تأملات في اللوحة الاستهلالية لـ «المومياء»

تأملات في اللوحة الاستهلالية لـ «المومياء»

سنحاول‭ ‬في‭ ‬السطور‭ ‬التالية‭ ‬تأمل‭ ‬ملمح‭ ‬من‭ ‬ملامح‭ ‬الوعي‭ ‬الجمالي‭ ‬والتاريخي‭ ‬العميقين‭ ‬للمخرج‭ ‬المصري‭ ‬شادي‭ ‬عبدالسلام‭ ‬في‭ ‬فيلمه‭ ‬الروائي‭ ‬الطويل‭ (‬المومياء‭... ‬يوم‭ ‬أن‭ ‬تحصى‭ ‬السنين،‭ ‬إنتاج‭ ‬1969،‭ ‬عُرض‭ ‬في‭ ‬1975‭)‬،‭ ‬وذلك‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تبين‭ ‬بعض‭ ‬دلالات‭ ‬اللوحة‭ ‬الاستهلالية‭ ‬التي‭ ‬يفتتح‭ ‬بها‭ ‬شادي‭ ‬الفيلم،‭ ‬حتى‭ ‬قبل‭ ‬نزول‭ ‬تترات‭ ‬البداية‭.‬

على‭ ‬صورة‭ ‬قناع‭ ‬لتابوت‭ ‬فاقد‭ ‬لإحدى‭ ‬عينيه،‭ ‬ومنزوع‭ ‬عنه‭ ‬الذهب‭ ‬الذي‭ ‬يزينه،‭ ‬تظهر‭ ‬اللوحة‭ ‬الاستهلالية‭ ‬التالية‭ ‬من‭ ‬نصوص‭ ‬امتون‭ ‬التوابيتب‭:‬

يَا‭ ‬مَنْ‭ ‬تَذْهَبْ‭ ‬سَتَعُودْ

يَا‭ ‬مَنْ‭ ‬تَنَامُ‭ ‬سَوْفَ‭ ‬تَنْهَضْ

يَا‭ ‬مَنْ‭ ‬تَمْضِي‭ ‬سَوْفَ‭ ‬تُبْعَثْ

فَالْمَجْدُ‭ ‬لَكْ

لِلسَّمَاءِ‭ ‬وَشُمُوخِها

لِلأَرضِ‭ ‬وَعَرْضِهَا

لِلْبِحَارِ‭ ‬وَعُمْقِهَا

 

تلخيص‭ ‬للحبكة

بعد‭ ‬اللوحة‭ ‬الاستهلالية،‭ ‬يبدأ‭ ‬الفيلم‭ ‬باجتماع‭ ‬لجاستون‭ ‬ماسبيرو‭ (‬1846‭ - ‬1916م‭)‬،‭ ‬مدير‭ ‬الآثار‭ ‬المصرية،‭ ‬مع‭ ‬بعض‭ ‬علماء‭ ‬المصريات‭ ‬في‭ ‬المتحف‭ ‬المصري،‭ ‬ومعهم‭ ‬محمد‭ ‬أفندي‭ ‬كمال‭ (‬1851‭ ‬‭- ‬1923م‭)‬،‭ ‬أول‭ ‬عالم‭ ‬آثار‭ ‬مصري،‭ ‬لبحث‭ ‬موضوع‭ ‬ظهور‭ ‬بعض‭ ‬قطع‭ ‬الآثار‭ ‬المصرية‭ ‬المسروقة،‭ ‬التي‭ ‬تعود‭ ‬إلى‭ ‬الأسرة‭ ‬الحادية‭ ‬والعشرين،‭ ‬في‭ ‬أسواق‭ ‬الآثار‭ ‬العالمية،‭ ‬ويستنتجون‭ ‬أن‭ ‬لصوص‭ ‬الآثار‭ ‬قد‭ ‬عثروا‭ ‬على‭ ‬مقابر‭ ‬لهذه‭ ‬الأسرة‭. ‬ويتطوع‭ ‬أحمد‭ ‬كمال‭ ‬بالذهاب‭ ‬إلى‭ ‬طيبة‭ (‬الأقصر‭) ‬في‭ ‬موسم‭ ‬إجازة‭ ‬المتحف‭ ‬بالصيف،‭ ‬في‭ ‬محاولة‭ ‬للعثور‭ ‬على‭ ‬خيط‭ ‬قد‭ ‬يؤدي‭ ‬إلى‭ ‬كشف‭ ‬اللصوص‭. ‬

ثم‭ ‬ينتقل‭ ‬الفيلم‭ ‬إلى‭ ‬طيبة،‭ ‬ونشهد‭ ‬جنازة‭ ‬سليم،‭  ‬زعيم‭ ‬قبيلة‭ ‬الحربات؛‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يبيع‭ ‬الآثار‭ ‬المسروقة‭ ‬إلى‭ ‬التاجر‭ ‬أيوب‭. ‬ويقوم‭ ‬شقيق‭ ‬سليم‭ ‬بإخبار‭ ‬ابني‭ ‬أخيه؛‭ ‬ونيس‭ ‬وشقيقه‭ ‬الأكبر،‭ ‬عن‭ ‬سر‭ ‬الخبيئة‭ (‬أي‭ ‬الآثار‭ ‬التي‭ ‬أخفاها‭ ‬الكهنة‭ ‬المصريون‭ ‬القدماء‭ ‬عن‭ ‬أعين‭ ‬اللصوص،‭ ‬بإعادة‭ ‬دفنها‭ ‬في‭ ‬أماكن‭ ‬سرية‭).‬

يرفض‭ ‬الأخ‭ ‬الأكبر‭ ‬بيع‭ ‬الموتى،‭ ‬فيتم‭ ‬قتله‭ ‬بأمر‭ ‬من‭ ‬العم‭. ‬ويظل‭ ‬ونيس‭ ‬متردداً،‭ ‬غير‭ ‬قادر‭ ‬على‭ ‬حسم‭ ‬أمره،‭ ‬معانياً‭ ‬من‭ ‬ثقل‭ ‬السر‭ ‬الذي‭ ‬عرفه،‭ ‬وفي‭ ‬هذه‭ ‬الأثناء‭ ‬يصل‭ ‬أحمد‭ ‬كمال‭ ‬إلى‭ ‬طيبة،‭ ‬ليتعاون‭ ‬مع‭ ‬الحرس‭ ‬المُكلف‭ ‬بحماية‭ ‬المنطقة،‭ ‬بقيادة‭ ‬الضابط‭ ‬البدوي‭ ‬بك‭ (‬ويُسمُّون‭ ‬جميعاً‭: ‬الأفندية‭)‬،‭ ‬في‭ ‬محاولة‭ ‬لكشف‭ ‬اللصوص‭.‬

من‭ ‬ناحية‭ ‬أخرى،‭ ‬يرفض‭ ‬ونيس‭ ‬إغواء‭ ‬زينة؛‭ ‬التي‭ ‬يجلبها‭ ‬مراد‭ (‬المساعد‭ ‬السابق‭ ‬لأيوب‭ ‬التاجر‭) ‬لإغواء‭ ‬شباب‭ ‬القبيلة‭ ‬مقابل‭ ‬قطع‭ ‬من‭ ‬الآثار‭ ‬المسروقة،‭ ‬ويرفض‭ ‬بيع‭ ‬الخبيئة‭ ‬إلى‭ ‬أيوب‭ ‬التاجر‭. ‬يكشف‭ ‬مراد‭ ‬لونيس‭ ‬عن‭ ‬سر‭ ‬مقتل‭ ‬أخيه،‭ ‬فيذهب‭ ‬ونيس‭ ‬إلى‭ ‬أفندية‭ ‬القاهرة،‭ ‬ويخبر‭ ‬أحمد‭ ‬كمال‭ ‬بمكان‭ ‬الخبيئة‭.‬

