في مديح الصمت والبراعة... إطلالة على بلاغات منسية

في مديح الصمت والبراعة... إطلالة على بلاغات منسية

على‭ ‬مدار‭ ‬التاريخ‭ ‬كان‭ ‬التنازع‭ ‬هو‭ ‬جوهر‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬الحضارات‭ ‬والأمم‭. ‬لم‭ ‬يقتصر‭ ‬هذا‭ ‬التنازع‭ ‬على‭ ‬ادعاء‭ ‬الحق‭ ‬في‭ ‬الثروات‭ ‬أو‭ ‬الأراضي‭ ‬أو‭ ‬النفوذ،‭ ‬بل‭ ‬تعداه‭ ‬إلى‭ ‬ادعاء‭ ‬الحق‭ ‬في‭ ‬تأسيس‭ ‬العلوم‭ ‬وتدشينها‭. ‬ومن‭ ‬الطبيعي‭ ‬وفقًا‭ ‬لقانون‭ ‬هيمنة‭ ‬الغالب‭ ‬على‭ ‬المغلوب‭ ‬أن‭ ‬يُنسب‭ ‬إنشاء‭ ‬العلوم‭ ‬إلى‭ ‬الأقوى‭. ‬وهكذا‭ ‬فإن‭ ‬البشر‭ ‬بحاجة‭ ‬إلى‭ ‬التشكك‭ ‬من‭ ‬وقت‭ ‬إلى‭ ‬آخر‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬العلوم،‭ ‬ومراجعة‭ ‬الأفكار‭ ‬السائدة‭ ‬حول‭ ‬نشأتها‭ ‬وتطورها‭. ‬وهذا‭ ‬المقال‭ ‬محاولة‭ ‬لمراجعة‭ ‬تاريخ‭ ‬أحد‭ ‬أبرز‭ ‬العلوم‭ ‬الإنسانية‭ ‬وأقدمها،‭ ‬أعني‭ ‬علم‭ ‬البلاغة‭ ‬الذي‭ ‬اختص‭ ‬بدراسة‭ ‬الكلام‭ ‬المقنع‭ ‬المؤثر‭ ‬بين‭ ‬الأفراد‭ ‬والجماهير‭.‬

عادة‭ ‬ما‭ ‬يُرجع‭ ‬الباحثون‭ ‬نشأة‭ ‬علم‭ ‬البلاغة‭ ‬إلى‭ ‬اليونانيين،‭ ‬إذ‭ ‬يُنظر‭ ‬إلى‭ ‬السوفسطائيين‭ ‬الأثينيين‭ ‬على‭ ‬أنهم‭ ‬أول‭ ‬من‭ ‬وضع‭ ‬قواعده‭ ‬وتنظيراته‭ ‬وحوله‭ ‬إلى‭ ‬ممارسة‭ ‬تعليمية‭ ‬احترافية‭. ‬وفي‭ ‬إطار‭ ‬هذا‭ ‬التصور‭ ‬المهيمن‭, ‬تحتل‭ ‬المؤلفات‭ ‬اليونانية‭ ‬والرومانية‭ ‬البارزة‭ ‬حول‭ ‬البلاغة،‭ ‬مثل‭ ‬‮«‬محاورة‭ ‬جورجياس‮»‬‭ ‬لأفلاطون‭, ‬وكتاب‭ ‬‮«‬في‭ ‬الخطابة‮»‬‭ ‬لأرسطو،‭ ‬وكتاب‭ ‬‮«‬الخطيب‮»‬‭ ‬لشيشرون،‭ ‬مكانة‭ ‬محورية‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬البلاغة‭. ‬غير‭ ‬أن‭ ‬واقع‭ ‬الاكتشافات‭ ‬الحديثة‭ ‬للمنجز‭ ‬المعرفي‭ ‬للحضارات‭ ‬القديمة‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬والعراق‭ ‬وفارس‭ ‬والهند‭ ‬والصين‭ ‬وغيرها،‭ ‬في‭ ‬سبيله‭ ‬إلى‭ ‬زعزعة‭ ‬هذا‭ ‬التصور‭ ‬المتحيز‭ ‬لتاريخ‭ ‬البلاغة‭. ‬إذ‭ ‬تتعزز‭ ‬شيئًا‭ ‬فشيئًا‭ ‬فكرة‭ ‬أن‭ ‬البلاغة‭ - ‬سواء‭ ‬بوصفها‭ ‬علمًا‭ ‬وتدريبًا‭ ‬أو‭ ‬بوصفها‭ ‬إنتاجًا‭ ‬للكلام‭ ‬البليغ‭- ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬اختراعًا‭ ‬يونانيًا،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬ثمرة‭ ‬من‭ ‬ثمرات‭ ‬كل‭ ‬تطور‭ ‬حضاري،‭ ‬حيث‭ ‬تتلازم‭ ‬البلاغة‭ ‬مع‭ ‬العمران‭.‬

