اللغةُ الآراميَّة... جِسْرُ التواصلِ بينَ الماضي والحاضِر
ما كان للبدوي العربي الناشئ بين ظمأ رمال الصحراء ووهج الشمس ليستوقفنا لو لم يكن قد أدهش البشرية بعد أن استقر في مكة وأكاد وبابل ونينوى وماري وأوغاريت وأورسالم (القدس) وتدمر والبتراء وجرش، وغيرها من المدن العربية القديمة، التي حملت لغتنا، وعبّر فيها الإنسان العربي عما يحتاج إليه ليحفظ تراثه وإبداعه وقيمه من جيل إلى جيل، فهي جسر التواصل بين ماضي العرب وحاضرهم ومستقبلهم.
وما كان للموجات البدوية التي استقرت في المدن القديمة لتستوقفنا طويلاً لولا أنها قدمت المادة البشرية لبناء أسس التقدم الحضاري المرتكز على أكتاف أبناء الجزيرة العربية والأكاديين والبابليين والآشوريين والكلدانيين والآموريين والآراميين والكنعانيين والفنيقيين والنبطيين والتدمريين وغيرهم.
ونلاحظ أن اللغة الآرامية سادت من البحر المتوسط إلى الفرات، ومن أرض الرافدين حتى بلاد العرب جنوباً، وكان انتشارها أكبر بكثير من المجال السياسي الذي امتدت إليه، إذ استُخدِمَ اصطلاحها منذ أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، ليدل على اللغات التي تكلم بها أهل الأرض الخصيبة التي تمت بنداء سواحل الجزيرة العربية ودجلة والفرات والعاصي وبردى والأردن، وغيرها من الينابيع والأنهار الممتدة في المعمورة.
وهكذا، تنتمي اللغة الآرامية إلى مجموعة لُغوية واحدة متعددة اللهجات، إلا أنه في عام 1871م، أطلق عالم اللاهوت النمساوي شلوتزر اصطلاح «السامية» على اللغة الآرامية تجاوزاً، ولأول مرة في مقال نشره عن الكلدانيين، وقد تبنى المستشرقون هذا الاصطلاح حتى صار شائعاً ومتداولاً في الأوساط العلمية حتى الوقت الحاضر، إذ نجد أن أقدم ذكر للساميين يرد في سفر التكوين، الإصحاح العاشر، الفقرة 1: «هؤلاء مواليد بني نوح سام وحام ويافث ومن ولدهم من البنين بعد الطوفان».
وفي هذا الإطار، اهتم المستشرق الفرنسي آرنست رينان في «الجوانب العرقية والحضارية للنظرية السامية»، فوصم الساميين بأنهم عرق متخلف حضارياً عن الجنس الآرِي - جنس تجمعه بعض الخصائص اللغوية والجنسية، بعضه في الهند وإيران، وبعضه في أوربا - وهكذا جاءت نظرية آرنست عبارةً عن تمهيد فكري لتبرير استعمار الجنس الآري السيد، للعرق السامي المتخلف، بهدف تمزيق الهُوِيّة العربية التي ترسخت منذ آلاف السنين.
والآرامية – بحروفها القديمة الاثنين والعشرين - تكتب من اليمين إلى اليسار، كالخط المربع، منفصلة بعضها عن بعض، وفي «المعجم الوسيط»، تتبع أبجدية الآرامية ترتيب أغلبية الأبجديات «السامية» القديمة، أي بمعنى «أبجد، هوز، حطي، كلمن، سعفص، قرشت»، التي جمعت فيها حروف الهجاء، بترتيبها عند «الساميين»، وذلك قبل أن يرتبها نصر بن عاصم الليثي (ت 89 هـ)، وهو الترتيب المعروف الآن، أما «ثخذ وضظغ»، فحروفهما من أبجدية اللغة العربية، وتسمى الروادف.
