نافذة على أعماق نزار قباني

نافذة على  أعماق نزار قباني

نجد في قصيدة نزار قباني الموزونة المقفاة في ثمانين بيتاً ونيف، التي كتبها حين كان في العشرينيات من العمر، ليرثي فيها موت أمي الأديبة وهي في الثلاثين، نجد فيها نافذة استثنائية على أعماق نزار الحقيقية. فنحن نكتب حقيقتنا حين نكون في العشرين في فورة الصدق واللامبالاة بالثمن الذي قد ندفعه، وقبل أن يتعلم بعضنا ارتداء الأقنعة أو التتلمذ في مدرسة الببغاوات الرسمية.

 

التقى نزار بأمي بحكم القرابة العائلية مع أبي، وكنا جيراناً أيضاً، كانت تكتب باسم مستعار إكراماً لتقاليد أسرتها العريقة في اللاذقية كما أسرة أبي المحافظة وتعاليم «زقاق الياسمين» الدمشقي. وأعترف أنني تعارفت مع جانب من حياة أمي عبر تلك القصيدة التي ألقاها نزار في حفل تأبينها في «مدرج جامعة دمشق» في الأربعينيات من القرن الماضي، وكنت يومئذٍ طفلة صغيرة لا تعي شيئاً مما يدور حولها من مآسٍ وما ينتظرها إذا لم تتمرد من دون أن تمزق بالضرورة عباءة جدها في دكانه قرب الجامع الأموي الدمشقي، ومن دون أن تخاف عصاه، لكنها تعلن عليه حبها وتمردها في آن، وأمي في ما يبدو من قصيدة نزار لم تتمرد، ويتجلى في سطوره الأولى هذه أنه كان صديق المرأة/ الإنسانة الذي يلوم «الذكور» لأن أنانيتهم ومعاملتهم لها كأداة إنجاب يتسببان أحياناً في مصرعها.
وأستطيع أن أتخيل كم من وجوه الحضور امتعضت ونظرت إليه بغضب، وهو يتحدى مألوف ذلك الزمان في قصائد الرثاء ويصرخ من على المنبر في المجتمع الدمشقي الذي احتشد في حفل تأبينها والخطباء الذين ألقوا قصائد رثاء تقليدية كالدكتور زكي المحاسني وزوجته الأديبة صديقة أمي وداد سكاكيني... أستطيع أن أتخيل الغضب العارم الذي شاع في التأبين ونزار قباني الشاب الصغير يطلع بالصدق العاري صارخاً:
أمهات يذبحن في مفرش الوضع
قرابين في سبيل جنين
وعلى الأرض ملحد ينكر الأم
ويزري بها فيا للبنين
فاجر في يا زوابع الهول نسل اللؤم
جرفاً... ويا جهنم كوني
اقطعي نسلهم فلا حملت أنثى
بذرية الضلال المهين
وهذا اللوم الجارح وجهه لأبي المسكين، لأن ولادتها بي كانت عسيرة، لكنها حملت ثانية، وقيل إن «المجتمع التقليدي» كان يطالبها بإنجاب صبي أياً كانت المخاطر، وقد فقدت حياتها بحمى النفاس إثر الولادة الثانية.

«شاعر المرأة» على نحو آخر
هنا نلتقي بنزار الذي كتب ذات يوم قصيدة «خبز وحشيش وقمر» عن مدينتنا دمشق وناسها، وهي قصيدة شبه منسية هزت سورية يومئذٍ ونوقشت في «المجلس النيابي» بين معارض ومؤيد، وأثارت نزاعاً بين «التيار المحافظ» و«التيار التجديدي».
في رثائه لأمي نجد قصيدته تسيل حناناً على المرأة التي تغتالها التقاليد الاجتماعية ويدعوها «شهيدة» إذ يقول مخاطباً أمي باسم «سمرائي الشهيدة»:
بعد عينيك مات حلو رنيني
والغنوج الممراح من تلحيني
إيه سمرائي الشهيدة... لم   أخلفت
وعدي والعهد أنت صدقيني؟
وعدُنا... كان أن ألاقيك في البِشْر
فكان اللقاء في التأبين
لي ليالٍ ملونات بمغناك
يسقسقن بالغنا والفنون
أين هدب يرش كحلاً طرياً
وحديث كداليات الحزون؟
نطقك الحلو... أي نهر نبيذ
يتحدى النايات في التبيين
وفم تهمر الراوات إن فاه
فيجري مغسلاً باللحون
في حجاك الكبير دنيا بلاغات
وكنز من البيان المبين
ويتجلى نزار أيضاً كثير الحنان على الأطفال إذ يخاطبني في قصيدته يوم كنت لا أعرف القراءة والكتابة ولا أفهم معنى عبارة «ماتت أمها» ويقول على لسان أمي:
إيه... يا غادتي الحبيبة أنت
العمر، أنت الأضواء تهدي عيوني
غادتي إن تك الأمومة ديناً
بدم الأم... أنت دَيْري وديني
من يلف الحرير في شعرك الغض
ويطليه بالشذى والدهون؟
قربي... من فمي فماً يُخجل الورد
صغير التدوير والتكوين
والثمي... أمك الجريحة بنتي
فغداً لن أعيش كي تلثميني
ويشع قمر رومانسية نزار حين يتخيل قبر أمي حين دفنت في مدافن أسرتها في اللاذقية المدينة البحرية بشواطئها الجميلة الرملية ويقول:
أيها القبر.... نام في شقرة الرمل
تحمّل تحيتي وحنيني
إيه سلمى عند ازرقاق المريجات 
وغنج القلوع فوق السفين
قبرك الشاطئ... كالوردة البيضاء
ملقى عبر الروابي الغنين
إيه أختي... بُحّت بثغري القصيدات
وخارت شبّابتي... فأسعفيني
سبح المنبر المجلل من تحتي
بنهر من الدموع هتون
فافتحي الهدب وانظري أي دنيا
من صبايا دلفن من قاسيون
والحرير الحزاز... تتبعه الآهات
من كل خافق محزون

