ديفيد لينش ... البحث عن الذات

لا يلجأ المخرج الأمريكي الكبير ديفيد لينش للمنطق العادي في أفلامه، بل يستبدل به منطق الأحلام؛ وبتحديد أكثر: منطق الكوابيس. لكن ذلك لا يعني أن شخصيات لينش تعيش داخل كابوس ستفيق منه عاجلاً أو آجلاً؛ فالحقيقة أنها لن تفيق أبداً؛ والمُشاهد الذي يوافق على دخول مملكة لينش، يكون منذ البداية قد وافق على أن يحكم العالم المنطق الكابوسي.
أفلام لينش تعد المُشاهد في بدايتها بفيلم من نوعية «من الفاعل» (?whodunit)، لكنه في الحقيقة وعد كاذب، فكشف هوية القاتل، الذي هو هدف أفلام «من الفاعل؟»، لا يهم لينش أساساً، ولا هو يسعى وراءه. لم يسع مثلاً وراء القاتل الحقيقي في «الطريق المفقود»، ولا لكشف غموض جريمة القتل التي تفتتح فيلم «طريق مولهولاند»، ولا سار وراء جريمة القتل الغامضة التي يُقتل فيها أبطال الفيلم البولندي في فيلمه الروائي الأخير «مملكة الداخل». إن لينش يستخدم جريمة القتل بنفس باستخدام هيتشكوك، لما كان يُطلق عليه «الماكجوفين» (أو سمكة الرنجة الحمراء): أي كطعم لاصطياد المُشاهد؛ كعامل إغراء لإدخاله مملكته الأسلوبية الخاصة؛ مملكة لينش الكابوسية، وبدخول المُشاهد تلك المملكة، يسقط في سلسلة من الاستدراجات التي لا يستطيع الفكاك منها، والتي لا يصلح معها المنطق في فهم الأحداث؛ حيث يصبح اللامنطق هو المنطق في صرامته، ولا يملك المرء هنا إلا أن يستدعي رحلة (ك) في رواية القصر لكافكا، وهو يحاول جاهداً الوصول إلى القصر دون جدوى.
يؤسس لينش معمار أفلامه على المنطق الكابوسي، ويستخدم الألعاب السيريالية لتحقيق ذلك: تشويه المنظور (الدرامي والبصري)، لعبة المرايا المتقابلة (التي تعكس الصورة إلى ما لا نهاية)، لعبة العروس الروسية (عروس صغيرة داخل عروس أكبر، وهكذا)، الغرائبية (التي هي أكبر من مجرد شذوذ بعض الشخصيات والسلوكيات؛ فهي منطق كامل صلد، يستطيع الصمود والدفاع عن نفسه في وجه المألوف)، الزمن الدائري (اللاخطي)، وتسييل الحواجز بين الذات والعالم.
إن مملكة لينش ليست مملكة من سهول وتلال، وصحاري وجبال، بل هي أساساً وحصرياً مملكة «الداخل»؛ مملكة النفس البشرية. وهي مملكة أسلوبية مستبدة، لا جمهورية شعبوية ديمقراطية. قد نستطيع رصد أشهر العناصر الأسلوبية درامياً وبصرياً لتلك المملكة في: سيولة الوجود بين الذات والعالم، منطق الحلم الكابوسي، المغالطات الحوارية التي تنفي قيمة الكلمات، المعاناة التي يسببها الشبق واستحواذ العامل الجنسي (والرغبات تبتلع الوجود ابتلاعاً)، والسادية المدفونة في أعماق الإنسان، الهوس بالتلصص، خداع النفس بالرومانسية والبراءة، النسيان، الأحلام كمصدر للمعرفة، ارتفاع سقف العنف، لاعقلانية الإنسان، الغموض، وتفضيل مناطق الظل في النفس البشرية، الإضاءات المعتمة للصورة، وأجواء الفيلم نوار، شكل الرحلة في الفيلم (رحلة من عماوة القلب إلى كابوسية التنوير)، التحولات الفجائية للشخصيات في الزمان والمكان والهوية، وتغير الذات من شكل إلى شكل، رهافة وجمالية شريط الصوت، التوائم المتناقضة، الاحتفاء بالشكل، الحنين إلى جماليات عقد الخمسينيات، والاحتفاء بالبلاستيك وثقافة البلاستيك، وبأدوات وإكسسوارات البيوت، الجنوح لمنطق الفلسفات الشرقية (وخصوصاً البوذية)، العلاقة الجدلية مع هوليوود (كراهية واحتياج في الوقت نفسه. لينش هو حامل لواء التجريب والجنون والإسراف في هوليوود)، المشاهد التي لا تكتمل، وقطع التسلسل في السرد، الرموز الفلسفية التي لا تتكشف إلا عبر المشاهدات المتكررة لأعماله؛ خصوصاً ثلاثيته الأسلوبية الأروع والأكثر تعقيداً: «الطريق المفقود»، و«طريق مولهولاند»، و«امبراطورية الداخل».
