في مديح التمر... خبز العرب

في مديح التمر... خبز العرب

شامخ، وعظيم، وعميق، ووديع وكريم. روح الوطن، وعماد التجارة، رمز الكرم والسخاء والعطاء المتدفق، وسلطان مائدة رمضان، حلوى الإيمان وبهجة وطعام الفقراء وقوة الغني وزاد الرحالة والمهاجرين، وطارد الجن، وطبيب لعلاج الداء، يضفي السكينة والهدوء على النفوس المضطربة والقلقة.

منذ أن تساقطت الرطب على تاريخ الإنسانية، ونحن لا نتوقف عن البهجة التي تغلف وجوهنا وكلماتنا وطقوسنا في هذه المناسبة التي ننتظرها، فتبدو كالعيد، نتزين، وننشد الكلام، وتقام المسابقات، وتبدأ البهجة.
تلك البهجة التي تأتي من عمتنا النخلة كما قال المصطفى ، عندما مدح التمر بقوله : «بيت ليس فيه تمر جياع أهله»، و«اتقوا النار ولو بشق تمرة».
لذا يظل موسم جني البلح وجمع التمر، عيداً شعبياً يتم بشكل لاإرادي، له الكثير من الطقوس والعادات التي أصبحت في نسيج الشعوب العربية، وتشكّل جزءاً مهماً من تراثها، خاصة أن النخيل امتزج بأخلاقنا وتقاليدنا وعاداتنا وقدرتنا على الإبداع والبهجة والصمود.
وما بين بهجة معنوية، وأيام مفرحة، وفرصة للتجمع، ومكاسب في الرزق، نخترق التاريخ ونتجول على حواف الأمثال الشعبية، ونرتكن لنسمع بعض الأشعار والأغاني والأمثال والأحلام، في مديح  خبز العرب (التمر).
اللذة التي تنتابنا أثناء تسلقنا النخيل، هي نفسها اللذة التي تملأ وجداننا عندما نتجول بحثاً عن التمر وأنواعه في التراث العربي. ولمكانته العظيمة انبرى العرب يدللونه، ويؤكدون أهميته وعمقه في وجداننا.
نفتتح تاريخنا العربي، بتلك الحكاية القديمة، التي تبدو سلاحاً قوياً في مواجهة أي غزو ثقافي أو تدخل خارجي، عندما سئل يهودي من العراق: ما أهم الأثمار عندكم؟ فأجاب: التمر، ثم سئل مرة أخرى: ثم ماذا؟ فأجاب: التمر أيضاً، فتعجب السائل وقال: كيف ذلك؟ فأجاب: لأن النخل نستظل بسعفه، ونصنع من جذوعه سقوف وأعمدة بيوتنا، ونتخذ منه ومن جريده وقودنا، ونصنع منه الأسرّة والحبال وسائر الأواني والأثاث، ونتخذ التمر طعاماً مغذياً، ونعلف بنواه ماشيتنا، ونصنع منه عسلاً وخمراً.
ولأن النخلة في الذاكرة الخليجية هي «ملكة الشجر» تفتح الحياة بالأهازيج، فإن موسم الجني له أهازيجه الخاصة، فعند رؤية الصرام العذق من فوق النخلة يقول: يا الله، فيردون عليه من هم أسفل النخلة: أعانك الله، ومع كل سعفة يابسة يقصها وخلال رميها يقول: ليفه، فيردون عليه: خفيفة، وعند رمي آخر عذق يقول: هلل، فيردون عليه: لا إله إلاّ الله.
كما يلخص الفلاحون ذلك كله بعبارات معروفة لديهم في أحوال النخلة، فيقولون: «أربعة نظيح، وأربعة جريح، وأربعة تستريح»، ويفسرونها كالتالي: الأربعة الأولى يراد منها أربعة أشهر تكون النخلة فيها منتجة للرطب والتمر، والأربعة الثانية تنظف فيها النخلة من الكرب القديم والسعف اليابس (عمار النخل)، والأربعة الأخيرة تكون فيها النخلة مستريحة فتبدأ عملية التجنيم.
يضاف إلى ذلك أن المائدة الإماراتية عامرة دائماً بالتمر، فنجد له طقوساً متوارثة عند «أهل الفريج» ويحظى باستقبال خاص لـ «خرف الرطب» وهي تباشير الصيف، ينثر البهجة على المائدة بمذاقه الجميل وألوانه المبهجة، والجميع يسعد به منذ وصول «تباشيره الأولى»، ولا تكتمل الفرحة إلا بمشاركة الجيران من صحن التباشير، حين يوزعونه على «أهل الفريج»، معلنين أنهم ذاقوا من «خرايفهم».
ولأن التمر رمز الكرم، نجده يرحب بالضيوف، ويتلازم مع شربهم القهوة، فيقولون: «بهار القهوة التمر»، ويتم تقديم القهوة ثلاث مرات، مرة أول قدوم الضيف، والثانية بعد أكل التمر، والثالثة بعد تناول الطعام.
كما ارتبط التمر ببعض العادات الجميلة، منها عادة «الفوالة»، التي بقيت لفترة طويلة رمزاً للضيافة والكرم، حيث يجتمع النساء والرجال كل يوم في أحد المنازل كل على حدة، أو تطوف نساء الحي على كل منزل من منازل «الفريج» وتتم الضيافة بالفوالة، وهي المأكولات الشعبية والقهوة والتمر في كل منزل.

