أُنسي الحاج من مجلة «شعر» إلى آخِر «الخواتِم»

أُنسي الحاج من مجلة «شعر» إلى آخِر «الخواتِم»

الكتابة‭ ‬عن‭ ‬الشاعر،‭ ‬في‭ ‬لحظة‭ ‬موته،‭ ‬غالبا‭ ‬ما‭ ‬تأتي‭ ‬انفعالية،‭ ‬سريعة،‭ ‬وبلا‭ ‬مرجعيات‭ ‬ضرورية‭ ‬للإحاطة‭ ‬بهوية‭ ‬الشعر‭ ‬أو‭ ‬ماهيته‭. ‬لذا،‭ ‬كان‭ ‬لابد‭ ‬من‭ ‬مسافة‭ ‬زمانية‭ ‬للكتابة‭ ‬عن‭ ‬الشاعر‭ ‬اللبناني‭ ‬أنسي‭ ‬الحاج‭ (‬1937‭ - ‬2014‭)‬،‭ ‬الذي‭ ‬توفي‭ ‬أخيراً‭ ‬في‭ ‬بيروت‭ ‬بعد‭ ‬صراع‭ ‬مع‭ ‬المرض،‭  ‬وقد‭ ‬غمرت‭ ‬الشهادات‭ ‬شخصه‭ ‬الشعري‭ ‬بفيض‭ ‬من‭ ‬الانفعالات،‭ ‬والذكريات‭ ‬الشخصية،‭ ‬والمقابلات‭ ‬المستعادة،‭ ‬وهو‭ ‬أمر‭ ‬حجب‭ ‬شخصه‭ ‬الشعري‭ ‬أكثر‭ ‬مما‭ ‬أظهر،‭ ‬ولم‭ ‬يراع‭ ‬في‭ ‬صيرورته‭ ‬الشعرية‭ ‬التحولات‭ ‬التي‭ ‬خضعت‭ ‬لها،‭ ‬وإعادة‭ ‬النظر‭ ‬في‭ ‬مواقفه‭ ‬واختياراته‭ ‬الشعرية‭ ‬والنقدية‭ ‬معاً،‭ ‬ما‭ ‬شكل‭ ‬انعطافاً‭ ‬جذرياً‭ ‬في‭ ‬موقفه‭ ‬النقدي‭ ‬الذي‭ ‬لطالما‭ ‬عُرف‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬الشعر‭ ‬العربي‭...‬

فهو‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال،‭ ‬وفي‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬آخر‭ ‬مقالاته‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يسميها‭ ‬‮«‬خواتم‭ ‬3‮»‬‭ ‬وينشرها‭ ‬كل‭ ‬سبت‭ ‬في‭ ‬صحيفة‭ ‬الأخبار‭ ‬اللبنانية،‭ ‬تحت‭ ‬عنوان‭ ‬‮«‬كلما‭ ‬جَرَّحتُ‭ ‬هذي‭ ‬البرتقالة،‭ ‬تبتسم‮»‬،‭ ‬كتب‭ ‬ثلاث‭ ‬فقرات‭ ‬متكاملة‭: ‬الأولى‭ ‬تتعلق‭ ‬بديوان‭ ‬‮«‬النازلون‭ ‬على‭ ‬الريح‮»‬‭ ‬الصادر‭ ‬لي‭ ‬عن‭ ‬دار‭ ‬الآداب‭ ‬2013،‭ ‬وقد‭ ‬بدأ‭ ‬باختيارات‭ ‬شعرية‭ ‬من‭ ‬الديوان‭ ‬وسجل‭ ‬تجاهها‭ ‬ملاحظات‭ ‬عميقة‭ ‬وبليغة،‭ ‬فأشار‭ ‬إلى‭ ‬علامات‭ ‬الجوهر‭ ‬الشعري‭ ‬في‭ ‬‮«‬النازلون‭ ‬على‭ ‬الريح‮»‬،‭ ‬وإلى‭ ‬‮«‬التدفق‭ ‬الغنائي‮»‬‭ ‬و«التجرية‭ ‬الإنسانية‭ ‬المثخنة‭ ‬بالجروح‮»‬‭ ‬و«أنوار‭ ‬الفجر‮»‬‭ ‬و«السرد‮»‬‭ ‬و«صفاء‭ ‬الوزن‮»‬‭... ‬ويذكر‭ ‬أنه‭ ‬فوجئ‭ ‬بقصيدة‭ ‬‮«‬طلل‮»‬‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يستطيع‭ ‬أن‭ ‬يجد‭ ‬ما‭ ‬يشبهها‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬ديوان‭ ‬الشعر‭ ‬الجاهلي‭... ‬وينتهي‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬‮«‬الشعر‭ ‬لا‭ ‬يضيع‭ ‬بتنويع‭ ‬الأداء‮»‬‭... ‬ثم‭ ‬يعتبر،‭ ‬بجملة‭ ‬معبرة،‭ ‬أن‭ ‬‮«‬النازلين‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الشعر،‭ ‬ضيوف‭ ‬محسودون‮»‬‭.‬

في‭ ‬الفقرة‭ ‬الثانية‭ ‬من‭ ‬مقالته،‭ ‬تحت‭ ‬عنوان‭ ‬‮«‬اعتذار‭ ‬مستمر‮»‬،‭ ‬ثمة‭ ‬اعتذار‭ ‬متكرر‭ ‬بشأن‭ ‬استناده‭ ‬مع‭ ‬أدونيس،‭ ‬إلى‭ ‬كتاب‭ ‬سوزان‭ ‬برنار‭ ‬عن‭ ‬قصيدة‭ ‬النثر‭ ‬من‭ ‬حوالي‭ ‬خمسين‭ ‬عاماً،‭ ‬واعتماده‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬مقدمة‭ ‬ديوانه‭ ‬الأول‭ ‬‮«‬لن‮»‬‭... ‬ويقول‭ ‬إنه‭ ‬كان‭ ‬ثمة‭ ‬‮«‬إغراق‮»‬‭ ‬في‭ ‬جملة‭ ‬أخطاء،‭ ‬وإنه‭ ‬‮«‬لم‭ ‬يتوقف‭ ‬عن‭ ‬الاعتذار‭ ‬عما‭ ‬اقترفه‭ ‬من‭ ‬تنظيرات‭ ‬اعتباطية‭ ‬في‭ ‬شأن‭ ‬لا‭ ‬يحتمل‭ ‬إلا‭ ‬التواضع‮»‬‭.‬

أما‭ ‬في‭ ‬المقطع‭ ‬الثالث‭ ‬من‭ ‬مقالته،‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬صدق‭ ‬أو‭ ‬لا‭ ‬تصدق‮»‬،‭ ‬فهو‭ ‬يعيد‭ ‬النظر‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬يسميه‭ ‬ركاماً‭ ‬في‭ ‬الشعر،‭ ‬كان‭ ‬يخلبه‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬من‭ ‬الأزمنة،‭ ‬حيث‭ ‬يشمل‭ ‬ضجره‭ ‬من‭ ‬رامبو‭ ‬وبودلير،‭ ‬مروراً‭ ‬بالعشق‭ ‬الجنسي‭ ‬اللزج‭ ‬لأبي‭ ‬نواس،‭ ‬والمتنبي‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يشبع‭ ‬من‭ ‬لحس‭ ‬دمه،‭ ‬ويضيف‭: ‬‮«‬نحن‭ ‬معشر‭ ‬ديوك‭ ‬الحداثة،‭ ‬أجهز‭ ‬أولادنا‭ ‬على‭ ‬الباقي،‭ ‬بعدما‭ ‬فتحنا‭ ‬صندوق‭ ‬بندورا‭ (‬طماطم‭)‬واندلعت‭ ‬منه‭ ‬أفاعي‭ ‬الكاوتشوك‭ ‬وعقارب‭ ‬القش‭. ‬أعرنا‭ ‬أنفسنا‭ ‬لنكون‭ ‬جنود‭ ‬العدم،‭ ‬وبيادق‭ ‬القدر‮»‬‭. (‬جريدة‭ ‬الأخبار‭ ‬اللبنانية،‭ ‬نوفمبر‭/ ‬تشرين‭ ‬الثاني‭ ‬2013‭).‬