نفي قوانين الزمان والمكان
في تلك الثلاثية ينفي لينش القوانين المعتادة للزمان والمكان، وينفي مفهوم وحدة الهوية، لمصلحة السيولة، والتغير الدائم، وعدم الاستقرار على حال، لكل من: الزمان والمكان والهوية. في «الطريق المفقود»، مثلاً: تتحول الشخصية الواحدة من: عازف ساكسفون اسمه فريد، إلى ميكانيكي سيارات يصغره كثيراً اسمه بيل. وتتحول زوجة الموسيقي (القتيلة)، التي اسمها رينيه، إلى حبيبة الميكانيكي التي اسمها أليس. وبينما تلعب الممثلة نفسها دوري البطولة النسائية، يلعب ممثلان مختلفان دوري البطولة الرجالية، وتستمر لعبة التحولات في الهويات على طول الفيلم، الذي تربطه شخصية غرائبية ليس لها اسم، ولكننا نعرف كنيتها من تترات الفيلم: «الرجل الغامض».
أيضاً، في فيلم «طريق مولهولاند»: يبدأ الفيلم بريتا التي تجلس في المقعد الخلفي لسيارة ليموزين تسير عبر طريق مولهولاند في لوس أنجلوس، ثم نرى السائق يوجّه مسدساً إلى رأسها، وتصطدم سيارة مسرعة بسيارتهما على النحو الذي تشتعل فيه السيارة، وتُقتل ريتا - على ما نفهم، لأن موتها الفعلي لا يظهر أبداً على الشاشة - ثم نراها في اللقطة التالية تخرج من السيارة وكأنها تتعلم المشي للمرة الأولى، ونعرف أنها قد فقدت ذاكرتها، ثم تخوض في ما بعد رحلة تتعرف فيها على بيتي، التي تساعدها في البحث عن هويتها المنسية، وتتسمى مؤقتاً بـ«ريتا»، بعد أن التقطت الاسم من بوستر فيلم لريتا هيوارث. وتتعقد رحلة البحث عن الهوية، على نحو تختلط فيه الهويات؛ فتسيل الحدود الفاصلة بين هوية ريتا مع هوية ممثلة سينمائية اسمها كاميليا، بينما تتداخل هوية بيتي مع هوية شخصية أخرى تنتحر لاحقاً في الفيلم.
أما في آخر أفلام الثلاثية «امبراطورية الداخل»، فيبدو لنا الفيلم كله وكأنه لعبة مرايا عظيمة: هناك الممثلة نيكي المُرشحة للقيام بدور شخصية اسمها سو في فيلم اسمه «نحو السماء في الغد الحزين». وقبل أن يتأكد حصولها على الدور، تزورها جارتها العرافة البولندية المسنة، وتتنبأ لها بأنها ستحصل فعلاً على الدور، وتحكي لها حكايتين مختلفتين (سنرى آثارهما وتوابعهما على طول الفيلم نفسه)، وبسبب ارتباك الجارة العجوز بشأن تاريخ اليوم، تنتقل الأحداث إلى المستقبل القريب، فنرى نيكي وهي تمثل دور سو في الفيلم الذي يتم تصويره، وتختلط هويتا نيكي وسو أثناء ذلك، وتختلط الأزمنة أيضاً ما بين الماضي والحاضر والمستقبل، على نحو ترى فيه نيكي نفسها وهي تقوم بأفعال لم تكن تعلم أنها هي من قامت بها، بل تختلط الهويتان الاثنتان للممثلة بهوية ثالثة هي هوية عاهرة تسمى نيكو لديها قرد أليف، ثم تختلط الهويات الثلاث السابقة بهوية أحد الأرانب في عائلة الأرانب في المشهد المسرحي الغرائبي في الفيلم. ولا يقتصر الأمر على شخصية الممثلة التي تتعدد هوياتها خلال الفيلم الذي نشاهده، ولا خلال الفيلم الذي يتم تصويره داخل الفيلم، ولا خلال المسرحية التي هي داخل الفيلم الذي هو داخل الفيلم، فـ«امبراطورية الداخل» كله، وبكل شخصياته، عبارة عن متاهة كبيرة تختلط فيها هويات جميع الشخصيات، كما تتعدد انعكاسات الأحداث أيضاً، في لعبة مرايا جديرة بفنان عظيم متمكن. لكن مع التدقيق والمشاهدات المتكررة، يمكن التقاط ثلاثة خطوط رئيسة مستمرة معنا على طول الفيلم، يتم عكسها باستمرار خلال لعبة المرايا التي يلعبها لينش مع المُشاهد. هذه الخطوط الثلاثة هي:
