رافع الناصري... فنان الرؤية الجديدة

في الكتابة عن الفنان رافع الناصري (1940 - 2013)، تجربة إبداعية ومنجز فني، لا نستطيع الفصل بينه - فكراً وتفكيراً - وبين فنّه ، الذي حمل إلى هذا العالم رؤية لا تنفصل، هي الأخرى، عن هذا كلّه، كما لا تنفصل عن بيئته المكانية الأولى التي كان منها منطلقه التكويني.
فإذا كانت حقبة ستينيات القرن الماضي التي ظهر فيها فناناً، (حيث أقام معرضه الأول في بغداد عام 1965)، ومارس عمله الفني بروح إبداعية مجدِّدة، حقبة تغيرات جذرية في الفن، كما في الشعر والقصة صعوداً إلى المسرح والرواية، فهي الحقبة ذاتها التي فتحت من آفاق الحداثة والتجديد، فضلاً عن المعطيات المكانية، ما جعل مسألة التفرد بالرؤية والأسلوب من خصائص أعمال فناني هذه الحقبة.
هذا الفنان المتحدر من بيئة مكانية يحدها النهر والماء شرقاً، وتجاورها الصحراء من جهة الغرب، جعل للمكان خصوصيته وتأثيره الانعكاسي في عمله الفني.
وبقدر ما كانت الشمس في شروقها تنعكس على ماء النهر بتموجات لونية متحركة، كانت في جنوحها نحو الغروب تشكل مشاهد أخرى لها انعكاساتها، هي الأخرى، على ما كان في تلك الصحراء من أحجار ورمال خشنة، لتؤلف، في عين الفنان أشكالاً تمتد بظلالها على تلك الأرض الصحراوية برمالها الخشنة، ما جعل عمله الفني يكتسب الكثير من خصائص هذا المشهد الذي تمتاز به المدينة التي ولد فيها ونشأ نشأته الأولى، لتشكل، من بعد، علامات دالة في عمله، وفي تفردات اللون عنده، وكأنه أصبح في ما يرسم يبحث عن اسرّب نفسه في ما اختزنه لاوعيه، أو ذاكرته البَصَرية منها. وهنا يبرز عنصران ظلا ملازمين لعمله الفني، هما: الإحساس، (ومصدره الطبيعة، بما لها من غزارة وفيها من تنوّع)، والتفكير (الذي تحكمه رؤية فنية للأشياء، يعود بعضها إلى الذاكرة - في ما تحمل من موروث بيئي، أو مما علق بها من صور ومشاهد نجد الفنان يجعل لها دلالاتها الموضوعية الخاصة التي ترمز للشيء أكثر مما تجسده). افالرؤية المكثفة باللون - كما تراها الناقدة مي مظفر - المنطلقة من نسيج الذاكرة، تبدو عالماً لا أرضياً، ولكنها تستيقظ حين يخترقها سهم رقيق يمتد صريحاً ليُعبّر عن مشهد يوميب.
آفاق مضافة
هذا الإمساك بـ االرؤية التكوينيةب للعمل الفني، وقد جاء على هذا النحو، ارتبطت به/ وصدرت عنه الرؤية الفنية للفنان، التي سيبلورها في بنى قائمة بذاتها، مع ملاحظة أن العلاقة بالمكان لم تأخذ عنده صيغة االشكل القائمب بذاته، وإنما أخذت أبعاد التعبير عنه في بُعدين: ما يتجسم فيه الشكل من آفاق تعبيرية، وما يتجسد به هذا الشكل من انثيالات لونية أساسها عمق الإحساس بالمكان، ما جعل أسلوبه وثيق الصلة بجماليات الفن المعاصر.
هذه الجمالية، التي يمكن تسميتها بـاالجمالية الممكنةب في نطاق ما لعمل الفنان من خصوصية الرؤية، نجده يطوّرها من خلال تطوير منظوره الفني، ويعمل على تنميتها بالاستخدام البارع للون، ما جعل لتجربته/ رؤيته طرائق تكوّنها الفني الخاص.
فنان الرؤية الجديدة
هذا كله نابع من االرؤية الجديدةب التي سيؤكدها وعدد من مجايليه (1969)، باعتبارهم االفن ممارسة موقف إزاء العالم، وعملية تجاوز مستمرة، واكتشافاً لداخل الإنسان من خلال التغييرب. ذلك أن االرؤية الفنيةب، وفق ما رأى، ليست إلا صورة من صور استخدام الفنان لعالميه الداخلي والخارجي، جاعلاً منهما عماداً لما يعمل على بنائه من عالم جديد.
فإذا كانت الرؤية الفنية - كما جاء في بيان االرؤية الجديدةب - هي الحضور المتحقق في اللوحة، وأن هذا الحضور هو ذات قلقة تبحث عن هويّة حضارية، فإن الأسطورة والحس التاريخي يصبحان االوسيط الذي يصل الفنان بعالمه الجديدب.
وفي ضوء هذا جاء تعريفه (تعريفهم) الفن بأنه اكل إبداع جديدب، ناظراً (ناظرين) إلى االتراث القومي والإنسانيب لكونه رافدهم عبر رحلة التغيير والإبداع، ذلك أن اممارسة الفن رهن بممارسة الإنسان لجوهره الإنسانيب.