أقوال وأوصاف في التمر
وصف ابن الرومي التمر، وقال: «ألذّ من السـلوى وأحلى من المنّ وأعذب من وصل الحبيب على الصدِّ»، وقال أبوالعلاء المعري عن النخل: 
«شـربنا ماء دجلة خير مـاء
وزرنا أشـرف الشجر النخيلا»
وقال الخليل بن أحمد الفراهيدي والأصمعي وغيرهما من عظماء وفطاحل اللغة عن النخلة: «إنها شجرة التمر وجمعها نخل ونخيل ونخلات». ويقول ابن القيم عن ثمارها: إنه من أكثر الثمار تغذية للبدن، هو فاكهـة وغذاء ودواء وشـراب. وقد ذكر «بلكرف» عن النخيل: «إنها خبز البلاد ومادة الحياة وعماد التجارة»، وذلك من كتاب «شجرة العذراء» من تأليف توفيق الفكيكي. ويقول أبونواس في وصف حلاوة التمر وطيب مذاقه:
لَيسَت إلى النَخلِ وَالأَعنابِ نِسبَتُها
لَكِن إلى العَسَلِ الماذِيِّ وَالماءِ
وقال ابن وكيع التنيمي في وصف النخيل حاملات التمر، متغنياً بجمال حباتها:
«أَما تَرى النَخلَ طارِحاً بَلَحاً
جاءَ بَشيراً بِدَولَةِ الرُطَبِ
كَأَنَّهُ وَالعُيونُ تَنظُرُهُ
إذا بَدا زَهرُهُ عَلى القُضُبِ
مَكاحِلٌ مِن زُمُرُّدٍ خُرِطَت
مُقَمَّعاتُ الرُؤوسِ بِالذَهَبِ»
ويقارب ابن رشيد القيرواني طعم المجد، بالمر، على خلاف طعم التمر الحلو، قائلا:
«والمجدُ مرٌّ طَعْمُه لا تحسبنَّ المجْدَ تمرَا 
واطمعْ ولا تَهْزِم رجَاءَك إِنَّ بعد العُسْر يُسْراً
والدَّهر يجمعُ ثم يسمَحُ قد رأَينا ذاكَ دَهْراً».
بينما لا نستطيع أن ننسى قول أحمد شوقي أمير الشعراء في وصف النخلة وربطها بعزة النفس والجهاد في الحياة:
كن كالنخيل عن الأحقاد مرتفعاً
يُرمى بصخرٍ فيعطي أطيب الثمرِ.

