مَن هو نزار قباني؟

مَن هو نزار قباني؟

باتت الكتابة عن نزار قباني موضوعاً شائكاً، ذلك لأن عشَّاق نزار يطلقون سهامهم فوراً على من يتجرّأ على ذكر بعض السلبيات في شعره.  
فأنا مثلاً كنت ولزمن مديد من عشاقه، حتى لقد كنت الوحيد بين طلاب كلية الآداب في دمشق الذين سألتهم مجلة «الدنيا» لعبدالغني العطري: من هو أحبّ شاعر عربي لديك، ولماذا؟ فأجبت: «نزار قباني»، وذكرت لماذا، في حين تجاهله الآخرون تماماً. 


وقد تلقيت على الأثر رسالة من نزار، الذي كان يعمـــل فــــي السلك الدبلــوماسي في السفارة السورية في «أنقرة»، يشكرني فيها على اختياري إيّاه، طالباً مني رقم هاتفـــي كي يتصل بي عندما يأتي إلى دمشق في إحدى إجازاته، وهكذا كــان، إذ اتصــــل بــــي في صيف ذلك العام -1952 على ما أذكر- هاتفياً وصرنا على الفور صديقين حميميـــن طوال مدّة إجازته، خاصة حين عادت وظيفته إلى العاصمة لمدة عامين، وفي تلك الأثـــناء أصــــدر ديــــوانــــه الثاني «طفولة نهد» حين انتقل عمله إلى القاهرة. 
وعندما عاد إلى دمشق وأصــــدر ديوانه الثالث «أنتِ لي»، كــــتبت عنـــه مقالاً مــطوّلاً تحت عنوان مثير «أنت لي... مدرسة جديدة حديثة في الغــــزل العــــربي»، وأعجب به نزار كثيراً، غير أنني سألتـه فــــي ما بعـــد: لماذا لا تكتب شعراً وطنياً؟ بعــد أن صــــدرت مجموعاته: «قالت لي السمراء» عام 1944 ثم «طفـــولة نهد» عام 1948 ثم «أنتِ لي» –عام 1952 أو 1953 على ما أذكر-، إضافة إلى قصيدة «سامبا» التي أصدرها في كرّاس صغير منفرد، كانت كل هذه المجموعات خالية من أي قصيدة يمكن أن توصــــف بأنــــها «وطنية» أو «اجتماعية» أو فكرية سياسية إذا شئتم، إذْ كانت كلها تدور حول العلاقة العاطفية بين الذكر والأنثى، ما عدا بعض القصائد المتعلّقة بالساقطات المحترفات اللواتي هاجمهن نزار بقسوة بالغة بعكس الشاعر اللبناني المعروف إلياس أبي شبكة في ديوانه «أفاعي الفردوس»، إذْ تناول الموضوع ذاته ولكن من وجهة نظر إنسانية نسبياً بالرغم من مشاعر اشمئزازه التي أبداها حيال تلك المهنة القذرة.
قلت إذن لماذا لم يكتبْ أو ينشر شيئاً عن القضايا الوطنيـــة التـــي كانــــت تشغــل بال جميع الناس في بلادنا، مثـــــل قضية فلسطين وحكم العسكر الديكتاتـــوري، فأجــــابني وقــتئذ بأن شعره يخدم الوطن أيضاً ربّما أفضــــل من جلجلة الكثير من الوطنيات المعروفة، واختلفنا وقــــتئذٍ لأوّل مرّة، والطريف في الأمر أن نزاراً حين شاهد طالبات المدارس في ثياب نظام الفتوة الخاكي الذي فرض آنذاك على جميع الطلبة كتب مقالة بعنوان «البنادق والعيون السود» يتغنّى فيها بجمال تلك الثياب على الطالبات الصبايا الفاتنات، ويسخر من الشعراء الذين يزعمون أنهم سبقوه إلى ساحة القضايا العامة وأنه منذ الآن سينزل إلــى ساحتهم، وأنّه سيبزّهم جمـــيعاً، فلم تعجـــبني تلك المقالة، ورددتُ عليه بمقالة أخرى تحت هذا العنوان: «البنادق وكلّ العيون» وليس «العيون السود فقط»، مدافعاً عن الشعراء الذين يعنيهم ومعاتباً إيّاه برفق على غروره، ومهنئاً إيّاه في الوقت ذاته على نزوله إلى الساحة الوطنية، ولو كان متأخراً عنهم، وقد أثارت المقالتان وقتها ضجّة كبيرة في الشارع الثقافي والوطني عموماً، وكانت معظم وجهات النظر وقتئذ مؤيدة موقفي من نزار الذي غضب علينا، وقاطعني فانتهت علاقة الصداقة الحميمة بيننا تماماً، منذ تلك المقالة التعيسة التي كتبها ونشرها في صدر مجلة «النقّاد» الأسبوعية الرائجة في السوق الثقافية أكثر من غيرها من الصحف والمجلّات.
