تحرر المستقبل من الخلاص الغيبي في «كاشف الأسرار»
يغفو الفتى عمر وهو يزور المتحف البريطاني، ويتم غلق الأبواب، فيحلم بأنه عاد للعيش في بغداد القديمة والقاهرة، على إثر مشاهداته لمقتنيات العالم الإسلامي. تبني الكاتبة روايتها على هذا الحلم بمقاربته بالحاضر، بتشوق وعمق حضاري وإنساني، ورؤية نقدية للزمنين، وهما في مرحلة هزيمة، وكأنها تحلل بتكثيف وجمالية أدبية، ما حدث للعقل والإرادة، حين تم تعطيلهما لمصلحة انتظار الحلول من الخارج، بدلا من الانطلاق من الذات.
التاريخ: الماضي والحاضر والمستقبل أيضا... كيف؟
أكانت عودتنا له على الحقيقة أم الخيال، فإننا لا نستطيع إلا أن نعود، أما لماذا: فالجواب هو المستقبل، وليس فقط فهم الحاضر شبيه الفترة التي نعود إليها.
وهي عودة حضارية قومية وإنسانية، بل ووجودية إذن، لكونها تعود للتاريخ عودة الملتزم، والباحث في تاريخ الشعوب والحضارة.
وهذا ما قرأناه في «كاشف الأسرار» الذي عادت إليه الراوية من خلال شخصية عمر ابن عصرنا الحالي إلى القرن الثالث عشر الميلادي، الذي غزا فيه المغول شرقنا العربي.
وهي عودة للزمن الماضي، وإن سلكت الروائية لها سلوكا فانتازيا، باستخدام الأسلوب الروائي والسينمائي الذي يعتمد على آلة الزمن، في حين استخدم آخرون الحلم.
بمعنى أن هناك احتمالا قويا أن تكون الرواية رواية تاريخية، حدثت في الزمن الماضي، وليست رواية الآن باستدعاء الماضي.
وخلال هذه العودة يتحول الزمان، فنرى بغداد والقاهرة في ما بعد، في ذلك العصر، بمعماره وسكانه وأزيائه، وطعامه والشراب، والأسواق، وعادات اللهو. وحين يدخل عمر مع صاحبه المستدعى من التاريخ إلى قصر الخليفة، يكتسي الوصف ملامح ألف ليلة وليلة، حيث يستعرض بعض صنوف الطعام والحلوى، اعتمادا على كتاب «مروج الذهب ومعادن الجوهر» للمسعودي، وبعض صنوف الفنون اعتمادا على كتاب «خيال الظل وتمثيليات دانيال».
ويزور عمر مرحلة تهديد المغول لبغداد، حيث يشهد زائر الماضي ردود فعل أهل الحكم تجاه الأخطار التي يتعرضون لها، بينما هم منشغلون في اللهو وانتظار المصائر.
ولعل اختيار الأسلوب الفانتازي كان موفقا، لكونه أضفى الحيوية والتشويق على مستوى الأحداث من جهة، وعلى مستوى المقارنة والمقاربة بالحاضر من جهة ثانية.
عمر وكريم وأمل في زيارة لمتحف بريطاني (وهو The Trustees of British Museum الذي تشكره الكاتبة، لسماحه لها باستخدام آلة كاشف الأسرار، وطبعا هي لم تستخدمها فيزيقيا، بل رمزيا)، يدخل عمر إلى مجموعة العالم الإسلامي، وعندما يحين موعد إغلاق المتحف، لا يجد عمر نفسه إلا وقد بقي داخل المتحف وحده، وهناك، عبر الحلم، يجد نفسه في القرن الثالث عشر، وبالذات عام 1241، وهو العام الذي اخترع فيه العالم محمد بن ختلخ الموصلي الفلكي والمنجم آلة «كاشف الأسرار»، حيث يجد عمر نفسه مصاحبا لهذا العالم في رحلته في العراق ومصر.
كاشف الأسرار
تمهد الرواية بعض الحديث عن الآلة، قبل دخول عمر للزمن الماضي:
«إنها آلة لكل سرّ مستتر مبيح
إنها تكشف الطالع تنبئ بالغيب
تظهر المخفي وتشي بالحبيب
فقلت: لو في حوزتي آلة كهذي
لأصبحت صاحب قوة وسلطان عجيب»
وهي تقتبس من شرح المتحف لتعرف بها:
«أداة علم الرمل، لوح معدني مصنوع من النحاس الأصفر والفضة، مشكّل بالطّرق - القرن الثالث عشر - الموصل/ العراق، صناعة محمد بن ختلخ».