في الأشعار
كانت ولاتزال للتمر، مكانة مميزة في الشعر العربي، الذي كتب عن التمر مدحاً وحباً له، كما جاء ذكره في أشعار الغزل، وعرض في بعض القصائد المتنوعة التي تعالج قضايا عديدة، وذكر في أشعار الحكمة والوعظ.
فالشاعر محمد آل ملحم يقول:
يا من يقول أحب الحسن أعشقه
أهوى الجمال وأبغيه أفانينا
هل أبصرت مرة عيناك أحسن من
نخل جرت الأنهار تلوينا
بينما يقول أمير الشعراء أحمد شوقي:
أهذا هو النخل ملكُ الرياض
«أمير الحقول عروس العزب
طعام الفقير وحلوى الغني
وزادُ المسافر والمغترب»
ويهجو الفرزدق قوم بني سعد، واصفاً طعامهم بالتمر العتيق، ذي العصارة السيئة، فيقول:
«فَاِهجُر دِيارَ بَني سَعدٍ فَإِنَّهُمُ
قَومٌ عَلى هَوَجٍ فيهِم وَتَهشيمِ
مِن كُلِّ أَقعَسَ كَالراقودَ حُجزَتُهُ
مَملوأَةٌ مِن عَتيقِ التَمرِ وَالثومِ
إِذا تَعَشّى عَتيقَ التَمرِ قامَ لَه
تَحتَ الخَميلِ عِصارٌ ذو أَضاميمِ»
وقال إيليا أبو ماضي في قصيدته «النخلة الحمقاء»:
أقبل الربيع إلى الدنيـا بموكبـه
فزينت وأكتست بالسندس الشجر
وظلت النخلة الحمقـاء عاريـة
كأنها وتد في الأرض أو حجر
فلم يطق صاحب البستان رؤيتها
فأجتثها فهوت في النار تستعر 
ويقول أبو ماضي أيضاً: 
أحببت حتى الشوك في صحرائها
الـلابـس الورق اليبيس تنسكا
هـو آدم الـصحراء أدركه الحيا
أين الصحارى قد تحضر وارتقى
وعـشـقت حتى نخلها المتكبرا
والـشـمخر إلى السماء تجبرا
لـمـا تـبـدى عـرية فتسترا
يـا حـسـنـه متبديا متحضراً
بينما تثير النخلة في النفس شــجوناً وذكريات، فيقول عبدالرحمن الداخل (صقر قريش) أبياتاً شجية أثارتها نخلة حديقة قصره بالرصافة: 
تبدت لنا وسط الرصافة نخـلة
تناءت بأرض الغرب عن بلد النخلِ
فقلت شبيهي بالتغرب والنوى
وطول التنائي عن بني وعن أهلـي
ويقول الشاعر أبو نواس (الحسن بن هاني): 
لنا خمر وليس بخمر نحل
ولكن من نتاج الباسقات
كرائم في السماء زهين
طولا ففات ثمارها أيدي الجناة
قلائص في الرؤوس لها فروع تدر على أكف الحالبات.
ويقول الشاعر زهير:
وهل تنبت الخطي إلا وشجيه
وتغرس إلا في منابتها النخل
وتقول الخنساء:
يـرى مجداً ومكرمة أتاها
إذا غدى الجليسى جريم» 
والجريم هو التمر المتساقط.
ويصف النابغة الذبياني تمراً بقوله:
صغار النوى مكنوزة ليس قشرها
اذا أطـار قشر التمر عنها بطائر
ويقول الأعشى:
فلو كنتم تمرا لكنتم حشافة
ولو كنتم نبلا لكنتم معاقصا»
والحشافة هي التمر اليابس، بينما المعاقص هو المموج.

البلح في الغناء
«يا بلح زغلولي يا حليوة»... إنها أغنية تنطلق على لسان البائع في الشام وهو يبيع البلح الأصفر، ويكمل: «والبلح عالي ياولد... طالع على بالي أذوق البلح».
كذلك نجد أغنية عن البلح من كلمات الشاعر أحمد فؤاد نجم، وغناء المطرب الشهير محمد منير، تقول كلماتها: «يا بلح أبريم يا سمارة... سواك الهوى في العالي... بس احلويت قوي يا سمارة... لما اسمريت قوي يا سمارة»، كما توجد أغنية لفريد الأطرش من كلمات بيرم التونسي يقول فيها: «أكل البلح حلو.. بس النخل في العالي، مش طايلة إيدي البلح... يا ربي كان مالي، والقلب داب وانكوى...صعبان عليّا حالي».
وهناك أغنية شهيرة انطلقت إبان ثورة 1919 في مصر، من كلمات بديع خيري وتلحين سيد درويش وغناء نعيمة المصرية، تدل على الكفاح المصري ضد الإنجليز، فتقول الأغنية:
يا بلح زغلول يا حليوة...
يا بلح زغلول يا زرع بلدي...
يا بلح زغلول عليك بنادي...
في كل وادي قصدي ومرادي...
الله أكبر عليك يا سكر... 
يا جابر اجبر زغلول يا بلح».

