المعماري سابا شبر روح المكان والزمان في العمارة العربية

المعماري سابا شبر  روح المكان والزمان في العمارة العربية

الأكثر جاذبية في جهودِ المعماري ومخطَّطِ المدن الفلسطيني د. سابا شبر (1923 - 1968)، وفي تصوراته لطبيعةِ المعمار العربي، هو ملاحظته مبكراً لأخطاء تخطيط المدن العربية ومحو الملامح الشخصية لهذه المدن، بحيث بدأت تتحول منذ منتصف القرن العشرين وحتى مطلع القرن الحادي والعشرين إلى غابات من الأنماط المتنافرة تفتقر إلى روح المكان والزمان. ثم تأتي بعد ذلك أعماله التي طبعت بطوابعها عدداً من المدن العربية، بما في ذلك مدينة الكويت في ستينيات القرن الماضي، وساهمت في تصحيح مسارات التخطيط والبناء، ووضعت أسساً نظرية وتطبيقية جمعها قبل وفاته بزمن قصير في مجلد ضخم صدر باللغة الإنجليزية عام 1968. 

 

والحقيقة أن أول من أشار إلى توجهات د.سابا وثمّنها كان أمير دولة الكويت الراحل الشيخ صباح السالم الصباح، حين اعتبر أن دراسة د.سابا تحت عنوان «المدينة الكويتية» (1964) «أصبحت مرجعاً عن تطور دولتنا الفتية»، ثم حملت كلمته الافتتاحية للمجلد الضخم المشار إليه آنفاً إشادة باهتمام هذا المعماري ببناء المدينة العربية على أسلم الأسس التي تشمل، حسب ما لمس من نظراته وممارسته، النواحي العلمية والعملية والاقتصادية والاجتماعية والهندسية والجمالية، وبإعطائه للناحية التراثية أهمــية بالغة جعلت من دعوته إلى الحفاظ على التراث الفني الجميل محوراً تدور حوله أفكار المعماريين العرب. وعبر الأمير الراحل في هذه الافتتاحية أيضاً عن يقينه بأن «المؤلف، بكتاباته المختلفة، قد سطر خطوطاً عريضة عديدة لمدينة المستقبل العربية التي فاقت جميع التقديرات بسبب الطموح العربي، والعمل العربي الدائب، لرفع مستوى معيشة المواطن العربي الذي له الحق في العمل والعيش الكريم». وقال في ختام كلمته: «... ومع ترحيبنا بهذه المجموعة من الدراسات الثاقبة في أحوال المدن والأقاليم العربية ومستقبلها، نرجو أن يكون لها الصدى العلمي والفلسفي والعملي في مختلف الأوساط، وخاصة الهندسية منها».