بين الآرامية والكنعانية
وفي الآرامية، لا إعراب لأواخر الكلمات في الجمل، وأقرب اللغات التي سبقتها في بلاد الشام هي الكنعانية الجنوبية، وبينها وبين العربية الحديثة عناصر مشتركة في النطق والمفردات والتصريف، إذ تعبر اللغة الآرامية عن واقع أبنائها، فتعكس مستوى حياتهم وتقدمهم في تلك الأيام التي شكلت وحدة ثقافية لُغوية بقيت منتشرة برغم كل التأثيرات، ولعبت دوراً مهماً في وحدة المشرق القديم، واستمرت بقوتها حتى بدايات العهد الإسلامي.
وقد تأثرت بعض اللغات بما فيها العربية الحديثة بالآرامية، علماً بأن اسم «عرب» لفظة تأخرت بالظهور، فأقدم إشارة مدونة تستعمل فيها كلمة «عرب» تقع في نقش آشوري يعود لسنة 853 قبل الميلاد، إذ جاء في الوثيقة أن الملك الآشوري سلمنصر الثالث (شلما نصر) انتصر على ملوك المدن السورية المتحالفين ضده، وعلى حليفهم «جنديبو» العربي زعيم إحدى القبائل العربية، وذلك في معركة قرقر (كركر)، وبعد ذلك أخذ اسم «العرب» يرد على التوالي في الوثائق الآشورية كموطن وشعب، وفي حوالي سنة 530م، تظهر في النصوص الفارسية المكتوبة بالخط المسماري إشارات إلى Arabaya أي «العرب».
وقد ورد لفظ «عرب» في القرآن الكريم في مواضع متعددة، منها قوله تعالى: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}، (سورة فصلت: الآية 3). ومنها قوله تعالى: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}، (سورة الزمر: الآية 28).
وقد اختلف علماء اللغات في تفسير لفظة «عرب» ومصدر اشتقاقها، فالأصمعي (ت 217هـ) يذكر أن اللغة العربية منسوبة إلى يعرب بن قحطان، وهي مشتقة من اسمه، وفي هذا المعنى قال الشاعر حسان بن ثابت الأنصاري (توفي بين عامي 35 و40هـ) مخاطباً العرب:
تعلمتم من منطق الشيخ يعرب
أبينا فصرتم معربينا ذوي نفر
ونجد لدى ابن منظور (711هـ/1311م) صاحب «لسان العرب»، وياقوت الحموي (626 هـ) في «معجم البلدان»، أن العرب سموا عرباً نسبة إلى بلدهم وديارهم التي تسمى عربة أو عربات، والعربة هي باحة العرب وساحتهم، في حين ذكر الألوسي (ت 1324هـ) في كتابه «بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب»، أن لفظة عرب مشتقة من الفعل يعرب، أي يُفصح في الحديث، وأصبح يدل على العرب لفصاحتهم في اللسان.
أبجدية ما بعد انهيار الإمبراطورية الآشورية
وقد تطورت الآرامية ليتوصل أهلها لكتابة خاصة بهم في منتصف القرن السابع قبل الميلاد بالترتيب الأبجدي كما ذكرنا سابقاً، إذ إنه مع انهيار الإمبراطورية الآشورية في نهاية القرن السابع قبل الميلاد تحت ضربات التحالف الميدي الكلداني، ازدادت أهمية الآرامية كلغة دبلوماسية دولية، وأصبحت تشكل مع الإمبراطورية الإخمينية - أسرة ملكية فارسية أسست لها إمبراطورية في فارس عام 559 قبل الميلاد وامتدت في أوجها إلى جميع أرجاء الشرق الأدنى - إحدى لغات الأدب والإدارة والحكم بخطها اليدوي.
ويذكر د. محمد محفل في كتابه «مدخل إلى اللغة الآرامية»، أنه بعد سقوط الدولة الإخمينية، فقدت الآرامية السند الذي جعل منها لغة خطية رسمية متجانسة ذات لهجة موحدة في مختلف المدن، وبدأت تتراجع أمام اللغة اليونانية لفترة زمنية محدودة، لتتبدل الحال من جديد وتحتل مكاناً مرموقاً في المشهد الثقافي للمشرق القديم.