من هنا تولدت علاقته بالحرف العربي الذي سيجعل منه عنصراً تشكيلياً، وعلى نحو مختلف مع ما اتبع زملاؤه من طرائق في ما يُعرف بـ اتشكيلية الحرفب. فعلاقته بالحرف، كما يقول، نابعة من اعلاقة رسام واجه التحدي في الغربب، الذي أمضى فيه فترات من سني الستينيات لدراسة الفن، مشيراً إلى أننا اإذا استعرضنا أعمال معظم الفنانين الحروفيينب فسنجدهم استخدموا الحرف العربي وهم في صميم الغربة، مستثنياً من ذلك الفنان شاكر حسن آل سعيد، لكونه االوحيد الذي استخدمه وهو داخل الوطنب.
لقد جاءت تجربته في استخدام الحرف استخداماً تشكيلياً من رغبته افي تكوين لوحة تجريدية ذات ملامح خاصة بهب.
وكان تحوله إلى الأسلوب التجريدي الدافع الأكبر له باتجاه الحرف. بل يؤكـــــد أنـــه وجد في الحرف، وهو يوظــــفه فــــي بنــــاء عمــــله الفــــني، تميّزاً وخصوصية، مع ملاحظــــة أن الحرف في أعماله اليس عنصراً مضــافاً إلى التكــــويـــــن، ولا هو قيمة زخرفية، بل هو عنصر خطـــي نـــابع من صلب التكوين، ومركز يتمحور حوله الموضوعب.
ويربط توظيفه الحرف تشكيلياً بانتقاله عام 1967 من الواقعية إلى التجريدية، وقد حصل ذلك في الغربة، إذ وجد أن الحرف العربي أخذ يُحيله، فناناً، اإلى حالة روحيةب، ليأخذ نزوعه هذا بالتركّز التدريجي، بل وجده يعطيه انوعاً من الأسلوبيةب، إلا أنه، في الوقت ذاته، وجد أن التجربة التشكيلية مع الحرف لا تُعطي الكثير، فعزف عنها، مع أن بعض مجايليه، وأبرزهم الفنان ضياء العزاوي، يرى أن تجربته مع الحرف (التي امتدت بين عامي 1967 و1969) شكلت امساهمة تاريخية فتحت أمامه نوافذ غاية في التنوّع، كان قادراً في ما بعد على تفكيكها، ثم إعادة بنائها بأشكال مغايرة وجديدة.
إن ربع قرن من الغربة - استنفدت الربع الأخير من عمره - كانت كافية لأن تُحدث من التحوّل في عمله الفني، ما أتاح له أن يفتح أمام نفسه وفنّه آفاقاً غاية في التنوّع الذي جعل منه وسيلته لتأكيد الذات في ما لهذه االذاتب من خصائص التكوين، وبما تختزن من رموز حيّة، ليعيد بناءها بأشكال جديدة لا تنفصل عما له من خصوصية فنية، ومن ثقافة بَصَريّة متعددة المصادر، ومتداخلة التكوين.
البيئة الأولى - المنطلق
يسجل الفنان تأثيرات البيئة الأولى عليه، بما حفرت في عمق ذاته من دلالات حيّة، وهو الذي ارتبط بالنهر وجوداً ورمزاً دالاً كما لم يرتبط بسواه من مشاهد الطبيعة.
ويؤكد أنه وإن كان قد مرّ ابأنهار وبحار كثيرةب، وأقام ابجوار بعضها في بلدان مختلفة من الشرق والغربب، فإنه لم يجد ما هو أكثر متعة من تجربة نهره الأول: ادجلةب، االذي أنتمي إليه جسماً ووجداناً. فما انطبع منه في ذاكرتي لايزال يتجلى أمام عيني مع مرور الأيام مقترناً بأشكال وألوان وقصص طريفة تنسج بمجملها مشهداً مثالياً للحلم الجميلب وظل يرسم ابجانب النهرب ويتأمل في ما للنهر من آفاق مترامية ترامي فسحة النظر.
وفي هذا كان الفنان الهولندي ارامبرانتب (1606 - 1669) مثاله في الفن. فهو - كما يؤكد- مَنْ ساعده اعلى فهم حساسية الضوء والظل في اللوحة المرسومة، أو المحفورة، وفي كيفية الانتقال والتدرّج بالألوان من المناطق الأكثر إثارة إلى المناطق الأكثر عتمةب.
وإذا كان - كما ترى رفيقة حياته الشاعرة والناقدة مي مظفر - في أعمال غربته الأخيرة هذه قد عمد إلى كل ما كان خزنه في رحلة حياته الفنية والوجودية معاً لإيجاد اعمل فني مسكون بالجمال صياغة وفكراًب، فإنه ظل في غربته الأخيرة (التي امتدت بين عام 1991 وحتى وفاته عام 2014)، ايبحث عن مصادر بَصَريّة يعبّر من خلالها عن معاناته النفسية الشديدة وهو يُتابع، ويرى تدهور الوضع الإنساني في العراق، وتفككه، بل انهيار بلد عريق كان منشأً ومركزاً لأرقى الحضارات في العالمب.