ومع‭ ‬ذلك،‭ ‬فإن‭ ‬مراجعة‭ ‬التأريخات‭ ‬المستقرة‭ ‬تتم‭ ‬على‭ ‬استحياء‭ ‬شديد،‭ ‬وتواجهها‭ ‬مشكلات‭ ‬عملية‭ ‬وأيديولوجية‭. ‬أبرز‭ ‬المشكلات‭ ‬العملية‭ ‬هي‭ ‬اندثار‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬آثار‭ ‬الحضارات‭ ‬القديمة،‭ ‬وخاصة‭ ‬الأعمال‭ ‬الفكرية‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تندمج‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬المعتقدات‭ ‬الدينية‭ ‬القارة‭ ‬أو‭ ‬العادات‭ ‬المتوارثة‭. ‬وتزداد‭ ‬صعوبات‭ ‬العثور‭ ‬على‭ ‬النتاجات‭ ‬الفكرية‭ ‬النظرية‭ ‬مثل‭ ‬التنظيرات‭ ‬البلاغية،‭ ‬إذا‭ ‬وضعنا‭ ‬في‭ ‬الحسبان‭ ‬حقيقة‭ ‬أن‭ ‬معظم‭ ‬النشاط‭ ‬المتعلق‭ ‬بتداول‭ ‬المعرفة‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الحضارات‭ ‬القديمة‭ ‬كان‭ ‬يتم‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬نخبوي‭ ‬مغلق،‭ ‬تمارَس‭ ‬فيه‭ ‬أشكال‭ ‬متعددة‭ ‬من‭ ‬احتكار‭ ‬المعرفة‭. ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬الكهنة‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬القديمة‭ - ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭ - ‬ينقلون‭ ‬المعرفة‭ ‬النظرية‭ ‬والتجريبية‭ ‬من‭ ‬المعلم‭ ‬إلى‭ ‬التلميذ‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬المشافهة‭ ‬والتقليد‭. ‬وكان‭ ‬من‭ ‬نتائج‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬دُفن‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬‮«‬أسرارهم‮»‬‭ ‬معهم،‭ ‬واندثرت‭ ‬باندثارهم‭.‬

بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬الأسباب‭ ‬العملية‭ ‬المعوِّقة‭ ‬لكتابة‭ ‬تاريخ‭ ‬جديد‭ ‬للبلاغة،‭ ‬هناك‭ ‬أسباب‭ ‬أيديولوجية،‭ ‬لعل‭ ‬أهمها‭ ‬النزعة‭ ‬المركزية‭ ‬الأوربية‭. ‬فهناك‭ ‬نزوع‭ ‬راسخ‭ ‬في‭ ‬التقاليد‭ ‬العربية‭ ‬الأكاديمية‭ ‬للتعامل‭ ‬مع‭ ‬المعرفة‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬نتاج‭ ‬حصري‭ ‬للغرب،‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬حقبته‭ ‬القديمة‭ (‬اليونانية‭ ‬والرومانية‭)‬،‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬حقبته‭ ‬الحديثة‭ (‬الأوربية‭ ‬والأمريكية‭). ‬وتتجلى‭ ‬هذه‭ ‬النزعة‭ ‬أشد‭ ‬ما‭ ‬تكون‭ ‬في‭ ‬كتب‭ ‬تاريخ‭ ‬العلم،‭ ‬حيث‭ ‬تتجاهل‭ ‬الكتابات‭ ‬المؤرخة‭ ‬للعلوم‭ ‬الإسهامات‭ ‬غير‭ ‬الغربية،‭ ‬أو‭ ‬تقلل‭ ‬من‭ ‬تأثيرها،‭ ‬أو‭ ‬تقدمها‭ ‬بوصفها‭ ‬خلافية‭ ‬وغير‭ ‬مؤكدة‭. ‬ويُعد‭ ‬علم‭ ‬البلاغة‭ ‬حالة‭ ‬نموذجية‭ ‬لذلك،‭ ‬إذ‭ ‬اعتادت‭ ‬الكتب‭ ‬المؤرخة‭ ‬للبلاغة‭ ‬على‭ ‬مدار‭ ‬قرون‭ ‬طويلة‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬هذا‭ ‬العلم‭ ‬بوصفه‭ ‬منجزًا‭ ‬غربيًا‭ ‬حصريًا‭. ‬ولم‭ ‬تتم‭ ‬مراجعة‭ ‬هذه‭ ‬الكتابات‭ ‬إلا‭ ‬منذ‭ ‬عقود‭ ‬قليلة‭.‬

