مغامرة السرديّة النسائية... حول هُويّة المرأة وجنس الرواية
تتكئ المجتمعات على «اللغة» باعتبارها سلطةً عليا وسلاحا فتّاكا لمواجهة الخارجين أو المارقين أو المرتدّين، اجتماعيا أو دينيا أو سياسيا أو أيديولوجيا، وهي تستخدم في ذلك أسلحتها المعدّة سلفا، عبر سنوات من التمييز والعنصرية والتحزّب؛ وذلك لأن أغلب المجتمعات التقليدية تمتاح من بنية مجتمعية هرمية الشكل، ذكورية الطابع واللغة، بطرياركية الوعي والسلوك، تهدف إلى السيطرة والإخضاع والاستغلال والتمويه، بهدف دفع المارقين إلى منطقة الصمت أو حبسهم في مساحة الظل أو بقعة التهميش المرسومة لهم سلفا بعناية ومكر فائقين. ومن ثمّ، تمتلك أمثال هذه المجتمعات ذخيرتها المعجمية العريضة التي تؤدّي وظيفة السهام اللفظية المنطلقة من أفواه المهرة من أرباب الكلام والأقلام والقراطيس، باتجاه الأقليات والمستضعَفين. هذا إذا كان المارق أو الآبق رجلا، فما بالك لو كان امرأة؟!
في هذه الحالة، سوف تهبط عليها من السماء كل القوالب الجاهزة في معجم الحياة اليومية، فهي إما: «عاطفية غريرة»، أو «ثرثارة لا تحتفظ بسر» أو «ضعيفة لا تصلح للإدارة أو اتخاذ قرار» أو «اتّكالية» أو «دمية جميلة» أو «ناقصة عقل ودين» أو «امرأة لعوب»، وغير ذلك من الصفات التي يجود بها المجتمع على النساء، على سبيل الهزل حينا أو الجد حينا آخر، ومن خلال سياقات لغوية عدة، منها ما هو شفاهي أو مكتوب، رسمي أو شعبي، عفوي تلقائي أو منمّق مدبّر.
لعبت المرأة العربية عموما، والشامية على وجه الخصوص، دورا بارزا في نشأة الرواية العربية، في فترة باكرة، وخصوصا لدى كل من أليس بطرس البستاني (1870-1926) ولبيبة هاشم (1880-1947) وزينب فواز (1860-1914)، جنبا إلى جنب رائدة الاتجاه النسوي دون منازع عائشة التيمورية (1840-1902)، حيث قامت الترجمة، في هذا السياق، بدور كبير في إنطاق المسكوت عنه من حياة المجتمع العربي آنذاك. وأنّى لذلك أن يكون متاحا إلا في فضاء مديني مغوٍ، يقوم على احترام خصوصية المرأة وتعزيز حركة الطباعة وانتشار الصحف والمجلات وترجمة نصوص الآخر الإبداعية (القصصية تحديدا في هذا السياق الباكر)؛ الأمر الذي جعل من حركة ترجمة فنون القص الحديثة على صفحات الصحف والمجلات، آنذاك، بمنزلة لازمة مفصلية من لوازم التحديث الذي انشغلت به المدينة وقامت عليه بالأساس. ولم تكن موجة الترجمة، عبر هذا الفهم، بعيدة بحال عن «إشكال الهوية». ولذلك، فإذا كانت بعض السرديات الرجالية قد تناولت إشكال الهوية من زوايا متباينة (مثل سردية المرّاش التي انشغلت بالدعوة إلى أولوية العقل والعدل والتمدّن، وسردية الشدياق التي اهتمت بضرورة مقاومة أشكال التعصب الديني الغاشم، وسردية الطهطاوي التي احتفت بمبادئ الحكم وأنظمة الدساتير (الفرنسية تحديدا)، وسردية فرح أنطون التي ركّزت على قيم التسامح والدولة المدنية، وسردية خليل الخوري التي شيَّدها على قضية الهوية مباشرة)؛ فإن السرديات النسائية لتلك الحقبة الباكرة (مثل أليس بطرس البستاني، ولبيبة هاشم، وزينب فواز، وعائشة التيمورية) قد تقاطعت بكل تأكيد عند نقطة بعينها تتمثّل في الإعلاء من شأن الهوية العربية بما يمايزها عن غيرها، وبما يحفظ خصوصيتها التي هي خصوصية الانفتاح والتلاقح والتثاقف والحوار، لا الانغلاق أو التقوقع أو الصدام أو الصراع، وبعيدا عن أكاذيب لايزال البعض يروّج لها في منطقتنا العربية الشاسعة من آن لآخر، من قبيل: المسلمين والأقباط، المشارقة والمغاربة، العرب العاربة والعرب المستعربة... وهلمَّ جرّا.
