أُنسي الحاج من مجلة «شعر» إلى آخِر «الخواتِم»

الكتابة عن الشاعر، في لحظة موته، غالبا ما تأتي انفعالية، سريعة، وبلا مرجعيات ضرورية للإحاطة بهوية الشعر أو ماهيته. لذا، كان لابد من مسافة زمانية للكتابة عن الشاعر اللبناني أنسي الحاج (1937 - 2014)، الذي توفي أخيراً في بيروت بعد صراع مع المرض، وقد غمرت الشهادات شخصه الشعري بفيض من الانفعالات، والذكريات الشخصية، والمقابلات المستعادة، وهو أمر حجب شخصه الشعري أكثر مما أظهر، ولم يراع في صيرورته الشعرية التحولات التي خضعت لها، وإعادة النظر في مواقفه واختياراته الشعرية والنقدية معاً، ما شكل انعطافاً جذرياً في موقفه النقدي الذي لطالما عُرف به من الشعر العربي...
فهو على سبيل المثال، وفي واحدة من آخر مقالاته التي كان يسميها «خواتم 3» وينشرها كل سبت في صحيفة الأخبار اللبنانية، تحت عنوان «كلما جَرَّحتُ هذي البرتقالة، تبتسم»، كتب ثلاث فقرات متكاملة: الأولى تتعلق بديوان «النازلون على الريح» الصادر لي عن دار الآداب 2013، وقد بدأ باختيارات شعرية من الديوان وسجل تجاهها ملاحظات عميقة وبليغة، فأشار إلى علامات الجوهر الشعري في «النازلون على الريح»، وإلى «التدفق الغنائي» و«التجرية الإنسانية المثخنة بالجروح» و«أنوار الفجر» و«السرد» و«صفاء الوزن»... ويذكر أنه فوجئ بقصيدة «طلل» التي لم يكن يستطيع أن يجد ما يشبهها إلا في ديوان الشعر الجاهلي... وينتهي إلى أن «الشعر لا يضيع بتنويع الأداء»... ثم يعتبر، بجملة معبرة، أن «النازلين على هذا الشعر، ضيوف محسودون».
في الفقرة الثانية من مقالته، تحت عنوان «اعتذار مستمر»، ثمة اعتذار متكرر بشأن استناده مع أدونيس، إلى كتاب سوزان برنار عن قصيدة النثر من حوالي خمسين عاماً، واعتماده ذلك في مقدمة ديوانه الأول «لن»... ويقول إنه كان ثمة «إغراق» في جملة أخطاء، وإنه «لم يتوقف عن الاعتذار عما اقترفه من تنظيرات اعتباطية في شأن لا يحتمل إلا التواضع».
أما في المقطع الثالث من مقالته، بعنوان «صدق أو لا تصدق»، فهو يعيد النظر في ما يسميه ركاماً في الشعر، كان يخلبه في زمن من الأزمنة، حيث يشمل ضجره من رامبو وبودلير، مروراً بالعشق الجنسي اللزج لأبي نواس، والمتنبي الذي لا يشبع من لحس دمه، ويضيف: «نحن معشر ديوك الحداثة، أجهز أولادنا على الباقي، بعدما فتحنا صندوق بندورا (طماطم)واندلعت منه أفاعي الكاوتشوك وعقارب القش. أعرنا أنفسنا لنكون جنود العدم، وبيادق القدر». (جريدة الأخبار اللبنانية، نوفمبر/ تشرين الثاني 2013).