وقد‭ ‬اعتبرت‭ ‬هذه‭ ‬الكتابة‭ ‬الجديدة‭ ‬من‭ ‬أنسي‭ ‬الحاج،‭ ‬بمنزلة‭ ‬عمل‭ ‬انقلابي‭ ‬قام‭ ‬به‭ ‬الشاعر‭ ‬على‭ ‬نفسه‭ ‬وعلى‭ ‬الآخرين،‭ ‬وصاحبها‭ ‬الشجاع،‭ ‬أو‭ ‬فتاها‭ ‬الشجاع،‭ ‬ظهر‭ ‬أنه‭ ‬قادر‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬ثائراً‭ ‬على‭ ‬نفسه،‭ ‬وعلى‭ ‬الآخرين،‭ ‬بعد‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬نصف‭ ‬قرن‭ ‬من‭ ‬قناعات‭ ‬ومعارك‭ ‬وكتابات‭ ‬شاهدة‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬نقول،‭ ‬وأن‭ ‬ما‭ ‬دفعه‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬الانقلاب،‭ ‬نصوص‭ ‬شعرية‭ ‬بعينها،‭ ‬ذكرها‭ ‬نصاً‭ ‬في‭ ‬ديوان‭ ‬‮«‬النازلون‭ ‬على‭ ‬الريح‮»‬،‭ ‬وكانت‭ ‬كفيلة‭ ‬بأن‭ ‬تلقي‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬الراكد‭ ‬للشعر‭ ‬العربي‭ ‬اليوم،‭ ‬خضة‭ ‬قوية،‭ ‬وتفتح‭ ‬بابا‭ ‬يكاد‭ ‬يكون‭ ‬مغلقاً‭ ‬للسجال‭ ‬حول‭ ‬صيرورة‭ ‬القصيدة‭ ‬العربية‭ ‬ومعناها‭ ‬وصلتها‭ ‬بلغتها‭ ‬وتاريخها‭ ‬وبالإيقاع،‭ ‬وصلتها‭ ‬بالحداثة‭ ‬ومعنى‭ ‬الحداثة‭ ‬ذاتها،‭ ‬وهل‭ ‬هي‭ ‬انقطاع‭ ‬في‭ ‬الصيرورة‭ ‬العربية‭ ‬أم‭ ‬تواصل‭ ‬وإضافة؟‭... ‬وصلة‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬بالعربية‭ ‬كلغة‭ ‬وكحضارة،‭ ‬وهل‭ ‬الشعراء‭ ‬هم‭ ‬قادة‭ ‬الأمم؟‭ ‬فالشعر‭ ‬العربي،‭ ‬على‭ ‬الأرجح،‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬كوّن‭ ‬الأمة‭ ‬العربية‭ ‬على‭ ‬امتداد‭ ‬التاريخ،‭ ‬بمعنى‭ ‬أن‭ ‬الشعر‭ ‬الجاهلي‭ ‬هو‭ ‬أصل‭ ‬القومية‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬الجاهلية،‭ ‬وقد‭ ‬تبنى‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭ ‬لغة‭ ‬هذا‭ ‬الشعر،‭ ‬وانطلقت‭ ‬الأمة‭ ‬العربية‭ ‬محمولة‭ ‬على‭ ‬جناح‭ ‬لغة‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬لغة‭ ‬الشعر‭ ‬الجاهلي‭ ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬لهجاته‭ (‬لهجة‭ ‬قريش‭)‬،‭ ‬والشعراء‭ ‬على‭ ‬امتداد‭ ‬الأزمنة،‭ ‬هم‭ ‬الذين‭ ‬حافظوا‭ ‬على‭ ‬الهوية‭ ‬العربية،‭ ‬ورمموا‭ ‬تصدعاتها،‭ ‬وصدعوها‭ ‬حين‭ ‬كانت‭ ‬فاسدة‭... ‬هذه‭ ‬الأسئلة‭ ‬الجوهرية‭ ‬حركتها‭ ‬مقالة‭ ‬أنسي‭ ‬الحاج‭ ‬المذكورة،‭ ‬التي‭ ‬كتبها‭ ‬قبل‭ ‬موته‭ ‬بثلاثة‭ ‬أشهر‭ ‬ونيف،‭ ‬وقد‭ ‬كان‭ ‬لنا‭ ‬منه‭ ‬موقف‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬مضى،‭ ‬على‭ ‬امتداد‭ ‬خمسين‭ ‬عاماً،‭ ‬برغم‭ ‬أننا‭ ‬لم‭ ‬نتبادل‭ ‬في‭ ‬حياته‭ ‬سوى‭ ‬بضع‭ ‬كلمات،‭ ‬بعد‭ ‬نشر‭ ‬مقالته‭ ‬تلك‭... ‬وكان‭ ‬لنا‭ ‬حقل‭ ‬اشتباك‭ ‬واسع،‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬علاقتي‭ ‬به‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬شخصية‭ ‬قط،‭ ‬بل‭ ‬موضوعية‭ ‬موثقة‭ ‬توثيقاً‭ ‬كاملا‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬ملاحظاتي‭ ‬التي‭ ‬كنت‭ ‬كتبتها‭ ‬على‭ ‬أعداد‭ ‬مجلة‭ ‬‮«‬شعر‮»‬‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬الحاج‭ ‬أحد‭ ‬أركانها‭... ‬وطريقتي‭ ‬في‭ ‬قراءة‭ ‬قصائده‭ ‬ومقالاته‭ ‬وأعماله،‭ ‬حيث‭ ‬إن‭ ‬القراءة‭ ‬دائما‭ ‬كانت‭ ‬نقدية،‭ ‬ومصحوبة‭ ‬بالقلم،‭ ‬ومعززة‭ ‬بالحواشي‭ ‬والأسئلة‭ ‬والحوارات‭ ‬الجوهرية‭ ‬مع‭ ‬المقروء،‭ ‬مسجلة‭ ‬على‭ ‬بياض‭ ‬الصفحات‭ ‬والهوامش‭ ‬وبين‭ ‬السطور،‭ ‬حتى‭ ‬تكاد‭ ‬التعليقات‭ ‬توازي‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الأحيان،‭ ‬الأصل‭ ‬المقروء،‭ ‬أو‭ ‬تفيض‭ ‬عنه‭.‬

 

مجلة‭ ‬‮«‬شعر‮»‬

بدأت‭ ‬صورة‭ ‬أنسي‭ ‬الحاج‭ ‬تحضر‭ ‬لديّ‭ ‬منذ‭ ‬أن‭ ‬انطلق‭ ‬صوته‭ ‬في‭ ‬مجلة‭ ‬‮«‬شعر‮»‬،‭ ‬من‭ ‬لدن‭ ‬صدورها‭ ‬الأول‭ ‬في‭ ‬يناير‭ (‬كانون‭ ‬الثاني‭ ‬1957‭) ‬حتى‭ ‬اختفائها‭  ‬الأخير‭ ‬في‭ ‬سنتها‭ ‬الحادية‭ ‬عشرة‭ (‬خريف‭ ‬1970‭)... ‬فالرجل‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬الكتّاب‭ ‬الذين‭ ‬تنتظرهم،‭ ‬والكاتب‭ ‬الذي‭ ‬تنتظره،‭ ‬هو‭ ‬الكاتب‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬تعرف‭ ‬مسبقا‭ ‬ما‭ ‬سيقوله،‭ ‬فيأتيك‭ ‬بالجديد‭ ‬والمفاجئ‭. ‬وهكذا‭ ‬كان‭ ‬أنسي‭ ‬الحاج،‭ ‬بل‭ ‬لعلّ‭ ‬هذا‭ ‬كان‭ ‬أحد‭ ‬أسباب‭ ‬توهجه‭ ‬على‭ ‬امتداد‭ ‬ما‭ ‬يزيد‭ ‬على‭ ‬نصف‭ ‬قرن‭ ‬من‭ ‬عمر‭ ‬الحداثة‭ ‬الشعرية‭ ‬العربية،‭ ‬من‭ ‬ديوانه‭ ‬الأول‭ ‬‮«‬لن‮»‬‭ ‬الصادر‭ ‬في‭ ‬طبعته‭ ‬الأولى‭ ‬عن‭ ‬مجلة‭ ‬‮«‬شعر‮»‬‭ ‬العام‭ ‬1960،‭ ‬وصولاً‭ ‬إلى‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬الوليمة‮»‬‭ (‬العام‭ ‬1994‭)‬،‭ ‬وما‭ ‬بعد‭ ‬‮«‬الوليمة‮»‬،‭ ‬وما‭ ‬قبلها،‭ ‬‮«‬كلمات‮»‬،‭ ‬و«خواتم‮»‬،‭ ‬سواء‭ ‬ما‭ ‬جمع‭ ‬منها‭ ‬في‭ ‬كتاب،‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬يجمع‭ ‬حتى‭ ‬الخاتم‭ ‬الأخير‭.‬

