الأهمية الاستثنائية للمعرفة والابتكارات في عملية التنمية المستدامة
أصبح العلم والمعرفة يشكلان العنصر الرئيس بين عناصر الإنتاج في المجتمع في العصر الراهن، الذي صار يُعرف باسم العصر ما بعد الصناعي، حيث صار إنتاج المعرفة واستثمارها واستهلاكها (بمعنى استخدامها) وتداولها (أو كما يقال تقاسمها أو تشاركها) المصدر الرئيس للنمو.
وغدت المعرفة عبارة عن نوع جديد من رأس المال، يقوم على الأفكار والخبرات والممارسات الأفضل. إنها تعبِّر عن رأس المال المعرفي الذي يُعتبر في الاقتصاد الجديد (اقتصاد المعرفة) أكثر أهمية بما لا يقاس من رأس المال المادي.
أدى التطور العلمي والتكنولوجي إلى التحول من العمل الجسدي إلى العمل القائم على المعرفة، فأصبحت التكنولوجيا والمعرفة العاملين الرئيسين للنمو والتنمية المستدامة، إذ إن الثروة الحقيقية للأمم تكمن اليوم في العقول بالدرجة الأولى، ثم تأتي بعدها الثروات المادية الكامنة في باطن الأرض أو على سطحها.
إن السمة الرئيسة لهذه المرحلة هي أن التطبيقات العملية صارت تأتي استناداً إلى النظرية، فعلى عكس الحقبات السابقة، صارت النظرية تسبق التطبيق، وتسارع بصورة هائلة عملية وضع الاكتشافات النظرية موضع التطبيق، فقصرت المسافة الزمنية بين الاكتشاف النظري، ووضعه في موضع التطبيق. وعلى سبيل المثال، كانت الفترة الفاصلة بين اكتشاف الطاقة البخارية واستخدامها في الحياة العملية لا تقل عن ألفي سنة. أما بالنسبة إلى الكهرباء، فكانت هذه الفترة مائة سنة.
وبالنسبة إلى التصوير الفوتوغرافي، مائة سنة أيضاً، والبلاستيك 55 سنة، والهاتف 50 سنة، والراديو 35 سنة، والمضادات الحيوية 12 سنة، والاتصال اللاسلكي 10 سنوات، والألياف الاصطناعية 9 سنوات، والترانزيستور 5 سنوات... إلخ.
أما اليوم، فالاكتشافات والاختراعات في الميادين العلمية الجديدة تتوالى باستمرار، ولا يستغرق وضعها موضع التطبيق سوى أشهر أو أسابيع قليلة.
وصارت المؤسسات والشركات تنفق أموالاً طائلة على البحث العلمي، وتخصص جزءاً كبيراً من رساميلها لهذا الغرض. فالأبحاث العلمية أصبحت اليوم أشبه بمناجم الذهب، ولكنها غير قابلة للنضوب، وغدت ربحيتها وجدوى الاستثمار فيها مسألة لا شك فيها.
لقد كان للتطور العلمي الكبير في الميادين الإلكترونية والنووية والفيزيائية والكيميائية والبيولوجية والفضائية التأثير الأكبر في إحداث تغييرات حادة وجذرية في حياة الناس والمجتمعات، وجاءت ثورة المعلوماتية والاتصالات لتقلب هذه الحياة رأساً على عقب. كل ذلك عمَّق الهوة بين البلدان الصناعية وغير الصناعية، وأوجد تفاوتاً في مستويات التطور بين البلدان الصناعية نفسها، حيث نجح بعضها في ولوج المرحلة ما بعد الصناعية، بينما يسعى بعضها الآخر جاهداً إلى تحقيق ذلك.
أما الغالبية الساحقة من بلدان ما كان يسمى العالم الثالث، فإنها لاتزال تتخبط في محاولات التخلص من قيود التخلف وضعف التطور، وتعمقت أكثر الفجوة المعرفية بين البلدان والمجتمعات.
الهدم الخلاق
تمثل التغيرات التكنولوجية أساس النمو الاقتصادي والتنمية.
وقد أشار جوزيف شومبيتر في حينه إلى أن االدفع الهائل الذي يطلق محرك الرأسمالية ويحافظ على حركته، يتأتى من السلع الاستهلاكية الجديدة، من أساليب الإنتاج والنقل الجديدة، من الأسواق الجديدة، من القوى الجديدة للتنظيم الصناعي، التي تخلقها المؤسسة الصناعيةب.