تُعد‭ ‬كتابات‭ ‬جورج‭ ‬كينيدي‭ ‬في‭ ‬تسعينيات‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬أول‭ ‬محاولة‭ ‬شاملة‭ ‬تُعيد‭ ‬النظر‭ ‬في‭ ‬مسلَّمة‭ ‬أن‭ ‬البلاغة‭ ‬نتاج‭ ‬غربي‭ ‬حصريًا‭. ‬ففي‭ ‬كتابه‭ ‬الشهير‭ ‬الذي‭ ‬نشرته‭ ‬جامعة‭ ‬كمبريدج‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬البلاغة‭ ‬المقارنة‭: ‬مدخل‭ ‬تاريخي‭ ‬عبر‭ ‬ثقافي‮»‬‭ (‬1998‭) ‬يقدم‭ ‬تأريخًا‭ ‬مغايرًا‭ ‬للبلاغة،‭ ‬يُدرج‭ ‬فيه‭ ‬إسهامات‭ ‬الحضارات‭ ‬المصرية‭ ‬والصينية‭ ‬والهندية‭ ‬القديمة‭ ‬على‭ ‬قدم‭ ‬المساواة‭ ‬مع‭ ‬إسهام‭ ‬الحضارة‭ ‬اليونانية‭ ‬في‭ ‬تأسيس‭ ‬البلاغة‭. ‬

وقد‭ ‬كان‭ ‬لكتابات‭ ‬كينيدي‭ ‬المرموقة‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬الدراسات‭ ‬البلاغية‭ ‬المعاصرة‭ ‬أثر‭ ‬طيب‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الكتابات‭ ‬اللاحقة،‭ ‬فقد‭ ‬تضمنت‭ ‬موسوعة‭ ‬البلاغة‭ ‬التي‭ ‬أصدرتها‭ ‬جامعة‭ ‬أكسفورد‭ ‬عام‭ ‬2001‭ ‬مداخل‭ ‬عن‭ ‬البلاغة‭ ‬العربية‭ ‬والإفريقية‭ ‬والصينية‭ ‬والهندية‭ ‬والسلافية‭ ‬وغيرها‭. ‬ومع‭ ‬ذلك،‭ ‬فإن‭ ‬مساحة‭ ‬هذه‭ ‬المداخل‭ ‬كانت‭ ‬محدودة‭ ‬للغاية،‭ ‬مقارنة‭ ‬بالمساحة‭ ‬الهائلة‭ ‬التي‭ ‬شغلتها‭ ‬مداخل‭ ‬البلاغة‭ ‬الغربية،‭ ‬حيث‭ ‬لا‭ ‬تكاد‭ ‬نسبتها‭ ‬تزيد‭ ‬على‭ ‬سبعة‭ ‬في‭ ‬المائة‭ ‬من‭ ‬حجم‭ ‬الموسوعة‭. ‬

 