صحيح‭ ‬أنه‭ ‬صوّب‭ ‬سهامه‭ ‬الحادة‭ ‬وغضبه‭ ‬العصبي‭ ‬ضد‭ ‬الماضي،‭  ‬ولكنه‭ ‬كان‭ ‬يعتقد‭ ‬أنه‭ ‬بذلك‭ ‬يؤسس‭ ‬للمستقبل‭ ‬أكثر،‭ ‬والماضي‭ ‬عنده‭ ‬والحاضر‭ ‬والآتي‭ ‬هو‭ ‬صاحب‭ ‬‮«‬ماضي‭ ‬الأيام‭ ‬الآتية‮»‬،‭ ‬يتركز‭ ‬في‭ ‬اللحظة‭ ‬الشعرية،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬لديه‭ ‬متسع‭ ‬لتزاحم‭ ‬اللحظات‭... ‬هذا‭ ‬المتسع‭ ‬تكون‭ ‬عنده‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬بعد،‭ ‬في‭ ‬مراحل‭ ‬لاحقة،‭ ‬وفي‭ ‬صحوة‭ ‬شعرية‭ ‬من‭ ‬صحواته‭. ‬ولمَ‭ ‬لا؟‭ ‬فالحداثيون‭ ‬في‭ ‬الغرب،‭ ‬والقلقون‭ ‬من‭ ‬الحداثيين‭ ‬العرب،‭ ‬تنبهوا‭ ‬بحدسهم‭ ‬الساطع،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬لحظتهم‭ ‬الشعرية‭ ‬التي‭ ‬تستغرقهم‭ ‬الآن،‭ ‬ليست‭ ‬حجراً‭ ‬يقفلون‭ ‬به‭ ‬فم‭ ‬الماضي‭ ‬كما‭ ‬يقفل‭ ‬فم‭ ‬القبر‭ ‬بحجر،‭ ‬وليست‭ ‬صنارة‭ ‬للصيد‭ ‬يلقونها‭ ‬في‭ ‬بحر‭ ‬الغد‭ ‬المتلاطم،‭ ‬لأن‭ ‬هذا‭ ‬البحر‭ ‬شاسع‭ ‬واسع‭ ‬كالدهر‭ ‬أو‭ ‬كالشعر‭ ‬نفسه،‭ ‬وأن‭ ‬ما‭ ‬يحملونه‭ ‬بين‭ ‬جوانحهم‭ ‬من‭ ‬جوهر‭ ‬القصيدة،‭ ‬هو‭ ‬جوهر‭ ‬طائر‭ ‬في‭ ‬الزمان،‭ ‬ومذرور‭ ‬في‭ ‬أمكنة‭ ‬شتى‭. ‬ولعل‭ ‬هذا‭ ‬القلق‭ ‬المفتوح‭ ‬على‭ ‬مصراعيه‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الكلمات،‭ ‬هو‭ ‬أساس‭ ‬ديمومة‭ ‬شاعر‭ ‬ما‭ ‬أو‭ ‬روائي‭ ‬أو‭ ‬مسرحي‭... ‬إلخ،‭ ‬هل‭ ‬هو‭ ‬الخوف؟‭ ‬نعم‭ ‬وممَ؟‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬شيء‭... ‬هل‭ ‬هو‭ ‬عدم‭ ‬الرضا؟‭ ‬نعم‭ ‬وممَ؟‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬أيضا‭.‬

 

كان‭ ‬يخاف

أنسي‭ ‬الحاج‭ ‬شاعر‭ ‬كان‭ ‬يخاف،‭ ‬كان‭ ‬يخاف‭ ‬كثيراً،‭ ‬وكان‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬أساس‭ ‬اندفاعاته‭ ‬الشرسة‭. ‬لم‭ ‬يكتب‭ ‬شيئا‭ ‬للعدد‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬مجلة‭ ‬‮«‬شعر‮»‬،‭ ‬منتظراً‭ ‬العدد‭ ‬الثاني‭ ‬ليكتب‭ ‬نقداً‭ ‬ذكياً‭ ‬لديوان‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬البياتي‭ ‬‮«‬المجد‭ ‬للأطفال‭ ‬والزيتون‮»‬‭. ‬وضع‭ ‬يده‭ ‬على‭ ‬مكوّن‭ ‬من‭ ‬مكونات‭ ‬شعرية‭ ‬البياتي،‭ ‬ما‭ ‬يسميه‭ ‬أنسي‭ ‬الحاج،‭ ‬العقد‭ ‬النفسية‭ ‬العميقة،‭ ‬وأهمها‭ ‬عقدة‭ ‬النقص‭... (‬من‭ ‬خلال‭ ‬قوله‭ ‬في‭ ‬أغنية‭ ‬إلى‭ ‬يافا‭: ‬‮«‬فبكيتُ‭ ‬من‭ ‬عاري‮»‬‭)... ‬ويستطرد‭ ‬للكشف‭ ‬عن‭ ‬بعض‭ ‬مصادر‭ ‬البياتي‭ ‬من‭ ‬نيرودا‭ ‬إلى‭ ‬ماوتسي‭ ‬تونج‭/‬،‭ ‬معتبرا‭ ‬بيتين‭ ‬أدخلهما‭ ‬الشاعر‭ ‬في‭ ‬قصيدته‭ ‬لماو،‭ ‬أجمل‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬القصيدة‭ ‬وهو‭ ‬يضرب‭ ‬ضربات‭ ‬موجعة‭ ‬على‭ ‬وتر‭ ‬الالتزام‭ ‬لدى‭ ‬الشاعر‭ ‬نفسه‭ ‬وفي‭ ‬الشعر‭ ‬الملتزم‭ ‬عامة،‭ ‬ولاسيما‭ ‬حين‭ ‬يحشر‭ ‬كلمة‭ ‬‮«‬رفيق‮»‬‭ ‬أو‭ ‬‮«‬رفاق‮»‬‭ ‬في‭ ‬القصيدة‭ ‬حشراً‭.‬

 

ضربات‭ ‬معوله‭ ‬المؤرقة

في‭ ‬العدد‭ ‬الثاني‭ (‬صيف‭ ‬1957‭)‬،‭ ‬يواصل‭ ‬أنسي‭ ‬ضربات‭ ‬معوله‭ ‬النقدي‭ ‬المؤرقة‭ ‬في‭ ‬ثلاث‭ ‬مجموعات‭ ‬شعرية‭ ‬من‭ ‬إفريقيا،‭ ‬‮«‬الطين‭ ‬والأظافر‮»‬‭ ‬لمحيي‭ ‬الدين‭ ‬فارس،‭ ‬و«أغاني‭ ‬إفريقيا‮»‬‭ ‬لمفتاح‭ ‬الفيتوري‭ (‬محمد‭)‬،‭ ‬و«عبير‭ ‬الأرض‮»‬‭ ‬لفوزي‭ ‬العنتيل‭. ‬يضع‭ ‬إصبعه‭ ‬مباشرة‭ ‬على‭ ‬الخيط‭ ‬الجامع‭ ‬بين‭ ‬هذه‭ ‬الدواوين،‭ ‬وهو‭ ‬خيط‭ ‬اللون‭ ‬الأسود‭ ‬أو‭ ‬العنصرية،‭ ‬حيث‭ ‬يضيع‭ ‬الفن‭ ‬في‭ ‬علو‭ ‬الصوت‭ ‬والصراخ‭... ‬في‭ ‬الفيتوري‭ ‬يرى‭ ‬أنه‭ ‬متكلف‭ ‬الألم،‭ ‬وينتهي‭ ‬الحقد‭ ‬به‭ ‬إلى‭ ‬عرض‭ ‬أخوي،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يكاد‭ ‬يكون‭ ‬مألوفا‭ ‬عند‭ ‬محيي‭ ‬الدين‭ ‬فارس‭ ‬أيضا‭. ‬في‭ ‬نقد‭ ‬العنتيل،‭ ‬يستطرد‭ ‬إلى‭ ‬نقد‭ ‬الناس‭ ‬الذين‭ ‬رأوا‭ ‬في‭ ‬شعر‭ ‬العنتيل‭ ‬الغنائي‭ ‬‮«‬سمّاً‭ ‬في‭ ‬نفوس‭ ‬الناشئة‮»‬‭... ‬كما‭ ‬يسخر‭ ‬من‭ ‬الكآبة‭ ‬المرضية‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬الرومانطيكي‭ ‬عامة‭.‬