وأخيراً،‭ ‬يستخرج‭ ‬أحمد‭ ‬كمال‭ ‬والبدوي‭ ‬بك‭ ‬الخبيئة‭ ‬بمساعدة‭ ‬الجنود‭ ‬وبعض‭ ‬من‭ ‬اأهل‭ ‬الواديب‭ (‬الفلاحين‭) ‬الموثوق‭ ‬بهم‭. ‬ويتم‭ ‬نقل‭ ‬الخبيئة‭ ‬إلى‭ ‬السفينة،‭ ‬التي‭ ‬ترحل‭ ‬إلى‭ ‬القاهرة‭ ‬وعلى‭ ‬متنها‭ ‬توابيت‭ ‬40‭ ‬من‭ ‬أشهر‭ ‬وأهم‭ ‬فراعين‭ ‬مصر‭ ‬في‭ ‬خمس‭ ‬أسرات؛‭ ‬من‭ ‬الأسرة‭ ‬17‭ ‬إلى‭ ‬الأسرة‭ ‬21‭.‬ إن‭ ‬شادي‭ ‬حين‭ ‬يستدعي‭ ‬قصة‭ ‬خبيئة‭ ‬المومياوات،‭ ‬وحكاية‭ ‬أسرة‭ ‬عبدالرسول‭ ‬وقبيلة‭ ‬الحربات،‭ ‬فإنه‭ ‬في‭ ‬الحقيقة‭ ‬لا‭ ‬يقدم‭ ‬لنا‭ ‬القصة‭ ‬الواقعية‭ ‬تسجيلياً‭ ‬كما‭ ‬حدثت‭ ‬بالفعل،‭ ‬بل‭ ‬يخوض‭ ‬نزالاً‭ ‬فنياً‭ ‬طويلاً‭ ‬مع‭ ‬الحكاية‭ ‬الواقعية،‭ ‬فيضيف‭ ‬ويحذف،‭ ‬ويبتدع‭ ‬خطوطاً‭ ‬درامية،‭ ‬وتخييلات‭ ‬جديدة،‭ ‬تضيف‭ ‬أبعاداً‭ ‬وجودية‭ ‬للقصة،‭ ‬وتحقق‭ ‬هدف‭ ‬الفيلم‭ ‬في‭ ‬نقل‭ ‬المعاني‭ ‬الكبرى‭ ‬التي‭ ‬أراد‭ ‬إيصالها‭ ‬لنا‭.‬

إن‭ ‬ما‭ ‬وصل‭ ‬إلينا‭ ‬من‭ ‬أوراق‭ ‬شادي،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬شهادات‭ ‬زملائه‭ ‬وأصدقائه،‭ ‬يؤكد‭ ‬أنه‭ ‬عمل‭ ‬على‭ ‬السيناريو‭ ‬لفترة‭ ‬طويلة‭ ‬حتى‭ ‬وصل‭ ‬إلى‭ ‬شكله‭ ‬النهائي‭ (‬من‭ ‬بدايات‭ ‬1965‭ ‬إلى‭ ‬مارس‭ ‬1968‭ ‬وقت‭ ‬تصوير‭ ‬الفيلم‭)‬،‭ ‬لدرجة‭ ‬قيامه‭ ‬بتعديل‭ ‬السيناريو‭ ‬ثلاث‭ ‬مرات،‭ ‬وعلى‭ ‬نحو‭ ‬يختلف‭ ‬اختلافاً‭ ‬بيناً‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مرة‭.‬

كان‭ ‬السيناريو‭ ‬الأول‭ ‬تسجيلياً‭ ‬يُسمى‭  ‬ادُفنوا‭ ‬مرة‭ ‬ثانيةب،‭ ‬ثم‭ ‬أعاد‭ ‬كتابته‭ ‬في‭ ‬دراما‭ ‬كلاسيكية‭ ‬تدور‭ ‬حول‭ ‬قصة‭ ‬حب‭ ‬بين‭ ‬ونيس‭ ‬وزينة،‭ ‬تحت‭ ‬اسم‭ ‬اونيسب،‭ ‬ثم‭ ‬استقر‭ ‬أخيراً‭ ‬على‭ ‬الشكل‭ ‬النهائي‭ ‬الذي‭ ‬صوَّر‭ ‬به‭ ‬االمومياءب‭.‬

إنه‭ ‬الأسلوب‭ ‬نفسه‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬ينتهجه‭ ‬تاركوفسكي‭ ‬في‭ ‬عمله،‭ ‬والذي‭ ‬كان‭ ‬يمتلك،‭ ‬كشادي،‭ ‬إرادة‭ ‬جبارة‭ ‬في‭ ‬العمل‭ ‬طويلاً‭ ‬على‭ ‬التعديلات‭ ‬والتنقيحات‭ ‬للمادة‭ ‬الخام‭ (‬السيناريو‭)‬،‭ ‬وخصوصاً‭ ‬في‭ ‬فيلمه‭ ‬االمرآةب،‭ (‬1975‭) ‬الذي‭ ‬أعاد‭ ‬كتابته‭ ‬ثلاث‭ ‬مرات،‭ ‬وفيلمه‭ ‬االطوافب،‭ (‬1979‭)‬،‭ ‬الذي‭ ‬أعاد‭ ‬تصويره‭ ‬أيضاَ‭ ‬ثلاث‭ ‬مرات‭.‬

 

المعاني‭ ‬التي‭ ‬قصدها‭ ‬شادي

يتضح،‭ ‬حتى‭ ‬من‭ ‬المشاهدة‭ ‬الأولى،‭ ‬أن‭ ‬االمومياءب‭ ‬يصارع‭ ‬فكرة‭ ‬البعث‭ ‬والإحياء‭ ‬لعناصر‭ ‬القوة‭ ‬في‭ ‬حضارتنا،‭ ‬واستلهام‭ ‬تلك‭ ‬العناصر‭ ‬التي‭ ‬صنعت‭ ‬الأمجاد‭ ‬القديمة،‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الصحوة‭ ‬الجديدة‭ ‬للوعي‭. ‬وبتعبيرات‭ ‬شادي‭ ‬نفسه‭: ‬اأردت‭ ‬أن‭ ‬أعبر‭ ‬عن‭ ‬شخصية‭ ‬الإنسان‭ ‬المصري‭ ‬الذي‭ ‬يستعيد‭ ‬أصوله‭ ‬التاريخية‭ ‬وينهض‭ ‬من‭ ‬جديد،‭ ‬وأتصور‭ ‬أن‭ ‬الأفلام‭ ‬التاريخية‭ ‬التي‭ ‬أصر‭ ‬على‭ ‬تقديمها،‭ ‬هي‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬البحث‭ ‬التاريخي‭ ‬بلغة‭ ‬الكاميرا‭ ‬عن‭ ‬هموم‭ ‬وأشواق‭ ‬الحاضر‭. ‬أنا‭ ‬أرى‭ ‬الحياة‭ ‬في‭ ‬استمراريتها،‭ ‬وإذا‭ ‬أردت‭ ‬أن‭ ‬أرى‭ ‬ما‭ ‬يجري‭ ‬اليوم‭ ‬جيداً،‭ ‬فلا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬أعزل‭ ‬اليوم‭ ‬عن‭ ‬الأمس،‭ ‬فما‭ ‬نحن‭ ‬فيه‭ ‬اليوم‭ ‬هو‭ ‬نتاج‭ ‬لتاريخناب‭.‬