(1) - أطول مسرحية إذاعية في التاريخ «آكسون إن»،
(2) - العاهرة الصغيرة مجهولة الاسم التي تُسمى في تترات الفيلم «الفتاة الضائعة»؛ والتي تبكي باستمرار أثناء مشاهدتها لجهاز تليفزيون يُذيع مسرحية سريالية لعائلة الأرانب التي تتحدث لغة غير مفهومة، (3)- تصوير نيكي للفيلم السينمائي الجديد؛ الذي هو صورة مكررة من الفيلم البولندي المشؤوم «نحو السماء في الغد الحزين»؛ الذي قُتل أبطاله أثناء التمثيل بسبب لعنة غامضة مرتبطة بحبكة الفيلم نفسه.
عوالم كابوسية
هذا النوع من العوالم الكابوسية، هذه المملكة التي ينتفي فيها الإدراك المعتاد لمنطقية الظواهر، ولخطية الزمن وتراتبيته، ولثبات المكان وتماسكه، ووحدانية الذات في الشخصية عينها، تضع الثقافة العالمية الراهنة في مأزق لا تستطيع معه إلا أن تحكم على أفلام لينش حكماً سلبياً؛ حكماً بأنها لا تستحق المشاهدة، أو حتى غير قابلة للمشاهدة. والنقاد الغربيون الذين حاولوا إيجاد مفاتيح لفهم مملكة لينش اقتصرت محاولات معظمهم على التفسير الفانتازي أو الخيالي. وبتعبير تزيفتان تودوروف: الأحداث التي لا يمكن تفسيرها من خلال معرفتنا بالعالم المعتاد لنا، نميل إلى تفسيرها على أنها خيالات أو أوهام. أي أنها صور ذهنية غير حقيقية لا تحدث في العالم الإمبريقي وغير قابلة للاختبار؛ وكأنها صور تنبثق من اللاوعي.
لكن إذا سلمنا بهذه القراءة الأقرب إلى التفسير السيكولوجي (والسيكولوجيا سلاح ذو حدين، يتحمَّل الشيء وعكسه، كما يخبرنا المحامي فيتوكوفتش في مرافعته في نهاية «الإخوة كارامازوف» لدوستويفسكي)، نقول إذا سلمنا بالتفسير السيكولوجي لشخوص وعوالم لينش؛ أي أنها عوالم ذهنية لا تجري إلا في لاوعي شخصياته السيكوباتية، فكيف لنا أن نفسر، على سبيل المثال، أن الذات الواحدة تنقسم إلى ذاتين، ثم تعرف إحدى الذاتين معلومات ووقائع يستحيل عليها أن تعرفها لو اقتصر الأمر على أنها جزء فقط من اللاوعي؟! كيف لنا أن نفسر، مثلاً، أن ريتا في فيلم «طريق مولهولاند» تشاهد بأم عينيها عشيقتها دايان منتحرة بعد مقتل ريتا نفسها بعدة أسابيع؟! ولو كان صحيحاً أن الميكانيكي الشاب هو وهم متخيل في العقل اللاواعي للموسيقي المسجون بتهمة قتل زوجته في فيلم «الطريق المفقود»، فكيف نفسر أن جميع الشخوص الأخرى تراه وتتفاعل معه؟! لا، إن ما يحدث في أفلام لينش يحدث درامياً ضمن منطق «الحياة الفعلية»، وليس ضمن منطق التخيلات والأوهام، ولا كامتدادات فانتازية داخل عقل الشخصية. إن عالم لينش لا يمكن تفسيره بحق وفقاً للسيكولوجيا، بل إن النظام الفلسفي الغربي بأكمله، والقائم -منذ أفلاطون- على ثنائية (الذات/الخارج)، لا يبدو قادراً على تقديم قراءة مقنعة لما يقوم به لينش في أفلامه.