لقد خلف شومبيتر ماركس في نظرته إلى ديناميكية الرأسمالية. هذا الاقتصادي النمساوي الأصل، الذي شغل منصب رئيس قسم الاقتصاد في جامعة هارفارد خلال ثمانية عشر عاماً، وضع في عام 1911 كتابه المهم انظرية التطور الاقتصاديب.
وقد قدم الكتاب موضوعين رئيسين: أولاً، الابتكار بما ينطوي عليه من طرح لمنتجات جديدة وطرق إنتاج جديدة، وفتح أسواق أخرى وتطوير موارد جديدة، وإيجاد أشكال تنظيمية جديدة في الصناعة. يدخل الابتكار في صلب التطور الاقتصادي، ويسهل تنامي الازدهار المادي.
ثانياً، لا تأتي الابتكارات وحدها، ولكنها تتطلب مجهوداً رائداً من أصحاب المشاريع، وهو مجهود ضروري للتخلص من رتابة القواعد الاقتصادية.
ويؤكد شومبيتر في هذا الصدد: ايجب التمييز خاصة بين القيادة الاقتصادية وبين االاختراعب. فطالما لم توضع الاختراعات موضع التطبيق، فلا معنى لها اقتصادياً. وتختلف مهمة حمل أي تحسين إلى أرض الواقع تماماً عن ابتكار هذا التحسين، وهي تتطلب قدرات من نوع آخر. وبرغم أن أصحاب المشاريع قد يكونون مخترعين مثلما قد يكونون رأسماليين، ولكنهم سيكونون مخترعين بالمصادفة وليس بحكم وظيفتهم. وفي المقابل، قد يكون المخترعون أصحاب مشاريع بالمصادفة أيضاً...ب.
ويرى شومبيتر أن الابتكارات الجديدة الناجحة تزيح التقنيات الأدنى مستوى، وتوفر للبلد الذي يضعها موضع التطبيق وينتج على أساسها سلعاً جديدة ذات كثافة معرفية، اميزات نسبيةب من نوع جديد. فالدولة التي تحوز طرائق فنية للإنتاج أكثر تقدماً من الدول الأخرى، تمكنها من إنتاج سلعة جديدة أو سلع ذات جودة عالية أفضل مما تنتجه الدول الأخرى أو سلع ذات تكاليف إنتاجية أقل، هذه الدولة تكتسب مزايا نسبية مستقلة عن غيرها من الدول، نتيجة احتكارها لسوق هذه السلعة لفترة زمنية معينة، إلى أن تتمكن دول أخرى من اللحاق بها، بتقليد سلعتها أو البدء بإنتاج سلعة جديدة أكثر تطوراً، مما يفقد الدولة الأولى أفضليتها وميزتها النسبية.
هذه الظاهرة، ظاهرة إزاحة السلع الجديدة القائمة على أساس الابتكارات الأكثر حداثة، للسلع الأقدم أو الأقل كثافة تكنولوجية ومعرفية، هي ما أطلق عليه شومبيتر مصطلح االهدم الخلاقب، أي هدم القديم أو خلق الجديد مكانه.
هذه الابتكارات الناجحة المجسدة في السلع الجديدة تعود فتنتشر من خلال تقليدها أو نقل إنتاجها إلى البلدان الأخرى.
إن التغيرات التكنولوجية هي االمدمرب الأساس والدائم للميزة النسبية، والقوة المحركة للتغيرات البنيوية في الإنتاج، وبالتالي في التجارة الدولية، وبالدرجة الأولى في التجارة بين البلدان الصناعية التي تقف في طليعة البلدان المبتكرة على الصعيد الدولي.
انتقال الأفكار في نهاية الاحتكار
هذه التغيرات، لا يمكن أن تشكل على المدى البعيد لأي بلد مصدراً دائماً للميزة النسبية في سلعة معينة أو نشاط معين، لأن التكنولوجيا التي يمتلكها البلد المبتكر تصبح، نتيجة للتبادل الدولي، متاحة للبلدان الأخرى خلال فترة وجيزة نسبياً.
إن ثمة عديداً من الأمثلة الملموسة التي تظهر أن التكنولوجيا وعملية خلقها والتبادل الدولي، تمارس تأثيراً كبيراً على بنية التجارة الدولية. فعلى سبيل المثال، كانت الولايات المتحدة في فترة ما قبل الحرب العالمية الثانية، تمتلك ميزة نسبية هائلة في فروع معينة من الصناعة التحويلية، وذلك نتيجة لتفوقها التكنولوجي، وكانت البلدان الأخرى عاجزة عن التقليد الفوري لمنتجات المنتجين الأمريكيين، وكذلك عن مجاراة طرق ونفقات الإنتاج الأمريكية.