إن‭ ‬لوحة‭ ‬البداية‭ ‬هي‭ ‬دلالة‭ ‬ونبوءة‭ ‬عن‭ ‬ما‭ ‬سيحدث‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬الفيلم‭. ‬ومهمة‭ ‬االأفنديةب‭ ‬في‭ ‬المومياء‭ (‬أحمد‭ ‬كمال‭ ‬والبدوي‭ ‬الضابط‭) - ‬أي‭ ‬الجانب‭ ‬المتنور‭ ‬في‭ ‬الشخصية‭ ‬المصرية‭ -‬،‭ ‬هي‭ ‬المهمة‭ ‬نفسها‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬شادي‭ ‬يضعها‭ ‬على‭ ‬عاتقه‭ ‬هو‭ ‬شخصياً‭. ‬إن‭ ‬إنقاذ‭ ‬مومياوات‭ ‬الأجداد،‭ ‬الفراعنة‭ ‬العظماء،‭ ‬ليس‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬إعادة‭ ‬إحياء‭ ‬الأجداد،‭ ‬ولكنه‭ ‬وسيلة‭ ‬لإعادة‭ ‬بعث‭ ‬الأحياء‭ ‬الهائمين‭ ‬الضائعين‭. ‬إن‭ ‬المعرفة،‭ ‬والوعي‭ ‬بعناصر‭ ‬القوة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬للمصريين‭ ‬القدماء،‭ ‬هما‭ ‬شرط‭ ‬لتحقيق‭ ‬البعث‭ ‬والنهضة‭ ‬لأحفادهم‭.‬

وعلى‭ ‬نقيض‭ ‬الكتب‭ ‬الدينية‭ ‬والعلمية‭ ‬التي‭ ‬تبدأ‭ ‬بالتكوين‭ ‬وبداية‭ ‬الخلق،‭ ‬يبدأ‭ ‬االمومياءب‭ ‬بالموت‭. ‬موت‭ ‬الإنسان‭ ‬الذي‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نقرأه‭ ‬بوصفه‭ ‬المكافئ‭ ‬لفوضى‭ ‬الهيولي‭. ‬الموت‭ ‬الروحي‭ ‬للإنسان‭ ‬الجاهل‭ ‬بتاريخ‭ ‬أسلافه،‭ ‬الذي‭ ‬ينتزع‭ ‬لقمة‭ ‬عيشه‭ ‬ببيع‭ ‬جثث‭ ‬موتاه،‭ ‬وماضيه،‭ ‬وتاريخه‭.‬

إن‭ ‬الفيلم‭ ‬يبدأ‭ ‬بالنهاية‭ ‬وليس‭ ‬البداية‭. ‬وينتهي‭ ‬إلى‭ ‬البداية؛‭ ‬أي‭ ‬البعث‭. ‬إن‭ ‬عملية‭ ‬البعث‭ ‬هي‭ ‬عملية‭ ‬خلق،‭ ‬تماماً‭ ‬مثل‭ ‬الانفجار‭ ‬الكبير‭ ‬الذي‭ ‬يؤسس‭ ‬النظام‭ ‬من‭ ‬رحم‭ ‬الفوضى‭. ‬فقبل‭ ‬الانفجار‭ ‬الكبير‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬هناك‭ ‬لا‭ ‬قوانين‭ ‬علم‭ ‬ولا‭ ‬معرفة،‭ ‬لأنها‭ ‬جميعاً‭ ‬تنهار‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬الهيولي‭. ‬ومع‭ ‬بداية‭ ‬حالة‭ ‬الانتظام‭ ‬والاستواء‭ ‬بعد‭ ‬الانفجار‭ ‬الكبير،‭ ‬يبدأ‭ ‬الكون‭ ‬المنتظم‭ ‬كما‭ ‬نعرفه،‭ ‬والزمان‭ ‬كما‭ ‬نعرفه،‭ ‬والحياة‭ ‬الذكية؛‭ ‬أي‭ ‬الحضارة‭.‬

 

أهمية‭ ‬اللوحة‭ ‬الاستهلالية

الفعل‭ ‬المضارع‭ ‬الذي‭ ‬يهيمن‭ ‬على‭ ‬نبرة‭ ‬اللوحة‭ ‬الاستهلالية‭ ‬يُطالب‭ ‬المُشاهد‭ ‬باعتبار‭ ‬أحداث‭ ‬الفيلم‭ ‬في‭ ‬الحاضر،‭ ‬وليس‭ ‬في‭ ‬الماضي،‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬أصل‭ ‬القصة‭ ‬تاريخي،‭ ‬أي‭ ‬وقعت‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬سابق‭ ‬بالمعنى‭ ‬الكرونولوجي‭. ‬وبسبب‭ ‬الإرادة‭ ‬الواعية‭ ‬لشادي‭ ‬في‭ ‬جعل‭ ‬زمن‭ ‬الفيلم‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬التكلم،‭ ‬يخلو‭ ‬الفيلم‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬لقطات‭ ‬لـ‭ ‬االفلاش‭ ‬باكب‭.‬

أما‭ ‬في‭ ‬لوحة‭ ‬النهاية،‭ ‬فإن‭ ‬فعل‭ ‬الأمر‭ ‬اانهضب‭ ‬يسمح‭ ‬لنا‭ ‬بافتراض‭ ‬التمني‭ ‬أيضاً‭. ‬إن‭ ‬الوعي‭ ‬بالاسم؛‭ ‬أي‭ ‬بالتاريخ‭ ‬والماضي‭ ‬والأسلاف،‭ ‬هو‭ ‬شرط‭ ‬النهوض‭.‬

 

اللوحة‭ ‬الختامية

انْهَضْ

فَلَنْ‭ ‬تَفْنَى

لَقَدْ‭ ‬نُودِيتَ‭ ‬بِاسْمِكْ

لَقَدْ‭ ‬بُعِثْتْ

يبدو‭ ‬من‭ ‬الحرص‭ ‬على‭ ‬تشكيل‭ ‬النص‭ ‬بدقة‭ ‬أن‭ ‬صانع‭ ‬الفيلم‭ ‬يُطالب‭ ‬المُشاهد‭ ‬بالانتباه‭ ‬الشديد‭ ‬والتركيز‭. ‬فتشكيل‭ ‬كل‭ ‬حرف‭ ‬في‭ ‬لوحة‭ ‬المقدمة‭ (‬والخاتمة‭) ‬يترك‭ ‬لدينا‭ ‬الانطباع‭ ‬برغبة‭ ‬الفنان،‭ ‬وإرادته،‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬يحكم‭ ‬الأمور‭ ‬إحكاماً‭ ‬واعياً،‭ ‬وحرصه‭ ‬على‭ ‬تحقيق‭ ‬أثر‭ ‬معين‭ ‬في‭ ‬النفس‭.‬

إن‭ ‬الأمر‭ ‬مدروس‭ ‬جيداً،‭ ‬وحسابات‭ ‬شادي‭ ‬في‭ ‬الفيلم‭ ‬محسوبة‭ ‬بدقة،‭ ‬والفكرة‭ ‬واضحة‭ ‬جلية‭ ‬في‭ ‬ذهنه‭. ‬ولذلك‭ ‬فإن‭ ‬الفيلم‭ ‬يمسك‭ ‬بالمُشاهد‭ ‬مسكة‭ ‬قوية‭ ‬منذ‭ ‬البداية،‭ ‬ثم‭ ‬يتقدم‭ ‬إلى‭ ‬الأمام‭ ‬وقد‭ ‬سيطرت‭ ‬عليه‭ ‬روح‭ ‬الوحدة‭ ‬والتماسك‭.‬