تأملات صوفية
متأثراً ربما بتأملاته الصوفية البوذية؛ لا يعتبر لينش العالم الظاهري المألوف لنا إلا مغالطة ووهماً ينبغي نزع القناع الزائف عنه حتى تتكشف لنا الحقيقة؛ التي هي موجودة دائماً، ولكنها تغيب عنا، لانغماسنا في تفاهات الوجود اليومي، تماماً كما يغيب السكر الذائب في الماء، فلا نراه، بالرغم من وجوده هناك. وإذا كان العالم الظاهري هو خدعة تمنعنا من رؤية الحقيقة، فينبغي إذن التخلص منه؛ أي التخلص من قوانين الزمان والمكان، ومن ثقل الجسد وحضوره الفيزيقي.
ولذلك يخوض الموسيقي في «الطريق المفقود» رحلة للبحث عن ذاته الحقة، كما تخوض ريتا في «طريق مولهولاند» رحلة لاكتشاف نفسها الضائعة، وهو أيضاً مسعى الممثلة نيكي في «مملكة الداخل». ولا تخوض الشخوص في مملكة لينش رحلة البحث عن الذات إلا بعد أن تعصف بهم تجربة قاسية عنيفة. في «الطريق المفقود»؛ شكوك الموسيقي في سلوك زوجته هو بداية الرحلة للبحث عن الذات الحقة، والغيرة التي تشتعل في قلب الميكانيكي الشاب عندما تخبره عشيقة رجل المافيا بما يجبرها على القيام به من أفعال شبقية تحت تهديد السلاح، هو أيضاً بداية رحلته لاكتشاف الذات. وفي «طريق مولهولاند»؛ تصويب المسدس إلى ريتا في سيارتها ثم قتلها، هو أيضاً بداية رحلة بحثها عن نفسها. وفي «مملكة الداخل» تبدأ رحلة البحث عن الذات بالنسبة لنيكي في أعقاب خيانتها لزوجها؛ وهي المرأة المحافظة المتحفظة.
في هذا السياق، يمكننا أن نفهم ما جرى في لحظة معينة في بروفة التمثيل التي تجريها نيكي مع زميلها الممثل في «مملكة الداخل». فقبيل إقامة نيكي علاقة مع زميلها الممثل، تسمع دربكة غريبة في كواليس الديكور، وتكتشف في ما بعد أنها هي ذاتها التي سببتها وهي تتفرج على نفسها من وراء الكواليس بعد أسابيع عدة من البروفة نفسها؛ وكأن الإنسان هنا يفتح عينيه على الحقيــــقــة المرة: إنــــه هو هو السبب. يماثل ذلك في فـــــيلم «الطريق المفقود» الصرخة الأنثوية التي سمعها الموسيقي (والتي أطلقها هو نفسه) وهو يحكي لزوجته عن الكابوس الذي رآه في حجرة نومهما؛ وكأن النفس هنا أيضاً تصبح هي نفسها أداة عذابها.