وقد اعتبرت هذه الكتابة الجديدة من أنسي الحاج، بمنزلة عمل انقلابي قام به الشاعر على نفسه وعلى الآخرين، وصاحبها الشجاع، أو فتاها الشجاع، ظهر أنه قادر على أن يكون ثائراً على نفسه، وعلى الآخرين، بعد أكثر من نصف قرن من قناعات ومعارك وكتابات شاهدة على ما نقول، وأن ما دفعه إلى هذا الانقلاب، نصوص شعرية بعينها، ذكرها نصاً في ديوان «النازلون على الريح»، وكانت كفيلة بأن تلقي في المجتمع الراكد للشعر العربي اليوم، خضة قوية، وتفتح بابا يكاد يكون مغلقاً للسجال حول صيرورة القصيدة العربية ومعناها وصلتها بلغتها وتاريخها وبالإيقاع، وصلتها بالحداثة ومعنى الحداثة ذاتها، وهل هي انقطاع في الصيرورة العربية أم تواصل وإضافة؟... وصلة كل ذلك بالعربية كلغة وكحضارة، وهل الشعراء هم قادة الأمم؟ فالشعر العربي، على الأرجح، هو الذي كوّن الأمة العربية على امتداد التاريخ، بمعنى أن الشعر الجاهلي هو أصل القومية العربية في الجاهلية، وقد تبنى القرآن الكريم لغة هذا الشعر، وانطلقت الأمة العربية محمولة على جناح لغة القرآن الكريم التي هي لغة الشعر الجاهلي في إحدى لهجاته (لهجة قريش)، والشعراء على امتداد الأزمنة، هم الذين حافظوا على الهوية العربية، ورمموا تصدعاتها، وصدعوها حين كانت فاسدة... هذه الأسئلة الجوهرية حركتها مقالة أنسي الحاج المذكورة، التي كتبها قبل موته بثلاثة أشهر ونيف، وقد كان لنا منه موقف في ما مضى، على امتداد خمسين عاماً، برغم أننا لم نتبادل في حياته سوى بضع كلمات، بعد نشر مقالته تلك... وكان لنا حقل اشتباك واسع، ذلك أن علاقتي به لم تكن شخصية قط، بل موضوعية موثقة توثيقاً كاملا من خلال ملاحظاتي التي كنت كتبتها على أعداد مجلة «شعر» التي كان الحاج أحد أركانها... وطريقتي في قراءة قصائده ومقالاته وأعماله، حيث إن القراءة دائما كانت نقدية، ومصحوبة بالقلم، ومعززة بالحواشي والأسئلة والحوارات الجوهرية مع المقروء، مسجلة على بياض الصفحات والهوامش وبين السطور، حتى تكاد التعليقات توازي في كثير من الأحيان، الأصل المقروء، أو تفيض عنه.
مجلة «شعر»
بدأت صورة أنسي الحاج تحضر لديّ منذ أن انطلق صوته في مجلة «شعر»، من لدن صدورها الأول في يناير (كانون الثاني 1957) حتى اختفائها الأخير في سنتها الحادية عشرة (خريف 1970)... فالرجل كان من الكتّاب الذين تنتظرهم، والكاتب الذي تنتظره، هو الكاتب الذي لا تعرف مسبقا ما سيقوله، فيأتيك بالجديد والمفاجئ. وهكذا كان أنسي الحاج، بل لعلّ هذا كان أحد أسباب توهجه على امتداد ما يزيد على نصف قرن من عمر الحداثة الشعرية العربية، من ديوانه الأول «لن» الصادر في طبعته الأولى عن مجلة «شعر» العام 1960، وصولاً إلى كتاب «الوليمة» (العام 1994)، وما بعد «الوليمة»، وما قبلها، «كلمات»، و«خواتم»، سواء ما جمع منها في كتاب، أو ما لم يجمع حتى الخاتم الأخير.
صحيح أنه صوّب سهامه الحادة وغضبه العصبي ضد الماضي، ولكنه كان يعتقد أنه بذلك يؤسس للمستقبل أكثر، والماضي عنده والحاضر والآتي هو صاحب «ماضي الأيام الآتية»، يتركز في اللحظة الشعرية، ولم يكن لديه متسع لتزاحم اللحظات... هذا المتسع تكون عنده في ما بعد، في مراحل لاحقة، وفي صحوة شعرية من صحواته. ولمَ لا؟ فالحداثيون في الغرب، والقلقون من الحداثيين العرب، تنبهوا بحدسهم الساطع، إلى أن لحظتهم الشعرية التي تستغرقهم الآن، ليست حجراً يقفلون به فم الماضي كما يقفل فم القبر بحجر، وليست صنارة للصيد يلقونها في بحر الغد المتلاطم، لأن هذا البحر شاسع واسع كالدهر أو كالشعر نفسه، وأن ما يحملونه بين جوانحهم من جوهر القصيدة، هو جوهر طائر في الزمان، ومذرور في أمكنة شتى. ولعل هذا القلق المفتوح على مصراعيه من خلال الكلمات، هو أساس ديمومة شاعر ما أو روائي أو مسرحي... إلخ، هل هو الخوف؟ نعم وممَ؟ من كل شيء... هل هو عدم الرضا؟ نعم وممَ؟ من كل شيء أيضا.