ونحن‭ ‬نعرف‭ ‬بالخبرة‭ ‬أن‭ ‬من‭ ‬طبيعة‭ ‬فنان‭ ‬السينما‭ ‬أنه‭ ‬دائماً‭ ‬ما‭ ‬يسعى‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬في‭ ‬أفضل‭ ‬حالات‭ ‬الوعي‭ ‬في‭ ‬الافتتاحيات،‭ ‬لأنه‭ ‬يكون‭ ‬تواقاً‭ ‬إلى‭ ‬التأثير،‭ ‬راغباً‭ ‬في‭ ‬لفت‭ ‬نظر‭ ‬المُشاهد‭. ‬وشادي‭ ‬هنا‭ ‬يفتتح‭ ‬الفيلم‭ ‬بنص‭ ‬مكتوب،‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬أنه‭ ‬قد‭ ‬يكون‭ ‬موضع‭ ‬انتقاد‭ ‬من‭ ‬حزب‭ ‬التعبير‭ ‬الدرامي‭ ‬بالصورة‭. ‬لكنه،‭ ‬وهو‭ ‬العليم‭ ‬بالأهمية‭ ‬الروحية‭ ‬للنصوص‭ ‬في‭ ‬الحضارة‭ ‬الفرعونية‭ (‬وكذا‭ ‬العربية‭)‬،‭ ‬يوفق‭ ‬للغاية‭ ‬في‭ ‬استخدام‭ ‬وسيلة‭ ‬غير‭ ‬سينمائية‭ ‬للتعبير‭ ‬بأصالة‭ ‬عن‭ ‬فكرته،‭ ‬في‭ ‬فيلم‭ ‬هو‭ ‬الأكثر‭ ‬رقياً‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬السينما‭ ‬العربية‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬جماليات‭ ‬الصورة‭ ‬والتصميم‭ ‬الفني،‭ ‬والتعبير‭ ‬التشكيلي‭ ‬عن‭ ‬المعاني‭ ‬الوجودية‭ ‬للدراما‭.‬

إن‭ ‬النصوص‭ ‬المكتوبة‭ ‬في‭ ‬الحضارة‭ ‬الفرعونية‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬مجرد‭ ‬وسيلة‭ ‬للقراءة‭ ‬والكتابة،‭ ‬أو‭ ‬لتدوين‭ ‬النصوص‭ ‬الأدبية،‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬فقط‭ ‬لنقل‭ ‬الحكمة‭ ‬والرسائل‭ ‬الأخلاقية‭ ‬والتعليمية‭ ‬عبر‭ ‬نصوص‭ ‬الحكايات،‭ ‬والحكم‭ ‬والوصايا،‭ ‬ولكنها‭ ‬كانت،‭ ‬في‭ ‬الأساس‭ ‬والأهم،‭ ‬تعبر‭ ‬عن‭ ‬قوة‭ ‬روحية‭ ‬ودينية‭ ‬لم‭ ‬يعرفها‭ ‬أي‭ ‬نظام‭ ‬كتابة‭ ‬آخر‭. ‬فالنصوص‭ ‬التي‭ ‬وصلت‭ ‬إلينا‭ ‬من‭ ‬اكتاب‭ ‬الموتىب‭ ‬وامتون‭ ‬الأهرامب‭ ‬وامتون‭ ‬التوابيتب‭ ‬هي‭ ‬أدلة‭ ‬على‭ ‬قوة‭ ‬اعتقاد‭ ‬المصري‭ ‬القديم‭ ‬في‭ ‬قدرة‭ ‬النصوص‭ ‬الكتابية‭ ‬على‭ ‬تقديم‭ ‬العون‭ ‬والمساعدة‭ ‬للمتوفى،‭ ‬لدرجة‭ ‬أن‭ ‬محو‭ ‬الاسم‭ ‬المكتوب‭ ‬للشخص،‭ ‬لا‭ ‬يمثل‭ ‬فقط‭ ‬محواً‭ ‬لذكرى‭ ‬الميت،‭ ‬ولكنه‭ ‬محو‭ ‬لوجوده‭ ‬الأبدي‭.‬

والنص‭ ‬الاستهلالي‭ ‬للفيلم‭ ‬يوحي‭ ‬لنا‭ ‬بأنه‭ ‬يعمل‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬كانت‭ ‬له‭ ‬هذه‭ ‬القوة‭ ‬نفسها‭. ‬وسرعان‭ ‬ما‭ ‬سيحتشد‭ ‬له‭ ‬بقية‭ ‬الفيلم‭ ‬بالصدى‭ ‬والتكرار،‭ ‬وعلى‭ ‬نحو‭ ‬يعزز‭ ‬قوة‭ ‬النص‭ ‬الاستهلالي‭ ‬في‭ ‬الافتتاحية،‭ ‬حتى‭ ‬أنه‭ ‬يستحيل‭ ‬حذف‭ ‬اللوحة‭ ‬الاستهلالية‭ (‬والختامية‭) ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يفقد‭ ‬الفيلم‭ ‬كثيراً‭ ‬من‭ ‬معناه‭.‬

ومع‭ ‬ذلك‭ ‬فإن‭ ‬شادي‭ ‬يختار‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬الفصحى،‭ ‬عن‭ ‬قصد‭ ‬وتصميم،‭ ‬لكتابة‭ ‬النصين‭ ‬الاستهلالي‭ ‬والختامي،‭ ‬ولم‭ ‬يختر‭ ‬مثلاً‭ ‬اللغة‭ ‬الهيروغليفية،‭ ‬مع‭ ‬إرفاق‭ ‬ترجمة‭ ‬عربية‭ ‬مصاحبة‭ ‬لها‭. ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬أنه‭ ‬لو‭ ‬فعل‭ ‬لأعطى‭ ‬تأثيراً‭ ‬أقوى‭ ‬من‭ ‬الناحية‭ ‬التسجيلية،‭ ‬لكننا‭ ‬نعلم‭ ‬أن‭ ‬اهتمام‭ ‬شادي‭ ‬في‭ ‬االمومياءب‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬التسجيل،‭ ‬وتشهد‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬الفروق‭ ‬السردية‭ ‬الضخمة‭ ‬بين‭ ‬المادة‭ ‬الخام‭ ‬للفيلم‭ (‬السيناريو‭)‬،‭ ‬والمادة‭ ‬الخام‭ ‬للواقع‭ (‬حادثة‭ ‬خبيئة‭ ‬الأقصر‭ ‬وأسرة‭ ‬عبدالرسول‭). ‬إن‭ ‬اختيار‭ ‬شادي‭ ‬للغة‭ ‬العربية‭ ‬الفصحى‭ ‬ليعبر‭ ‬بها‭ ‬عن‭ ‬معاني‭ ‬الفيلم‭ ‬المتضمنة‭ ‬في‭ ‬النصين‭ ‬الاستهلالي‭ ‬والختامي،‭ ‬علاوة‭ ‬على‭ ‬اختياره‭ ‬لها،‭ ‬وليس‭ ‬اللهجة‭ ‬المصرية،‭ ‬لغة‭ ‬للحوار‭ ‬بين‭ ‬الشخصيات،‭ ‬يسمح‭ ‬لنا‭ ‬بالقول‭ ‬إنه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬من‭ ‬الشوفينيين‭ ‬الذين‭ ‬يؤمنون‭ ‬بالطلاق‭ ‬بين‭ ‬الحضارتين‭ ‬الفرعونية‭ ‬والعربية،‭ ‬وإن‭ ‬نهضة‭ ‬مصر‭ ‬لن‭ ‬تتحقق‭ ‬إلا‭ ‬بتبني‭ ‬الأولى،‭ ‬ونبذ‭ ‬الثانية،‭ ‬وهو‭ ‬موقف‭ ‬ليس‭ ‬مستغرباً‭ ‬من‭ ‬فنان‭ ‬عاش‭ ‬مشغولاً‭ ‬ومسكوناً‭ ‬بالفنون‭ ‬البصرية‭ ‬والتشكيلية‭.‬

نحن‭ ‬نعرف،‭ ‬بالخبرة،‭ ‬أن‭ ‬معظم‭ ‬الفنانين‭ ‬التشكيليين‭ ‬المصريين‭ ‬يؤمنون‭ ‬فطرياً‭ ‬بتكامل‭ ‬الحضارتين‭ ‬الفرعونية‭ ‬والعربية،‭ ‬ويحملون‭ ‬إجلالاً‭ ‬للاثنتين‭. ‬فمجال‭ ‬الفنون‭ ‬التشكيلية‭ ‬يُعرّف‭ ‬الفنان‭ ‬على‭ ‬أقوى‭ ‬وأجمل‭ ‬عناصر‭ ‬الحضارتين،‭ ‬فيعز‭ ‬عليه‭ ‬الانحياز،‭ ‬ويتوق‭ ‬فطرياً‭ ‬إلى‭ ‬التكامل‭.‬