التمر في الأحلام
ولأن الأحلام هي ترجمة للواقع، فيحظى التمر بمكانة مرموقة حتى في تأويله وتفسير مناماته، فيقول ابن سيرين: «إن التمر حلاوة الإيمان»، نسبة إلى حديث الرسول  حين فسّر منام سيدنا عمر بن الخطاب ، حين رأى نفسه في المنام يأكل تمراً، بحلاوة الإيمان. ويقول ابن سيرين: «التمر لمن يراه، يدل على المطر، ولمن أكله رزق عام خالص يصير إليه»، وقيل إنّه يدل على قراءة القرآن، وقيل إنّ التمر يدل على مال مدخر.

التمر في الأمثال الشعبية
ولأن النخلة وموسم جني الرطب أصبحا هوية لحياة أهل الخليج العربي، نجد أن هذه الهوية والعادات والتقاليد قد تسربت للكثير من الأمثال الشعبية، وقد حاولنا جمعها، فيقال: «تمرة البيت هِسِّةْ»، والهِسِّةْ: زفر الرائحة، ويعني أن تمرة البيت لها رائحة زفرة، ويضرب عند تفضيل الشخص للغريب على القريب، ويقال: «فرض الفريـض دوا المــريض...إن كلتـه شفاك وإن بعته غناك»، والفرض: نوع من أنواع التمور الجيدة، ويقال: «السحة مسمار الركبة»، و«سحَّة» كلمة كانت تطلق وتعني التمرة، وهي كلمة شعبية قديمة بمنطقة الخليج، ويقال: «إذا كنت تأكل التمر فالناس تعد الطعام»، وهو يقال في حالة التذكير بعدم الغفلة وأخذ الحذر، ويقال في معرض بيان أن الأمور لا يمكن معرفتها إلا في مكانها الصحيح فلا يمكن إطلاق الكرم في وقت توافر التمر عند الجميع. ويقال: «ما يطلع الدبس إلا معاصيره»، ويراد منه أن العمل المتقن يعطي نتائج مضمونة، فالدبس لا يسيل إلا إذا وضع في الجصة وكنز بشكل جيد. ويقال : «لا تفتش تمر»، وهو يقال للنهي عن الخوض في تفاصيل الأمور، لأن النبش فيها قد يظهر خلاف الظاهر.
بينما يقال في النخيل: «الطول طول نخلة والعقل عقل صخلة»، أي العقل لرجل تافه لا يتحدث إلا في صغائر الأمور.
ويقال أيضاً: «احشفه على احشفه ما تلتصق»، والأحشفه هي التمر الجاف، وهذا المثل يقال للشخصين المختلفين اختلافاً كبيراً في الرأي. ويقال: «التمر بالخص والعيش بالقص»، ويعني تناول التمر تمرة تمرة من أي مكان من الصحن، أما العيش (الأرز) فلا يأكله الشخص إلا من جهته من الصحن، ومعناه أن الأمور تؤخذ بالروية وهو درس في الذوق ومراعاة الأصول.
وأخيراً يقال في الصبر : «اصـبـر كـصبر النخيل يضرب بطوبا ويعطي يانعاً».

مهرجانات
ولأن موسم جني التمر ينشر البهجة، أصبح له كثير من المهرجانات في الكثير من البلاد العربية، ففي المملكة العربية السعودية نجد مهرجان تمور «بريدة» في منطقة القصيم، وهو الأضخم بالسعودية والأشهر على مستوى العالم، ومهرجان «عنيزة» في منطقة القصيم أيضا، ومهرجان «الأحساء» الذي يحمل شعار «ويّا التمر أحلى 2015» لهذا العام، ومهرجان التمور العمانية في ولاية نزوى.
 كذلك نجد مهرجانات مرتبطة بموسم الرطب في كل من رأس الخيمة والفجيرة، وسط استبشار الأهالي بباكورة الرطب، أو ما يطلق عليه اسم «النغال» وهو الثمر الأكثر شهرة بين الأهالي في قطفته الأولى لتباشير الرطب المحلي .