وتستمر بالأسلوب نفسه، حيث تقتبس الأبيات التالية التي تصف «كاشف الأسرار»:
أنا كاشف الأسرار في بدائع
من حكمة وغرائب وغيوب
يخفي اللبيب ضميره فأبينه
فكأن أعضائي خلقن قلوب
انظر إلى اللوح واحفظه فإن به
معنى من اللوح خطّ بالقلم
يبدي من الغيب أسرارا محجّبة
كانت مقدرة من سالف القدم
الانتقال
أما لحظة الانتقال فتبدأ في السوق، حيث يلتقي عمر العالم ختلخ، ويسمعه وهو ينادي على الزبائن لاستهلاك آلته:
يا صاحب الطالع
أنا الكاتب الحاسب المنجّم
أكتب الكتاب وأحكم الحجاب وأحسب الحساب
وأخط بالأقلام المطالب.
لماذا سقطت بغداد?
بانتقال ختلخ من السوق بمصاحبة عمر (الزائر للتاريخ) إلى قصر السلطان، يكون الانتقال من الشعب المسحوق إلى النخبة بانشغالاتها كما يظهر في مجلس الحكم.
وثمة منحى للسخرية في الوصف؛ ففي ظل الانشغال بالطعام والشراب والحلوى والتمثيليات المضحكة المسلية، تكون «جيوش المغول على أطراف المدينة، وسلطاننا المبجّل يغط في نوم عميق»، يتساءل أحد رجال الحاشية: من يقول الحقيقة؟ ويدور حوار بين عمر والشيخ ختلخ:
- لا نحتاج إلى منجم يا عمر لنتنبأ بالخطر المحدق بالدولة.
- من هولاكو؟
- نعم جيوشه على أبواب المدينة، ولا نحتاج إلى آلة لتتنبأ بهذا.
في بحث الخليفة عن خلاص ما بالتنجيم، يخبره ختلخ بأن «التنجيم ليس فيه من العلم شيء».
يترك ختلخ وعمر القصر، فيلتقي عمر ابنة السلطان جلنار التي ترفض الخرافات.
البحث عن الميكانيكا
يعلم الشيخ مصاحبه عمر (الذي يحتمل أن يكون قارئا أو قارئة للتاريخ، ولعلها الكاتبة نفسها) بأنه كان أحد 3 علماء في الأندلس، وهم إضافة له، كل من الجزري والمجريطي، شجعهم الخليفة الأندلسي على الاختراعات، حيث أودعوا علمهم في «كتاب الأسرار في نتائج الأفكار»، وتم إرسال نسخة منه إلى بغداد، لضمان وجود نسخة عند الحاجة. وبعد سقوط الأندلس (قرطبة) قتل الجزري، أما هو فهرب إلى المغرب فمصر فالموصل في العراق. أما المجريطي فباع نفسه للأعداء، فصنع آلات حرب، وانشغل بالطلسمات والألغاز. أما ختلخ فمهتم جدا بنسخة بغداد كي يبني عليها، وهدفه علمي، وهو تطوير الميكانيكا، لتصبح «حياتنا الشاقة أسهل وأقل قساوة» وهو سرّ الطاقة المولدة.
لست عرافاً بل صانع آلات
في رحلة ختلخ وعمر وهروبهما من بغداد، تحدث العالم لعمر: «لست عرافا بل عالم وصانع آلات، المراصد الفلكية العظيمة التي أسسها في بغداد ودمشق هي مراكز دراسة وتطوير أدوات فلكية ومراكز إنتاج علمي لصناعة الاسطرلابات والمحلقات والكرات السماوية النحاسية، والآلات الفلكية لرصد ورسم خرائط النجوم وللسماء، ولرسم خرائط للأرض، ولتحديد المواقع على الأرض. هذه المعرفة هي القوة التي تطور صناعتنا وزراعتنا وأدواتنا للعيش الكريم. وهي القوة التي تجذب كل شعوب العالم للتعلم والاستفادة منها».
والاقتباس هنا له دلالة نقدية لما آل إليه المجتمع العربي في ذلك الزمن، والزمن الحاضر!