المعرفة البَصَريّة
العمل الفني عند الفنان الناصري حركة حواس (إذا جاز التعبير للتخصيص، لا الإطلاق). فهناك البَصَر النافذ في عمق الأشياء، المرتقي بها، لوناً، من الأرض - محدودة الأفق، إلى سماء مفتوحة يتدرج فيها اللون حتى ينتهي عند لا نهاياتها، وهناك السَمْع، أيضاً، الذي تتطلع إليه الأصوات في نغمات أقرب إلى الموسيقى - بما يجعل للون إيقاعاته على سطح اللوحة.
وهناك ما يجمع بين الرؤية واللمس ليمتدا معاً بتواصلات لها ظلالها التي تقترب منها اقتراب الشمس من أفق المغيب. فهو الفنان الذي امتاز بغنى معرفته البَصَريّة، وما لهذه المعرفة من جذور ممتدة في المكان، وفي ثقافة هذا المكان، لنجدها في أعماله الأخيرة تتواتر على ثلاثة إيقاعات، وبتداخل فني بارع: إيقاع الذات في ما لها من بُعد وامتداد روحي، وإيقاع الأشكال التي تتخذ عنده حركية تكوينية وجودية التنوّع، ثم إيقاع اللون/ التعبير الذي يستعيد ما اختزن من مرئي فيُعيد تمثيله.
لا يعني هذا، ولا نعني به، أن الممارسة الفنية للفنان رافع الناصري تعتمد الإسقاط الذاتي للمشاعر والأحاسيس على العمل الفني، بل هو من قبيل الإظهار لحقيقة وجود بعينه، بتفاصيله هذه، التي قد تكون، كما تبدو، تفاصيل صغيرة، إلا أن اجتماعها يُفصح عن اجاذبيتها السريةب.
وهو، في هذا كلّه، لا يبحث عن شيء كبحثه عن جمالية العمل الفني: الجمالية التي تعكسها فكرة، أو تحملها رؤية، أو ينبض بها إحساس، وليست االجمالية المطلقةب.
بتعبير آخر: إن لجمالية العمل الفني في عمل الفنان الناصري منطقها، ومحدداتها التي تتعيّن بها، متمثلة بما انفتح عليه رؤية في الوجود، واستوعبه عقلاً بما اجتمع من علاقات، فعزز الرؤية الفنية برؤية عقلية أحكمت آفاق العمل.
فالفضاء الذي تحرك فيه دافعاً بحقيقته إلى العمل الفني، جعل من هذا العمل منجزاً له مثل هذا المعطى الذي كشف عالم الفنان بمختلف تفاصيله.
هذه الحقيقة قد تكون اوجودية الوجودب، كما هي اذاتية التكوينب. وفي الحالتين نجد الفنان يملأ فضاء عمله/ لوحته بتكوينات واقعية الأصول، متخيلية التجسيد. وهنا تتعيّن الرؤية، والتشكيل، أو ما يحتكم إلى التلقي، والاستجابة.
وإذا جاء التلقي هنا بَصَرياً، فإن الاستجابة تتحقق ذاتياً لتأخذ مداها في ما يجعل لها، في لوحته، مدى بصرياً تتجسد فيه (وهو ما يبدو على نحو أوضح في أعماله الأخيرة التي خرج فيها على الحجم المألوف لأعماله، مع الإبقاء على لمسة ريشته التي يمكن وصفها بـاالريشة الناعمةب)، وهذا ما جعل لعمله خصوصيته المتمثلة في النظر إلى الأشياء بعمق تأملي، والتعبير عنها/ تجسيدها ببعد رؤيوي، لتكون الحصيلة الوحة صافيةب.
الفنان، الجيل، الدَور
الفنان رافع الناصري واحد من مجموعة فنانين شكلوا النواة الإبداعية الحقيقية لجيل الستينيات في الفن العراقي الحديث، دعا، وجيله، إلى فن جديد تعيّنت خطوطه الرئيسة في غير بيان (بيان جماعة المجددين، وبيان الرؤية الجديدة)، تبنوا فيها أفكاراً ورؤى جديدة في الفن.
وقد أراد هذا الجيل، وعبّر عن طموحه في أن يلعب دوراً فعلياً في الحياة الفنية. وسيلعب هذا الدور بوعي فني، ومن خلال قيم/ بمعايير فنية جديدة ارتكزت، أكثر ما ارتكزت، إلى حرية الرؤية، وإلى الحداثة أفكاراً ورؤى وأساليب، ما أتاح لهم بناء رؤاهم على أسس عميقة التكوين.
لقد وجدوا أن حيوية الفن واستمراره لا يمكن لهما التحقق الفاعل إلا من خلال تبني الفنان قيماً ومبادئ فنية واضحة التكوين والتوجه. ومن هنا كانت لهم أسئلتهم التي أسهمت في خلق مناخ فني قوامه الموهبة، والثقافة الفنية المحتكمة للتجديد/ الإضافة.
وهو ما كان .