الثقافة والفن والملل
لا حاجة للاهتمام بالفن، ولا أهمية عندنا له. لا أهمية للمهم. هذا ما جعل الفن معدوم الوجود... إلا ما ندر... كما الثقافة الصحيحة العميقة... إلا ما ندر... يسألونك عن الفن والثقافة، فتحتار لتجد جوابًا مقنعًا... ما الثقافة؟ وما الفن؟ ومَن يقرّر ويوجد معنى للثقافة والفن والكل في ملهى عنهما... وغرباء في بلاد تلهث وراء الربح وتكريس الأوراق المالية البالية.
ثقة وطمأنينة. ثقة الجاهل بما يجهل حتى أمسى الجهل علمًا ومسلكًا في الحياة.
ماذا يهمّنا نحن مواليد هذا العالم، مواليد هذه الأرض الشاسعة التي راحت منذ زمن تفلت من بين أصابعنا ومن بين اهتمامنا وفوضانا وجهلنا واتكالنا وبحثنا عن السماء، والأرض راحت تضيع من بين أرجلنا?
عندما أقول «أنا حزين حتى الموت», كما قالها السيد المسيح ذات يوم، أكون صادقًا، وكأني صادق للمرة الأولى... أقولها مرارًا... يوميًا... ولا أحد يصدقني القول... الكل كذّابون إلا نادرًا... وهكذا يقولون عني, ولا أحد يدري مَن هم الكذّابون المخلصون لكذبهم... لا... لا شيء... مرارًا أذهب إلى شواطئ بيروت صباحًا... لا أحد هناك... كلهم نائمون حتى الظهر وبعده... الشاطئ هادئ... اخترت المكان والساعة، لأستطيع أن أصرخ... أن أصرخ... «أريد أن أحيا», ولصراخي تتطاير الطيور وتهدأ الأمواج وتردّد: «أريد أن أحيا»، ثم أعود... ثم أعود من حيث أتيت... إلى جهنم المدينة... وإلى الوحوش الكاسرة التي تملأ الشوارع.
وُجدت لأحيا لا لأعيش. أكتفي بلقمة عيش. غذائي الجمال. ولا يوجد الجمال سوى بالتصاقه بالحقيقة... انثر الفرح... وُجدنا لنفرح في الحياة... هل نسينا الفرح؟ ومتى سنفرح وننشد الأناشيد التي لا نسمعها كل يوم... أناشيد بشعة وكاذبة؟ قال هذا صديقي وسكت، قلت له بصوت هادئ:
- أرجوك... اسمع ما أقوله... أشرت إليه ليرى عصفورًا يتنقل من غصن إلى غصن، ثم صمتُّ عندما رأيته قد أغمض عينيه... هو ينام عندما أتكلم... يشعر بالملل... هكذا قال لي مرّة عندما كنت أحدّثه... هل أوقظه وقد وُلد نائمًا يجر رجليه ويبقى مكانه؟... ينام ليل نهار ويستيقظ ليتكلم عن الحياة والموت، عن العلم والجهل، عن الثقافة والفن... لكنه نائم... يبقى نائمًا... الملل... الخلود الدائم، قلت له بصوت عالٍ: استيقظ يا أخي... انظر إلى النّور... لم يتحرّك... سألته: هل قرأت فلانًا وقصيدة فلان؟ وهل سمعت سيمفونية فلان؟ وأغنية فلان؟ لم يجب... بقي نائمًا، وعلى شفتيه ابتسامة الرضا... هو يرضى بحاله... الحياة سنوات وتمضي ثم تنتهي... هكذا يقول دائمًا... ونادرًا ما يقول شيئًا وهو مغمض العينين... ومرارًا ما يبدأ بقول جملة ولا ينهيها، إذ يسبقه النعاس ويأخذه النوم.
- اسمع... اسمع... لا يسمع، ولمَ العذاب؟ وفي فمه بقية دخان أرجيلة... يدغدغ عقله ويطرب أذنيه، لعلّي أتكلم مع ذاتي... ولذاتي... وأتكلّم بصوت قلمي... عدت إليه... انهض، استيقظ... انتهى النهار... بسط الليل ستاره على الطبيعة... بقي نائمًا... تركته وسرت وحدي بعد أن ظهرت على وجهه ابتسامة الرضا والسعادة. سرت وحدي. لم أرَ سوى أن أسير مع وحدتي... وبقيت سائرًا .