭ ‬المفقود‮»‬،‭ ‬وأيضاً،‭ ‬وبتنويعة‭ ‬مختلفة‭ ‬قليلاً،‭ ‬شخصية‭ ‬الرجل‭ ‬المتشرد‭ ‬في‭ ‬‮«‬طريق‭ ‬مولهولاند‮»‬،‭ ‬فالرجل‭ ‬الغامض‭ ‬مثلاً،‭ ‬هو‭ ‬صلة‭ ‬الوصل‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬الموسيقي‭ ‬والميكانيكي‭ ‬الشاب،‭ ‬وما‭ ‬يقوله‭ ‬لأحدهما‭ ‬يقوله‭ ‬للآخر‭ ‬بالنص‭ ‬نفسه‭: ‬‮«‬ليس‭ ‬من‭ ‬عادتي‭ ‬أن‭ ‬أذهب‭ ‬إلى‭ ‬حيث‭ ‬لم‭ ‬يتم‭ ‬استدعائي‮»‬،‭ ‬و«لقد‭ ‬تقابلنا‭ ‬من‭ ‬قبل،‭ ‬أليس‭ ‬كذلك؟‭!... ‬في‭ ‬منزلك‭ ‬نفسه‭!‬‮»‬‭. ‬والرجل‭ ‬الغامض‭ ‬هو‭ ‬الوحيد‭ ‬في‭ ‬الفيلم‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يعاني‭ ‬الانقسامات‭ ‬الثنائية‭ ‬في‭ ‬الشخصية،‭ ‬وهو‭ ‬نفسه‭ ‬الذي‭ ‬يراقب‭ ‬بدم‭ ‬بارد‭ ‬تجمع‭ ‬كل‭ ‬الشخصيات‭ ‬المنقسمة‭ ‬على‭ ‬نفسها،‭ ‬والتي‭ ‬تجتمع‭ ‬قرب‭ ‬نهاية‭ ‬الفيلم‭ ‬في‭ ‬فندق‭ ‬الطريق‭ ‬المفقود،‭ ‬بل‭ ‬إنه‭ ‬يساعد‭ ‬الموسيقي‭ ‬في‭ ‬قتل‭ ‬غريمه‭ ‬رجل‭ ‬المافيا‭ ‬خلال‭ ‬المواجهة‭ ‬بينهما‭ ‬في‭ ‬آخر‭ ‬الفيلم؛‭ ‬وكأن‭ ‬الذات‭ ‬هنا‭ ‬تنتقم‭ ‬من‭ ‬الشر‭ ‬بعد‭ ‬تعذر‭ ‬خلاصها،‭ ‬أو‭ ‬كأن‭ ‬لينش‭ ‬يقول‭ ‬إن‭ ‬القضاء‭ ‬على‭ ‬الانقسامات‭ ‬الثنائية‭ ‬داخل‭ ‬النفس‭ ‬البشرية‭ ‬والعثور‭ ‬على‭ ‬هويتها‭ ‬الحقة‭ ‬يتطلب‭ ‬فعلاً‭ ‬عنيفاً؛‭ ‬فعلاً‭ ‬عنيفاً‭ ‬لابد‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬مساعدة‭ ‬خارجية‭ ‬من‭ ‬ذات‭ ‬أخرى‭ ‬عرفت‭ ‬الطريق‭ ‬وعثرت‭ ‬على‭ ‬هويتها‭.‬

وعلى‭ ‬ذلك‭ ‬تكون‭ ‬مملكة‭ ‬لينش‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬رؤية‭ ‬شوبنهاور‭ ‬منها‭ ‬إلى‭ ‬رؤية‭ ‬نيتشه،‭ ‬فقوى‭ ‬الشر‭ ‬التي‭ ‬تحتويها‭ ‬النفس‭ ‬البشرية‭ ‬لا‭ ‬يعتبرها‭ ‬لينش‭ ‬انعكاساً‭ ‬لأكثر‭ ‬الجوانب‭ ‬الإبداعية‭ ‬والبطولية‭ ‬في‭ ‬النفس‭ ‬الإنسانية،‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬هي‭ ‬تعبير‭ ‬عن‭ ‬الحلقة‭ ‬الدائرية‭ ‬المفرغة‭ ‬للألم‭ ‬والمعاناة‭ ‬التي‭ ‬تدور‭ ‬فيها‭ ‬تلك‭ ‬النفس؛‭ ‬والتي‭ ‬قد‭ ‬تنجح‭ ‬في‭ ‬إخفاء‭ ‬الشر‭ ‬الذي‭ ‬تحمله‭ ‬بداخلها،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تنجح‭ ‬في‭ ‬التخلص‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الشر؛‭ ‬لأن‭ ‬صفة‭ ‬‮«‬الرشد‮»‬‭ ‬تنتفي‭ ‬من‭ ‬الإرادة‭ ‬الإنسانية،‭ ‬على‭ ‬عكس‭ ‬رؤية‭ ‬كانط‭ ‬وهيجل‭ ‬لرشدية‭ ‬وعقلانية‭ ‬الإرادة‭ ‬البشرية‭. ‬هناك‭ ‬مقولة‭ ‬مهمة‭ ‬تعبر‭ ‬عن‭ ‬قناعة‭ ‬لينش‭ ‬بشأن‭ ‬الإنسان‭ ‬والعالم،‭ ‬ترد‭ ‬في‭ ‬فيلم‭ ‬‮«‬وحش‭ ‬في‭ ‬الأعماق‮»‬،‭ ‬تقول‭: ‬‮«‬العالم‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬إلا‭ ‬وحش‭ ‬في‭ ‬أعماقه،‭ ‬حتى‭ ‬وإن‭ ‬بدا‭ ‬مجنوناً‭ ‬على‭ ‬السطح‮»‬‭. ‬هذه‭ ‬الثنائية‭ ‬سنجدها‭ ‬مبثوثة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬أفلامه‭ ‬من‭ ‬أولها‭ ‬إلى‭ ‬آخرها‭: ‬التوحش‭ ‬في‭ ‬الباطن،‭ ‬والجنون‭ ‬في‭ ‬الظاهر؛‭ ‬ذلك‭ ‬الجنون‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬ربما‭ ‬البديل‭ ‬عن‭ ‬الانتحار‭ ‬الذي‭ ‬تكلم‭ ‬عنه‭ ‬دوستويفسكي‭ ‬وسماه‭ ‬‮«‬الانتحار‭ ‬المنطقي‮»‬‭ (‬وعبر‭ ‬عنه‭ ‬أعظم‭ ‬تعبير‭ ‬في‭ ‬شخصية‭ ‬كيريلوف‭ ‬في‭ ‬روايته‭ ‬‮«‬الشياطين‮»‬‭)‬،‭ ‬ثم‭ ‬نيتشه‭ ‬من‭ ‬بعده،‭ ‬ثم‭ ‬ألبير‭ ‬كامو‭ ‬من‭ ‬بعدهما؛‭ ‬ذلك‭ ‬الانتحار‭ (‬والجنون‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬لينش‭) ‬يصبح‭ ‬حتمياً‭ ‬لدى‭ ‬الإنسان‭ ‬الصادق‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬اكتشف‭ ‬حقيقة‭ ‬الوجود‭ ‬العبثية‭.‬

من‭ ‬المهم‭ ‬ملاحظة‭ ‬أنه‭ ‬كلما‭ ‬تعمّقت‭ ‬الشخصية‭ ‬في‭ ‬رحلة‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬الذات،‭ ‬أمعن‭ ‬لينش‭ ‬في‭ ‬تكسير‭ ‬المنطق‭ ‬العادي،‭ ‬وقوانين‭ ‬الزمان‭ ‬والمكان،‭ ‬رابطاً‭ ‬ربطاً‭ ‬طردياً‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬نجاح‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬الذات‭ ‬وبين‭ ‬رفض‭ ‬العالم‭ ‬الظاهري‭ ‬وقوانينه‭ ‬المنطقية‭ ‬والموضوعية؛‭ ‬وكأن‭ ‬ذلك‭ ‬هو‭ ‬الطريق‭ ‬الوحيد‭ ‬الذي‭ ‬يمكن‭ ‬عبره‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬المعرفة‭ ‬الحقة‭. ‬وكأن‭ ‬الحقيقة‭ ‬الكبرى‭ ‬في‭ ‬مملكة‭ ‬لينش‭ ‬هي‭: ‬دوام‭ ‬التحولات،‭ ‬وزيف‭ ‬الثبات،‭ ‬وأن‭ ‬الوهم‭ ‬والمغالطات‭ ‬والتشوهات‭ ‬إنما‭ ‬تنشأ‭ ‬من‭ ‬رفض‭ ‬الإنسان‭ ‬الاعتراف‭ ‬بذلك،‭ ‬ومحاولته‭ ‬إضفاء‭ ‬ما‭ ‬يظن‭ ‬أنه‭ ‬الوحدة‭ ‬والعقلانية‭ ‬والموضوعية‭ ‬على‭ ‬الوجود‭. ‬إن‭ ‬الطريق‭ ‬الوحيد‭ ‬الصحيح‭ ‬في‭ ‬مملكة‭ ‬لينش‭ ‬هو‭ ‬الطريق‭ ‬الرافض‭ ‬لوحدة‭ ‬الوجود،‭ ‬فالذات‭ ‬مكونة‭ ‬من‭ ‬شظايا‭ ‬لعدة‭ ‬ذوات،‭ ‬ولكنها‭ ‬ليست‭ ‬حاصل‭ ‬جمع‭ ‬هذه‭ ‬الذوات‭ ‬في‭ ‬ذات‭ ‬واحدة‭: ‬هل‭ ‬السيارة‭ ‬هي‭ ‬المحرك‭ ‬فقط،‭ ‬أم‭ ‬هي‭ ‬العجلات،‭ ‬أم‭ ‬هي‭ ‬صندوق‭ ‬التروس،‭ ‬أم‭ ‬هي‭ ‬مقود‭ ‬القيادة؟‭! ‬من‭ ‬المؤكد‭ ‬أن‭ ‬السيارة‭ ‬ليست‭ ‬شيئاً‭ ‬واحداً‭ ‬فقط‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬الأجزاء‭ ‬المختلفة‭. ‬لكن‭ ‬في‭ ‬مملكة‭ ‬لينش،‭ ‬لا‭ ‬يُشكل‭ ‬أيضاً‭ ‬مجموع‭ ‬هذه‭ ‬الأجزاء‭ ‬السيارة‭ ‬نفسها‭. ‬إن‭ ‬السيارة‭ ‬في‭ ‬مملكة‭ ‬لينش‭ ‬هي‭ ‬شيء‭ ‬مختلف‭ ‬عن‭ ‬مجموع‭ ‬أجزائها؛‭ ‬ربما‭ ‬كانت‭ ‬صوتاً‭ ‬فقط،‭ ‬وربما‭ ‬لم‭ ‬توجد‭ ‬يوماً‭ ‬بوصفها‭ ‬ذاتاً‭ ‬مستقلة‭.‬

ومن‭ ‬هنا‭ ‬نفهم‭ ‬السيولة‭ ‬الكبيرة‭ ‬والتحولات‭ ‬في‭ ‬الهويات‭ ‬وعوالم‭ ‬المرايا‭ ‬في‭ ‬مملكة‭ ‬لينش‭: ‬من‭ ‬الموسيقي‭ ‬إلى‭ ‬الميكانيكي‭ ‬إلى‭ ‬الموسيقي،‭ ‬ومن‭ ‬الزوجة‭ ‬إلى‭ ‬أليس‭ ‬في‭ ‬‮«‬الطريق‭ ‬المفقود‮»‬،‭ ‬ومن‭ ‬كاميليا‭ ‬إلى‭ ‬ريتا‭ ‬إلى‭ ‬كاميليا،‭ ‬ومن‭ ‬دايان‭ ‬إلى‭ ‬بيتي‭ ‬في‭ ‬‮«‬طريق‭ ‬مولهولاند‮»‬،‭ ‬ومن‭ ‬نيكي‭ ‬إلى‭ ‬سو‭ ‬إلى‭ ‬نيكو‭ ‬إلى‭ ‬الأرنبة‭ ‬في‭ ‬‮«‬مملكة‭ ‬الداخل‮»‬‭: ‬إنها‭ ‬تجليات‭ ‬لصور‭ ‬متنوعة،‭ ‬معكوسة‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬مرايا‭ ‬تعكس‭ ‬شظايا‭ ‬الذات‭ ‬التي‭ ‬تخوض‭ ‬رحلة‭ ‬محكوم‭ ‬عليها‭ ‬بالفشل‭ ‬للعثور‭ ‬على‭ ‬نفسها؛‭ ‬رحلة‭ ‬لن‭ ‬تزيد‭ ‬الظلمات‭ ‬إلا‭ ‬كثافة‭.‬

