في مديح الصمت والبراعة... إطلالة على بلاغات منسية
على مدار التاريخ كان التنازع هو جوهر العلاقة بين الحضارات والأمم. لم يقتصر هذا التنازع على ادعاء الحق في الثروات أو الأراضي أو النفوذ، بل تعداه إلى ادعاء الحق في تأسيس العلوم وتدشينها. ومن الطبيعي وفقًا لقانون هيمنة الغالب على المغلوب أن يُنسب إنشاء العلوم إلى الأقوى. وهكذا فإن البشر بحاجة إلى التشكك من وقت إلى آخر في تاريخ العلوم، ومراجعة الأفكار السائدة حول نشأتها وتطورها. وهذا المقال محاولة لمراجعة تاريخ أحد أبرز العلوم الإنسانية وأقدمها، أعني علم البلاغة الذي اختص بدراسة الكلام المقنع المؤثر بين الأفراد والجماهير.
عادة ما يُرجع الباحثون نشأة علم البلاغة إلى اليونانيين، إذ يُنظر إلى السوفسطائيين الأثينيين على أنهم أول من وضع قواعده وتنظيراته وحوله إلى ممارسة تعليمية احترافية. وفي إطار هذا التصور المهيمن, تحتل المؤلفات اليونانية والرومانية البارزة حول البلاغة، مثل «محاورة جورجياس» لأفلاطون, وكتاب «في الخطابة» لأرسطو، وكتاب «الخطيب» لشيشرون، مكانة محورية في تاريخ البلاغة. غير أن واقع الاكتشافات الحديثة للمنجز المعرفي للحضارات القديمة في مصر والعراق وفارس والهند والصين وغيرها، في سبيله إلى زعزعة هذا التصور المتحيز لتاريخ البلاغة. إذ تتعزز شيئًا فشيئًا فكرة أن البلاغة - سواء بوصفها علمًا وتدريبًا أو بوصفها إنتاجًا للكلام البليغ- لم تكن اختراعًا يونانيًا، بل هي ثمرة من ثمرات كل تطور حضاري، حيث تتلازم البلاغة مع العمران.
ومع ذلك، فإن مراجعة التأريخات المستقرة تتم على استحياء شديد، وتواجهها مشكلات عملية وأيديولوجية. أبرز المشكلات العملية هي اندثار الكثير من آثار الحضارات القديمة، وخاصة الأعمال الفكرية التي لم تندمج في إطار المعتقدات الدينية القارة أو العادات المتوارثة. وتزداد صعوبات العثور على النتاجات الفكرية النظرية مثل التنظيرات البلاغية، إذا وضعنا في الحسبان حقيقة أن معظم النشاط المتعلق بتداول المعرفة في هذه الحضارات القديمة كان يتم في سياق نخبوي مغلق، تمارَس فيه أشكال متعددة من احتكار المعرفة. فقد كان الكهنة في مصر القديمة - على سبيل المثال - ينقلون المعرفة النظرية والتجريبية من المعلم إلى التلميذ عن طريق المشافهة والتقليد. وكان من نتائج ذلك أن دُفن الكثير من «أسرارهم» معهم، واندثرت باندثارهم.
بالإضافة إلى الأسباب العملية المعوِّقة لكتابة تاريخ جديد للبلاغة، هناك أسباب أيديولوجية، لعل أهمها النزعة المركزية الأوربية. فهناك نزوع راسخ في التقاليد العربية الأكاديمية للتعامل مع المعرفة على أنها نتاج حصري للغرب، سواء في حقبته القديمة (اليونانية والرومانية)، أو في حقبته الحديثة (الأوربية والأمريكية). وتتجلى هذه النزعة أشد ما تكون في كتب تاريخ العلم، حيث تتجاهل الكتابات المؤرخة للعلوم الإسهامات غير الغربية، أو تقلل من تأثيرها، أو تقدمها بوصفها خلافية وغير مؤكدة. ويُعد علم البلاغة حالة نموذجية لذلك، إذ اعتادت الكتب المؤرخة للبلاغة على مدار قرون طويلة التعامل مع هذا العلم بوصفه منجزًا غربيًا حصريًا. ولم تتم مراجعة هذه الكتابات إلا منذ عقود قليلة.
تُعد كتابات جورج كينيدي في تسعينيات القرن العشرين أول محاولة شاملة تُعيد النظر في مسلَّمة أن البلاغة نتاج غربي حصريًا. ففي كتابه الشهير الذي نشرته جامعة كمبريدج بعنوان «البلاغة المقارنة: مدخل تاريخي عبر ثقافي» (1998) يقدم تأريخًا مغايرًا للبلاغة، يُدرج فيه إسهامات الحضارات المصرية والصينية والهندية القديمة على قدم المساواة مع إسهام الحضارة اليونانية في تأسيس البلاغة.