في‭ ‬عدد‭ ‬خريف‭ ‬1957،‭ ‬أيضا،‭ ‬ضربة‭ ‬نقدية‭ ‬لأنسي‭ ‬الحاج‭ ‬هي‭ ‬هنا‭ ‬في‭ ‬‮«‬سلة‭ ‬شعر‮»‬‭ ‬لنقولا‭ ‬قربان،‭ ‬وكان‭ ‬قربان‭ ‬صيداً‭ ‬سهلاً‭ ‬افترسه‭ ‬نقد‭ ‬أنسي‭: ‬‮«‬الشعر‭ ‬الذي‭ ‬يحضنه‭ ‬ديوان‭ ‬سلّة‭ ‬شعر‭ ‬هو‭ ‬لإنسان‭ ‬مريض‭ ‬الخيال‭ ‬يتعلق‭ ‬بنجمة‭ ‬زانية‭... ‬وهو‭ ‬شاعر‭ ‬لا‭ ‬يرتفع‭ ‬إلى‭ ‬مستوى‭ ‬مشكلات‭ ‬بيئته‭ ‬وعصره‮»‬‭. ‬إنه‭ ‬‮«‬شاعر‭ ‬بادي‭ ‬الإعياء،‭ ‬بادي‭ ‬الطفولة،‭ ‬لكن‭ ‬طفولته‭ ‬في‭ ‬غير‭ ‬محلها‮»‬‭.‬

لم‭ ‬يبدأ‭ ‬أنسي‭ ‬الحاج‭ ‬بنشر‭ ‬قصائده‭ ‬في‭ ‬مجلة‭ ‬‮«‬شعر‮»‬‭ ‬إلا‭ ‬ابتداء‭ ‬من‭ ‬شتاء‭ ‬1958،‭ ‬حيث‭ ‬نشر‭ ‬قصائده‭ ‬الثلاث،‭ ‬جاءت‭ ‬متجاورة‭ ‬مع‭ ‬قصائد‭ ‬الماغوط‭ ‬وقباني‭ ‬ورفقة‭ ‬وجبرا‭ ‬وبدوي‭ ‬الجبل‭ ‬والجيوسي‭ ‬ويوسف‭ ‬الصائغ‭. ‬ما‭ ‬كنت‭ ‬كتبته‭ ‬من‭ ‬تعليق‭ ‬حول‭ ‬قصائده،‭ ‬كلمة‭ ‬واحدة‭ ‬هي‭ ‬‮«‬لذيذ‮»‬،‭ ‬تماما‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬البيت‭ ‬التالي‭: ‬‮«‬أريديني‭ ‬كجماعات‭ ‬تنقبر‭ ‬عندما‭ ‬ينطفئ‭ ‬الليل،‭ ‬إذا‭ ‬أردت‭ ‬ألا‭ ‬أزعل‮»‬‭. ‬أرجح‭ ‬الآن‭ ‬أن‭ ‬سر‭ ‬اللذة‭ ‬كائن‭ ‬في‭ ‬الغرابة‭. ‬يغيب‭ ‬الشاعر‭ ‬عن‭ ‬عدد‭ ‬ربيع‭ ‬وصيف‭ ‬وخريف‭ ‬1958،‭ ‬ليطل‭ ‬في‭ ‬آخر‭ ‬عدد‭ ‬شتاء‭ ‬1959‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬ترجمة‭ ‬سبع‭ ‬قصائد‭ ‬لجاك‭ ‬بريفير،‭ ‬وكتابة‭ ‬دراسة‭ ‬مركزة‭ ‬عنه‭ ‬وعن‭ ‬شعره،‭ ‬حيث‭ ‬رأى‭ ‬فيه‭ ‬شاعرا‭ ‬‮«‬تطعَّم‭ ‬بالسوريالية‭ ‬وآمن‭ ‬بالاشتراكية‭ ‬وجاور‭ ‬الوجودية‮»‬‭. ‬يرى‭ ‬فيه‭ ‬أنه‭ ‬شاعر‭ ‬صورة‭ ‬‮«‬سينما‮»‬‭ ‬ينبع‭ ‬شعره‭ ‬من‭ ‬العنصر‭ ‬الخام‭ ‬غير‭ ‬المتداول‭... ‬‮«‬لا‭ ‬أثر‭ ‬للغيبات‭ ‬السحابية‭ ‬في‭ ‬شعره،‭ ‬إنما‭ ‬هو‭ ‬شاعر‭ ‬أرض‮»‬‭. ‬ولا‭ ‬يتهيب‭ ‬الحاج‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يقول‭ ‬في‭ ‬بريفير،‭ ‬إنه‭ ‬ثرثار‭ ‬ومشعوذ‭ ‬وسطحي‭ ‬وديما‭ ‬جوجي،‭ ‬وإنه‭ ‬لم‭ ‬يؤمن‭ ‬بالله‭ ‬لأنه‭ ‬لم‭ ‬يره‭... ‬‮«‬ولكنه‭ ‬يكتب‭ ‬مثلما‭ ‬يحكي،‭ ‬ويحكي‭ ‬مثلما‭ ‬يكتب‮»‬‭.‬

 

عودة‭ ‬الحاج‭ ‬إلى‭ ‬نقده

في‭ ‬عدد‭ ‬ربيع‭ ‬1959،‭ ‬يعود‭ ‬الحاج‭ ‬إلى‭ ‬النقد،‭ ‬فيضع‭ ‬تحت‭ ‬مجهره‭ ‬‮«‬مدينة‭ ‬بلا‭ ‬قلب‮»‬‭ ‬لأحمد‭ ‬عبدالمعطي‭ ‬حجازي،‭ ‬وقصائد‭ ‬عربية‭ ‬لسليمان‭ ‬العيسى،‭ ‬وما‭ ‬يجمع‭ ‬بينهما،‭ ‬على‭ ‬اختلاف،‭ ‬هو‭ ‬صدورهما‭ ‬معاً‭ ‬عن‭ ‬دار‭ ‬الآداب‭. ‬لا‭ ‬يقسو‭ ‬الحاج‭ ‬على‭ ‬حجازي،‭ ‬بل‭ ‬يراه‭ ‬شاعراً‭ ‬انتقالياً،‭ ‬يحاول‭ ‬التخلص‭ ‬من‭ ‬الرومانطيكية،‭ ‬وأنه‭ ‬يعطي‭ ‬المراهقة‭ ‬نصيبها‭ ‬من‭ ‬الحزن‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يودعها‭... ‬لكنه‭ ‬يضرب‭ ‬ضربات‭ ‬قاسية‭ ‬في‭ ‬ديوان‭ ‬سليمان‭ ‬العيسى‭... ‬‮«‬تقرأ‭ ‬ديوانه‭ ‬من‭ ‬الألف‭ ‬إلى‭ ‬الياء،‭ ‬لتعود‭ ‬فتقرأه‭ ‬من‭ ‬الدال‭ ‬إلى‭ ‬الميم،‭ ‬ومن‭ ‬الميم‭ ‬إلى‭ ‬الدال،‭ ‬وكأنك‭ ‬لم‭ ‬تبدأ‭ ‬ولم‭ ‬تنته‭...‬‮»‬‭. ‬وهو‭ ‬يقارن‭ ‬بين‭ ‬الشاعرين‭ ‬في‭ ‬كلمات‭ ‬أخيرة‭ ‬‮«‬لقد‭ ‬جمع‭ ‬أحمد‭ ‬حجازي‭ ‬بين‭ ‬الثورة‭ ‬القومية‭ ‬والثورة‭ ‬الفنية،‭ ‬فكانت‭ ‬ثورته‭ ‬ثورة،‭ ‬وجمع‭ ‬سليمان‭ ‬العيسى‭ ‬بين‭ ‬الثورة‭ ‬القومية‭ ‬والعبودية‭ ‬الفنية‭ ‬فجاءت‭ ‬ثورته‭ ‬نصفية‮»‬‭.‬

في‭ ‬عدد‭ ‬صيف‭ ‬1959،‭ ‬نقد‭ ‬لديوان‭ ‬‮«‬عائدون‮»‬‭ ‬للشاعر‭ ‬الفلسطيني‭ ‬يوسف‭ ‬الخطيب‭... ‬وكأنه‭ ‬استطراد‭ ‬لنقد‭ ‬خطابية‭ ‬سليمان‭ ‬العيسى،‭ ‬فيقول‭ ‬فيهما‭: ‬‮«‬إنهما‭ ‬شاعران‭ ‬منبريان‭ ‬يندبان‭ ‬الميت‭ ‬نفسه،‭ ‬ويستبكيان‭ ‬بالطرق‭ ‬نفسها‭ ‬العيون‭ ‬نفسها‮»‬‭.‬

صيد‭ ‬خريف‭ ‬1959‭ ‬لأنسي‭ ‬الحاج،‭ ‬كان‭ ‬ديوان‭ ‬‮«‬ساق‭ ‬على‭ ‬الدانوب‮»‬‭ ‬لهلال‭ ‬ناجي،‭ ‬حيث‭ ‬يتولّى‭ ‬قارئ‭ ‬هذا‭ ‬الديوان،‭ ‬شعور‭ ‬طافح‭ ‬بالأسف،‭ ‬يلجئه‭ ‬إلى‭ ‬نفض‭ ‬اليد‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬بارقة‭ ‬أمل‭ ‬بتغيير‭ ‬الشعر‭ ‬العربي‭ ‬المعاصر‭. ‬بل‭ ‬هو‭ ‬مواصلة‭ ‬لاحتضار‭ ‬الشعر‭ ‬العربي‭ ‬التقليدي‭... ‬من‭ ‬خلال‭ ‬شعر‭ ‬صحراوي‭ ‬معاصر‭. ‬وينهي‭ ‬الحاج‭ ‬بقوله‭: ‬‮«‬نحن‭ ‬المعاصرين،‭ ‬نطلب‭ ‬شعراً‭ ‬من‭ ‬نوع‭ ‬آخر‮»‬‭.‬