إلى مصر
حيث شجرة الدر، وحيث الصراع الدموي على الحكم بعد رحيل الملك الصالح.
وشجرة الدرّ التي لم يعجب خليفة بغداد أن تكون حاكمة لمصر، هي التي كان رد فعلها «أنا التي حاصرت الإفرنج في دمياط والمنصورة، وسجنت ملك الإفرنج لويس». كان مقصد ختلخ مقصدا علميا، فحين سألته عن آلة كاشف الأسرار، قال لها: «مولاتي لا يكشف الأسرار إلا الله»، وأظهر لها رغبته ببناء مرصد علمي في جبل المقطم.
وبحث ختلخ عن حركة التروس لتوليد الطاقة لتشغيل الآلات، كان العالم ختلخ يفكر بالنهضة العلمية في مصر، بعد هزيمة العراق والأندلس، بينما وجد أهل مصر مهمومين بمن سيؤول له السلطان!
لكن لم تتح الفرصة ربما لشجرة الدرّ أن تحقق لختلخ ولمصر النهضة العلمية؛ فقد راحت ضحية الصراع على السلطة.
تأكيد الرؤية النقدية
من خلال اقتباسات العالم ختلخ:
«بعد أن كان العلماء من كل أنحاء المعمورة يُعملون عقولهم في صناعة الآلات وفي علوم الطب والفلك والفلسفة وبناء المراصد العلمية لدراسة الظواهر الطبيعية، فقدوا هم البحث والشك والسؤال، واكتفوا بالأجوبة والمسلمات. لقد قضيت عمري في البحث والتنقيب عن أسرار الكون والمجرات، وبعد صناعة الاسطرلابات والمزاول وغيرهما من الآلات العلمية، شغل الرعاة والخلفاء والأمراء بطلائع البروج والإيمان بالسحر والغيبيات، وبدلا من أن يطلبني أحدهم لبناء مشفى أو مرصد أو صناعة تفيد، طلب مني أن أتنبأ بحكم وبعدد الأعداء، وبكل ما يحتاج إليه الحكام لتثبيت سلطتهم... والسلطة المستبدة تحتاج إلى الكثير من السحر، والقليل من العلم». وأظن أن الكلام واضح بدلالاته النقدية.
لذلك حين سأله عمر عن قوة التروس، سرّ الطاقة المحركة، قال له: «كفى كلاما عن السحر، فحان الوقت للرجوع إلى مستقبلك».
آلة «كاشف الأسرار»، لم تكشف الأسرار فعلا، بقدر ما كشفت استسلام ليس العامة فقط، بل النخبة الحاكمة، التي تلجأ إلى الأسطورة والتنبؤات من أجل الاطمئنان إلى البقاء في الحكم، فتفاجأ بالغزو، قديما وحديثا. لقد وفقت الكاتبة في توظيف «كاشف الأسرار» كآلة تمثل الخضوع لرؤية أسطورية-سحرية للمستقبل، صار العقل العربي وفقها أسير الخلاص الغيبي، بدلا من مواصلة درب النهضة العلمية التي كانت قد بدأت فعلا في زمن ازدهار الحضارة العربية، حين اعتمدت على العقل والمعرفة والعلوم. وهي من خلال نقدها للماضي، إنما توجه نقدها للحاضر، وهذا هو التزامها، وهي بذلك إيجابية في رسم خارطة النهوض العلمي، الذي يتم عبر الإخلاص له، والتحرر من أسباب التواكل والخضوع.
الدائرة اكتملت
هذه الدائرة من المتحف وإليه مرة أخرى، وما بينهما الزمان، زمن هذه الرواية الدرامية التاريخية الرمزية، هو إقامة العالم ختلخ في بغداد ورحلته إلى مصر، والإقامة فيها، وما ظهر له من أهل الحكم من تهالك عليه، وزهد بالعلم والعلماء، ولعلها هنا تكشف من خلال نصها الأدبي القصصي رؤيتها الفكرية لأسباب الهزيمة وعواملها، كيف سقطت بغداد وكيف تم تهديد مصر؟!
ما الذي أرادت هدى الشوا قوله؟ وكيف قالته؟ وما الذي تركته للقراء والنقاد؟
ما أرادت قوله، أوحت به إيحاء، العودة إلى تاريخ مشابه. اختارت زمن هزيمتنا على يد التتار. وقدمت لذلك بدلالات ورسائل تاريخية، قبل الدخول إلى القرن الثالث عشر.