كان يخاف
أنسي الحاج شاعر كان يخاف، كان يخاف كثيراً، وكان ذلك في أساس اندفاعاته الشرسة. لم يكتب شيئا للعدد الأول من مجلة «شعر»، منتظراً العدد الثاني ليكتب نقداً ذكياً لديوان عبدالوهاب البياتي «المجد للأطفال والزيتون». وضع يده على مكوّن من مكونات شعرية البياتي، ما يسميه أنسي الحاج، العقد النفسية العميقة، وأهمها عقدة النقص... (من خلال قوله في أغنية إلى يافا: «فبكيتُ من عاري»)... ويستطرد للكشف عن بعض مصادر البياتي من نيرودا إلى ماوتسي تونج/، معتبرا بيتين أدخلهما الشاعر في قصيدته لماو، أجمل ما في القصيدة وهو يضرب ضربات موجعة على وتر الالتزام لدى الشاعر نفسه وفي الشعر الملتزم عامة، ولاسيما حين يحشر كلمة «رفيق» أو «رفاق» في القصيدة حشراً.
ضربات معوله المؤرقة
في العدد الثاني (صيف 1957)، يواصل أنسي ضربات معوله النقدي المؤرقة في ثلاث مجموعات شعرية من إفريقيا، «الطين والأظافر» لمحيي الدين فارس، و«أغاني إفريقيا» لمفتاح الفيتوري (محمد)، و«عبير الأرض» لفوزي العنتيل. يضع إصبعه مباشرة على الخيط الجامع بين هذه الدواوين، وهو خيط اللون الأسود أو العنصرية، حيث يضيع الفن في علو الصوت والصراخ... في الفيتوري يرى أنه متكلف الألم، وينتهي الحقد به إلى عرض أخوي، وهو ما يكاد يكون مألوفا عند محيي الدين فارس أيضا. في نقد العنتيل، يستطرد إلى نقد الناس الذين رأوا في شعر العنتيل الغنائي «سمّاً في نفوس الناشئة»... كما يسخر من الكآبة المرضية في الشعر الرومانطيكي عامة.
في عدد خريف 1957، أيضا، ضربة نقدية لأنسي الحاج هي هنا في «سلة شعر» لنقولا قربان، وكان قربان صيداً سهلاً افترسه نقد أنسي: «الشعر الذي يحضنه ديوان سلّة شعر هو لإنسان مريض الخيال يتعلق بنجمة زانية... وهو شاعر لا يرتفع إلى مستوى مشكلات بيئته وعصره». إنه «شاعر بادي الإعياء، بادي الطفولة، لكن طفولته في غير محلها».
لم يبدأ أنسي الحاج بنشر قصائده في مجلة «شعر» إلا ابتداء من شتاء 1958، حيث نشر قصائده الثلاث، جاءت متجاورة مع قصائد الماغوط وقباني ورفقة وجبرا وبدوي الجبل والجيوسي ويوسف الصائغ. ما كنت كتبته من تعليق حول قصائده، كلمة واحدة هي «لذيذ»، تماما إلى جانب البيت التالي: «أريديني كجماعات تنقبر عندما ينطفئ الليل، إذا أردت ألا أزعل». أرجح الآن أن سر اللذة كائن في الغرابة. يغيب الشاعر عن عدد ربيع وصيف وخريف 1958، ليطل في آخر عدد شتاء 1959 من خلال ترجمة سبع قصائد لجاك بريفير، وكتابة دراسة مركزة عنه وعن شعره، حيث رأى فيه شاعرا «تطعَّم بالسوريالية وآمن بالاشتراكية وجاور الوجودية». يرى فيه أنه شاعر صورة «سينما» ينبع شعره من العنصر الخام غير المتداول... «لا أثر للغيبات السحابية في شعره، إنما هو شاعر أرض». ولا يتهيب الحاج من أن يقول في بريفير، إنه ثرثار ومشعوذ وسطحي وديما جوجي، وإنه لم يؤمن بالله لأنه لم يره... «ولكنه يكتب مثلما يحكي، ويحكي مثلما يكتب».
