النقد الروائي عند يمنى العيد
صدر عن دار البوكيلي للطباعة والنشر في طبعته الأولى كتاب نقدي موسوم بـ«النقد الروائي عند يمنى العيد: دراسة في الخلفيات والمفاهيم» للدكتور أحمد الجرطي، وهو كتاب يحاول من خلاله المؤلف مناقشة جملة من المفاهيم النقدية، التي أغنت بها الناقدة اللبنانية يمنى العيد الساحة النقدية العربية، والرد في مقابل ذلك على العديد من الدراسات النقدية التي لم تستطع الوصول إلى كنه الممارسة النقدية للباحثة، مما طبع الكتاب بسمة مميزة، فهو من جهة يعتبر متنا متميزا يتدثر بأفق نقدي ينم عن اطلاع واسع للباحث بالمشروع النقدي ليمنى العيد، كما يعكس من جهة ثانية الضبط المنهجي الذي يعود إلى القراءات المتعددة لمعظم الدراسات التي قدمت حول مشروعها النقدي، ومن هنا تأتي الحاجة إلى هذه الورقة التي نعمد فيها إلى تقديم هذا الكتاب، وذلك من خلال الوقوف عند محورين أساسيين، هما: الأهداف واختبار الصحة.
الأهداف
إن ما قدمه المؤلف في كتابه يبرز بجلاء الطموح النظري الكبير، والممارسة العلمية الجادة للوقوف عند المشروع النقدي ليمنى العيد، وقفة متأنية من أجل تصحيح جملة من المغالطات التي رافقت هذا المشروع، ولاسيما عند بعض النقاد الذين رأى الباحث أنهم تسرعوا في الحكم على يمنى العيد، ومن ثم تصنيفها ضمن مناهج نقدية بعيدة عنها كل البعد. ولعل هذا ما أدى بالدكتور أحمد الجرطي إلى تحديد جملة من الأهداف التي دفعته إلى اختيار النقد الروائي عند يمنى العيد موضوعا لهذا الكتاب، ومن بينها أن معظم تركيز النقاد العرب الذين واكبوا تطور الرواية العربية قد انصبّ على التأريخ للرواية العربية و«متابعة تحولاتها الفنية والمرجعية مع إهمال شبه تام لإنجازات النقاد العرب في مجال نقد الرواية» (ص7)، بل ينضاف إلى ذلك أن جل الدراسات التي عنيت بتتبع الجهود النقدية للنقاد العرب في مجال نقد الرواية ظلت مشدودة إلى طابع التلخيص والعرض في غياب تام للسجال النقدي، ويقدم الباحث كشاهد على ذلك جملة من الكتب النقدية، منها: «تحليل الخطاب الأدبي على ضوء المناهج النقدية الحداثية دراسة في نقد النقد» لمحمد عزام، و«النقد الأدبي العربي الجديد في القصة والرواية والسرد» لعبدالله أبوهيف، وغيرهما.
ونلاحظ هنا أن الباحث منشغل بإعادة النظر في تلك الدراسات التي غلب عليها طابع التسرع، فهو يطمح إلى تقديم قراءة نقدية تتعالى عن إصدار الأحكام المتسرعة، وتستحضر في مقابل ذلك السياقات الفاعلة في تلقي المنهج النقدي وتوظيفه، ولعل هذا ما دفعه إلى الدخول في جدال نقدي مع كل من عبدالعزيز حمودة، وعبدالله أبو هيف، وسعد البازعي وغيرهم، ممن حاولوا الوقوف عند المشروع النقدي ليمنى العيد، مؤكدا في السياق نفسه أن خصوصية الدراسة التي يقدمها تسعى إلى الكشف «عن أهم الخلفيات الفكرية والنقدية التي شكلت منطلقات أساسية للجهاز المفاهيمي الذي اعتمدته الناقدة في البحث عن خصوصية نقدية لا تتماهى مع النموذج الغربي، بل تحرص على تنسيبه من خلال استحضار السياق الاجتماعي والثقافي الذي يحف بعملية استقباله» (ص10).
وهي خصوصية أخفقت جل الدراسات في تلمسها والوصول إليها.