ونرى هنا أن نزار كان معنياً عند المرأة بـ«دنيا بلاغات» و«النطق الحلو» و«كنز من البيان المبين»، أي بالإبداع أولاً... لا بالمرأة الدمية.
ونكتشف أيضاً نزار الرجل رقيق القلب،إذ يقول في قصيدته أيضاً:
في الثلاثين يوم لفلفك الموتُ
عروساً... لم تفرحي بالسنين
كانفتاح الزر المدمى... تراءى
بركة من دم... ومن تلوين
الثلاثون... تلك عز الصبيات
وسن الورود والياسمين
مصرع الشيخ... يستهان... ولكن
لم تَهُنْ قط ابنة العشرين

لا يفهمون شعره وهي قَدَّرتهُ
ويبدو نزار أيضاً «مجـــــروح القلب»، لأن بعض المجتمع المحافـــظ الشامي لم يكــــن يومــــئذٍ يتجاوب مع قصائده وديوانه الأول «طفولة نهد»، ويقول عن أمي وهو يلوم بعض قرّائه:
لي في المخدع الأنيق ليالٍ
ولياليك تُشترى بالقرون
أنت لي تنصتين والناي رجّافٌ
فنُدمي بالشعر صدر السكون
إن للشعر أهله... كم غبي
كلما قمت منشداً لا يعنيني
أنا نهرٌ من الحكايا... من الرمزِ
وأنت استطعت أن تفهميني
أنا فوقَ الأبعاد... فوق امتداد
الفكر... فوق الدنا... وفوق الظنون
ويرسم نزار في قصيدته صورة لذاته من الداخل، وبالأحرى كيف يرى نفسه في مرآته الخاصة وهو في العشرينيات من عمره:
أنا ابن العشرين تحت قميصي
جسم شيخ مخلع موهون
لي وجود من الدخان ووجه
أنت من وهم صورتني، لن تريني
في ثيابي شيخ وما أنا بالشيخ
ولكن تجني عليّ شجوني
يأكل الحب... صحتي والعذابات...
كذا قد خلقت منذ تكويني
حفر الدمع في خدودي دروباً
وغضون  الهوى أشد غضون
كم حبيب حُرمته... يسكن الريش
المندى على حفاف جفوني
لم أزل أصنع المراثي حتى
صار بي حاجة لمن يرثيني

لحظة نرجسية أم ثنائية بشرية؟
وأين نزار الذي كتب مرة يغازل نفسه على لسان امرأة تتغزّل به قائلة:
واصل تدخينك يغريني
رجل في لحظة تدخين
هي نقطة ضعفي كامرأة
فاستثمر ضعفي وجنوني
أشعل واحدة من أخرى
أشعلها من جمر عيوني
ورمادك ضعه على كفي
نيرانك ليست تؤذيني
فأنا كامرأة يكفيني
أن أجلس في هذا المقعد
ساعات في هذا المعبد
أتأمل في الوجه المجهد
وأعدُّ أعد خطوط اليد
فخطوط يديك تسليني
وخيوط الشيب هنا وهنا
تنــهي أعـــصابـــــــــــــــــــــي تـــــنهيني
دخـــــــــــــــــــن لا أروع مــــــــــــــــــــن رجـــــــــــــــل
يفنى في الركن ويفنيني
أهي لحظات نرجسية تلك التي كتبت هذه القصائد (وليس بيننا مَن لا يمر بما يشبهها، ولا بريء أبجدياً منها)، أم أنها ثنائية الإنسان حيث تتعايش المتناقضات في مزيج بشري/طيني/أثيري، لولاه لما وجد الروائيون ما يخطونه في دنيا من تدرجات اللون الرمادي في الطبيعة البشرية، تخلو بالتأكيد من الأبيض الناصع أو الأسود الناصع أيضاً؟