عودة الحاج إلى نقده
في عدد ربيع 1959، يعود الحاج إلى النقد، فيضع تحت مجهره «مدينة بلا قلب» لأحمد عبدالمعطي حجازي، وقصائد عربية لسليمان العيسى، وما يجمع بينهما، على اختلاف، هو صدورهما معاً عن دار الآداب. لا يقسو الحاج على حجازي، بل يراه شاعراً انتقالياً، يحاول التخلص من الرومانطيكية، وأنه يعطي المراهقة نصيبها من الحزن قبل أن يودعها... لكنه يضرب ضربات قاسية في ديوان سليمان العيسى... «تقرأ ديوانه من الألف إلى الياء، لتعود فتقرأه من الدال إلى الميم، ومن الميم إلى الدال، وكأنك لم تبدأ ولم تنته...». وهو يقارن بين الشاعرين في كلمات أخيرة «لقد جمع أحمد حجازي بين الثورة القومية والثورة الفنية، فكانت ثورته ثورة، وجمع سليمان العيسى بين الثورة القومية والعبودية الفنية فجاءت ثورته نصفية».
في عدد صيف 1959، نقد لديوان «عائدون» للشاعر الفلسطيني يوسف الخطيب... وكأنه استطراد لنقد خطابية سليمان العيسى، فيقول فيهما: «إنهما شاعران منبريان يندبان الميت نفسه، ويستبكيان بالطرق نفسها العيون نفسها».
صيد خريف 1959 لأنسي الحاج، كان ديوان «ساق على الدانوب» لهلال ناجي، حيث يتولّى قارئ هذا الديوان، شعور طافح بالأسف، يلجئه إلى نفض اليد من كل بارقة أمل بتغيير الشعر العربي المعاصر. بل هو مواصلة لاحتضار الشعر العربي التقليدي... من خلال شعر صحراوي معاصر. وينهي الحاج بقوله: «نحن المعاصرين، نطلب شعراً من نوع آخر».
لا أثر لقلم أنسي الحاج في عدد شتاء 1960، ليطل بثلاث قصائد في ربيع 1960، كانت ملاحظتي عليها هي «شعر كابوسي»: «مائة ألف ملاك تحاصر أنفي». بعد هذه القصائد مباشرة، قصيدة لهاني أبي صالح بالفرنسية مع ترجمتها العربية، بعنوان «رمقتني شمس عوراء»... سيكون من اللافت وصول اليأس الشعري وتشويه الراهن إلى أقصاه يومذاك. يكتب أدونيس في العدد نفسه، «مرثية القرن الأول»: «ذاهل تحت شاشة النبوءة (مأخوذ بعين الحرباء) يا رجل قل لنا آية تأتي...». ملاحظتي كانت: «الشعراء يتمزقون». ولم يكن لنا وقتذاك (في العام 1960) غير عسكر وانقلابات وأناشيد نهوض قومي. الشعراء لم يصدقوا. اللافت نقد الحاج لديوان «أغاني الحرية» للعراقي كاظم جواد، حيث «الاصطناع واضح، وليس ينعشه أي حيلة بارعة». ويسأل: ما الشعر الحديث؟ وما عيب الخطابية؟ لينتهي إلى نسف التواصل مع الشعر العربي التقليدي بكامله. يقول: «أول ما يسطع في الشعر الحديث انقطاعه، شخصية ووجهة، عن الشعر العربي التقليدي لا في الجاهلية وعصور الإسلام وحسب، بل كل شعر عربي تقليدي من امرئ القيس حتى الجواهري وأمين نخلة»... في تلك الفترة، كان أنسي الحاج قد انتهى من وضع كتاب «ملامح من الشعر الفرنسي المعاصر».