صحيح أن نــزار قباني ابتكر لغة جـــديــــدة فعلاً لموضوعات الغزل شكـــلاً ومضموناً،  وشكّل منذ ديوانه الأول «قالت لي السمراء» ظاهرة شعرية لافتة، بل مثيرة، خلبت ألباب الشبان وقتها من الجنسين... تلك مزايا لا تنكر، أبدعها نزار كحركة شعرية حديثـــة جداً عهدئذ، كما قال منير العجلاني في شأنها في المقدمة اللطيفة التي تصدّرت مجمــــوعة نزار الأولـــى، ثم تخلى عنها نزار حين أصبح مشهـــوراً أكثر من رجل السياسة والأدب والنائب فـــي البــــرلمان منير العجلاني الواسع الثقافة إلى حدّ كبير.
ولكن نزار قباني ظل يكرر موضوعاته النسائية بعد أن أضاف إنتاجه الوطني إليها، من دون أن يتطوّر إلى إبداعات أفضل من تلك الموجودة في دواوينه الأربعة أو الخمسة الأولى... أناقة في التعبير... وجرأة في الطرح. واستخدام مجازي مختلف عن السائد، ولكن من دون أن يتطوّر فــــكرياً نحو العمق الإنساني والمادي كما لدى «بودليـــــر» الشاعر الفرنسي المشهور، صاحب المجموعة الشعرية اليتيمة والرائعة حقاً «أزهار الشرّ»، على سبيل المثال لا الحصر... أو الياس أبي شبكة وأمين نخلة اللبنايين والمنافسيــــن له بامتــــياز واضـــــح، ولكنه كسب من الشهرة أكثر منهــــما لا لشيء إلا لأنه كــــان أكثـــــر جــــرأة فــــي خوض الموضوعات ذات الطابع الجنسي المثير أو الفاضح، كما في ديوانه الأول خاصّة، في أكثر من قصيدة وعلى الأخصّ القصيدة التي تحمل عنوان «نهداك» التي عدّل فيها وحذف بعض أبياتها عند نشر أعماله الكاملة. 
ماذا في هذه القصيدة سوى تحريض الأنثى الشابّة غير عابئة إلا بحقها الفردي في التمتّع دونما وازع... فكيف يمكن أن نسمّي نزاراً «شاعر المرأة» أو «تحرير المرأة» وكما في القصيدة التي نشرها في ما بعد تحت هذا العنوان الصريح «القصيدة الشريرة» في ديوانه الرابع «قصائد»؟
وكيف يُقال إنه شاعر دمشق الأوحد الذي تغنّى بمدينته أفضل من أي شاعر آخر؟... كيف نصدّق هذه المزاعم بعد قصيدته الشهيرة «خبز وحشيش وقمر»، التي أثارت ضجّة كبيرة ساخطة على الشاعر الذي يهزأ بأهل دمشق حين يمارسون تقاليدهم الجميلة، في التواصل مع الطبيعة، كصعودهم إلى سفح «قاسيون» ليلة يكون القمر بدراً مكتملاً، فيشربون الشاي ويأكلون المأكولات الخفيفة ويضحكون ويتعارفون بموّدة واضحة مشتركة بين العائلات القريبة بعضاً من بعض، في تلك الجليسة القمريّة الرائعة بعيدين كل البعد عن تناول المخدرات كما يتهمهم نزار في قصيدته تلك، إذ من المعروف أن الشوام «الدمشقيين» يكرهون المخدرات.
لا يا نزار... نزار الذي أحببته ولاأزال أحبّه، بالرغم من مآخذي عليه، فإنه على كل حال شاعر مجدّد موهوب حقاً. ولكن الحق يجب أن يقال: إن الموهبة وحدها ليست كفّارة لأحد حين يستولي عليه الطيش أو الغرور... والآن تعالوا نحتفل معاً بذكرى نزار قباني، الذي يظل جميلاً بالرغـــم مــــن كـــل الجروح أو الدمامل التي تحجب عنا أحياناً وسامته الذائعة الصيت! ■