ولكن في نهاية المطاف، صار القسم الأكبر من هذه المعارف التكنولوجية متاحاً لغالبية البلدان. فالمنتجون في البلدان الأخرى، إما عمدوا إلى شراء الأفكار من المبتكرين الأصليين، وإما لجأوا ببساطة إلى تقليدها بنجاح، بعدما لقيت تلك الأفكار انتشاراً واسعاً.
وفي الوقت نفسه، ومع قيام الشركات الأمريكية بإنشاء شركات تابعة وفروع لها في البلدان الأخرى، انتقل كثير من الأفكار الجديدة إلى تلك البلدان. ونتيجة لذلك فقدت الولايات المتحدة ميزتها النسبية الأولية في بعض الفروع، وتحولت إلى مستورد لسلعها بالكامل.
إن مثل هذه الظواهر والوقائع شكلت دافعاً لصوغ نظريات للتجارة الدولية تتمحور حول التغيرات التكنولوجية. وهي نظريات، خلافاً للنظريات النيوكلاسيكية، تمكنت من تفسير الوضع الناشئ في بنية التجارة الدولية منذ ستينيات القرن العشرين، ونجحت كذلك في التنبؤ باتجاهات تطورها في العقود التالية.
الابتكارات والإنفاق على البحث العلمي والتطوير
يعتبر السؤال التالي سؤالاً محورياً بالنسبة إلى المقاربة التكنولوجية للتجارة الدولية: ما الدافع إلى تحقيق الابتكارات، ولماذا تكون بلدان معينة امنتجةب للابتكارات، في حين تكتفي بلدان أخرى باستخدامها؟
لا شك في أن الصدفة والتوفيق يلعبان دوراً معيناً في بعض الأحيان، ولكن هناك في الأساس عوامل منتظمة تلعب دوراً رئيساً في هذا المجال. فبما أن تطور التكنولوجيا هو عملية موجهة وليست عفوية، فمن المهم أن ندرك لماذا تُنفق بلدان معينة على البحث العلمي أكثر مما تنفقه بلدان أخرى. تجدر الإشارة هنا إلى أن الإنفاق على أغراض البحث العلمي والتطوير
(Research and Development (R&D يعتبر المؤشر الأساس على القدرات الابتكارية للشركة أو البلد، الذي يتجسد في نهاية المطاف في سلع جديدة أو عمليات تقوم على التكنولوجيا الأكثر حداثة.
يمكن أن يرتبط الإنفاق على البحث العلمي في مختلف البلدان بمجموعة من العوامل:
أولاً: اختلاف البنى المؤسساتية، فعلى سبيل المثال، يمكن لقوانين تسجيل براءات الاختراع الجيدة أن تساهم في تشجيع البحث العلمي، كما يمكن للتسهيلات الضريبية أن تساهم بصورة إيجابية في هذا المجال.
ثانياً: يمكن أن يحوز البلد فائضاً من العوامل التي تساهم في تطوير البحث العلمي، من علماء ومهندسين واختصاصيين وتجهيزات ضرورية ورؤوس أموال كافية لتمويل هذا النشاط. ويلعب النظام التعليمي المتطور والمتشعب دوراً محورياً في هذا المجال. فوجود اليد العاملة الكفوءة والماهرة الملائمة لإنتاج السلع التكنولوجية الجديدة، ما هو إلا نتيجة لقرارات سابقة حول الاستثمار في التعليم، ويرتبط ارتباطاً وثيقاً بوجود رأس المال البشري المناسب في البلد المعني.
ثالثاً: يحتاج المبتكرون إلى السوق لتسويق سلعهم، وعليهم أن يعرفوا ما الذي ترغب به السوق؟ وما الظروف المؤسساتية والقانونية المتوافرة لعرض هذه السلع وبيعها؟ كما من الضروري أن تكون السوق كبيرة وذات قدرة استيعابية واسعة (بمعنى القدرة الشرائية العالية)، لأن السلع الجديدة المبتكرة تكون عادة باهظة الثمن في البداية، وينبغي أن يكون مبتكرو هذه السلع على يقين من أن سلعهم هذه ستجد من هو قادر على شرائها، ولابد أن تتوافر لديهم هذه الثقة، قبل أن يبدأوا بالاستثمار في إنتاج السلع الجديدة.