في عدد صيف 1960، ينتقد أنسي الحاج ديوان «غابة الأبنوس» للسوداني صلاح أحمد إبراهيم، وديوان «الصمت والرماد» للسوداني الآخر محمد عثمان صالح... وهو يسأل من البداية: الرفق أم القسوة؟ ليستبعد الوجهين من محاكمة ما بين يديه من شعر سوداني، حيث «ينعدم التوتر الشعري فيه» و«يقع على البرودة والثرثرة»... هناك أيضاً لدى الشاعرين، «حواش تفسيرية مؤذية، وسخف وتشابيه ساقطة»... كقول صالح: «أنا صرصور لا أنفع/ صرصور يصرخ لا ينفع».
في خريف 1960، كانت لأنسي الحاج مادتان مهمتان في العدد، أربع قصائد، وترجمة إحدى عشرة قصيدة مع دراسة عن أنطونان آرتو. في قصيدة «هوية» كلمة مفتاح للشاعر: «أخاف». يلي ذلك: «الصخر لا يضغط صندوقي وتنتشر نظارتاي...».
المدهش حقاً، والمؤثر، كان ترجمة أنسي الحاج لقصائد أنطونان آرتو، والدراسة التي كتبها عنه. إنه يعترف: «لن أستطيع أن أعطي عنه دراسة منسجمة، إنه يربض عليّ ولا أستطيع». يغلبه في آرتو، شخصه، وكتابته المهتزة. أمضى حياته بين المسرح والمصح. السرطان كان فيه وكانت كتابته تشبهه. كان خنيق جسده، وما الكتابة كلها سوى «نوع من الخنزرة».
ليس بالمجان هذا الإعجاب الحلولي من أنسي الحاج بآرتو. هو إعجاب شديد الخطورة وحاسم في تكون شخصية أنسي الحاج وشعره. مقالة أنسي الحاج في آرتو تقرأ دائما ولا ننتهي منها. لست أدري إلى أي حد يمكن للشاعر أن يندفع في شاعر آخر؟ وهل عليه، إذا استلزم الأمر، قتله؟ كتبتُ على هامش مقالته بآرتو الكلمات التالية: «اقتله لتنجو».
في شتاء 1964 أيضاً أربع قصائد، خطابها قاسٍ جداً كفأس. يقول في إحداها «ما وراء الحسد»: «أيها السعيد أنتزع عينيك». وفي واحدة يقول: «أخاف أن أقول كل شيء عن عاهاتي».
واضح أن كتابة أنسي الحاج، بين جميع الكتابات المحيطة بها، كانت موضوعة كلغم، وأن أي خطوة فوقها كفيلة بتفجيرها، من شدة ما هي متحفزة وقابلة للانفجار. والحال أنني كنت أسأل نفسي حياله: من أين له قوة الاحتمال هذه؟
حين صدر أول دواوينه «لن» عن مجلة شعر 1960، كتبت خالدة سعيد تذكر أن أنسي الحاج ثائر قبل أن يكون شاعراً. ولم أكن أجد في هذه الجملة ما يفيد. فقد رأيت فيه انتشارا رهيبا لحالة آرتو... عدوى آرثوية خطيرة. كان واضحاً ذلك منه، حيث سلمنا هو مفتاحه في مقدمته «نحن في زمن السرطان هنا وفي الداخل». دعك من قصيدة النثر، وما أدراك... ومن الوزن، وما أدراك أيضا، لتدخل في كتابة «يشرشر منها الدم»... تحبها حتى ولو أصابتك بكل كآبات العالم وكوابيسه. ولم يكن أحد يشبه أنسي الحاج يومذاك، في هذه الكتابة، سوى نفسه. واستمر هذا التشنج الآرثوي، في قصيدة «الخنزير البري» (صيف 1961): «أعرفُك يا ملّاح الفروج» يقول، وهو يتخيل «العارية» أمام أنف وناب الخنزير. لغة كنهش الذئاب.