لكن السؤال الذي يفرض نفسه هنا هو: لماذا أطلق عبدالمحسن طه بدر على هذه الروايات في كتابه التأسيسي (تطور الرواية العربية الحديثة في مصر) اسم «رواية التعليم والتسلية»؟ وهل كان دقيقا في وصفه؟ وهل كان الوصف يعني إقصاء هذا القطاع من النصوص القصصية خارج دائرة الرواية بالمعنى الفني، أو الرواية الفنية، كما نصَّ كتابه؟ الإجابة الضمنية هي: «نعم». وهذا ما يقوله، مثلا، د. جابر عصفور في الفصل الختامي من كتابه «الرواية والاستنارة»، (ص361)، وهو كتاب يثير الكثير من التساؤلات في ذهن القارئ والباحث معا: فمن ناحية أولى، تتكرر بعض أفكار الكتاب في أكثر من موضع، ويتم الإلحاح عليها بأكثر من طريقة. وربما يعود هذا - كما أتصور- إلى تحرير فصول الكتاب منجّمة قبل أن يجمعها جامع واحد. ومن ناحية ثانية، تنسرب وراء بعض مقولات الكتاب رؤية «وضعية»، علّية، تربط نشأة جنس الرواية (وحدها!) بالمدينة.
إن روايات التعليم والتسلية والترفيه هي أقرب إلى روايات التربية Bildungsroman، وهي نصوص قصصية أقرب إلى هلامية الحكاية Tale منها إلى طبيعة الرواية بمعناها الفني Novel؛ أي أن روايات الاستنارة كانت تقترب كثيرا في تلك المرحلة من روح روايات من قبيل «دافيد كوبرفيلد» لتشارلز ديكنز و«التربية العاطفية» لجوستاف فلوبير و«سنوات تعليم فيلهلم مايستر» لجوته، وغير ذلك من روايات عالمية شهيرة. إن مثل هذا النوع من الكتابة القصصية لم ينشغل بطبيعة الجنس الأدبي ولا بتقاليد النوع ولا أعراف الأسلوب، بل هي كتابة سردية أو قصصية فضفاضة، تمزج الذاتي بالموضوعي، الخيالي بالواقعي، الأدبي بالوثائقي... إلخ.
مسار الرواية للكاتبة الخليجية
إذا تأملنا مسار رواية المرأة الخليجية مثلا، فقد يكون الجمع بين ما لا يجتمع من نصوص هذه المدوّنة في سلّة واحدة ضربا من ضروب الخلط المنهجي. لكنّ القيام بذلك، في ما أتصور، سوف يكون أمرا مفيدا إلى حد بعيد بالنسبة إلى أي دراسة تنزع منزعا تجريبيا؛ لأننا -من خلال أمثال هذه الدراسات الاستكشافية، التجريبية- يمكن أن نتبيّن ما تمتاز به هذه الأصوات الجديدة التي أسهمت في تشكيل ملامح الرواية النسائية في الخليج والجزيرة العربية، وأن نفحص حدود الإضافات الجمالية أو الثقافية التي أرهصت بها هذه الرواية أو تلك، وذلك بهدف الانفتاح على تحوّلات المشهد السردي العربي في منطقة الخليج والجزيرة.
لا يمكن الزعم ببساطة أن هناك أدبا رجوليا خالصا وآخر نسائيا نقيّا، أو أدبا ذكوريا وآخر أنثويا، أو أدبا خشنا وآخر ناعما، إلى غير ذلك من مسمّيات يغلب عليها الطابع الصحافي البرّاق أو السطحي في بعض الأحيان. وكما أن الرجل هو الأقدر على تشييد سرديته التي تنطلق من هموم بني جنسه، فإن المرأة ذاتها هي الأقدر على التعبير عن مجمل مشكلاتها والقادرة على إطلاق صرخاتها، والبوح «روائيا» بما لم يستطع الرجل تمثيله جماليا، أو كتابته في نصوص أدبية راقية، يحاول فيها كل مؤلّف رجل (سواء كان راويا أو شخصية من الشخصيات) أن يتمثّل وجهة نظر المرأة (الأنثى، الحبيبة، الأم، الأخت، الزوجة، .. إلخ). والعكس صحيح أيضا بالقدر نفسه. لكنّ الاصطلاح القائل بأدب نسائي، لا «نسوي»، يُشار به إلى كل ما تكتبه المرأة المبدعة من نصوص، بغضّ النظر عن مدى ملامسة قضايا المرأة أو الدفاع عن حقوقها أو الشكوى والتمرّد ضد قيم الذكورة أو الرجولة. لكنّ الأدب النسوي هو ما تكتبه المرأة في ما يتصل بالدفاع عن قضاياها الاجتماعية أو القانونية أو السياسية، وخصوصيتها، وكيانها المهمّش، مقارنةً بهيمنة الرجل، وسطوة قيم الذكورة. إنه بمنزلة محاولة جادّة من المرأة لتغيير أوضاعها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية عن طريق العمل الجماعي المنظّم الذي يهدف إلى تغلغل الخطاب النسوي في التفكير على مستوى الحياة اليومية.