فما‭ ‬بالك‭ ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬الفطرة‭ ‬السليمة‭ ‬للفنان‭ ‬مدعومة‭ ‬بثقافة‭ ‬عميقة‭ ‬للتاريخ‭ ‬الحضاري‭ ‬والفني‭ ‬لأمته؟‭ ‬وفي‭ ‬السيرة‭ ‬الذاتية‭ ‬لشادي،‭ ‬وفي‭ ‬تصاميمه‭ ‬الفنية،‭ ‬ما‭ ‬يسمح‭ ‬لنا‭ ‬بالاعتقاد‭ ‬بأنه‭ ‬كان‭ ‬فخوراً‭ ‬بالحضارتين،‭ ‬تواقاً‭ ‬إلى‭ ‬تكاملهما،‭ ‬مؤمناً‭ ‬بأن‭ ‬البعث‭ ‬الحضاري‭ ‬لأسس‭ ‬قوة‭ ‬الحضارة‭ ‬الفرعونية،‭ ‬من‭ ‬شأنه‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬مصدراً‭ ‬للنهضة‭ ‬العربية‭ ‬الشاملة‭.‬

 

لماذا‭ ‬الخط‭ ‬الكوفي؟

اللوحتان‭ ‬الافتتاحية‭ ‬والختامية‭ ‬مكتوبتان‭ ‬بخط‭ ‬كلاسيكي‭ ‬يغلفه‭ ‬الوقار،‭ ‬ويحترم‭ ‬الموضوع‭ ‬والأجواء‭. ‬والخط‭ ‬المستخدم‭ ‬مُصمَّم‭ ‬اعتماداً‭ ‬على‭ ‬السمات‭ ‬الجمالية‭ ‬لأقدم‭ ‬الخطوط‭ ‬العربية‭ ‬وأجملها‭: ‬الخط‭ ‬الكوفي‭ ‬المصحفي‭ ‬على‭ ‬طراز‭ ‬المشق‭. ‬ولكي‭ ‬نحاول‭ ‬تفسير‭ ‬اختيار‭ ‬الخط‭ ‬الكوفي‭ ‬في‭ ‬هذين‭ ‬الموضعين‭ ‬المهمين‭ ‬بالفيلم،‭ ‬ودلالة‭ ‬الإرادة‭ ‬الواعية‭ ‬للفنان‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الاختيار،‭ ‬نحتاج‭ ‬أولاً‭ ‬إلى‭ ‬إشارات‭ ‬سريعة‭ ‬إلى‭ ‬تاريخ‭ ‬الخط‭ ‬الكوفي‭ ‬وتطوره‭.‬

كانت‭ ‬الخطوط‭ ‬في‭ ‬الجزيرة‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬البدء‭ ‬تُكتب‭ ‬بنوعين‭: ‬مبسوط‭ ‬هندسي‭ (‬وتطوره‭ ‬الأرقى‭ ‬هو‭ ‬الكوفي‭)‬،‭ ‬ويتميز‭ ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬بالهندسية،‭ ‬والتربيع،‭ ‬والزوايا‭ ‬المستقيمة،‭ ‬والنوع‭ ‬الآخر‭ ‬هو‭ ‬المقور‭ ‬اللين‭ (‬وتطوره‭ ‬الأرقى‭ ‬في‭ ‬خطوط‭ ‬النسخ،‭ ‬والثلث،‭ ‬ثم‭ ‬النستعليق‭.. ‬إلخ‭)‬،‭ ‬وحروفه‭ ‬تميل‭ ‬إلى‭ ‬اللين،‭ ‬والميل،‭ ‬والاستدارة‭. ‬

والكلام‭ ‬في‭ ‬أصول‭ ‬الخط‭ ‬الكوفي‭ ‬كثير‭ ‬ومتشعب،‭ ‬ولكن‭ ‬يمكن‭ ‬تلخيص‭ ‬تطوره،‭ ‬وفقاً‭ ‬للأقوال‭ ‬الموثوقة‭ ‬في‭ ‬كتابات‭ ‬المؤرخين‭ ‬العرب‭ (‬ومنهم‭: ‬أبوحيان‭ ‬التوحيدي‭ ‬في‭ ‬اعلم‭ ‬الكتابةب،‭ ‬وابن‭ ‬خلدون‭ ‬في‭ ‬االمقدمةب،‭ ‬والألوسي‭ ‬في‭ ‬ابلوغ‭ ‬الأربب،‭ ‬واخططب‭ ‬المقريزي،‭ ‬واتحفة‭ ‬أولي‭ ‬الألبابب‭ ‬لابن‭ ‬الصائغ‭)‬،‭ ‬وكذا‭ ‬ما‭ ‬اطلعنا‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬الكشوف‭ ‬الأجنبية‭ ‬الحديثة‭ ‬للنقوش‭ ‬القديمة‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬العربية،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬أصل‭ ‬الخط‭ ‬الكوفي‭ ‬كان‭ ‬الخط‭ ‬الحجازي‭ (‬المكي‭ ‬اليثربي‭)‬،‭ ‬المأخوذ‭ ‬عن‭ ‬الخط‭ ‬الحيري،‭ ‬عن‭ ‬النبطي،‭ ‬عن‭ ‬الحميري،‭ ‬عن‭ ‬المسند،‭ ‬عن‭ ‬الفينيقي،‭ ‬المأخوذ‭ ‬عن‭ ‬خط‭ ‬طور‭ ‬سيناء؛‭ ‬والذي‭ ‬بات‭ ‬معلوماً‭ ‬الآن‭ ‬أنه‭ ‬أصل‭ ‬الأبجدية‭ ‬العربية،‭ ‬والعبرانية،‭ ‬والبهلوية،‭ ‬واللاتينية،‭ ‬وكثير‭ ‬من‭ ‬الأبجديات‭ ‬الأخرى‭. ‬

ولذا‭ ‬فإن‭ ‬الخط‭ ‬الكوفي‭ ‬أقدم‭ ‬من‭ ‬اسمه‭. ‬فهو‭ ‬أقدم‭ ‬من‭ ‬مدينة‭ ‬الكوفة‭ ‬التي‭ ‬بُنيت‭ ‬في‭ ‬عهد‭ ‬عمر‭ ‬بن‭ ‬الخطاب،‭ ]‬،‭ ‬عام‭ (‬18هـ‭/ ‬639م‭). ‬

وقد‭ ‬سُمي‭ ‬بالكوفي‭ ‬أيام‭ ‬كانت‭ ‬الكوفة‭ ‬مركزاً‭ ‬إدارياً‭ ‬وسياسياً‭ ‬للدولة‭ ‬العربية،‭ ‬ومقراً‭ ‬لخلافة‭ ‬الإمام‭ ‬علي‭ ‬بن‭ ‬أبي‭ ‬طالب،‭ ‬كرّم‭ ‬الله‭ ‬وجهه،‭ ‬والذي‭ ‬كان‭ ‬هو‭ ‬نفسه‭ ‬يكتب‭ ‬بالخط‭ ‬الكوفي،‭ ‬ويشجع‭ ‬على‭ ‬كتابته،‭ ‬وكذلك‭ ‬الإمامان‭ ‬الحسن‭ ‬والحسين،‭ ‬رضي‭ ‬الله‭ ‬عنهما‭.‬

ففي‭ ‬الكوفة‭ ‬بدأ‭ ‬هذا‭ ‬الخط‭ ‬في‭ ‬الترقي‭ ‬تدريجياً،‭ ‬وأدخلت‭ ‬عليه‭ ‬التحسينات؛‭ ‬ومنها‭ ‬التنقيط‭ ‬والتشكيل‭ ‬الذي‭ ‬بدأ‭ ‬بإدخاله‭ ‬أبوالأسود‭ ‬الدؤلي،‭ ‬بطلب‭ ‬من‭ ‬الإمام‭ ‬علي‭ ‬بن‭ ‬أبي‭ ‬طالب،‭ ]‬،‭ ‬ثم‭ ‬تبعه‭ ‬تلميذاه‭ ‬النابهان؛‭ ‬نصر‭ ‬بن‭ ‬عاصم‭ ‬الليثي،‭ ‬ويحيى‭ ‬بن‭ ‬يعمر‭ ‬العدواني‭.‬