أنسي الحاج خطير في اللغة... ما من شاعر إلا ويظهر في اللغة. في العدد نفسه نقد لمجموعة شوقي أبي شقرا «خطوات الملك»، يعترف أمامها: نحتاج إلى نقطة انطلاق، ويختار هذه النقطة من «الجبل اللبناني»، من نظافة التربة وبراءتها، واللغة البيضاء، لكنه يضع إصبعه على ما يسميه «السموّ - واقع» في شعر أبي شقرا، من خلال قول روفردي: «نصل إلى (السموّ - واقع) بتقريب الأشياء بعضها من البعض الآخر، بعلائقها الأكثر نأياً، حتى غير الموجودة ظاهراً...»، وكان أبو شقرا لم يقطع تماما مع الوزن، فاختار له أنسي الحاج، المقطع الجميل التالي: «أرفعُ الصخر تحية/ وعلى العالم أخطو/ خطواتي الملكية».
في نقده لمجموعتي «البئر المهجورة» و«قصائد في الأربعين» ليوسف الخال، طرح أنسي الحاج سؤالاً حول قدرة يوسف الخال (المسيحي) على إنجاب ضده... وأنه لا بُد أن يكون قد وصل إلى الشفير، وإلا لما كان لتعبه أي معنى، إلا معنى الهرم والاجترار وبداية العفونة... فقد كشف عن «عبثية الإيمان» لدى الخال، وهي أشد تعقيداً من عبثية اليأس.
مع الترجمة
في شتاء 1962، نشر أنسي الحاج ثماني قصائد، منها «الوداع» وفيها: «لي مع السماء زوج كلمات/ ستنزاحين ويرون قوالب الدم». لا شيء في ربيع 1960، في صيف 1962 قصيدتان، وفي خريف 1962 ترجمة ثلاث عشرة قصيدة لأندره بريتون ودراسة عنه، يرى فيها أن بريتون «نجح في الحلم، في الغناء والتوهّج» وأنه رفع الحد الفاصل بين الحلم والواقع، فضلا عن استعماله للأسطورة، واستعماله الألفاظ المهجورة شعرياً... وأنه كشف الغطاء عن «الجمال الأرعن» (بعبارته). في شتاء 1963 قصيدتان، وفي ربيع 1963 قصيدة «ماموت وشعتقات» كتبت قربها «حياكة أساطير». وفي صيف 1963، «الأسئلة المميتة»، مقدمة العدد، يكتب فيها أنسي الحاج: «نحن متمردون، مشيراً إلى أن ثمة من فسد في هذه المسيرة، المفتوحة على التعثّر تجاه «الاشتهاء المُحيي للخلق».
في عدد شتاء - ربيع 1964، نشرت قصيدة منسوبة لإلياس عوض بعنوان «سوقاء»، وهي كتابة أقرب ما تكون من بلاغة فارغة أو بلاهة مقصودة، كالقول: «أين الصفا؟ متى الصفى؟ وإن هدى /في الليل طير طوى/ جناحا لف السما/ جف الهوا/ زُراق زها... إلخ». الأهم مقال «مأزق ما وراء اللغة»: سوقاء الدكتور إلياس عوض لأنسي الحاج، في نهاية العدد نفسه، يرى فيه أن كتابة عوض شهادة ضد اللغة ضد الألفاظ. وأنه «يجب ألا يؤخذ كالتجديد وإنما كالحق. الحق في الضحك من اللغة، والحق في إظهار غباوتها، لأنه (كما يقول): «حيث تحجر العقل وضاقت المخيلة، هنا هدف الرصاص». وكنت كتبت تجاه ذلك الجملة التالية: «اللعبة كلها مصنعة. لقد صنعوا للعربية تمثالا من قش وأشعلوا فيه النار. خلقوا نصاً فاسداً ليقتلوه».
في شتاء 1967، ثلاث قصائد: «ماذا صنعت بالذهب ماذا فعلت بالوردة؟» و«فتاة فراشة فتاة»، و«قتلها حبيبها التنين». هنا تتطامن لغة أنسي الحاج، وتهدأ. ولعله قطع مسافة شائكة مع آرتوه، ليصل إلى صفاء ينابيع «نشيد الأناشيد»: «انقلوني إلى جميع اللغات لتسمعني حبيبتي/ انقلوني إلى جميع الأماكن لأحصر حبيبي»... ولعل الحب جعله يرق ويصفو: «حلمت فتاة أنها فراشة/ وقامت/ فلم تعد تعرف إذا كانت فتاة حلمت أنها فراشة/ أو فراشة تحلم أنها فتاة».