وقد كان لكتابات كينيدي المرموقة في إطار الدراسات البلاغية المعاصرة أثر طيب في بعض الكتابات اللاحقة، فقد تضمنت موسوعة البلاغة التي أصدرتها جامعة أكسفورد عام 2001 مداخل عن البلاغة العربية والإفريقية والصينية والهندية والسلافية وغيرها. ومع ذلك، فإن مساحة هذه المداخل كانت محدودة للغاية، مقارنة بالمساحة الهائلة التي شغلتها مداخل البلاغة الغربية، حيث لا تكاد نسبتها تزيد على سبعة في المائة من حجم الموسوعة.
بلاغة الشرق وبلاغة الغرب
ترجع أهمية دراسة المبادئ والتعاليم البلاغية في الحضارات الشرقية القديمة إلى الرؤى المغايرة التي تقدمها لنا، حين نقارنها بالبلاغة الغربية. وعلى مدار ما تبقى من هذا المقال، سوف أقدم بعض الأمثلة على التباين الشديد في الأفكار والممارسات البلاغية في حضارتين قديمتين، إحداهما شرقية والأخرى غربية، هما الحضارتان المصرية واليونانية. وسوف أعتمد على دراسات علماء المصريات المهتمين بالأدب والبلاغة، أمثال ميريام ليشثم وميشيل فوكس وباربرا ليسيكو وديفيد هوتو وآخرين. وقد توصل هؤلاء الباحثون إلى أفكارهم عن البلاغة المصرية القديمة من خلال تحليل كتابات هيروغليفية عديدة تنتمي إلى الأدب والنصوص المقدسة وتسجيلات الوقائع اليومية، أشهرها حكاية الفلاح الفصيح، وتعاليم بتاح حوتب، التي يُنظر إليها بوصفها أول كتاب تعليمي بلاغي في التاريخ.
الاحتفاء ببلاغة الحق
في مقابل تقنين التلاعب
استندت البلاغة المصرية القديمة إلى أسس أخلاقية في تقييماتها للكلام، فالقول الصادق، الذي يتحرى الحق والعدل هو الأكثر بيانًا والأعلى بلاغة. وعلى خلاف ذلك، فإن البلاغة اليونانية احتفت بالقدرات التي تمكَّن الشخص من الدفاع عن الآراء أو المواقف الضعيفة وغير المحبوبة، والمناهضة للعرف العام أو الأخلاقيات السائدة. وكانت ممارسات السوفسطائيين اليونانيين - على وجه التحديد - تتضمن دروسًا وتدريبات هدفها تمكين دارس البلاغة من الدفاع عن أي أفكار أو آراء أو ميول أو توجهات أو معتقدات، بغض النظر عن درجة أخلاقيتها أو تماشيها مع القيم السائدة. كما تضمنت الدروس البلاغية اليونانية ممارسات، مثل الدفاع عن الشيء ونقيضه، ومهارات التحول في المواقف المتباينة بحسب المصلحة، إضافة إلى ذلك، كان شباب أثينا يتعلمون وسائل التلاعب بالجمهور، والسيطرة على مشاعره، والتحكم في نفسيته، وتوجيهه لخدمة مصالحهم. وتم تصوير الكلام بوصفه حربًا، يُسمح للمتكلم فيها أن يستخدم كل الأدوات المتاحة، بغض النظر عن أخلاقيتها.
لقد كانت هذه الممارسات وراء النقد العنيف الذي شنه أفلاطون على الممارسات البلاغية اليونانية، مفنِّداً انتهاكها لمبادئ الخير والحق والعدل. غير أن البديل الذي اقترحه أفلاطون لم يكن يسير في اتجاه بلاغة أخلاقية أقل تلاعبًا، بل سعى بدلا من ذلك إلى القضاء على البلاغة ذاتها، ووضع الجدل الأكاديمي المتخصص مكانها، فطرد الخطباء من جمهوريته، التي وضع الفلاسفة على عرشها. وعلى خلاف، ذلك فإن البلاغة المصرية القديمة، دافعت عن بلاغة تكون الأخلاق قاعدتها الأساسية، وبحسب ميشيل فوكس، فإن «الأخلاق والقيم هي الطريقة الأساسية للحجاج في البلاغة المصرية». ومع ذلك، فإن الربط بين البلاغة والأخلاق (السائدة) كانت له تأثيرات جانبية سلبية لعل أبرزها تسخير البلاغة للحفاظ على الوضع القائم.
بلاغة الحفاظ على الوضع القائم
في مقابل بلاغة التغيير
يشير دارسو البلاغة المصرية القديمة إلى أن التعاليم البلاغية في ذلك الوقت كانت تربط البلاغة بالسلوك القويم في المجتمع. فالشخص البليغ هو الذي يحرص من خلال كلامه على أن يكون مواطنًا صالحًا. وفي ظل مجتمع أبوي طبقي يقوم على التقليد وتفاوت السلطة، فإن صلاح المواطن كان يعني بالأساس الحفاظ على الوضع القائم، واحترامه إلى حد التقديس. بصياغة أخرى، كان الحفاظ على علاقات السلطة القائمة وترسيخها عبر الكلام، هو البوابة الأساسية للوصف بالبلاغة. ويتجلى هذا المبدأ بوضوح في التعاليم التي تأمر المتكلمين بمراعاة مكانة المخاطَب الاجتماعية، واستخدام ألقاب التبجيل، وعلامات الخضوع غير اللغوية أثناء الحديث مع ذوي السلطة، مثل انحناء القامة وخفوت الصوت، والإشارات الحركية المحدودة.