لا‭ ‬أثر‭ ‬لقلم‭ ‬أنسي‭ ‬الحاج‭ ‬في‭ ‬عدد‭ ‬شتاء‭ ‬1960،‭ ‬ليطل‭ ‬بثلاث‭ ‬قصائد‭ ‬في‭ ‬ربيع‭ ‬1960،‭ ‬كانت‭ ‬ملاحظتي‭ ‬عليها‭ ‬هي‭ ‬‮«‬شعر‭ ‬كابوسي‮»‬‭: ‬‮«‬مائة‭ ‬ألف‭ ‬ملاك‭ ‬تحاصر‭ ‬أنفي‮»‬‭. ‬بعد‭ ‬هذه‭ ‬القصائد‭ ‬مباشرة،‭ ‬قصيدة‭ ‬لهاني‭ ‬أبي‭ ‬صالح‭ ‬بالفرنسية‭ ‬مع‭ ‬ترجمتها‭ ‬العربية،‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬رمقتني‭ ‬شمس‭ ‬عوراء‮»‬‭... ‬سيكون‭ ‬من‭ ‬اللافت‭ ‬وصول‭ ‬اليأس‭ ‬الشعري‭ ‬وتشويه‭ ‬الراهن‭ ‬إلى‭ ‬أقصاه‭ ‬يومذاك‭. ‬يكتب‭ ‬أدونيس‭ ‬في‭ ‬العدد‭ ‬نفسه،‭ ‬‮«‬مرثية‭ ‬القرن‭ ‬الأول‮»‬‭: ‬‮«‬ذاهل‭ ‬تحت‭ ‬شاشة‭ ‬النبوءة‭ (‬مأخوذ‭ ‬بعين‭ ‬الحرباء‭) ‬يا‭ ‬رجل‭ ‬قل‭ ‬لنا‭ ‬آية‭ ‬تأتي‭...‬‮»‬‭. ‬ملاحظتي‭ ‬كانت‭: ‬‮«‬الشعراء‭ ‬يتمزقون‮»‬‭. ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬لنا‭ ‬وقتذاك‭ (‬في‭ ‬العام‭ ‬1960‭) ‬غير‭ ‬عسكر‭ ‬وانقلابات‭ ‬وأناشيد‭ ‬نهوض‭ ‬قومي‭. ‬الشعراء‭ ‬لم‭ ‬يصدقوا‭. ‬اللافت‭ ‬نقد‭ ‬الحاج‭ ‬لديوان‭ ‬‮«‬أغاني‭ ‬الحرية‮»‬‭ ‬للعراقي‭ ‬كاظم‭ ‬جواد،‭ ‬حيث‭ ‬‮«‬الاصطناع‭ ‬واضح،‭ ‬وليس‭ ‬ينعشه‭ ‬أي‭ ‬حيلة‭ ‬بارعة‮»‬‭. ‬ويسأل‭: ‬ما‭ ‬الشعر‭ ‬الحديث؟‭ ‬وما‭ ‬عيب‭ ‬الخطابية؟‭ ‬لينتهي‭ ‬إلى‭ ‬نسف‭ ‬التواصل‭ ‬مع‭ ‬الشعر‭ ‬العربي‭ ‬التقليدي‭ ‬بكامله‭. ‬يقول‭: ‬‮«‬أول‭ ‬ما‭ ‬يسطع‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬الحديث‭ ‬انقطاعه،‭ ‬شخصية‭ ‬ووجهة،‭ ‬عن‭ ‬الشعر‭ ‬العربي‭ ‬التقليدي‭ ‬لا‭ ‬في‭ ‬الجاهلية‭ ‬وعصور‭ ‬الإسلام‭ ‬وحسب،‭ ‬بل‭ ‬كل‭ ‬شعر‭ ‬عربي‭ ‬تقليدي‭ ‬من‭ ‬امرئ‭ ‬القيس‭ ‬حتى‭ ‬الجواهري‭ ‬وأمين‭ ‬نخلة‮»‬‭... ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الفترة،‭ ‬كان‭ ‬أنسي‭ ‬الحاج‭ ‬قد‭ ‬انتهى‭ ‬من‭ ‬وضع‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬ملامح‭ ‬من‭ ‬الشعر‭ ‬الفرنسي‭ ‬المعاصر‮»‬‭.‬

في‭ ‬عدد‭ ‬صيف‭ ‬1960،‭ ‬ينتقد‭ ‬أنسي‭ ‬الحاج‭ ‬ديوان‭ ‬‮«‬غابة‭ ‬الأبنوس‮»‬‭ ‬للسوداني‭ ‬صلاح‭ ‬أحمد‭ ‬إبراهيم،‭ ‬وديوان‭ ‬‮«‬الصمت‭ ‬والرماد‮»‬‭ ‬للسوداني‭ ‬الآخر‭ ‬محمد‭ ‬عثمان‭ ‬صالح‭... ‬وهو‭ ‬يسأل‭ ‬من‭ ‬البداية‭: ‬الرفق‭ ‬أم‭ ‬القسوة؟‭ ‬ليستبعد‭ ‬الوجهين‭ ‬من‭ ‬محاكمة‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬يديه‭ ‬من‭ ‬شعر‭ ‬سوداني،‭ ‬حيث‭ ‬‮«‬ينعدم‭ ‬التوتر‭ ‬الشعري‭ ‬فيه‮»‬‭ ‬و‮«‬يقع‭ ‬على‭ ‬البرودة‭ ‬والثرثرة‮»‬‭... ‬هناك‭ ‬أيضاً‭ ‬لدى‭ ‬الشاعرين،‭ ‬‮«‬حواش‭ ‬تفسيرية‭ ‬مؤذية،‭ ‬وسخف‭ ‬وتشابيه‭ ‬ساقطة‮»‬‭... ‬كقول‭ ‬صالح‭: ‬‮«‬أنا‭ ‬صرصور‭ ‬لا‭ ‬أنفع‭/ ‬صرصور‭ ‬يصرخ‭ ‬لا‭ ‬ينفع‮»‬‭.‬

في‭ ‬خريف‭ ‬1960،‭ ‬كانت‭ ‬لأنسي‭ ‬الحاج‭ ‬مادتان‭ ‬مهمتان‭ ‬في‭ ‬العدد،‭ ‬أربع‭ ‬قصائد،‭ ‬وترجمة‭ ‬إحدى‭ ‬عشرة‭ ‬قصيدة‭ ‬مع‭ ‬دراسة‭ ‬عن‭ ‬أنطونان‭ ‬آرتو‭. ‬في‭ ‬قصيدة‭ ‬‮«‬هوية‮»‬‭ ‬كلمة‭ ‬مفتاح‭ ‬للشاعر‭: ‬‮«‬أخاف‮»‬‭. ‬يلي‭ ‬ذلك‭: ‬‮«‬الصخر‭ ‬لا‭ ‬يضغط‭ ‬صندوقي‭ ‬وتنتشر‭ ‬نظارتاي‭...‬‮»‬‭.‬

المدهش‭ ‬حقاً،‭ ‬والمؤثر،‭ ‬كان‭ ‬ترجمة‭ ‬أنسي‭ ‬الحاج‭ ‬لقصائد‭ ‬أنطونان‭ ‬آرتو،‭ ‬والدراسة‭ ‬التي‭ ‬كتبها‭ ‬عنه‭. ‬إنه‭ ‬يعترف‭: ‬‮«‬لن‭ ‬أستطيع‭ ‬أن‭ ‬أعطي‭ ‬عنه‭ ‬دراسة‭ ‬منسجمة،‭ ‬إنه‭ ‬يربض‭ ‬عليّ‭ ‬ولا‭ ‬أستطيع‮»‬‭. ‬يغلبه‭ ‬في‭ ‬آرتو،‭ ‬شخصه،‭ ‬وكتابته‭ ‬المهتزة‭. ‬أمضى‭ ‬حياته‭ ‬بين‭ ‬المسرح‭ ‬والمصح‭. ‬السرطان‭ ‬كان‭ ‬فيه‭ ‬وكانت‭ ‬كتابته‭ ‬تشبهه‭. ‬كان‭ ‬خنيق‭ ‬جسده،‭ ‬وما‭ ‬الكتابة‭ ‬كلها‭ ‬سوى‭ ‬‮«‬نوع‭ ‬من‭ ‬الخنزرة‮»‬‭.‬