كل هذه العوامل تدل على أن الدول الصناعية الغنية تكون عادة في مقدمة الدول التي تظهر فيها الابتكارات الجديدة.
إن الإنفاق الإجمالي على أغراض البحث العلمي في مختلف أنحاء العالم بلغ 1.478 تريليون دولار في عام 2013. وهذا ما يشير إليه تقرير االعلم، التكنولوجيا والصناعة - 2015ب الصادر عن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD). ويتضمن هذا التقرير، الذي تعده وتنشره المنظمة مرة كل عامين، تحليلاً للاتجاهات العالمية في مجال الإنفاق على العلم والتعليم، وعلى تطوير قطاعات الاقتصاد ذات المحتوى التكنولوجي العالي في البلدان الصناعية المتقدمة.
وعلى امتداد سنوات طوال، ظلت الولايات المتحدة الأمريكية تحتل الموقع الأول من حيث الإنفاق على البحث العلمي، متقدمة بأشواط كبيرة على البلدان الأخرى، حيث بلغ إنفاقها على أغراض البحث العلمي 433 مليار دولار في عام 2013. وجاءت الصين في الموقع الثاني (318 مليار دولار، مقارنة بـ 115 ملياراً عام 2005)، تليها اليابان (حوالي 150 مليار دولار)، متقدمة على ألمانيا (قرابة 70 مليار دولار)، ثم كوريا الجنوبية (50 ملياراً تقريباً).
أما روسيا، البلد الغني تاريخياً بالعلماء ورأس المال البشري، فلم يتجاوز إنفاقها على البحث العلمي 24 مليار دولار في العام نفسه.
أما ترتيب الدول من حيث نسبة الإنفاق على البحث العلمي والتطوير إلى الناتج المحلي الإجمالي، فقد جاءت إسرائيل في المرتبة الأولى بنسبة 4.2 في المائة من الناتج المحلي، تليها كوريا الجنوبية (4.1 في المائة)، ثم اليابان (3.5 في المائة)، تليها بلدان صغيرة نسبياً كفنلندا والسويد والدنمارك وسويسرا (بنسب تتراوح بين 3 و3.3 في المائة). أما في روسيا فقد شكلت نسبة الإنفاق على أغراض البحث العلمي 1.2 في المائة فقط من إجمالي الناتج المحلي عام 2013.
تجدر الإشارة إلى أن نسبة تمويل البحث العلمي من ميزانية الدولة تبلغ حوالي 30 في المائة في الصين، وقرابة 28 في المائة في الولايات المتحدة، و18 في المائة في اليابان.
أما في روسيا، فتصل هذه النسبة إلى 40 في المائة، مما يشير إلى ضعف دور القطاع الخاص، وإلى أن الدولة في هذا البلد لاتزال تأخذ على عاتقها جزءاً مهماً من الإنفاق في هذا المجال.
أين هو العالم العربي من كل ذلك؟
العالم العربي الذي تصل فيه مؤشرات الإنفاق على شراء الأسلحة إلى مستويات قياسية، ويهدر ثروات طائلة على التقاتل والحروب الداخلية، ويبذر ثرواته على امتلاك أحدث ما توصلت اليه العقول الغربية من تكنولوجيا وتقنيات حديثة للتفاخر بالامتلاك وليس الابتكار، تغيب فيه الأرقام التي تعكس الإنفاق على البحث العلمي والتطوير. ففي مصر، مثلاً، لا يتجاوز هذا الإنفاق نسبة 0.68 في المائة من الناتج المحلي، وفي الأردن تصل هذه النسبة إلى 0.2 في المائة.
ونحن على يقين من أنها لا تزيد على ذلك في البلدان العربية الأخرى، أو ربما تغيب كلياً. بل ثمة أرقام أكثر سوداوية، إذ لا تتجاوز حصة الفرد الواحد في العالم العربي من الإنفاق على البحث العلمي 14 دولاراً، في حين تصل إلى 1200 دولار في الولايات المتحدة والدول الأوربية.
لقد بلغ عدد الأبحاث العلمية المنشورة على مستوى العالم حوالي 3 ملايين بحث عام 2012، ولم تتجاوز مساهمة الدول العربية فيها 38.5 ألف بحث فقط، ولم يسجل العرب في تاريخهم الحديث سوى 863 براءة اختراع (للمقارنة نشير إلى أن إسرائيل سجلت 16350 براءة اختراع في تاريخها القصير).
فعن أي تنمية مستدامة في عالمنا العربي يمكن الحديث؟! .