وهذا هدف آخر دفع المؤلف إلى اختيار النقد الروائي عند يمنى العيد موضوعا لدراسته، يقول: «كما ينضاف إلى هذه القناعات السابقة، عامل آخر ساهم في تخصيصنا مشروع يمنى العيد النقدي الروائي بهذه الدراسة، تجلى في إخفاق معظم الدراسات التي تناولت مشروعها النقدي في الكشف عن خصوصية هذا المشروع، وإبراز خلفياته ومفاهيمه واستراتيجياته» (ص13). وهو ما حرّكه إلى البحث من أجل تجاوز التعثر الذي وقعت فيه تلك الدراسات السابقة، وهو مطمح آخر أشار إليه المؤلف في ثنايا الكتاب.
ومن ثم نلحظ أن غاية المؤلف تنأى عن كونها مجرد دراسة في مشروع نقدي فحسب، بل إنها تسعى إلى إعادة وضعية يمنى العيد ضمن الخريطة النقدية العربية، وإنصافها من خلال الكشف عن الخلفيات الفكرية والإبستيمية الناظمة لممارستها النقدية، فبرغم الموسوعية التي تتميز بها يمنى العيد والتي دفعتها إلى استدعاء جملة من المفاهيم النقدية التي تتوزع بين مناهج نقدية عدة، فإن الخلفية الناظمة لكل ذلك تظل الفلسفة الماركسية، والمنهج السوسيولوجي على وجه التحديد، وهذا ما يود الباحث الوصول إليه، بل ويؤكده في دراسته.
أما في ما يخص الجانب المنهجي للكتاب، فيمكننا التأكيد أنه جاء متساوقا وطبيعة الدراسة، حيث الجمع بين المستويين النظري والتطبيقي من خلال الوقوف عند التنظير الروائي ليمنى العيد، ثم انتقاء جملة من النماذج في الممارسة النقدية لديه، وكل ذلك يؤشر على الاستيعاب الرصين لمشروع الباحثة، ولاسيما من خلال الانتقال من المستوى الأول إلى المستوى الثاني.
اختبار الصحة
قبل أن نقدم بعض الملاحظات النقدية حول الكتاب، لابد أولا أن نؤكد أن الكتاب يضم تمهيدا حاول من خلاله الكاتب الوقوف عند أهم التحولات التي عرفها النقد الروائي العربي، ثم أعقبه بفصل أول حول التنظير النقدي الروائي عند يمنى العيد، وقد وقف فيه عند جملة من المفاهيم النقدية التي فصلت فيها القول من قبيل ماهية النقد، ووظيفته، وكيفية توظيف المنــهج النقدي، والعلاقة الجدلية بين النص والواقع المرجعي، ثم أهمية الموقع في تحديد بنية الشكل الروائي، وغيرها، أما الفصل الثاني فقد خصصه الباحث للتقويم الجمالي من خــلال انتقاء بعض الأعمال التي طبقت عليها يمنى العيد مهنجها، بينما جاءت خاتمة الكتاب في شكل استنتاجات هي في الحقيقة خلاصة ما توصل إليه المؤلف.
لقد اتضح لنا أن المؤلف يتمتع باضطلاع واسع على المشروع النقدي ليمنى العيد، وهو ما قدم مادة دسمة وغنية تدفع الباحث إلى مزيد من التأمل في هذا المشروع، كما يتضح مدى التزام المؤلف بما قدمه من أسئلة خلال مسار الدراسة، فقد ظل حريصا على أن تنسجم تلك الأسئلة مع ما يبتغي الوصول إليه، ولكن ما لا نتفق معه فيه، هو الغياب شبه التام للسجال النقدي مع الناقدة، فالمؤلف بصرف النظر عن بعض الإشارات البسيطة، تظل كل الأفكار الواردة في الكتاب هي عبارة عن دفاع عن الطرح النقدي للناقدة اللبنانية، وما يعزز هذه الملاحظة هو الجدال الذي دخل فيه المؤلف مع العديد من النقاد الذين اتخذوا من مشروعها مجالا للبحث، يقول: «ولذلك نخالف مجموعة من النقاد في تلك الأحكام التي أصدروها حول كتاب «في معرفة النص» ليمنى العيد التي ظلت بعيدة كل البعد عن التحديد الدقيق لخلفياتها المعرفية والنقدية» (ص42).