ليس‭ ‬بالمجان‭ ‬هذا‭ ‬الإعجاب‭ ‬الحلولي‭ ‬من‭ ‬أنسي‭ ‬الحاج‭ ‬بآرتو‭. ‬هو‭ ‬إعجاب‭ ‬شديد‭ ‬الخطورة‭ ‬وحاسم‭ ‬في‭ ‬تكون‭ ‬شخصية‭ ‬أنسي‭ ‬الحاج‭ ‬وشعره‭. ‬مقالة‭ ‬أنسي‭ ‬الحاج‭ ‬في‭ ‬آرتو‭ ‬تقرأ‭ ‬دائما‭ ‬ولا‭ ‬ننتهي‭ ‬منها‭. ‬لست‭ ‬أدري‭ ‬إلى‭ ‬أي‭ ‬حد‭ ‬يمكن‭ ‬للشاعر‭ ‬أن‭ ‬يندفع‭ ‬في‭ ‬شاعر‭ ‬آخر؟‭ ‬وهل‭ ‬عليه،‭ ‬إذا‭ ‬استلزم‭ ‬الأمر،‭ ‬قتله؟‭ ‬كتبتُ‭ ‬على‭ ‬هامش‭ ‬مقالته‭ ‬بآرتو‭ ‬الكلمات‭ ‬التالية‭: ‬‮«‬اقتله‭ ‬لتنجو‮»‬‭.‬

في‭ ‬شتاء‭ ‬1964‭ ‬أيضاً‭ ‬أربع‭ ‬قصائد،‭ ‬خطابها‭ ‬قاسٍ‭ ‬جداً‭ ‬كفأس‭. ‬يقول‭ ‬في‭ ‬إحداها‭ ‬‮«‬ما‭ ‬وراء‭ ‬الحسد‮»‬‭: ‬‮«‬أيها‭ ‬السعيد‭ ‬أنتزع‭ ‬عينيك‮»‬‭. ‬وفي‭ ‬واحدة‭ ‬يقول‭: ‬‮«‬أخاف‭ ‬أن‭ ‬أقول‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬عن‭ ‬عاهاتي‮»‬‭.‬

واضح‭ ‬أن‭ ‬كتابة‭ ‬أنسي‭ ‬الحاج،‭ ‬بين‭ ‬جميع‭ ‬الكتابات‭ ‬المحيطة‭ ‬بها،‭ ‬كانت‭ ‬موضوعة‭ ‬كلغم،‭ ‬وأن‭ ‬أي‭ ‬خطوة‭ ‬فوقها‭ ‬كفيلة‭ ‬بتفجيرها،‭ ‬من‭ ‬شدة‭ ‬ما‭ ‬هي‭ ‬متحفزة‭ ‬وقابلة‭ ‬للانفجار‭. ‬والحال‭ ‬أنني‭ ‬كنت‭ ‬أسأل‭ ‬نفسي‭ ‬حياله‭: ‬من‭ ‬أين‭ ‬له‭ ‬قوة‭ ‬الاحتمال‭ ‬هذه؟

حين‭ ‬صدر‭ ‬أول‭ ‬دواوينه‭ ‬‮«‬لن‮»‬‭ ‬عن‭ ‬مجلة‭ ‬شعر‭ ‬1960،‭ ‬كتبت‭ ‬خالدة‭ ‬سعيد‭ ‬تذكر‭ ‬أن‭ ‬أنسي‭ ‬الحاج‭ ‬ثائر‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬شاعراً‭. ‬ولم‭ ‬أكن‭ ‬أجد‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الجملة‭ ‬ما‭ ‬يفيد‭. ‬فقد‭ ‬رأيت‭ ‬فيه‭ ‬انتشارا‭ ‬رهيبا‭ ‬لحالة‭ ‬آرتو‭... ‬عدوى‭ ‬آرثوية‭ ‬خطيرة‭. ‬كان‭ ‬واضحاً‭ ‬ذلك‭ ‬منه،‭ ‬حيث‭ ‬سلمنا‭ ‬هو‭ ‬مفتاحه‭ ‬في‭ ‬مقدمته‭ ‬‮«‬نحن‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬السرطان‭ ‬هنا‭ ‬وفي‭ ‬الداخل‮»‬‭. ‬دعك‭ ‬من‭ ‬قصيدة‭ ‬النثر،‭ ‬وما‭ ‬أدراك‭... ‬ومن‭ ‬الوزن،‭ ‬وما‭ ‬أدراك‭ ‬أيضا،‭ ‬لتدخل‭ ‬في‭ ‬كتابة‭ ‬‮«‬يشرشر‭ ‬منها‭ ‬الدم‮»‬‭... ‬تحبها‭ ‬حتى‭ ‬ولو‭ ‬أصابتك‭ ‬بكل‭ ‬كآبات‭ ‬العالم‭ ‬وكوابيسه‭. ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬أحد‭ ‬يشبه‭ ‬أنسي‭ ‬الحاج‭ ‬يومذاك،‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الكتابة،‭ ‬سوى‭ ‬نفسه‭. ‬واستمر‭ ‬هذا‭ ‬التشنج‭ ‬الآرثوي،‭ ‬في‭ ‬قصيدة‭ ‬‮«‬الخنزير‭ ‬البري‮»‬‭ (‬صيف‭ ‬1961‭): ‬‮«‬أعرفُك‭ ‬يا‭ ‬ملّاح‭ ‬الفروج‮»‬‭ ‬يقول،‭ ‬وهو‭ ‬يتخيل‭ ‬‮«‬العارية‮»‬‭ ‬أمام‭ ‬أنف‭ ‬وناب‭ ‬الخنزير‭. ‬لغة‭ ‬كنهش‭ ‬الذئاب‭.‬

أنسي‭ ‬الحاج‭ ‬خطير‭ ‬في‭ ‬اللغة‭... ‬ما‭ ‬من‭ ‬شاعر‭ ‬إلا‭ ‬ويظهر‭ ‬في‭ ‬اللغة‭. ‬في‭ ‬العدد‭ ‬نفسه‭ ‬نقد‭ ‬لمجموعة‭ ‬شوقي‭ ‬أبي‭ ‬شقرا‭ ‬‮«‬خطوات‭ ‬الملك‮»‬،‭ ‬يعترف‭ ‬أمامها‭: ‬نحتاج‭ ‬إلى‭ ‬نقطة‭ ‬انطلاق،‭ ‬ويختار‭ ‬هذه‭ ‬النقطة‭ ‬من‭ ‬‮«‬الجبل‭ ‬اللبناني‮»‬،‭ ‬من‭ ‬نظافة‭ ‬التربة‭ ‬وبراءتها،‭ ‬واللغة‭ ‬البيضاء،‭ ‬لكنه‭ ‬يضع‭ ‬إصبعه‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬يسميه‭ ‬‮«‬السموّ‭ - ‬واقع‮»‬‭ ‬في‭ ‬شعر‭ ‬أبي‭ ‬شقرا،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬قول‭ ‬روفردي‭: ‬‮«‬نصل‭ ‬إلى‭ (‬السموّ‭ - ‬واقع‭) ‬بتقريب‭ ‬الأشياء‭ ‬بعضها‭ ‬من‭ ‬البعض‭ ‬الآخر،‭ ‬بعلائقها‭ ‬الأكثر‭ ‬نأياً،‭ ‬حتى‭ ‬غير‭ ‬الموجودة‭ ‬ظاهراً‭...‬‮»‬،‭ ‬وكان‭ ‬أبو‭ ‬شقرا‭ ‬لم‭ ‬يقطع‭ ‬تماما‭ ‬مع‭ ‬الوزن،‭ ‬فاختار‭ ‬له‭ ‬أنسي‭ ‬الحاج،‭ ‬المقطع‭ ‬الجميل‭ ‬التالي‭: ‬‮«‬أرفعُ‭ ‬الصخر‭ ‬تحية‭/ ‬وعلى‭ ‬العالم‭ ‬أخطو‭/ ‬خطواتي‭ ‬الملكية‮»‬‭.‬