فكر التمدين المعاصر
ولمس هذا التثمين وهذه الإشادة أهم ما أضافته أفكار وممارسات هذا المعماري إلى فكر التمدين المعاصر على كل صعيد تناوله. لقد جاءت هذه الإضافة في وقت كانت فيه الكتابات النظرية حول بنية المدن العربية ونموها ووظائفها الاجتماعية والجمالية قليلة في ثقافة العرب المعاصرة، باستثناء أفكار متناثرة إقليمية الطابع انصرفت إلى معمار المباني والقرى الريفية لا المدن، ولم تصل إلى مستوى التعامل مع هوية المعمار العربي الأشمل، سواء على صعيد الموروث المشترك بطبيعته، أو على صعيد التطلع إلى الحفاظ على النسيج الجامع على مختلف مستويات الوجود العربي، ولم نكن نجد - باستثناء إشادة المعماريين والفنانين الأجانب بنمط المدن العربية الموروث - طرحاً علمياً معمقاً في هذا المضمار أو تطبيقات شاملة. ولم تحظ الثقافة العربية كما يبدو بباحث معني بالجوانب التمدينية إلا مع ابن خلدون (1332م - 1405م)، ، وهو ما انتبه إليه د. سابا، وخصص له في كتابه الكبير فصلاً مهماً تحت عنوان «ابن خلدون... في تخطيط ومعمار وعلم اجتماع المدينة». وفي هذا الفصل، لا نتعرف على أفكار الرائد ابن خلدون فقط، بل وعلى أفكار الباحث الذي اكتشف في ابن خلدون، المؤرخ وعالم الاجتماع وفيلسوف الحضارة، شخصية المفكر في شؤون التمدين والعمران على أسس علمية يمكن أن تعتبر ملائمة لعصرنا هذا.
يبدي د. سابا في مطلع هذا الفصل أسفه لكون تخطيط وبناء المدن العربية في العقود الماضية، أي في خمسينيات القرن العشرين وما سبقها من عقود، لم يكن يعتني على الأغلب بمبادئ التخطيط، فنمت المدن بسرعة، وتحولت إلى تجمعاتٍ ضخمة من دون عناية بالوظيفة العملية، بل وتناقض غالباً المفاهيم الراسخة في نمو المدن. ويلاحظ أن المدن العربية ليست وحدها في الوقوع ضحية لهذا النوع من النمو الساعي بلا هدف على الأرض، لأن معظم البلدان الغربية لم تعرف التخطيط المدني العملي والفاعل إلا حديثاً. وفي ضوء هذا، أي في ضوء استبعاد الإنسان من التخطيط، فإن أفكار ابن خلدون وملحوظاته تبدو متخطية لزمنها، وتتوافق تماماً مع التخطيط بمعناه المعاصر. 
لقد امتلك ابن خلدون فهماً غير عادي للعناصر المتنوعة الفاعلة التي تساهم في بناء المدينة في زمنه، ففهمها وعبر عن فهمه بدقة بالغة، ووضوح وقوة. كانت المدينة بالنسبة له الناس والمباني، الحكم والهندسة، الثقافة والمعمار، الإدارة والاقتصاد. لم تكن كائناً ساكناً، بل كانت كائناً عضوياً متعدد الأبعاد، مضافاً إليه فلسفة العمارة والزمن، أو بعبارة مختصرة كانت المدينة بالنسبة له تحمل روحاً تعبر عن المكان والزمان. 

الإنسان أولاً
ومن هذا المنطلق الخلدوني، أو من هذا المكون الجدلي بين الموروث وإنسان ذي موروث، اتخذ د. سابا مبدأه الأول هادياً: الإنسان أولاً، أو المعمار الإنساني، وظل هذا المبدأ في ذهنه وهو يتأمل ويخطط وينفذ مشروعاته، وينتقد ما يرى أنه فقدان للطوابع المميزة لبنية المدينة، بل وفقدان لوظائفها المدنية.
ويتضح من ملحوظاته أن الأمر لا يتعلق بالعناصر الشكلية التي تسترعي الانتباه للوهلة الأولى حين ننظر إلى مبنى أو شارع أو ساحة، بل تتعلق بما هو أعمق؛ بما يكتشفه في تراث التمدن الذي يمتلكه الوطن العربي. فهذه الجغرافية العربية لم تشهد فقط ميلاد الحضارات العربية القديمة، في مراحلها الكنعانية والبابلية والآشورية والقبطية (المصرية القديمة) والإسلامية، بل شهدت أيضاً ما تركته حضارات أخرى، مثل اليونانية والرومانية والفارسية. وعلى هذا يجب العثور على أصول التمدن المعماري، كما على أصول المنجزات الأخرى، في هذا الكل الجامع الذي تمثلُ شواهده اليوم في الوطن العربي. وما أسماء مدن مثل «الكرنك» و«طيبة» و«نينوى» و«قرطاجنة» و«بيبلوس» و«جرش» و«تدمر» و«بابل» و«بعلبك»... وجملة من المدن الأخرى إلا صفحات مضيئة في تاريخ هذه المنطقة. 
ولايزال علم الآثار المعاصر يكشف عن روائع هذه المدن، مدن الماضي، في كل أرجاء الوطن العربي. يضاف إلى هذا أن هذه المدن القديمة ظلت مسكونة تعج بالحياة لحقب طويلة، بل هي الأقدم في العالم، «دمشق» و«أريحا» و«الهفوف» و«ثج» و«مريابة». صحيح أن المعلومات لاتزال ضئيلة حول التمدن قديماً في جزيرة العرب، ويحتاج إلى مزيد من الدراسة، لكن هذا القدر القليل يشير إلى أن الجزيرة العربية كانت منطقة مزدهرة ذات يوم، وأن ازدهارها العمراني ربما توقف بسبب تقلبات مناخية. ولدينا شواهد دالة على هذا الازدهار، يتمثل في ما تركه الرحالة والمؤرخون العرب من أوصاف حية لمدن السواحل، مثل البحرين والحسا وسيراف وعمان وهرمز، وأوصاف لرحلات بحارتها إلى شواطئ الشرقين الأدنى والأقصى، ومشهد سفنها التي مازلنا نستطيع رؤيتها تبنى في موانئ خليجية عدة، حيث تشاهد طوابع القلاع والأسواق وباحات المساجد الأصلية ماثلة. ويمكننا أن نشاهد أشباه هذه المدن بالطوابع ذاتها في حضرموت وشواطئ البحر الأحمر وصولاً إلى شواطئ بلدان المغرب العربي. 