نقوش آرامية
والملاحظ أن معلوماتنا عن الآرامية الموغلة في التاريخ القديم محصورة ببعض النقوش والكتابات المكتشفة حديثاً، وهي أثر من آثار الحضارة الآرامية القديمة في مناطق بلاد آرام. ويقول د. محمد حرب فرزات في كتابه «موجز في تاريخ سورية القديم»، إن لاسم آرام هذا أو آرامي صلة بالسمو والسيادة والارتفاع، وقد أطلقت هذه الكلمة في بادئ الأمر على المنطقة الشمالية لبلاد الرافدين, حيث انتشر الآراميون قبل أن يؤسسوا ممالكهم، في العراق وسورية والأردن وغيرها.
وبناء على نتائج حملات التنقيب التي قامت بها البعثات الغربية والمحلية في عدد من المواقع الأثرية، واستناداً إلى الدراسات اللغوية، يمكن حصر النقوش الآرامية وإحالتها إلى القرنين التاسع والثامن قبل الميلاد، وقد نقشت بالقلم الكنعاني الجنوبي مع بعض المفردات الآرامية ومن بينها: نص منقوش على مذبح نذري عثر عليه في غوزانا، (تل حلف حالياً في سورية)، التي كانت عاصمة لمملكة بيت بخياني الآرامية ويعود تاريخها إلى القرن التاسع قبل الميلاد.
ومن النقوش أيضاً مسلة زاكير، ملك مملكة حماة الآرامية، إذ وجدت المسلة في موقع آفس الواقعة بالقرب من سراقب جنوبي حلب، ويرجع تاريخها إلى منتصف القرن التاسع قبل الميلاد، وهنالك نصوص آرامية منقوشة على مسلات عدة اكتشفت في منطقة السفيرة (جنوبي شرقي حلب) تعود إلى منتصف القرن التاسع قبل الميلاد، ونصوص أخرى منقوشة على لُقى أثرية عثر عليها في كيليكيا عند جبال أمانوس الحدودية بين تركيا وسورية، ويبدو أنها كانت متأثرة بالكنعانية، وكذلك النقوش الآرامية في تل الفخار في الجزء الشرقي من مدينة الحسكة السورية.
وقد تبلورت الثقافة الآرامية في عدد من ممالك آرام كمملكة بيت عديني وعاصمتها تل برسيب (تل أحمر)، وإمارة بيت أغوشي وتسمى أرباد أو أرفاد أو تل رفعت، وهي مدينة سورية تقع على بعد 35 كيلومتراً شمال مدينة حلب.
ومن بين الممالك الآرامية مملكة صوبا البقاع في لبنان، ومملكة معكا في الجولان، ومملكة آرام دمشق، وكان آخر ملوكها رصين، ومن أشهر المواقع الآرامية عين دارا بمنطقة عفرين بالقرب من مدينة حلب، وفيها عثر على آثار آرامية محفوظة في متحف حلب.
ومن المخطوطات التي كتبت بالآرامية نصوص قمران أو مخطوطات البحر الميت الآرامية التي تعد من أهم ما عثر عليه في عقد الأربعينيات من القرن العشرين، ويرجح أنها تعود تاريخياً إلى القرنين الثالث والثاني قبل الميلاد، وهي مخطوطات كتبت بالآرامية، وقد عثر على عدد منها في مُغر قريبة من البحر الميت عام 1947م، الأمر الذي أدى إلى الكشف عن مضمونها بمقارنتها بنصوص مماثلة لها في لغات شرقية أخرى معاصرة. ومن بين نصوص قمران التي عثر عليها أربع مخطوطات من سفر طوبيا، وما من شك في أن هذا السفر كان قد كتب أول الأمر باللغة الآرامية، ومن المحتمل أن ذلك كان ما بين القرنين الرابع والثالث قبل الميلاد، وهناك أيضًا سفر أخنوخ، الذي يضم الكتاب السماوي وكتاب الحراس وكتاب الأمثال وكتاب الحكماء ورسالة أخنوخ وغيرها من الكتب.