لا تبدأ رحلة البحث عن الذات إلا عبر التخلي أولاً عن المنـــطق الجــــاري المعتاد. ولذلك نجد النسيان حاضراً دائماً في أفلام لينش. في «الطريق المفقود» لا يتذكر الموسيقي الذي قتل زوجته أنه قتلها. وفي «طريق مولهولاند» تفقد ريتا ذاكرتها فلا تتذكر شيئاً عن حياتها الماضية. إن ما يبدو كأنه فقد للهوية، وضياع لذاكرة ريتا، هو، على العكس، البداية للتعرف على الذات الحقة. الفقد هنا هو بداية الامتلاء. إن ريتا تتخلص من قناع زائف للذات، سعياً للعثور على ذاتها الحقيقية. ويلعب لينش هنا بعظمة على المفارقة: إن ريتا وصديقتها بيتي تبحثان عن هوية ريتا القديمة (الحقيقية كما تظنان، وكما يظن المُشاهد)، عبر البحث في التاريخ الشخصي السابق لريتا: أقربائها، معارفها، الأماكن التي اعتادت التردد عليها... إلخ، في حين أنه من المستحيل العثور على الذات (الحقة) لريتا بتلك الطريقة، لأن تلك الطريقة لن تقود إلا إلى هوية ميتة، تم التخلص منها بالفعل منذ البداية من أجل القيام برحلة اكتشاف الذات، أي أنها لن تقود إلا إلى كاميليا التي قُتلت في بداية الفيلم على طريق مولهولاند الذي هو طريق يصل بين تلال مدينة لوس أنجلوس (مدينة الملائكة) واستـــديوهات هوليوود (وكأنه طريق الآمال بالسعادة والتحقق). إذن المســعى الذي تقوم به ريتا وبيتي هو مسعى مستحيل، ولن يقود إلا إلى طريق مسدود (كما يقود طريق مولهولاند نفسه إلى أبواب هـــولـــيوود المغــلقــة في وجه الآملين)؛ إنه طريق مستحيل، كما كان الطريق إلى القصر في رواية كافكا مستحيلاً على «ك».
إنسان زرادشت
ولكن من هو الإنسان الذي وصل إلى حالة من معرفة الذات الحقة، ولم يعد يعاني الانقسامات الثنائية في الشخصية؟! إن هناك دلائل كثيرة تشير إلى أن صورة ذلك الإنسان قد تم التعبير عنها في شخصيات «فوق طبيعية»؛ إنسان حقق تعاليه، ونجح في رحلته، ووصل إلى هدف زرادشت. من أبرز تلك الشخصيات في أفلامه شخصية «الرجل الغامض» في «الطريق المفقود»، وأيضاً، وبتنويعة مختلفة قليلاً، شخصية الرجل المتشرد في «طريق مولهولاند»، فالرجل الغامض مثلاً، هو صلة الوصل ما بين الموسيقي والميكانيكي الشاب، وما يقوله لأحدهما يقوله للآخر بالنص نفسه: «ليس من عادتي أن أذهب إلى حيث لم يتم استدعائي»، و«لقد تقابلنا من قبل، أليس كذلك؟!... في منزلك نفسه!». والرجل الغامض هو الوحيد في الفيلم الذي لا يعاني الانقسامات الثنائية في الشخصية، وهو نفسه الذي يراقب بدم بارد تجمع كل الشخصيات المنقسمة على نفسها، والتي تجتمع قرب نهاية الفيلم في فندق الطريق المفقود، بل إنه يساعد الموسيقي في قتل غريمه رجل المافيا خلال المواجهة بينهما في آخر الفيلم؛ وكأن الذات هنا تنتقم من الشر بعد تعذر خلاصها، أو كأن لينش يقول إن القضاء على الانقسامات الثنائية داخل النفس البشرية والعثور على هويتها الحقة يتطلب فعلاً عنيفاً؛ فعلاً عنيفاً لابد له من مساعدة خارجية من ذات أخرى عرفت الطريق وعثرت على هويتها.
وعلى ذلك تكون مملكة لينش أقرب إلى رؤية شوبنهاور منها إلى رؤية نيتشه، فقوى الشر التي تحتويها النفس البشرية لا يعتبرها لينش انعكاساً لأكثر الجوانب الإبداعية والبطولية في النفس الإنسانية، بقدر ما هي تعبير عن الحلقة الدائرية المفرغة للألم والمعاناة التي تدور فيها تلك النفس؛ والتي قد تنجح في إخفاء الشر الذي تحمله بداخلها، دون أن تنجح في التخلص من هذا الشر؛ لأن صفة «الرشد» تنتفي من الإرادة الإنسانية، على عكس رؤية كانط وهيجل لرشدية وعقلانية الإرادة البشرية. هناك مقولة مهمة تعبر عن قناعة لينش بشأن الإنسان والعالم، ترد في فيلم «وحش في الأعماق»، تقول: «العالم ما هو إلا وحش في أعماقه، حتى وإن بدا مجنوناً على السطح». هذه الثنائية سنجدها مبثوثة في كل أفلامه من أولها إلى آخرها: التوحش في الباطن، والجنون في الظاهر؛ ذلك الجنون الذي هو ربما البديل عن الانتحار الذي تكلم عنه دوستويفسكي وسماه «الانتحار المنطقي» (وعبر عنه أعظم تعبير في شخصية كيريلوف في روايته «الشياطين»)، ثم نيتشه من بعده، ثم ألبير كامو من بعدهما؛ ذلك الانتحار (والجنون في حالة لينش) يصبح حتمياً لدى الإنسان الصادق إذا ما اكتشف حقيقة الوجود العبثية.