في‭ ‬نقده‭ ‬لمجموعتي‭ ‬‮«‬البئر‭ ‬المهجورة‮»‬‭ ‬و«قصائد‭ ‬في‭ ‬الأربعين‮»‬‭ ‬ليوسف‭ ‬الخال،‭ ‬طرح‭ ‬أنسي‭ ‬الحاج‭ ‬سؤالاً‭ ‬حول‭ ‬قدرة‭ ‬يوسف‭ ‬الخال‭ (‬المسيحي‭) ‬على‭ ‬إنجاب‭ ‬ضده‭... ‬وأنه‭ ‬لا‭ ‬بُد‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬قد‭ ‬وصل‭ ‬إلى‭ ‬الشفير،‭ ‬وإلا‭ ‬لما‭ ‬كان‭ ‬لتعبه‭ ‬أي‭ ‬معنى،‭ ‬إلا‭ ‬معنى‭ ‬الهرم‭ ‬والاجترار‭ ‬وبداية‭ ‬العفونة‭... ‬فقد‭ ‬كشف‭ ‬عن‭ ‬‮«‬عبثية‭ ‬الإيمان‮»‬‭ ‬لدى‭ ‬الخال،‭ ‬وهي‭ ‬أشد‭ ‬تعقيداً‭ ‬من‭ ‬عبثية‭ ‬اليأس‭.‬

 

مع‭ ‬الترجمة

في‭ ‬شتاء‭ ‬1962،‭ ‬نشر‭ ‬أنسي‭ ‬الحاج‭ ‬ثماني‭ ‬قصائد،‭ ‬منها‭ ‬‮«‬الوداع‮»‬‭ ‬وفيها‭: ‬‮«‬لي‭ ‬مع‭ ‬السماء‭ ‬زوج‭ ‬كلمات‭/ ‬ستنزاحين‭ ‬ويرون‭ ‬قوالب‭ ‬الدم‮»‬‭. ‬لا‭ ‬شيء‭ ‬في‭ ‬ربيع‭ ‬1960،‭ ‬في‭ ‬صيف‭ ‬1962‭ ‬قصيدتان،‭ ‬وفي‭ ‬خريف‭ ‬1962‭ ‬ترجمة‭ ‬ثلاث‭ ‬عشرة‭ ‬قصيدة‭ ‬لأندره‭ ‬بريتون‭ ‬ودراسة‭ ‬عنه،‭ ‬يرى‭ ‬فيها‭ ‬أن‭ ‬بريتون‭ ‬‮«‬نجح‭ ‬في‭ ‬الحلم،‭ ‬في‭ ‬الغناء‭ ‬والتوهّج‮»‬‭ ‬وأنه‭ ‬رفع‭ ‬الحد‭ ‬الفاصل‭ ‬بين‭ ‬الحلم‭ ‬والواقع،‭ ‬فضلا‭ ‬عن‭ ‬استعماله‭ ‬للأسطورة،‭ ‬واستعماله‭ ‬الألفاظ‭ ‬المهجورة‭ ‬شعرياً‭... ‬وأنه‭ ‬كشف‭ ‬الغطاء‭ ‬عن‭ ‬‮«‬الجمال‭ ‬الأرعن‮»‬‭ (‬بعبارته‭). ‬في‭ ‬شتاء‭ ‬1963‭ ‬قصيدتان،‭ ‬وفي‭ ‬ربيع‭ ‬1963‭ ‬قصيدة‭ ‬‮«‬ماموت‭ ‬وشعتقات‮»‬‭ ‬كتبت‭ ‬قربها‭ ‬‮«‬حياكة‭ ‬أساطير‮»‬‭. ‬وفي‭ ‬صيف‭ ‬1963،‭ ‬‮«‬الأسئلة‭ ‬المميتة‮»‬،‭ ‬مقدمة‭ ‬العدد،‭ ‬يكتب‭ ‬فيها‭ ‬أنسي‭ ‬الحاج‭: ‬‮«‬نحن‭ ‬متمردون،‭ ‬مشيراً‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬ثمة‭ ‬من‭ ‬فسد‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المسيرة،‭ ‬المفتوحة‭ ‬على‭ ‬التعثّر‭ ‬تجاه‭ ‬‮«‬الاشتهاء‭ ‬المُحيي‭ ‬للخلق‮»‬‭.‬

في‭ ‬عدد‭ ‬شتاء‭ - ‬ربيع‭ ‬1964،‭ ‬نشرت‭ ‬قصيدة‭ ‬منسوبة‭ ‬لإلياس‭ ‬عوض‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬سوقاء‮»‬،‭ ‬وهي‭ ‬كتابة‭ ‬أقرب‭ ‬ما‭ ‬تكون‭ ‬من‭ ‬بلاغة‭ ‬فارغة‭ ‬أو‭ ‬بلاهة‭ ‬مقصودة،‭ ‬كالقول‭: ‬‮«‬أين‭ ‬الصفا؟‭ ‬متى‭ ‬الصفى؟‭ ‬وإن‭ ‬هدى‭ /‬في‭ ‬الليل‭ ‬طير‭ ‬طوى‭/ ‬جناحا‭ ‬لف‭ ‬السما‭/ ‬جف‭ ‬الهوا‭/ ‬زُراق‭ ‬زها‭... ‬إلخ‮»‬‭. ‬الأهم‭ ‬مقال‭ ‬‮«‬مأزق‭ ‬ما‭ ‬وراء‭ ‬اللغة‮»‬‭: ‬سوقاء‭ ‬الدكتور‭ ‬إلياس‭ ‬عوض‭ ‬لأنسي‭ ‬الحاج،‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬العدد‭ ‬نفسه،‭ ‬يرى‭ ‬فيه‭ ‬أن‭ ‬كتابة‭ ‬عوض‭ ‬شهادة‭ ‬ضد‭ ‬اللغة‭ ‬ضد‭ ‬الألفاظ‭. ‬وأنه‭ ‬‮«‬يجب‭ ‬ألا‭ ‬يؤخذ‭ ‬كالتجديد‭ ‬وإنما‭ ‬كالحق‭. ‬الحق‭ ‬في‭ ‬الضحك‭ ‬من‭ ‬اللغة،‭ ‬والحق‭ ‬في‭ ‬إظهار‭ ‬غباوتها،‭ ‬لأنه‭ (‬كما‭ ‬يقول‭): ‬‮«‬حيث‭ ‬تحجر‭ ‬العقل‭ ‬وضاقت‭ ‬المخيلة،‭ ‬هنا‭ ‬هدف‭ ‬الرصاص‮»‬‭. ‬وكنت‭ ‬كتبت‭ ‬تجاه‭ ‬ذلك‭ ‬الجملة‭ ‬التالية‭: ‬‮«‬اللعبة‭ ‬كلها‭ ‬مصنعة‭. ‬لقد‭ ‬صنعوا‭ ‬للعربية‭ ‬تمثالا‭ ‬من‭ ‬قش‭ ‬وأشعلوا‭ ‬فيه‭ ‬النار‭. ‬خلقوا‭ ‬نصاً‭ ‬فاسداً‭ ‬ليقتلوه‮»‬‭.‬

في‭ ‬شتاء‭ ‬1967،‭ ‬ثلاث‭ ‬قصائد‭: ‬‮«‬ماذا‭ ‬صنعت‭ ‬بالذهب‭ ‬ماذا‭ ‬فعلت‭ ‬بالوردة؟‮»‬‭ ‬و«فتاة‭ ‬فراشة‭ ‬فتاة‮»‬،‭ ‬و«قتلها‭ ‬حبيبها‭ ‬التنين‮»‬‭. ‬هنا‭ ‬تتطامن‭ ‬لغة‭ ‬أنسي‭ ‬الحاج،‭ ‬وتهدأ‭. ‬ولعله‭ ‬قطع‭ ‬مسافة‭ ‬شائكة‭ ‬مع‭ ‬آرتوه،‭ ‬ليصل‭ ‬إلى‭ ‬صفاء‭ ‬ينابيع‭ ‬‮«‬نشيد‭ ‬الأناشيد‮»‬‭: ‬‮«‬انقلوني‭ ‬إلى‭ ‬جميع‭ ‬اللغات‭ ‬لتسمعني‭ ‬حبيبتي‭/ ‬انقلوني‭ ‬إلى‭ ‬جميع‭ ‬الأماكن‭ ‬لأحصر‭ ‬حبيبي‮»‬‭... ‬ولعل‭ ‬الحب‭ ‬جعله‭ ‬يرق‭ ‬ويصفو‭: ‬‮«‬حلمت‭ ‬فتاة‭ ‬أنها‭ ‬فراشة‭/ ‬وقامت‭/ ‬فلم‭ ‬تعد‭ ‬تعرف‭ ‬إذا‭ ‬كانت‭ ‬فتاة‭ ‬حلمت‭ ‬أنها‭ ‬فراشة‭/ ‬أو‭ ‬فراشة‭ ‬تحلم‭ ‬أنها‭ ‬فتاة‮»‬‭.‬

