الطلاسم الزخرفية في فناءات قصر الحمراء

في عام 1212 وقعت معركة العُقاب، التي شكلت نقطة تحول في تاريخ شبه الجزيرة الآيبرية (إسبانيا والبرتغال حالياً)، وفي هذه المعركة تحالف ملوك الدويلات المسيحية شمال الجزيرة ضد دولة الموحدين المسلمة التي انحسرت سيطرتها على الجزء الجنــــوبي للـــــجزيرة الآيبرية وشمال إفريقيا، ومُنِي جيش الموحدين بهزيمة ساحقة، وسقطت بعدها المدن الأندلسية مثل قرطبة وإشبيلية في يد ملك قشتالة.
يقول الشاعر ابن العسال، وهو متصوف وزاهد هرب من طليطلة بعد سقوطها واستقر في غرناطة ومات فيها:
حثوا رواحلكـم يا أهل أندلس
فمـا المقـام بها إلا من الغلـط
الثوب ينسلّ من أطرافـه وأرى
ثوب الجزيرة منسولاً من الوسـط
من جاور الشر لا يأمن بوائقـه
كيف الحياة مع الحيَّات في سفـط؟
أنشئتْ إمارة غرناطة بعد معركة العقاب وكان أميرها أبا عبدالله محمد الأول من بني نصر بن الأحمر، ويرجع نسبه إلى قبيلة الخزرج القحطانية.
الجبال التي تحيط بمدينة غرناطة ساعدت على تحصينها من غزوات الملوك المسيحيين، وقد كانت هذه الإمارة ملجأ للمسلمين الفارين من مدنهم بعد سقوطها، وكانت أيضاً منبراً للثقافة وملتقى للتجارة.
بلغ عدد نفوس غرناطة في أوج ازدهارها ما يقارب نصف المليون نسمة، نتيجة هجرة المسلمين إليها، واستمرت هذه الإمارة مدة 250 عاماً، وكان آخر ملوكها هو أبوعبدالله محمد الذي سلمها سلمياً (ولعل ذلك كان سبباً في عدم تخريب قصور الحمراء) إلى الملك فرناندو والملكة إيزابيلا عام 1492، وبذلك سقطت آخر القلاع الإسلامية في الأندلس.
استولى الملوك الكاثوليك على قصر الحمراء الذي كان جُلّ غايتهم، حتى إن فرناندو وإيزابيلا استقبلا كريستوفر كولومبوس بعد عودته من رحلة اكتشاف أمريكا في قصر الحمراء. وعندما توفيت الملكة إيزابيلا أوصت بأن تدفن في االحمراءب، بلا شاهدة تحمل علامة صليب.
لا غالب إلا الله
عندما دخل محمد الأحمر مدينة غرناطة Granada (ومعنى الاسم بالإسبانية الرمانة)، رحّب به أهلها وهتفوا: امرحباً أيها الغالبب، وكان جوابه: الا غالب اليوم إلا اللهب، وهذا هو شعار بني الأحمر الذي يتكرر على جدران قصور الحمراء.
بدأ الأمير أبوعبدالله محمد بتشييد قصره على تل يسمى اتل سبيكةب، يشرف على مدينة غرناطة التي كانت محاطة بالجنان والبساتين.
واستمر العمل في بناء القصر حتى سقوط الإمارة، ولم يتم تشييده وفقاً لتخطيط مسبق، بل جاء نتيجة إضافات متتالية، فكل أمير يبني قصره الخاص أو يضيف فناءً إلى فناءات الحمراء المتعددة، مثل فناء السباع والريحان، وفناء السفراء، وفناء الملوك، وغيرها، أو يشيد برجاً أو أكثر من أبراج الحمراء التي يبلغ عددها 37 برجاً، لايزال أغلبها قائماً.
تنبثق تصاميم قصر الحمراء المعمارية من منابع إسلامية أصيلة، ففناءاته وصحونه الداخلية ذات الزخرفة والتصميم البديع، تنفتح على بعضها بعضاً، وهي تناقض تماماً بساطة أبوابه المتعددة وأسواره.
القصر وحجراته المطلة على الفناءات الداخلية وأبراجه المنعزلة وحدائقه الخلابة وبرك المياه والقنوات، كل هذه العناصر تعبّر عن توق المسلم للفردوس ومحاكاة وصف الجنة كما جاءت في القرآن الكريم والأحاديث الشريفة.
النقوش والزخرفة الخطية
من أهم مزايا فن العمارة والزخرفة الغرناطية أنه فن دنيوي، فقد كانت القصور والمساجد تزخر بالزخارف التي قـــد تُلهي المسلم عن صلاته، وتجعل عينه تسبح في بحر من الزخارف البديعة دون كلل أو ملل، كأن من سكن تلك القصور أراد عيش حاضره بمنتهى الترف، لأنه كان يشك في مستقبله.
نجح مهندسو وفنانو قصر الحمراء في إحداث تأثير جمالي لا نظير له، من خلال المزج المتناغم بين فن تنظيم الحدائق وبرك المياه والقنوات الجارية وفن العمارة والزخرفة والفنون الشعرية.
وانصبَّ اهتمام الحرفيين الغرناطيين، على تغطية جميع المساحات مهما كانت صغيرة بالزخارف الخطية والنباتية والمقرنصات والزليج.