في العدد 35 (صيف 1967) حوار مزدوج ومبتكر، بين كل من «أ» (أنسي الحاج) و«ش» (شوقي أبو شقرا)، وبين «أ» (الحاج) و«ن» (ناديا تويني) حول الحرب.
في شتاء 1968 خمس قصائد للحاج، المفاجأة فيها هي الثالثة بعنوان «الذئب»، تكتشف أنها موزونة على مفاعلن وجوازاتها (مستفعلن...)
من أولها حتى آخرها: «في قصص الكبار للصغار/ ذئب يكون نائما... وراء بستان من الأزهار... ويوم لم يعد/ يأكلني الذئب لكي أنام/ بكيت عشرين سنة/ ومتّ من شوقي إليك/ يا ذئب من شوقي إليك».
غاب أنسي الحاج عن أعداد شتاء وربيع وصيف 1969، ليظهر في عدد خريف 1970 في قصائد «تحت حطب الغضب»: «ما عدت أحتمل الأرض/ فالأكبر من الأرض لا يحتملها»... وكان ذلك آخر عهده بالمجلة، وآخر عهد المجلة بالصدور.
الرهبة: متماسك غير متماثل
لا انفصام بين نقد أنسي الحاج وقصائده وكلماته وخواتمه. إنه يتحرك بكليته كفيلق أو كبحر. ولا يعني ذلك أنه متماثل على امتداد مراحله. فهو متماسك ولكنه غير متماثل. إنه في هيجانه متماسك كما هو متماسك في تطامنه. وهو مشمول بالرهبة، وهو ما يجمعني به، الخوف. ولعل ذلك هو ما جعلني أرسم له على كتبه ومقالاته، صُوَره كغائب... لكنني سأذكر في النهاية، الأمر التالي: إنه يتعلق بديوان «الوليمة». تاريخ صدور الطبعة الأولى هو يناير كانون الثاني، 1994 (عن دار رياض الريّس للكتب والنشر). عمر الكتاب في مكتبتي عشرون سنة. صُور الوجوه النسائية على الغلاف وبعض صور الداخل لمحمود الزيباوي، منحها الزمن شيئاً من التعتيق، فغلب عليها اللون الفخاري أو النحاسي المطروق. لكن ما أدهشني، هو ما خطه ماء تسرب إلى بعض صفحات الكتاب، وترك أشكالاً غريبة بعدما جفّ... وقد أحاط بالصفحة الأولى البيضاء، رسم مائي محروق، هامش من أعلى إلى أسفل، في داخله، كنت كتبت التالي حول الديوان: «قصائد الوليمة كثيرة الشحن، لحدود لا تطاق أحيانا، كثيرة المفاجآت... لا أشكو تجاهها من غموض بل من رهبة. أنسي الحاج مجنون بالحرية، غوّاص على ذاته المعقدة المطمورة تحت أجساد كثيرة من التوراة والإنجيل وشعراء من فرنسا، وهو يعرف بالتأكيد الأساس الإيقاعي (الوزني) للشعر العربي، لكنه يتلافاه ويقدمه خلسة في مطلع نص واحد من قصيدة بعنوان «من الذراعين»، فيقول: «نازلة مع الهواء شعرها/ يطول من رموشها نحيبي» ثم يشوش بعد ذلك هذا الانتظام التفعيلي ليقول: «تضحك لأني الأضعف/ أضعف لأنها تضحك»، لكنه يعود لانتظامه من خلال قوله: «لا شيء في آثارها/ وكلما حلت ضحكتها»، ثم سرعان ما يسأم هذا الإيقاع ليعود إلى قلقه الذي داخله، قلقه الشهي البهي الجوال، في الحال وفي البلبال» وأرخت صباح .12/2/1994