«شامي عتيق» و«بيتوتي»
نزار كان «بيتوتياً»، وهذا التعبير الشامي اللبناني يعني الرجل الذي يفضّل البقاء في بيته على الانتشار والسهر واللهو.
والذين يلقّبون نزار بـ«شاعر المرأة» يظنون حياته انتقالاً من حسناء إلى أخرى وذلك ليس صحيحاً، وأستطيع تأكيده عبر صلتنا الحميمة وهو ما أكّدته أيضاً ابنته الكبرى هدباء، التي عاشت معه ولازمته حتى رحيله.
بل إن نزار كان يخاف على سمعته، وهكذا حين زارت المطربة الكبيرة نجاة الصغيرة بيروت خاف عليها وعلى نفسه من شائعة قصة حب ودعاها نزار إلى العشاء، وهي التي غنت له قصيدة اشتهرت كثيراً يومئذ وهي «أيظنُّ» وأصرّ على أن أرافقهما إلى «مطعم اليلدزلار» في الروشة (لم يعد اليوم موجوداً) خوفاً من مصوّر وشائعة، وكنت سعيدة بذلك، فأنا معجبة بتلك المطربة الكبيرة.
 وحين دعته أرملة لشخصية ســـورية تاريخـــــية إلى الغداء بحضـــور ابنتها المطلّقة، أصرّ على أن أرافــــقه، فمن العادات الشامية أن ترافق الرجل أخته كـــــدلالة على حسن نيته أخلاقياً، وكان ذلك أيضاً شائعاً في بيروت حين وصلت إليها للدراسة في الجامعة الأمريكية، حيث كنت ألتقي في السهرات مع الأصدقاء للرقص والحوار الأدبي وكل منهم ترافقه أخته ويرتفع مستوى السهرات إلى البراءة والجــــديّة. 
وكم غضب نزار يوم نشرت الصحف نبأ خطبتي مع بليغ حمدي وأرغمني على تكذيب الخبر، أنا التي لم أكذِّب يوماً أي خبر بما في ذلك خبر وفاتي! وقلت لنزار لماذا التكذيب وذلك لم يحدث ولن يحدث؟ لكنه أصرّ. وحين تزوج نزار من النخلة العراقية الجميلة جداً شكلاً وإنسانية وخلقاً بلقيس الراوي وصارت صديقتي الأحبّ، كانت تضيق أحياناً بالبقاء في البيت مع نزار «البيتوتي» جداً، وكنت أرافقها إلى السينما والعشاء والندوات الأدبية كيوم حاضر يوسف إدريس في بيروت ونزار «البيتوتي» رافض مرافقتنا أو مغادرة البيت.
ولن أنسى فرحة نزاز حين قلت له إنني أحب بشير الداعوق وسأتزوج منه، وكان بشير أستاذاً في الجامعة الأمريكية لمادة الاقتصاد وإدارة الأعمال ومستشاراً اقتصادياً لأمير الكويت في أواسط الستينيات برفقة الوزير السابق د. إلياس سابا، حيث أقاما في الكويت مدة عامين، وصاحباً لدار الطليعة للنشر، وابناً لأسرة بيروتية عريقة.
وجاء نزار شاهداً لزواجي برفقة خالي الطبيب د. أمين رويحة والصحافي الكبير سليم اللوزي (وكنت أعمل معه) ورئيس الوزراء السابق أحمد الداعوق عم زوجي... وسواهم.
وكان نزار يكرر باستمرار: «أنا رجل يريد أن يقودك إلى بر الأمان» ولم أفهم لماذا إلا بعدما قرأت قصيدته في رثاء أمي... ولكن هل «بر الأمان» متاح في كوكبنا لأي كان في أي زمان ومكان؟
أعتقد أن صــــورة نــــزار الـشائــعة بحاجة إلى تصحــــيح دون إنكار النقاط السود فيها (كما هي حالنا جمــــيعاً) كسرعة غضبه وشجاره مع أصدقاء نبلاء لمجرد أنهم وجدوا في أنفسهم ومحبّتــــهم له الجرأة على انتقاد بعض قصـــــائده... ووقتــــها يتــــحــــول نزار «الغضــــوب» إلى عدو لا يخلو مـــن الشراسة حتى حدود الأذى الشخصي... ولكن مَن بيننا يستطـــيع التنصّل من قائمة صفاته غير المحبّبة؟ ■

 

غادة السمان