فالأنثوية (Femininity)، أو النسائية، أمر بيولوجي، أما الأنوثة فتنبع من التراكيب والتصورات الاجتماعية. وكما تقول سيمون دي بوفوار في كتابها «الجنس الثاني» إن «المرأة لا تولد امرأة، بل تصبح امرأة»، فإن الأنوثة هي مجموعة القواعد التي تحكم سلوك المرأة ومظهرها، وغاية القصد منها جعل المرأة تمتثل لتصورات الرجل عن الجاذبية الجنسية المثالية. بينما مصطلح النسوية «Feminist» يشير إلى كل من يعتقد أن المرأة تحتل مكانة أدنى من الرجل في المجتمعات التي تضع الرجال والنساء في تصنيفات اقتصادية أو ثقافية أو طبقية مختلفة. إن هدف المسعى النسوي هو تغيير وضع المرأة في المجتمعات المنحازة إلى الرجل. أما القول بأن الرجل يمكن أن يتبنّى موقفا نسويا فهو أمر محلّ خلاف؛ إذ تميز مودلسكي مثلا بين إسهام الرجل الذي ينطوي على تحليل السلطة الذكورية وبين إسهام الرجل الذي يقوم على الحديث نيابة عن المرأة أو انطلاقا من موقفها. وترى شوالتر أن كتابات المرأة تشبه الكتابات النابعة من أي ثقافة أخرى تابعة، حيث إنها تمرّ بثلاث مراحل من التطور: محاكاة الأشكال السائدة للتقاليد الأدبية المهيمنة، والاعتراض على هذه المعايير والقيم، وأخيرا اكتشاف الذات؛ أي البحث عن هوية نسوية خاصة بها. وتصف شوالتر هذه المراحل بأوصاف «المؤنّثة feminine» و«النسوية feminist» و«الأنثوية female». ومن الواضح أن شوالتر تفضل النمط الثالث من النصوص؛ لأنها نصوص لا تمثّل عملية المحاكاة أو ردّ الفعل المقاوم وحسب، بل تقدم للمرأة «أدبا خاصا بها».
لقد قدّمت نظريات السيرة الذاتية النسائية أسئلةً كثيرةً حول مفهومي الهوية والذات، كما أكدت معظم هذه النظريات اختلاف علاقات التأليف تاريخياً بين المرأة والرجل، مثلما تشير نانسي ميلر Nancy Miller التي ترى «فعل ما بعد الحداثة الذي يُميت المؤلف لا يمكن تطبيقه على المرأة؛ إذ يمنع سؤال المؤسسة بالنسبة لهن؛ لأن النساء ليست لديهن نفس العلاقة التاريخية للهوية مع الأصل والمؤسسات مقابل تلك التي حصل عليها الرجل».
محاولة استبطان الماضي والتراث
لم يتخلّف الأدب النسائي الخليجي، في بعض تجلياته، عن إبداع النساء العربيات في المناطق الأخرى. فإذا كانت ظاهرة الإبداع النسائي العربي قد بدأت مع الأربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين، باستثناء بعض المناطق، فإن إبداع المرأة الخليجية بدأ في الستينيات تقريبا بشكل متواتر، وهناك أسماء خليجية كثيرة شقّت طريقها منذ ذلك الوقت، حيث أسهم النفط في إتاحة الفرصة أمام المرأة الخليجية كي تشارك مشاركة حياتية أعمق في كل المجالات الاقـــتــصـــادية والاجــتـــماعـــية والثقافية.