تاريخ دمويّ ونهايات!
- هل هناك من نهاية لتاريخنا الدموي؟
- المستقبل! المستقبل بيديك يا عمر... المرء يصنع قدره لا الآلات.
نهاية المستعصم: وضعه هولاكو داخل سجادة وأمر برفسه بأرجل خيله حتى الموت! وجلنار ابنة الخليفة هربت مع بقية أفراد العائلة إلى أصفهان.
وشجرة الدرّ: قتلتها نساء القصر.
هل من تذكر لنهايات لسلاطين آخرين؟
وهل هناك مجال لأخذ العظة من التاريخ؟!
رموز
ثمة رموز كثيرة في النص:
القرود: خياط وصائغ ومتذوق الطعام لكشف السمّ.
حير الوحوش، والتي من عادات الخلفاء في جمع الحيوانات، وهطل حبيبات من السماء كأنها حجارة، واختفاء الحيوانات.
النساخون والخطاطون والمصورون.
ساكنو الكهف الذين لم يتحملوا نور الشمس في الحياة، وهم من المنجمين الفاشلين.
حديث ختلخ عن الطاقات والأقراص والبكرات والنوافذ التي هي بيوت الطالع: الحياة، والمال، والآباء والأمهات، والإخوة، والأولاد، والأمراض، والنساء، والموت، والسفر، والملك، والسعادة، والأعداء.
تأمل تلك الرموز لما لها من علاقة بالإدارة والحكم وفهم الثقافة ودورها وفلسفة الحياة، تصبح رموزا حضارية، يمكن تأويلها، وبحث إسقاطاتها على عصرنا، من خلال ربطها بالرؤية النقدية ظاهريا لدى ختلخ، وعميقا لدى الكاتبة.
تناصّ لغوي وحضاريّ
هنا نذكر ما اقتبسته مما كتب على صحن الفخار في مجموعة العالم الإسلامي في المتحف:
وعاجز الرأي مضياع لفرصته حتى إذا ما فاته أمر عاتب القدر.
وحين نربطه بما اقتبسته الكاتبة ومهدت له في الكتاب، وهو قول يوليوس قيصر لبروتس في مقدمة الكتاب:
The fault , dear Brutus, is not our stars, but in ourselves.
تكون أسباب الهزيمة وفقا لـ «كاشف الأسرار»: فساد الحكم والاقتتال عليه من أجل المناصب والمكاسب، والانحطاط الثقافي والفني (الفن للضحك لا للرسالة) والعلمي والانشغال بالكلام، فساد الإعلام الذي يزين للحكام سوء الإدارة والحكم، المجريطي مثالا، والانحطاط الاجتماعي والنظرة النمطية الدونية للمرأة، وعدم التخطيط للمستقبل.
إنها حالة الاستسلام وانتظار ما سوف يأتي، وهي الحالة الانفعالية لا الفاعلية، لذلك ليس غريبا أن نجد من كان يقصد «كاشف الأسرار» في الماضي، ومن يلجأ للعرافين والمنجمين اليوم، ويدخل ضمن هؤلاء من هم أسرى فكرة الخلاص الغيبي.
ويمكن للقراء والقارئات استشفاف أسباب أخرى، تنطبق على الماضي والحاضر أيضا.
لذلك ليس عجيبا توقف النهضة العلمية في القرون القديمة، وإصابة النهضة العربية الحديثة إصابة بالغة صرفتها عن مواصلة النهوض العلمي والتكنولوجي، بعد أن استعاضت بالغيبيات والتواكل والاستهلاك عن العقل والعلم والمعرفة.
التاريخ... الماضي والحاضر والمستقبل
لقد هزتنا هدى الشوا بعمق، من داخلنا، ووضعتنا أمام مسؤولياتنا وأمام المستقبل واستحقاقاته القومية والحضارية والإنسانية، والوجود. وتجلى ذلك في لوحة الغلاف، بوجود الطفل كعنصر أساسي فيها، ينظر تجاه الناظرين، إنما يعني المستقبل. وهو ما ابتدأنا به الحديث، فإذا لم تكن العودة للماضي في سبيل نقده ونقد الحاضر، فسيطول إنتاج الماضي في الحاضر، والحاضر في الماضي، ولن نحرر المستقبل منهما .