وأصبح‭ ‬الخط‭ ‬الكوفي‭ ‬هو‭ ‬المعتمد‭ ‬في‭ ‬تدوين‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم،‭ ‬والحديث،‭ ‬ونسخ‭ ‬الكتب،‭ ‬وتزيين‭ ‬المساجد،‭ ‬والقصور،‭ ‬وكتابات‭ ‬الدواوين،‭ ‬ورسائل‭ ‬الحكام‭ ‬وتوقيعاتهم‭. ‬

ومن‭ ‬الكوفة‭ ‬أيضاً‭ ‬انتشر‭ ‬واشتهر،‭ ‬لدرجة‭ ‬أنه‭ ‬حين‭ ‬حلّت‭ ‬العربية‭ ‬محل‭ ‬القبطية‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬مثلاً،‭ ‬واحتفظ‭ ‬بعض‭ ‬أهلها‭ ‬باللغة‭ ‬القبطية،‭ ‬كتبوها‭ ‬بالخط‭ ‬الكوفي‭. ‬

وأكثر‭ ‬ما‭ ‬يعنينا‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬تطور‭ ‬الخط‭ ‬الكوفي‭ ‬هو‭ ‬أنه‭ ‬بلغ‭ ‬أوجه‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬الأموي‭ (‬41‭ - ‬132هـ‭ / ‬661‭ ‬‭- ‬750م‭)‬،‭ ‬والعصر‭ ‬العباسي‭ ‬الأول‭ (‬132‭ - ‬232هـ‭/‬750‭ ‬‭- ‬847م‭)‬،‭ ‬وأصبح‭ ‬ينتشر‭ ‬مع‭ ‬انتشار‭ ‬الدولة‭ ‬إلى‭ ‬بقية‭ ‬الأمصار،‭ ‬فيحل‭ ‬في‭ ‬الكتابة‭ ‬محل‭ ‬خطوطها‭ ‬القومية،‭ ‬معبراً‭ ‬عن‭ ‬قوة‭ ‬الدولة‭ ‬العربية،‭ ‬وعن‭ ‬الشخصية‭ ‬العربية‭ ‬الجديدة‭.‬

واستمر‭ ‬الخط‭ ‬الكوفي‭ ‬هو‭ ‬الخط‭ ‬الأساس‭ ‬في‭ ‬الكتابة‭ ‬العربية،‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬الفاطمي‭ (‬300‭ ‬‭- ‬567هـ‭/‬913‭ -‬‭ ‬1171م‭)‬،‭ ‬ولم‭ ‬تسعَ‭ ‬الدولة‭ ‬الفاطمية‭ (‬الشيعية‭) ‬إلى‭ ‬فرض‭ ‬أنواع‭ ‬أخرى‭ ‬من‭ ‬الخطوط‭ ‬لتعبّر‭ ‬عن‭ ‬شخصيتها‭ ‬الجديدة،‭ ‬ولا‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬المكاتبات‭ ‬الرسمية‭ ‬في‭ ‬دواوينها‭. ‬

لكن‭ ‬الأمر‭ ‬اختلف‭ ‬مع‭ ‬خلفائهم‭ ‬الأيوبيين‭ (‬567‭ ‬‭- ‬657هـ‭/‬1171‭ ‬‭- ‬1260م‭)‬،‭ ‬الذين‭ ‬أعادوا‭ ‬المذهب‭ ‬السني‭ ‬محل‭ ‬الشيعي،‭ ‬حيث‭ ‬شهد‭ ‬عصر‭ ‬الدولة‭ ‬الأيوبية‭ ‬الاعتناء‭ ‬بخط‭ ‬النسخ‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬الخط‭ ‬الكوفي،‭ ‬ومحاولة‭ ‬نشره‭ ‬في‭ ‬البلاد‭ ‬العربية‭ ‬التي‭ ‬وقعت‭ ‬تحت‭ ‬سيطرتهم‭.‬

لكن‭ ‬الخطوط‭ ‬الكوفية‭ ‬ظلت‭ ‬مع‭ ‬ذلك‭ ‬تصارع‭ ‬رأساً‭ ‬برأس‭ ‬الخطوط‭ ‬الرسمية‭ ‬في‭ ‬الدواوين،‭ ‬وظلت‭ ‬هي‭ ‬المفضلة‭ ‬للخطاطين‭ ‬في‭ ‬الكتابة،‭ ‬وتزيين‭ ‬المساجد‭ ‬والقصور‭. ‬ولم‭ ‬يحد‭ ‬من‭ ‬نموها‭ ‬وانتشارها‭ ‬إلا‭ ‬الاحتلال‭ ‬العثماني‭ ‬للبلدان‭ ‬العربية،‭ ‬حيث‭ ‬عملت‭ ‬الدولة‭ ‬العثمانية‭ (‬698‭ -‬‭ ‬1341هـ‭/‬1299‭ ‬‭- ‬1922م‭) ‬على‭ ‬فرض‭ ‬شخصيتها‭ ‬الجديدة‭ (‬حتى‭ ‬في‭ ‬الخطوط‭) ‬على‭ ‬المجتمعات‭ ‬العربية،‭ ‬ففرضت‭ ‬الخطوط‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬من‭ ‬أصل‭ ‬عثماني‭ (‬الديواني،‭ ‬والطغرا،‭ ‬والرقعة،‭ ‬والياقوتي،‭ ‬والقرمة‭... ‬إلخ‭)‬،‭ ‬كما‭ ‬شجعت‭ ‬أيضاً‭ ‬أنواع‭ ‬الخطوط‭ ‬اللينة‭ ‬الأخرى‭ (‬ومعظمها‭ ‬من‭ ‬أصل‭ ‬فارسي‭) ‬الصالحة‭ ‬للكتابة‭ ‬السريعة‭ ‬في‭ ‬الدواوين‭ ‬والمراسلات‭ ‬الرسمية‭ ‬التي‭ ‬تضخمت‭ (‬الحاجة‭ ‬إلى‭ ‬سرعة‭ ‬الكتابة،‭ ‬والربط‭ ‬أكثر‭ ‬بين‭ ‬الحروف،‭ ‬على‭ ‬عكس‭ ‬الكوفي‭ ‬الذي‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬التمهل‭ ‬والاعتناء‭ ‬والدقة‭ ‬والركوز‭).‬

وكانت‭ ‬الضربة‭ ‬القاضية‭ ‬للخط‭ ‬الكوفي‭ ‬في‭ ‬عملية‭ ‬نقل‭ ‬كبار‭ ‬أساتذته‭ ‬وأمهرهم‭ ‬إلى‭ ‬الأستانة،‭ - ‬فيمن‭ ‬نقلوا‭ ‬من‭ ‬الحرفيين‭ ‬والفنانين‭ ‬والصناع‭ ‬العرب‭ ‬لبناء‭ ‬الأستانة‭ - ‬فحُرمت‭ ‬الكتابة‭ ‬العربية‭ ‬من‭ ‬جهودهم،‭ ‬وتم‭ ‬استخدامهم‭ ‬هم‭ ‬أنفسهم‭ ‬ليسهموا‭ ‬في‭ ‬تطوير‭ ‬الخطوط‭ ‬العثمانية‭ ‬الجديدة،‭ ‬وبقية‭ ‬الخطوط‭ ‬اللينة‭.‬