ثـــــمة أسماء خلــيـــجـــية استطاعت أن تتجاوز تردّد البدايات وعثرة الحَبْو في عالم الكتابة البِكْر. فعلى سبيل المثال لا الحصر يمكن أن نذكر من البحرين: فوزية رشيد («الحصار»، «تحولات الفارس الغريب في البلاد العاربة»، «القلق السري»)، ومن الكويت: ليلى العثمان («المرأة والقطة»، «وسمية تخرج من البحر»، «العصعص»، «صمت الفراشات»، «خذها لا أريدها»، «حلم الليلة الأولى»)، وفوزية شويش السالم («مزون وردة الصحراء»، «حجر على حجر»، «رجيم الكلام»)، ومَيْس العثمان («غرفة السماء»، «عرائس الصوف»، «عقيدة ورقص»)، وبثينة العيسى («سعار»، «عروس المطر»، «تحت أقدام الأمهات»، «عائشة تنزل إلى العالم السفلي»)، ومن السعودية: رجاء عالم («ستر»، «خاتم»، «أربعة-صفر»، «سيدي وحدانة»، «طريق الحرير»، «مسرى يا رقيب»، «طوق الحمام» التي نالت جائزة البوكر العربية عام 2011م مناصفةً مع الكاتب المغربي محمد الأشعري عن روايته «القوس والفراشة»)، ومن الإمارات: باسمة يونس («ملائكة وشياطين»)، وميسون صقر («ريحانة»)، ومن سلطنة عمان: بدرية الشحّي («الطواف حيث الجمر»، «فيزياء1»)، وجوخة الحارثي («منامات»، «سيدات القمر»)، وغالية آل سعيد («صابرة وأصيلة»، «جنون اليأس»، «سنين مبعثرة»، «أيام في الجنة»)، وفاطمة الشيدي («حفلة الموت»)، وهدى الجهوري («الأشياء ليست في أماكنها»)، ومن قطر: مريم آل سعد («تداعي الفصول»)، ودلال خليفة («أسطورة الإنسان والبحيرة»، «أشجار البراري البعيدة»، «من البحَّار القديم إليك»، «دنيانا»).
يقوم قطاع كبير من قطاعات الكتابة الروائية النسائية في الخليج على استبطان الماضي والتراث دون القدرة، في بعض الأحيان، على الولوج إلى الأزمات العصرية والمعاصرة بنفس الدرجة. وهي، إجمالا، سمة مرافقة للكتابة العربية لدى الجنسين: الحديث عن المعاصر من خلال الإسقاط على الماضي أو التماهي معه وسبر أغواره العميقة وجذوره الممتدة، كأننا بالفعل في زمن دائري يكرّر ذاته حتى يكاد المعاصر يشبه التاريخي في جوهره وإن اختلف في مظهره وديكوره الخارجي. وبرغم ذلك، فإن هاجس الخروج من إطار الحيز الضيق إلى الإطار المفتوح هو هاجس أغلب الروائيات العربيات وأيضا الخليجيات.
لا تخلو أمثال هذه الآثار السردية من جعل المرأة بؤرةً لها، ومن ثم فإنه يتم التركيز على المرأة بوصفها مضطهدة، منتهَكة الحقوق، في معظم الأحيان، ويتجلّى ذلك في التربية القاسية أو الانتهاك الجسدي أو الابتزاز العاطفيّ أو «العنف الرمزيّ» بالمعنى الذي كان يستخدمه بيير بورديو (1930- 2002)، وبوصفها ضحية للعادات والتقاليد الجائرة، ولاسيما قيام هذه الأعمال الروائية بطرق مختلفة تنهض كلها على فضح النفاق الاجتماعيّ الذي يولّد تناقضات كثيرة من شأنها أن تُحْدِث صدعا في كيان الأسرة وتشق لحمة المجتمع.
ليست الكتابة النسائية في مدوّنة الرواية الخليجية كتابةً نضاليةً بالمعنى الأيديولوجي الذي يمكن أن نحشر فيه كتابات الروائيين (أو الروائيات) ذوي (أو ذوات) المنحى الالتزاميّ بقضايا الطبقات المسحوقة أو الشعوب المظلومة، بل هي كتابات تنطق بمعاناة فردية في العمق، تم تعميمها بحكم تشابه الوضعيات وانسداد الآفاق وتراكم الاحتقان. ولا يخفى توظيف الأدوات الحضارية التقنية الجديدة في تطريز خيوط هذا النسيج الـــــسردي لمــــــدونة الرواية النسائية الخليجية، سواء عبر رسائل البريد الإلكتروني (كما في «بنات الرياض») أو رسائل البلوتوث (كما في «ثمن الشوكولاتة»)؛ الأمر الذي
يعني أنّ الوعي الحداثيّ لم يتـــجاوز مرحلة استهلاك المنتجات الغربية إلا نحو توظيفها في الإيهام بعالم واقعي أو عالم يشاكل الواقع.
لقد اعتمدت مدوّنة الرواية النسائية الخليجية على ذوات شخصية نسائية تمرّ بتحولات اجتماعية وثقافية واقتصادية شتّى، شهدتها مجتمعات الخليج مع ثورة النفط وثورة الحداثة ومجتمع المعلومات والاتصالات، بحيث نزع قطاع كبير من قطاعات الرواية النسائية الخليجية منزعا رومانسيا، إما لارتباطها بنوستالجيا ماضوية، أو هروبا من ضغوط الواقع اللاهث والضاغط على المرأة جسدا وروحا وعقلا. لقد تغلغل هاجس الحرية في جنس رواية المرأة الخليجية ذاتها، اعتمادا على تنامي الوعي بالهوية النسائية الموازي لتجدّد خطاب المرأة الخليجية في الكثير من مناحي الحياة .