ويرى د. محفل أن الآراميين كانوا قد اقتبسوا أبجديتهم من الكنعانية الجنوبية كوسيلة للكتابة، وطوروها في ما بعد وفق متطلبات لغتهم من خلال استعمالهم القلم المعدني أو الخشبي في الكتابة على ورق البردي أو الفخار أو جلد بعض الحيوانات، إلا أنهم كانوا قد هجروا اللغة الكنعانية بسرعة مذهلة، واستعملوا لغتهم الخاصة بهم.
لهجات محلية
وعندما نقول إن الآراميين قد تأثروا بالكنعانية لغة وكتابة فهذا لا يعني أنهم هجروا لغتهم نهائياً، فمنذ القرن الـــثامن قبل الميلاد، بدأ سكان مدن الأنباط يستعملون لغتهم الخاصة بهم بأحرف كنعانية جــنوبية قبل أن يطوروا كتابة خاصة بهم، وسنجد بدءاً من القرن الرابع قبل الميلاد نماذج عديدة من الخطوط الآرامية.
وتطورت الآرامية مولدة لهجات محلية عدة - بلاد الرافدين وعلى أرض سورية والأردن وفلسطين - مع كتاباتها الخاصة بها، إذ يتجه الرأي العام لدى الباحثين إلى تقسيم اللهجات والكتابات الآرامية إلى أقلام عدة بدءاً من القرن الأول ق.م, وذلك بتوزيعها على مجموعتين أساسيتين: تضم المجموعة الغربية اليهودية الآرامية، والآرامية المسيحية الفلسطينية، والنبطية والتدمرية. والمجموعة الشرقية تضم السريانية، لهجة تلمود بابل، المنداعية، ولهجة مدينة حران، إضافة إلى السريانية التي تنطق «لشانا سريايا»، وهي لهجة مدينة الرها، والرها أورهي بالآرامية، وأوديسا باليونانية، ويطـــــلق عليها اليوم بالتركية اسم أورفا، ويسمـــــيها البعض الآرامية الشرقية الحديثة، وهي بعيدة عن الآرامية القديمة، إلا أنها تطورت واغتنت بمفردات بعض اللغات التي عاصرتها مع مرور الزمن، كالآرامية والتركــية والفارسية والعربية.
وفي السياق ذاته، نلقي الضوء على ما بقي متداولاً حتى هذا اليوم من الآرامية التي مازال قسم من السكان القاطنين بين بحيرة «وان» الواقعة جنوب شرقي تركيا وبحيرة «أورميا» في إيران ينطقون لهجات آرامية ويعتنقون المذهب النسطوري نسبة إلى نسطوريوس بطريرك القسطنطينية 386 /451 م الذي نادى بمبدأ الطبيعتين الإلهية والبشرية.
في حين يحتفظ المسيحيون اليعاقبة- أنصار المفكر الديني القديس يعقوب البرادعي الذي نادى بوحدة طبيعة المسيح- والذين يقيمون في جبال طور عابدين الواقعة بين نصيبين وديار بكر بلهجة آرامية، ومازال الكلدانيون الذين يقيمون شمال الموصل لغتهم هي ضربٌ من الآرامية.
وأخيراً, هنالك أثر من اللغة الآرامية السائدة هي اللهجة المحلية لسكان بعض القرى السورية (شمالي دمشق)، هي «معلولا وبخعا جب عدين»، ويقول د. محفل: عندما نصغي للمحليين وهم يتحدثون، نلحظ أن المفردات العربية قد دخلتها بصورة كثيفة، وأن تركـــــيب الجمــل هو أقرب إلى الآرامية من العربية الحديثة، كما أن النطق هو أقــــرب إلى اللسان الآرامي من اللسان العربي.