في‭ ‬العدد‭ ‬35‭ (‬صيف‭ ‬1967‭) ‬حوار‭ ‬مزدوج‭ ‬ومبتكر،‭ ‬بين‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬‮«‬أ‮»‬‭ (‬أنسي‭ ‬الحاج‭) ‬و«ش‮»‬‭ (‬شوقي‭ ‬أبو‭ ‬شقرا‭)‬،‭ ‬وبين‭ ‬‮«‬أ‮»‬‭ (‬الحاج‭) ‬و«ن‮»‬‭ (‬ناديا‭ ‬تويني‭) ‬حول‭ ‬الحرب‭.‬

في‭ ‬شتاء‭ ‬1968‭ ‬خمس‭ ‬قصائد‭ ‬للحاج،‭ ‬المفاجأة‭ ‬فيها‭ ‬هي‭ ‬الثالثة‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬الذئب‮»‬،‭ ‬تكتشف‭ ‬أنها‭ ‬موزونة‭ ‬على‭ ‬مفاعلن‭ ‬وجوازاتها‭ (‬مستفعلن‭...)‬

من‭ ‬أولها‭ ‬حتى‭ ‬آخرها‭: ‬‮«‬في‭ ‬قصص‭ ‬الكبار‭ ‬للصغار‭/ ‬ذئب‭ ‬يكون‭ ‬نائما‭... ‬وراء‭ ‬بستان‭ ‬من‭ ‬الأزهار‭... ‬ويوم‭ ‬لم‭ ‬يعد‭/ ‬يأكلني‭ ‬الذئب‭ ‬لكي‭ ‬أنام‭/ ‬بكيت‭ ‬عشرين‭ ‬سنة‭/ ‬ومتّ‭ ‬من‭ ‬شوقي‭ ‬إليك‭/ ‬يا‭ ‬ذئب‭ ‬من‭ ‬شوقي‭ ‬إليك‮»‬‭.‬

غاب‭ ‬أنسي‭  ‬الحاج‭ ‬عن‭ ‬أعداد‭ ‬شتاء‭ ‬وربيع‭ ‬وصيف‭ ‬1969،‭ ‬ليظهر‭ ‬في‭ ‬عدد‭ ‬خريف‭ ‬1970‭ ‬في‭ ‬قصائد‭ ‬‮«‬تحت‭ ‬حطب‭ ‬الغضب‮»‬‭: ‬‮«‬ما‭ ‬عدت‭ ‬أحتمل‭ ‬الأرض‭/ ‬فالأكبر‭ ‬من‭ ‬الأرض‭ ‬لا‭ ‬يحتملها‮»‬‭... ‬وكان‭ ‬ذلك‭ ‬آخر‭ ‬عهده‭ ‬بالمجلة،‭ ‬وآخر‭ ‬عهد‭ ‬المجلة‭ ‬بالصدور‭.‬

 

الرهبة‭: ‬متماسك‭ ‬غير‭ ‬متماثل

لا‭ ‬انفصام‭ ‬بين‭ ‬نقد‭ ‬أنسي‭ ‬الحاج‭ ‬وقصائده‭ ‬وكلماته‭ ‬وخواتمه‭. ‬إنه‭ ‬يتحرك‭ ‬بكليته‭ ‬كفيلق‭ ‬أو‭ ‬كبحر‭. ‬ولا‭ ‬يعني‭ ‬ذلك‭ ‬أنه‭ ‬متماثل‭ ‬على‭ ‬امتداد‭ ‬مراحله‭.‬‭ ‬فهو‭ ‬متماسك‭ ‬ولكنه‭ ‬غير‭ ‬متماثل‭. ‬إنه‭ ‬في‭ ‬هيجانه‭ ‬متماسك‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬متماسك‭ ‬في‭ ‬تطامنه‭. ‬وهو‭ ‬مشمول‭ ‬بالرهبة،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يجمعني‭ ‬به،‭ ‬الخوف‭. ‬ولعل‭ ‬ذلك‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬جعلني‭ ‬أرسم‭ ‬له‭ ‬على‭ ‬كتبه‭ ‬ومقالاته،‭ ‬صُوَره‭ ‬كغائب‭... ‬لكنني‭ ‬سأذكر‭ ‬في‭ ‬النهاية،‭ ‬الأمر‭ ‬التالي‭: ‬إنه‭ ‬يتعلق‭ ‬بديوان‭ ‬‮«‬الوليمة‮»‬‭. ‬تاريخ‭ ‬صدور‭ ‬الطبعة‭ ‬الأولى‭ ‬هو‭ ‬يناير‭  ‬كانون‭ ‬الثاني،‭ ‬1994‭ (‬عن‭ ‬دار‭ ‬رياض‭ ‬الريّس‭ ‬للكتب‭ ‬والنشر‭). ‬عمر‭ ‬الكتاب‭ ‬في‭ ‬مكتبتي‭ ‬عشرون‭ ‬سنة‭. ‬صُور‭ ‬الوجوه‭ ‬النسائية‭ ‬على‭ ‬الغلاف‭ ‬وبعض‭ ‬صور‭ ‬الداخل‭ ‬لمحمود‭ ‬الزيباوي،‭ ‬منحها‭ ‬الزمن‭ ‬شيئاً‭ ‬من‭ ‬التعتيق،‭ ‬فغلب‭ ‬عليها‭ ‬اللون‭ ‬الفخاري‭ ‬أو‭ ‬النحاسي‭ ‬المطروق‭. ‬لكن‭ ‬ما‭ ‬أدهشني،‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬خطه‭ ‬ماء‭ ‬تسرب‭ ‬إلى‭ ‬بعض‭ ‬صفحات‭ ‬الكتاب،‭ ‬وترك‭ ‬أشكالاً‭ ‬غريبة‭ ‬بعدما‭ ‬جفّ‭... ‬وقد‭ ‬أحاط‭ ‬بالصفحة‭ ‬الأولى‭ ‬البيضاء،‭ ‬رسم‭ ‬مائي‭ ‬محروق،‭ ‬هامش‭ ‬من‭ ‬أعلى‭ ‬إلى‭ ‬أسفل،‭ ‬في‭ ‬داخله،‭ ‬كنت‭ ‬كتبت‭ ‬التالي‭ ‬حول‭ ‬الديوان‭: ‬‮«‬قصائد‭ ‬الوليمة‭ ‬كثيرة‭ ‬الشحن،‭ ‬لحدود‭ ‬لا‭ ‬تطاق‭ ‬أحيانا،‭ ‬كثيرة‭ ‬المفاجآت‭... ‬لا‭ ‬أشكو‭ ‬تجاهها‭ ‬من‭ ‬غموض‭ ‬بل‭ ‬من‭ ‬رهبة‭. ‬أنسي‭ ‬الحاج‭ ‬مجنون‭ ‬بالحرية،‭ ‬غوّاص‭ ‬على‭ ‬ذاته‭ ‬المعقدة‭ ‬المطمورة‭ ‬تحت‭ ‬أجساد‭ ‬كثيرة‭ ‬من‭ ‬التوراة‭ ‬والإنجيل‭ ‬وشعراء‭ ‬من‭ ‬فرنسا،‭ ‬وهو‭ ‬يعرف‭ ‬بالتأكيد‭ ‬الأساس‭ ‬الإيقاعي‭ (‬الوزني‭) ‬للشعر‭ ‬العربي،‭ ‬لكنه‭ ‬يتلافاه‭ ‬ويقدمه‭ ‬خلسة‭ ‬في‭ ‬مطلع‭ ‬نص‭ ‬واحد‭ ‬من‭ ‬قصيدة‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬من‭ ‬الذراعين‮»‬،‭ ‬فيقول‭: ‬‮«‬نازلة‭ ‬مع‭ ‬الهواء‭ ‬شعرها‭/ ‬يطول‭ ‬من‭ ‬رموشها‭ ‬نحيبي‮»‬‭ ‬ثم‭ ‬يشوش‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬هذا‭ ‬الانتظام‭ ‬التفعيلي‭ ‬ليقول‭: ‬‮«‬تضحك‭ ‬لأني‭ ‬الأضعف‭/ ‬أضعف‭ ‬لأنها‭ ‬تضحك‮»‬،‭ ‬لكنه‭ ‬يعود‭ ‬لانتظامه‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬قوله‭: ‬‮«‬لا‭ ‬شيء‭ ‬في‭ ‬آثارها‭/ ‬وكلما‭ ‬حلت‭ ‬ضحكتها‮»‬،‭ ‬ثم‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬يسأم‭ ‬هذا‭ ‬الإيقاع‭ ‬ليعود‭ ‬إلى‭ ‬قلقه‭ ‬الذي‭ ‬داخله،‭ ‬قلقه‭ ‬الشهي‭ ‬البهي‭ ‬الجوال،‭ ‬في‭ ‬الحال‭ ‬وفي‭ ‬البلبال‮»‬‭ ‬وأرخت‭ ‬صباح‭ ‬.12‭/‬2‭/‬1994‭