وهكذا‭ ‬ينتفي‭ ‬المنطق‭ ‬من‭ ‬مملكة‭ ‬لينش،‭ ‬التي‭ ‬تُأسس‭ ‬على‭ ‬الإيمان‭ ‬بأن‭ ‬الإنسان‭ ‬يخدع‭ ‬نفسه‭ ‬بمحاولة‭ ‬فرض‭ ‬المنطقية‭ ‬على‭ ‬العشوائية‭ ‬والعبثية،‭ ‬سعياً‭ ‬نحو‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬الإحساس‭ ‬بالنظام‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬الفوضى‭ ‬التي‭ ‬تغلف‭ ‬الوجود‭ ‬بأكمله،‭ ‬حتى‭ ‬إنه‭ ‬يكثف‭ ‬في‭ ‬أفلامه‭ ‬هذه‭ ‬العبثية‭ ‬وتلك‭ ‬الفوضى‭ ‬بأن‭ ‬يعمل‭ ‬على‭ ‬خلق‭ ‬مزيد‭ ‬من‭ ‬التشويه،‭ ‬ومزيد‭ ‬من‭ ‬التلاعب‭ ‬بالواقع،‭ ‬ومزيد‭ ‬من‭ ‬التناقضات‭ ‬المنطقية،‭ ‬والمغالطات‭ ‬الحوارية،‭ ‬في‭ ‬منطق‭ ‬كابوسي‭ ‬يربك‭ ‬المُشاهد‭ ‬إلى‭ ‬الدرجة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يمكنه‭ ‬معها‭ ‬الانزعاج‭ ‬من‭ ‬التحولات‭ ‬الحادة‭ ‬في‭ ‬الشخصيات،‭ ‬ولا‭ ‬من‭ ‬قطع‭ ‬التسلسل‭ ‬في‭ ‬الحبكة‭. ‬إن‭ ‬طريقة‭ ‬لينش‭ ‬في‭ ‬استدعاء‭ ‬منطق‭ ‬الكوابيس،‭ ‬وتشويه‭ ‬الواقع،‭ ‬هي‭ ‬طريقة‭ ‬الفنان‭ ‬السريالي‭ ‬الذي‭ ‬يقوم‭ ‬بتسييل‭ ‬الفواصل‭ ‬بين‭ ‬عالمي‭ ‬الحلم‭ ‬والواقع،‭ ‬للوصول‭ ‬إلى‭ ‬الحقائق‭ ‬الكبرى‭ ‬للعالم‭ ‬والوجود،‭ ‬تلك‭ ‬الحقائق‭ ‬التي‭ ‬ربما‭ ‬تختفي‭ ‬تحت‭ ‬السطح‭ ‬المخادع‭ ‬للواقع‭ ‬اليومي‭. ‬إن‭ ‬ما‭ ‬يفعله‭ ‬لينش‭ ‬يشبه‭ ‬ما‭ ‬يقوم‭ ‬به‭ ‬المصور‭ ‬السريالي‭ ‬من‭ ‬استخدام‭ ‬منظورات‭ ‬مشوهة،‭ ‬وتلاعب‭ ‬ببعدي‭ ‬الطول‭ ‬والعرض‭ (‬الزمان‭ ‬والمكان‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬لينش‭)‬،‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬البعد‭ ‬الثالث‭ (‬الذات‭ ‬الحقيقية‭ ‬عند‭ ‬لينش‭) ‬المختفي‭ ‬عن‭ ‬نظر‭ ‬الإنسان‭ ‬المشغول‭ ‬بتفاهات‭ ‬الصراع‭ ‬اليومي‭. ‬إن‭ ‬مراياه‭ ‬تعكس‭ ‬صورة‭ ‬العالم،‭ ‬ولكنها‭ ‬ليست‭ ‬مرايا‭ ‬مستوية،‭ ‬إنها‭ ‬مرايا‭ ‬محدبة‭ ‬ومقعرة؛‭ ‬لا‭ ‬تشوه‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬التشويه،‭ ‬بل‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الكشف‭: ‬كشف‭ ‬جوهر‭ ‬الإنسان،‭ ‬وحقيقة‭ ‬الوجود‭ ‬