على خلاف ذلك، فإن البلاغة اليونانية كانت ترسخ فكرة دور الكلام في مقاومة الوضع القائم وتغييره لمصلحة المتكلمين. فقد كانت البلاغة وسيلة للترقي المجتمعي، ووسيلة للتنازع على السلطة مع من يمتلكونها أو يطالبون بها. ويمكن أن نفهم سر إقبال شباب أثينا على دروس تعليم البلاغة - رغم تكلفتها الباهظة بمعايير ذلك الزمان- إذا وضعنا في الاعتبار حقيقة أن البلاغة كانت مفتاحًا للسلطة، أي أنها كانت في ذاتها أداة لخلق علاقات سلطة جديدة. وهكذا يتجلى التناقض بين المجتمعين المصري واليوناني القديمين، ففي حين كانت البلاغة المصرية أداة لإنتاج واستمرار علاقات السلطة الاجتماعية والسياسية المجحفة، كانت البلاغة اليونانية أداة لتغيير علاقات السلطة الاجتماعية والسياسية. وبالتأكيد، فإن استمرار نظام الحكم الفرعوني المصري على مدار آلاف السنين، في مقابل التقلبات والتغيرات الجذرية في أنظمة الحكم اليونانية في مدى زمني أقل من قرنين، لا يمكن فهمه بمعزل عن البحث في العلاقة بين البلاغة والسلطة. وهي علاقة كان أبرز تجلياتها الاحتفاء بالصمت الحكيم.
بلاغة الصمت في مقابل بلاغة الكلام
لقد احتفت البلاغة اليونانية بالبراعة في الكلام، والقدرة على إنتاج خطاب مؤثر مقنع. وفي ظل ديمقراطية أثينا، كانت القدرات البلاغية للمواطن الأثيني متطلبًا أساسيًا من متطلبات الترقي السياسي والاجتماعي. في ظل هذا الولع بالبيان، كان من الطبيعي أن تكون العبارة الأكثر دلالة على دور الكلام في الحياة هي عبارة «تكلم حتى أراك»، التي ينسبها القدماء إلى الفيلسوف سقراط. وهي عبارة تجعل اعتراف الآخرين بوجود المرء مرهونًا بكلامه، في ظل إيمان بأن مَنْ لا يُرى (أي يتكلم)، ربما لا يوجد.
لم تكن هذه هي الحال في الحضارة المصرية القديمة. فالمصريون القدماء قدسوا الصمت، وجعلوا من الكلام مغامرة غير محسوبة العواقب. ولا تزال العديد من الأمثال الشعبية التي تجري على ألسنة المصريين ترسخ هذا التقدير الاستثنائي للصمت، مثل «لسانك حصانك، إن صنته صانك، وإن هنته هانك»، و«إن كان الكلام من فضة يبقى السكوت من ذهب».
هذا التقدير الاستثنائي للصمت يمكن أن يرجع إلى الضوابط الاجتماعية الصارمة التي خضع لها المصريون، في ظل مجتمع استبدادي، يرسِّخ علاقات سلطة ظالمة، ويضفي الشرعية عليها بواسطة تقديس الصمت. وبذلك يتجنب النظام الاجتماعي القار التعرض للتحدي أو المساءلة أو النقد، ويكتسب قوة رمزية تمكنه من الاستمرار. وقد تعزز تغلغل تقديس الصمت بسبب حجب المصريين العاديين عن المشاركة في الحياة العامة، وانحسار البلاغة في سياقات شخصية أو اجتماعية محدودة، إضافة بالطبع إلى سياق الشكوى والتقاضي الذي يمثله نص «شكاوى الفلاح الفصيح».
إن المقارنة التفصيلية بين البلاغات القديمة تكشف عن أهمية مراجعة الروايات المستقرة حول نشأة العلم. كما تبرز ضرورة بلورة الإسهامات المهمة للحضارات القديمة التي تم تهميشها لأكثر من نصف ألفية من الزمان، انفردت فيها أوربا وورثتُها بكتابة تاريخ العلوم. والمفارقة المؤلمة التي لا تزال حاضرة هي أن عملية تصحيح ومراجعة التـــاريخ السائد للعلم، لا يزال يتصدى لها - غالبًا - باحثون غربيــــون، إذ إن هذه المهمة تقع بالأساس على عاتق الباحثين المنتمين إلى الحضارات الشرقية. والأمل معقود على الأجيال الشابة من الباحثين ممن يجدر بهم أن يعملوا على إنجاز تاريخ غير متحيز للعلوم .