وعلى الرغم من أن تجسيد الصور يُعد من الأمور المحرمة في الفن الإسلامي، فإنه من ناحية أخرى أدى إلى ازدهار الزخارف الخطية والنباتية. فهناك الخطوط العربية القديمة في كتابات مائلة بخط النسخ الأندلسي، والخط الكوفي الأندلسي. ومـا زاد قصر الحمراء روعة وبهاء، تلك الأشعار التي حُفرت على جنباته، كأنها تحاكي تعليق المعلقات العشر على أستار الكعبة قبل الإسلام، وهذه ميزة تفردت بها العمارة الأندلسية، وربما لإحساس ملوك بني الأحمر بالخطر الذي كان يهدّد إمارتهم، فقد دفعهم ذلك إلى تكثيف الطراز العربي والإسلامي في قصورهم، لكي تحتفظ هذه القصور بعدهم بملامح عروبة الأندلس. فامتزجت مجـازات الشـعر بـأدوات البناء وخاماته من مرمر وخشب وجص وزجاج.
وتناغمت تلك القصائد المنقوشة على الجدران إلى حد ما مع فلسفة الفن الشكلي التي شقت طريقها استجابة لمضامين مستحدثة لفهم الجمـال، حيث يلبي فيها الشعراء ميلاً نحو نزعة زخرفية، وقد تجسدت هذه النزعة في فن الخط والتصوير والفسيفساء وصناعة الزجاج الملون وهندسة البناء، ثم سرت إلى صناعتي الشعر والنظم.
لقـد وجـد الشـعراء الغرناطـيون في هذه القصور ما يثير قرائحهم، ويفجّر كوامن مشاعرهم، فجاء وصفهم للقصور وما يحيطها دقيقاً.
إن فناءات قصر الحمراء كانت تحتوي على 53 قصيدة عربية، انمحت منها 13 قصيدة بفعل التقادم الزمني وعمليات الصيانة غير الدقيقة.
ومن أبرز الشعراء الذين نقشت قصائدهم في فناءات قصر الحمراء، الوزير والشاعر لسان الدين بن الخطيب، وابن الجياب الغرناطي الذي نقشت قصائده في القاعة الرئيسة لبرج الأسيرة، أحد أبراج قصر الحمراء، ومطلع القصيدة:
برجٌ عظيم الشأن في الأبراج
قد باهت الحمراء منه بتاج
فيها بدائع صُنعةٍ قد نوظرت
نسباً من الأفراد والأزواج
من آل سعد من بني نصر ومَن
نصروا وآووا صاحب المعراج
كما نُقشت قصيدة الوزير الشاعر ابن زمرك على محيط النافورة المائية في بهو السباع، وقد مثلت هذه النافورة إنجازاً علمياً كبيراً لعلماء الأندلس، لاسيما في ما يتعلق بسرّ الساعة المائية، حيث تتدفق المياه من أفواه أسودها ساعة بعد ساعة وأسداً بعد أسد.
القصيدة تضم 12 بيتاً، وفيها مدح السلطان محمد الخامس ووصف النافورة والقصر، وأمام كل أسد بيت منها، ومطلعها:
تبارك من أعطى الإمام محمداً
مغانيَ زانت بالجمال المغانيا
وإلا فهذا الروض فيه بدايع
أبى الله أن يلقى لها الحسن ثانياً
الطلاسم الزخرفية وما يحيطها
الزائر المنبهر ببهاء وفخامة قصور الحمراء سيواجه صعوبة فك طلاسم الزخرفة الخطية، وربما يصل إلى نتيجة أن هناك استلهاماً زخرفياً للحرف وبعض المفردات، دون أن تكون له دلالة واضحة. فهناك نقش لآيات من القرآن الكريم أو عبارات أو كلمات مثل ابركة، يُمنب لكن من دون تنقيط الحروف حسب ما كان متبعاً قبل تطور أسلوب كتابة الحروف العربية إلى الحروف المنقوطة، وهو ما يشكل الصعوبة الأولى في فهمها.
أما العقبة الثانية، فهي أن تلك الكلمات تم نسخها بأسلوب المرآة المعكوسة، بمعنى أن الكلمة نفسها كتبت تارة من اليمين، وأخرى من اليسار، لإيحاءات فلسفيـة مستوحاة من فكرة انعكاس ظلال الكلمـة على أسطـح المرايا الملساء، مثلما تنعكس ظلال الأقواس والمقرنصات في برك المياه المتعددة في الحمراء.
كما أن البناء الهندسي للحروف وتداخله مع ما يحطيه من زخرفة نباتية دقيقة، يحولان أيضاً دون اكتشاف معنى تلك الزخارف بسهولة.
إن الخطاطين الذين أبدعوا تلك الزخارف الحروفية قد منحوا الحروف العربية امتدادات فنية لم يسبقهم إليها أحد، عبر تحوير الحروف إلى أشكال تستلهم صور النباتات أو تكون امتداداً لها، على نحو أبعد الحروف كثيراً عن رسمها التقليدي. ونُقِشَ الحرف العربي بشكل تجريدي ضمن صورة جمالية كاملة مع ما حوله من نقوش ومزججات وتذهيب.
قصور الحمـراء الأسطورية هي متحف لا نظير له للعمارة والفنون الإسلامية في الأندلس، وهي الشجرة الذي خرجت منها أغصان الفن الإيطالي الكلاسيكي، وقد ألهمت روعة هذه القصور كثيراً من الأدباء والشعراء، منهم الفرنسـي فرانسـوا شاتوبريان (1768/1848) والمستشرق الأمريكي واشنطن أرفنج (1783/1859) الذي ألّف كتاباً بعنوان اقصص الحمراءب، بعد أن سكن أحد أبراج القصر، والشاعر الإسباني غارثيا لوركا (1898/ 1963)، والروائي الإسباني أنطونيو جالا الذي استوحى روايته االمخطوط القرمزيب من حياة أبي عبدالله الصغير، آخر ملوك غرناطة .