دروس العمارة المحلية
ولا يفوت د. سابا، ملاحظة أن مدناً عربية مثل « المكلا» و «شبام» الشهيرة بناطحات السحاب المتعددة الطبقات، هي ظواهر مهمة في تطور المدينة، وتشير طوابعها المحلية، أو تقدم دروساً في الحقيقة، إلى كيفية التعامل مع المعمار تستحق الانتباه، مع الأخذ بعين الاعتبار محدودية المواد المستخدمة، وأدوات البناء البسيطة. ويشرح بتفصيل المحب والعاشق السمات المميزة لمعالم المدن العربية، وما تشترك فيه من سمات، سواء كانت تقع في أقاصي شرق الوطن أو غربه، ويحلل تنوعاتها ما بين مدن ساحلية ومدن جبلية ومدن صحراوية، وأهمية كون الذين أقاموها منحوا الأولوية لوظائفها الإنسانية قبل أي شيء آخر، واستخدموا عناصر من البيئة جعلتها تعبر، ببساطتها وجمالها ووظائفها، عن طابع خاص لا يمكن أن يخطئه النظر.
ويشيد د. سابا بهذا الوعي الذي لمسه في تراثنا المعماري، ذلك الذي شاهده تراثاً ثرياً ومميزاً، ذا طابع محلي من ناحية فلسفته وسماته العضوية. فهو تراث يستمد عناصره من المناخ ومحددات البناء ومواده، سواء كان بيتاً متواضعاً أو مسجداً في غاية التعقيد. ويضيف إلى هذا أن المعمار العربي الموروث كان يعبر تعبيراً صادقاً عن الواقع، وقد تطور تطوراً عضوياً. وسواء كان هذا المعمار طراز بيت قديم في «بيروت» أو «القاهرة» أو كان فناء بيت قديم في «الكويت» أو «دمشق»، أو كان بيتاً حجرياً مقنطراً في «تونس» أو «القدس»، فهو عمل كبير معبر عن الإبداع والحرفية المحلية التي يطالب بالاستفادة من دروسها، وعدم ترك هذه الشواهد معرضة للمحو والفناء لتحل محلها أبنية تفتقر إلى الجمال والشكل والبنية العضوية والوظيفة التي تلبي حاجات إنسانية أولا. 
في إحدى أقاصيصه الجميلة عن سيرة الطبيب والفيلسوف العربي ابن سينا، يقول الشاعر والروائي الأوروجواياني إدواردو غاليانو (1940-2015)، إن ابن سينا ظل يعالج المرضى لسنوات طويلة بعد وفاته، أو يقف إلى جوار أسرتهم، والقصد بالطبع هو أن كتاب «الشفاء» الذي وضعه هذا الطبيب الفيلسوف ظل يشفي الكثير من المرضى بعد رحيل صاحبه عن عالمنا، أو أن الإنسان هو ما عمله، ما كتبه وفكّر فيه، وسيظل حياً ما دامت أفكاره تنفع الناس الأحياء. هل يمكن قول الأمر نفسه عن د.  سابا الذي ترك تراثاً فكرياً غنياً يمكن أن «يشفي» مدننا من الأمراض التي طافت بها من كل حدب وصوب؟ أعتقد أن بإمكاننا قول هذا بثقة، وبإمكان أي معماري محب لوطنه أن يفتح كتاب هذا المعماري الفلسطيني، الذي كرس حياته لتصحيح مسارات مدننا ومنحها ما تستحقه من احترام، هي وإنسانها على حد سواء، ويهتدي بأنواره ■