بل إن حدة النقد الموجه إلى هؤلاء ستصل إلى درجة اتهامهم بالتعسف، والخلط، والمغالطة في إصدار الأحكام النقدية، يقول: «إن مظاهر الخلط والمغالطة التي طبعت عملية تلقي الخطاب النقدي الروائي ليمنى العيد لم تقف عند حدود الرأيين السابقين، بل نلمس آثارها عند الناقد سعد البازعي الذي انتهــى في دراســــة موجزة عن تجربة يمنى العيد النقــدية من خلال كتابها «في معرفة النص» إلى الموقف نفسه الذي تبناه عبدالعزيز حمـــودة، وعــــبدالله أبـــو هيف مــــمثلا فــــي وسم تنظيرها الروائي بالتلفيقية، والتداخل بين خطوط منهـــجية متعارضة عدة» ( ص46).
غير أن ما يلام عليه المؤلف هو المغالاة في الانتقاد، وتقديم الاتهامات الجوفاء مع غياب الشاهد الحقيقي، ولنقف معه عند القول الذي يقدمه كدليل لاتهام سعد البازعي ليمنى العيد بالتلفيقية، حيث يقول سعد البازعي: «ويأتي مفهوم في معرفة النص الذي تطرحه يمنى العيد في سياق هذا التوجه النقدي الذي يتوسط بين الشكلانية والواقعية، ولكن إدخالها لوكاتش وغولدمان في هذا السياق يخلق وضعا مضطربا يخرج بالمنهج عن البنيوية التكوينية التي سبق أن نسبتها إلى لوسيان غولدمان، مع أن الناقدة تصف هذا المسار بأنه المسار النقدي القلق الذي ينكشف نتيجة هذا الاضطراب قلقا مركبا بمعنى أنه قلق منهجي في الوقت الذي يوصف فيه ضمنا بأنه قلق إبداعي، أو بتعبير آخر تقول يمنى العيد إن في منهجها قلقا إبداعيا ولكن الواقع يقول إن في منهجها اضطرابا غير إبداعي نتيجة تداخل الخطوط المنهجية» (ص46).
وما يسترعي الانتباه هو أن مصطلح التلفيقية الذي أورده المؤلف منتقدا به رؤية سعد البازعي لمؤلف يمنى العيد «في معرفة النص» لا وجـــــود له البتة في الشاهد الذي قدّمه لتعضيد طرحه، وهو ما يؤكد لنا انسياق المؤلف وراء الأطروحة الأساس من وضع الكتاب، الأمر الذي جعله يتخبـــط هـــو الآخر في مثل هذه الأحكام المتسرعة، فالقول بتداخل الخطوط، لا يعني بالضرورة القول بالتلفيقية.
إلى جانب هذه الملاحظة، يمكننا التأكيد أيضا أن التــــقويم الجـــمالي ظل ضئيلا مقارنة مع جملة الأعـــمال المحللة من لدن يمنى العيد، فالمؤلـــــف اكتفى ببعض النماذج وهي كالتـــــالي: قصـــــة «أشياء لا تموت» لمحمد عيتاني، و«موسم الهجرة إلى الشمال» للطيب صالح، و«التيه» لعبدالرحمن منيف، وهي كلها أعمال تدعم الأفكــــار التي تناولهــــا سابقا، ولكن ما لا نتفق معــــه فــــيه هو كيف تسنى له حصر التقويم الجمالي في ثلاثـــة نماذج مــقارنة المشروع النقدي ليمنى العيد ككل؟ ولعل قلة النماذج المنتقاة هي التي انعكست بشكل سلبي على الطابع المنهجي للكتاب بكامله، حيث البون الشاسع بين الفصل الأول الذي يمتد إلى مائة صفحة، والفصل الثاني الذي لم يتعد الأربعين صفحة، ونحن لا نرمي من خلال هذا القول البحث عن السيمترية في البحث العلمي، ولكن نشدد على نوع من التوافق أثناء الانتقال من التنظير إلى الممارسة.
وإجمالا، فهذه الملاحظات البسيطة لا تقلل من أهمية الكتاب الذي زخر بالعديد من الإضافات التــــي لامست مشــــروع يمـــنى العيد، فالكتاب يقدم مادة غنية للبحــــث والنقاش، من خلال إحاطة مؤلفه بالمســـار التطـــــوري للتجربة النقدية للناقدة اللبنانـــية، وهو مـــا أتــــاح لنا الفرصة أيضا لمواكبة هذا التطور الذي أتى متسقًا مع جملة من التحولات التي عرفـــتها الساحة النقدية العربـــية بشكل عام، وهو ما ألمح إليه هذا الكتاب الذي اتسم بالدقة والانسجام بين طبيعة الأهداف المسطرة، والنتائج المتوصل إليها .