من المهم ملاحظة أنه كلما تعمّقت الشخصية في رحلة البحث عن الذات، أمعن لينش في تكسير المنطق العادي، وقوانين الزمان والمكان، رابطاً ربطاً طردياً ما بين نجاح البحث عن الذات وبين رفض العالم الظاهري وقوانينه المنطقية والموضوعية؛ وكأن ذلك هو الطريق الوحيد الذي يمكن عبره الوصول إلى المعرفة الحقة. وكأن الحقيقة الكبرى في مملكة لينش هي: دوام التحولات، وزيف الثبات، وأن الوهم والمغالطات والتشوهات إنما تنشأ من رفض الإنسان الاعتراف بذلك، ومحاولته إضفاء ما يظن أنه الوحدة والعقلانية والموضوعية على الوجود. إن الطريق الوحيد الصحيح في مملكة لينش هو الطريق الرافض لوحدة الوجود، فالذات مكونة من شظايا لعدة ذوات، ولكنها ليست حاصل جمع هذه الذوات في ذات واحدة: هل السيارة هي المحرك فقط، أم هي العجلات، أم هي صندوق التروس، أم هي مقود القيادة؟! من المؤكد أن السيارة ليست شيئاً واحداً فقط من تلك الأجزاء المختلفة. لكن في مملكة لينش، لا يُشكل أيضاً مجموع هذه الأجزاء السيارة نفسها. إن السيارة في مملكة لينش هي شيء مختلف عن مجموع أجزائها؛ ربما كانت صوتاً فقط، وربما لم توجد يوماً بوصفها ذاتاً مستقلة.
ومن هنا نفهم السيولة الكبيرة والتحولات في الهويات وعوالم المرايا في مملكة لينش: من الموسيقي إلى الميكانيكي إلى الموسيقي، ومن الزوجة إلى أليس في «الطريق المفقود»، ومن كاميليا إلى ريتا إلى كاميليا، ومن دايان إلى بيتي في «طريق مولهولاند»، ومن نيكي إلى سو إلى نيكو إلى الأرنبة في «مملكة الداخل»: إنها تجليات لصور متنوعة، معكوسة من خلال مرايا تعكس شظايا الذات التي تخوض رحلة محكوم عليها بالفشل للعثور على نفسها؛ رحلة لن تزيد الظلمات إلا كثافة.
وهكذا ينتفي المنطق من مملكة لينش، التي تُأسس على الإيمان بأن الإنسان يخدع نفسه بمحاولة فرض المنطقية على العشوائية والعبثية، سعياً نحو نوع من الإحساس بالنظام في ظل الفوضى التي تغلف الوجود بأكمله، حتى إنه يكثف في أفلامه هذه العبثية وتلك الفوضى بأن يعمل على خلق مزيد من التشويه، ومزيد من التلاعب بالواقع، ومزيد من التناقضات المنطقية، والمغالطات الحوارية، في منطق كابوسي يربك المُشاهد إلى الدرجة التي لا يمكنه معها الانزعاج من التحولات الحادة في الشخصيات، ولا من قطع التسلسل في الحبكة. إن طريقة لينش في استدعاء منطق الكوابيس، وتشويه الواقع، هي طريقة الفنان السريالي الذي يقوم بتسييل الفواصل بين عالمي الحلم والواقع، للوصول إلى الحقائق الكبرى للعالم والوجود، تلك الحقائق التي ربما تختفي تحت السطح المخادع للواقع اليومي. إن ما يفعله لينش يشبه ما يقوم به المصور السريالي من استخدام منظورات مشوهة، وتلاعب ببعدي الطول والعرض (الزمان والمكان في حالة لينش)، من أجل التعبير عن البعد الثالث (الذات الحقيقية عند لينش) المختفي عن نظر الإنسان المشغول بتفاهات الصراع اليومي. إن مراياه تعكس صورة العالم، ولكنها ليست مرايا مستوية، إنها مرايا محدبة ومقعرة؛ لا تشوه من أجل التشويه، بل من أجل الكشف: كشف جوهر الإنسان، وحقيقة الوجود ■