إن‭ ‬شادي‭ ‬حين‭ ‬يختار‭ ‬الخط‭ ‬الكوفي،‭ ‬يختار‭ ‬أول‭ ‬وأقدم‭ ‬خطوط‭ ‬الكتابة‭ ‬العربية،‭ ‬وواجهة‭ ‬القوة‭ ‬في‭ ‬الحضارة‭ ‬العربية،‭ ‬وسفيرها‭ ‬إلى‭ ‬العالم،‭ ‬ولا‭ ‬يختار‭ ‬خطاً‭ ‬من‭ ‬الخطوط‭ ‬التي‭ ‬طورها‭ ‬أو‭ ‬ابتكرها‭ ‬الفنانون‭ ‬على‭ ‬هوامش‭ ‬المركز‭ ‬العربي؛‭ ‬كخطوط‭ ‬التعليق‭ ‬والنستعليق‭ ‬والمكسر‭ ‬الإيرانية،‭ ‬أو‭ ‬خطوط‭ ‬الرقعة‭ ‬والديواني‭ ‬والطغرا‭ ‬التركية‭. ‬إن‭ ‬الخط‭ ‬الكوفي‭ ‬يحمل‭ ‬الرسالة‭ ‬التي‭ ‬أرادها‭ ‬شادي،‭ ‬كما‭ ‬حمل‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬صورة‭ ‬القوة‭ ‬في‭ ‬الحضارة‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬أوجها‭.‬

ويجدر‭ ‬بنا‭ ‬أن‭ ‬نلاحظ‭ ‬أن‭ ‬شادي‭ ‬حين‭ ‬يختار‭ ‬الكتابة‭ ‬بالخط‭ ‬الكوفي،‭ ‬يختار‭ ‬النمط‭ ‬الأرقى‭ ‬منه‭ (‬وهو‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬70‭ ‬نوعاً‭ ‬وشكلاً‭)‬،‭ ‬والصالح‭ ‬للكتابة‭ ‬العادية‭ (‬وليس‭ ‬الكوفي‭ ‬المزهر،‭ ‬أو‭ ‬المورق،‭ ‬أو‭ ‬المشجر،‭ ‬أو‭ ‬المغربي،‭ ‬أو‭ ‬المعماري،‭ ‬أو‭ ‬المضفور،‭ ‬مثلاً،‭ ‬أو‭ ‬غيرها‭ ‬من‭ ‬الأشكال‭ ‬الصالحة‭ ‬للزخرفة‭ ‬وتزيين‭ ‬واجهات‭ ‬المساجد‭ ‬والقصور‭). ‬بل‭ ‬يختار‭ ‬الكوفي‭ ‬المصحفي‭ ‬بأسلوب‭ ‬المشق‭ (‬والمشق‭ ‬هو‭ ‬أحد‭ ‬أنواع‭ ‬الأقلام‭ ‬التي‭ ‬يُكتب‭ ‬بها‭ ‬الخط‭. ‬ويعني‭ ‬في‭ ‬اللغة‭: ‬جذب‭ ‬الشيء‭ ‬ليمتد‭ ‬ويطول‭. ‬ومَشَقَ‭ ‬الخط‭ ‬أي‭ ‬مدَّ‭ ‬حروفه‭). ‬وهو‭ ‬النمط‭ ‬نفسه‭ ‬الذي‭ ‬يُذكرنا‭ ‬بالمخطوطات‭ ‬في‭ ‬العصرين‭ ‬الأموي‭ ‬والعباسي‭ ‬الأول؛‭ ‬بعد‭ ‬اختراع‭ ‬التنقيط‭ ‬والتشكيل‭. ‬والمدهش،‭ ‬والذي‭ ‬يؤكد‭ ‬الإرادة‭ ‬الواعية،‭ ‬والقصدية‭ ‬في‭ ‬اختياراته،‭ ‬هو‭ ‬إحجامه‭ ‬عن‭ ‬الفصل‭ ‬بين‭ ‬الجمل‭ ‬في‭ ‬الفقرة‭ ‬المكتوبة‭: ‬بالفاصلة،‭ ‬أو‭ ‬الفاصلة‭ ‬المنقوطة،‭ ‬أو‭ ‬النقطة،‭ ‬أو‭ ‬النقطتين،‭ ‬أو‭ ‬علامة‭ ‬التعجب،‭ ‬أو‭ ‬غيرها‭ ‬من‭ ‬علامات‭ ‬الترقيم‭. ‬ونحن‭ ‬نعلم‭ ‬أن‭ ‬علامات‭ ‬الترقيم‭ ‬قد‭ ‬دخلت‭ ‬الكتابة‭ ‬العربية‭ ‬بعد‭ ‬فوز‭ ‬الخطاط‭ ‬المصري‭ ‬محمد‭ ‬أفندي‭ ‬محفوظ‭ ‬عام‭ ‬1928م‭ ‬في‭ ‬مسابقة‭ ‬بين‭ ‬الخطاطين،‭ ‬أقيمت‭ ‬بناءً‭ ‬على‭ ‬رغبة‭ ‬الملك‭ ‬أحمد‭ ‬فؤاد‭ ‬الأول‭ (‬1868‭ - ‬1936م‭)‬،‭ ‬بغية‭ ‬إرشاد‭ ‬القارئ‭ ‬العربي‭ ‬أثناء‭ ‬القراءة،‭ ‬على‭ ‬غرار‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬معمول‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬الكتابات‭ ‬اللاتينية،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬عممته‭ ‬وزارة‭ ‬المعارف‭ ‬العمومية‭ ‬المصرية‭ ‬على‭ ‬مدارسها‭ ‬عام‭ ‬1930م‭. ‬إن‭ ‬شادي‭ ‬هنا‭ ‬يهمل‭ ‬هذا‭ ‬التطور‭ ‬االجديدب‭ ‬في‭ ‬الكتابة،‭ ‬ويحافظ‭ ‬على‭ ‬الخط‭ ‬الكوفي‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬يُكتب‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬القوة‭ ‬العربية،‭ ‬تأكيداً‭ ‬للمعنى‭ ‬الذي‭ ‬أراده‭.‬

 

الانسجام‭ ‬مع‭ ‬القيم‭ ‬الجمالية‭ ‬الفرعونية

تأبى‭ ‬الغريزة‭ ‬الفنية‭ ‬لشادي‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬تقتدي‭ ‬بالفنان‭ ‬المصري‭ ‬القديم‭ ‬في‭ ‬أسلوبه‭ ‬الفني،‭ ‬حين‭ ‬كان‭ ‬يختار‭ ‬تصوير‭ ‬موضوعاته‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬تكون‭ ‬معها‭ ‬في‭ ‬ريعان‭ ‬الصحة‭ ‬والقوة‭ ‬والجمال‭.‬

فنحن‭ ‬نعلم‭ ‬أن‭ ‬أسس‭ ‬الفن‭ ‬المصري‭ ‬الفرعوني‭ ‬ظلت‭ ‬ثابتة‭ ‬لأكثر‭ ‬من‭ ‬ثلاثة‭ ‬آلاف‭ ‬عام،‭ ‬محتفظة‭ ‬بأسلوب‭ ‬أصيل‭ ‬ومميز‭. ‬وقد‭ ‬كان‭ ‬النحات،‭ ‬مثلاً،‭ ‬يعتقد‭ ‬أن‭ ‬تمثال‭ ‬الشخص‭ ‬هو‭ ‬مسكن‭ ‬دائم‭ ‬لروحه،‭ ‬وعلى‭ ‬صورة‭ ‬ذلك‭ ‬التمثال‭ ‬إنما‭ ‬يُبعث‭ ‬بعد‭ ‬الموت‭.‬

ولذلك‭ ‬حرص‭ ‬على‭ ‬نحت‭ ‬الإنسان‭ ‬على‭ ‬الصورة‭ ‬التي‭ ‬يرغب‭ ‬في‭ ‬تخليد‭ ‬نفسه‭ ‬فيها‭. ‬أي‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬ريعان‭ ‬الصحة‭ ‬والقوة‭ ‬والجمال،‭ ‬وبالنسب‭ ‬القياسية‭ ‬لجمال‭ ‬الشكل‭ ‬الإنساني؛‭ ‬فيظهر‭ ‬الرجال‭ ‬بصدور‭ ‬عريضة‭ ‬وقوية،‭ ‬وتظهر‭ ‬السيدات‭ ‬نحيفات‭ ‬وذوات‭ ‬سيقان‭ ‬طويلة‭ (‬وتمثال‭ ‬نفرتيتي‭ ‬هو‭ ‬نموذج‭ ‬للمثالية‭ ‬في‭ ‬نسب‭ ‬الجسد‭ ‬الإنساني‭).‬

ومن‭ ‬النادر‭ ‬أن‭ ‬نعثر‭ ‬في‭ ‬الفن‭ ‬الفرعوني‭ ‬على‭ ‬رسم‭ ‬أو‭ ‬منحوت‭ ‬يُصوّر‭ ‬التقدم‭ ‬في‭ ‬العمر،‭ ‬أو‭ ‬البدانة،‭ ‬أو‭ ‬الضعف‭ ‬الجسدي،‭ ‬أو‭ ‬الانحراف‭ ‬عن‭ ‬المثالية‭ ‬في‭ ‬الجمال،‭ ‬لدرجة‭ ‬أننا‭ ‬نعرف‭ ‬الفرق،‭ ‬مثلاً،‭ ‬بين‭ ‬زوجة‭ ‬صاحب‭ ‬المقبرة‭ ‬وأمه‭ ‬من‭ ‬التعليقات‭ ‬الهيروغليفية‭ ‬المصاحبة‭ ‬للرسم،‭ ‬لا‭ ‬من‭ ‬الرسم‭ ‬نفسه‭.‬

واقتداءً‭ ‬بهذا‭ ‬الأسلوب‭ ‬الفني،‭ ‬فإن‭ ‬شادي‭ ‬يكتب‭ ‬لوحة‭ ‬البداية‭ (‬والنهاية‭) ‬بأكثر‭ ‬الخطوط‭ ‬العربية‭ ‬تعبيراً‭ ‬عن‭ ‬الصحة‭ ‬والقوة‭ ‬والجمال‭: ‬الخط‭ ‬الكوفي‭ ‬المصحفي‭ ‬بقلم‭ ‬المشق‭ ‬مع‭ ‬التشكيل‭. ‬إنه‭ ‬نفس‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬العربي‭ ‬يكتب‭ ‬به‭ ‬مخطوطاته‭ ‬ونصوصه‭ ‬في‭ ‬أوج‭ ‬قوة‭ ‬الدولة‭ ‬العربية؛‭ ‬أي‭ ‬في‭ ‬العصرين‭ ‬الأموي‭ ‬والعباسي‭ ‬الأول‭. ‬صحيح‭ ‬أن‭ ‬فكرة‭ ‬االعصر‭ ‬الذهبيب‭ ‬للحضارة‭ ‬العربية‭ ‬هي‭ ‬فكرة‭ ‬ذهنية‭ ‬أكثر‭ ‬منها‭ ‬حقيقة‭ ‬تاريخية،‭ ‬بمعنى‭ ‬أنها‭ ‬تجميع‭ ‬لعناصر‭ ‬القوة‭ ‬في‭ ‬الدولة‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬عهود‭ ‬شتى؛‭ ‬فيجمع‭ ‬االعصر‭ ‬الذهبيب،‭ ‬مثلاً،‭ ‬بين‭: ‬العدالة‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬عمر‭ ‬بن‭ ‬الخطاب،‭ ‬رضي‭ ‬الله‭ ‬عنه،‭ ‬والازدهار‭ ‬الاقتصادي‭ ‬في‭ ‬عهد‭ ‬عمر‭ ‬بن‭  ‬عبدالعزيز،‭ ‬واتساع‭ ‬الدولة‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬الأموي،‭ ‬وازدهار‭ ‬الفنون‭ ‬والآداب‭ ‬في‭ ‬العصور‭ ‬العباسية،‭ ‬والتلاقح‭ ‬الحضاري‭ ‬في‭ ‬الأندلس،‭ ‬ونبوغ‭ ‬جابر‭ ‬بن‭ ‬حيان‭ ‬في‭ ‬الكيمياء،‭ ‬وابن‭ ‬الهيثم‭ ‬في‭ ‬الفيزياء،‭ ‬وابن‭ ‬سينا‭ ‬والرازي‭ ‬وابن‭ ‬النفيس‭ ‬في‭ ‬الطب،‭ ‬وابن‭ ‬خلدون‭ ‬في‭ ‬علم‭ ‬الاجتماع،‭ ‬والموصلي‭ ‬وزرياب‭ ‬في‭ ‬الموسيقى،‭ ‬وموسوعية‭ ‬الفارابي‭ ‬والبيروني‭... ‬إلخ‭.‬

وبرغم‭ ‬ذلك،‭ ‬يتجه‭ ‬الذهن‭ ‬العربي،‭ ‬عند‭ ‬ذكر‭ ‬مفهوم‭ ‬االعصر‭ ‬الذهبيب،‭ ‬إلى‭ ‬كلا‭ ‬العصرين‭, ‬الأموي‭ ‬والعباسي‭ ‬الأول،‭ ‬حيث‭ ‬كانت‭ ‬الدولة‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬أوج‭ ‬قوتها،‭ ‬وكانت‭ ‬الخلافات‭ ‬والتناحرات‭ ‬البينية‭ ‬مُحجَّمة،‭ ‬وتحت‭ ‬سيطرة‭ ‬مركز‭ ‬واحد‭ ‬قوي،‭ ‬قادر‭ ‬على‭ ‬حسم‭ ‬الأمور،‭ ‬وفرض‭ ‬توجهات‭ ‬وسياسات‭ ‬عامة‭ ‬واحدة‭.‬

أما‭ ‬القناع‭ ‬الذي‭ ‬نراه‭ ‬في‭ ‬خلفية‭ ‬النص‭ ‬الاستهلالي،‭ ‬الفاقد‭ ‬لإحدى‭ ‬عينيه،‭ ‬والمنزوع‭ ‬عنه‭ ‬ذهبه‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬مؤسف‭ (‬إشارة‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬فعله‭ ‬الآباء‭ ‬بالأجداد،‭ ‬وينتظر‭ ‬الإنقاذ‭ ‬والبعث‭ ‬على‭ ‬أيدي‭ ‬الأحفاد‭)‬،‭ ‬فهو‭ ‬قناع‭ ‬لأحد‭ ‬التوابيت‭ ‬من‭ ‬العصر‭ ‬الوسيط؛‭ ‬أزهى‭ ‬عصور‭ ‬الحضارة‭ ‬الفرعونية‭. ‬ونحن‭ ‬نعلم‭ ‬أن‭ ‬الحضارة‭ ‬المصرية‭ ‬القديمة‭ ‬تُقسَّم‭ ‬لدى‭ ‬الباحثين‭ ‬إلى‭: ‬العصر‭ ‬القديم‭ ‬المبكر،‭ ‬والوسيط،‭ ‬والمتأخر،‭ ‬فالديموطيقي،‭ ‬ثم‭ ‬القبطي‭. ‬

وعلى‭ ‬ذلك‭ ‬يكون‭ ‬وعي‭ ‬الفنان‭ ‬لدى‭ ‬شادي‭ ‬قد‭ ‬جمع‭ ‬ذروة‭ ‬الفنين‭ ‬الفرعوني‭ ‬والعربي‭ ‬في‭ ‬افتتاحية‭ ‬الفيلم‭: ‬القناع‭ ‬من‭ ‬فن‭ ‬العصر‭ ‬الوسيط‭ ‬الفرعوني،‭ ‬والخط‭ ‬الكوفي‭ ‬في‭ ‬أوج‭ ‬قوة‭ ‬الدولة‭ ‬العربية‭ .

 

المخرج‭ ‬شادي‭ ‬عبدالسلام‭ ‬أثناء‭ ‬التصوير