بلاغة‭ ‬الشرق‭ ‬وبلاغة‭ ‬الغرب

ترجع‭ ‬أهمية‭ ‬دراسة‭ ‬المبادئ‭ ‬والتعاليم‭ ‬البلاغية‭ ‬في‭ ‬الحضارات‭ ‬الشرقية‭ ‬القديمة‭ ‬إلى‭ ‬الرؤى‭ ‬المغايرة‭ ‬التي‭ ‬تقدمها‭ ‬لنا،‭ ‬حين‭ ‬نقارنها‭ ‬بالبلاغة‭ ‬الغربية‭. ‬وعلى‭ ‬مدار‭ ‬ما‭ ‬تبقى‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬المقال،‭ ‬سوف‭ ‬أقدم‭ ‬بعض‭ ‬الأمثلة‭ ‬على‭ ‬التباين‭ ‬الشديد‭ ‬في‭ ‬الأفكار‭ ‬والممارسات‭ ‬البلاغية‭ ‬في‭ ‬حضارتين‭ ‬قديمتين،‭ ‬إحداهما‭ ‬شرقية‭ ‬والأخرى‭ ‬غربية،‭ ‬هما‭ ‬الحضارتان‭ ‬المصرية‭ ‬واليونانية‭. ‬وسوف‭ ‬أعتمد‭ ‬على‭ ‬دراسات‭ ‬علماء‭ ‬المصريات‭ ‬المهتمين‭ ‬بالأدب‭ ‬والبلاغة،‭ ‬أمثال‭ ‬ميريام‭ ‬ليشثم‭ ‬وميشيل‭ ‬فوكس‭ ‬وباربرا‭ ‬ليسيكو‭ ‬وديفيد‭ ‬هوتو‭ ‬وآخرين‭. ‬وقد‭ ‬توصل‭ ‬هؤلاء‭ ‬الباحثون‭ ‬إلى‭ ‬أفكارهم‭ ‬عن‭ ‬البلاغة‭ ‬المصرية‭ ‬القديمة‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تحليل‭ ‬كتابات‭ ‬هيروغليفية‭ ‬عديدة‭ ‬تنتمي‭ ‬إلى‭ ‬الأدب‭ ‬والنصوص‭ ‬المقدسة‭ ‬وتسجيلات‭ ‬الوقائع‭ ‬اليومية،‭ ‬أشهرها‭ ‬حكاية‭ ‬الفلاح‭ ‬الفصيح،‭ ‬وتعاليم‭ ‬بتاح‭ ‬حوتب،‭ ‬التي‭ ‬يُنظر‭ ‬إليها‭ ‬بوصفها‭ ‬أول‭ ‬كتاب‭ ‬تعليمي‭ ‬بلاغي‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭.‬

 

الاحتفاء‭ ‬ببلاغة‭ ‬الحق‭ ‬

في‭ ‬مقابل‭ ‬تقنين‭ ‬التلاعب

استندت‭ ‬البلاغة‭ ‬المصرية‭ ‬القديمة‭ ‬إلى‭ ‬أسس‭ ‬أخلاقية‭ ‬في‭ ‬تقييماتها‭ ‬للكلام،‭  ‬فالقول‭ ‬الصادق،‭ ‬الذي‭ ‬يتحرى‭ ‬الحق‭ ‬والعدل‭ ‬هو‭ ‬الأكثر‭ ‬بيانًا‭ ‬والأعلى‭ ‬بلاغة‭. ‬وعلى‭ ‬خلاف‭ ‬ذلك،‭ ‬فإن‭ ‬البلاغة‭ ‬اليونانية‭ ‬احتفت‭ ‬بالقدرات‭ ‬التي‭ ‬تمكَّن‭ ‬الشخص‭ ‬من‭ ‬الدفاع‭ ‬عن‭ ‬الآراء‭ ‬أو‭ ‬المواقف‭ ‬الضعيفة‭ ‬وغير‭ ‬المحبوبة،‭ ‬والمناهضة‭ ‬للعرف‭ ‬العام‭ ‬أو‭ ‬الأخلاقيات‭ ‬السائدة‭. ‬وكانت‭ ‬ممارسات‭ ‬السوفسطائيين‭ ‬اليونانيين‭ - ‬على‭ ‬وجه‭ ‬التحديد‭ - ‬تتضمن‭ ‬دروسًا‭ ‬وتدريبات‭ ‬هدفها‭ ‬تمكين‭ ‬دارس‭ ‬البلاغة‭ ‬من‭ ‬الدفاع‭ ‬عن‭ ‬أي‭ ‬أفكار‭ ‬أو‭ ‬آراء‭ ‬أو‭ ‬ميول‭ ‬أو‭ ‬توجهات‭ ‬أو‭ ‬معتقدات،‭ ‬بغض‭ ‬النظر‭ ‬عن‭ ‬درجة‭ ‬أخلاقيتها‭ ‬أو‭ ‬تماشيها‭ ‬مع‭ ‬القيم‭ ‬السائدة‭. ‬كما‭ ‬تضمنت‭ ‬الدروس‭ ‬البلاغية‭ ‬اليونانية‭ ‬ممارسات،‭ ‬مثل‭ ‬الدفاع‭ ‬عن‭ ‬الشيء‭ ‬ونقيضه،‭ ‬ومهارات‭ ‬التحول‭ ‬في‭ ‬المواقف‭ ‬المتباينة‭ ‬بحسب‭ ‬المصلحة،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬ذلك،‭ ‬كان‭ ‬شباب‭ ‬أثينا‭ ‬يتعلمون‭ ‬وسائل‭ ‬التلاعب‭ ‬بالجمهور،‭ ‬والسيطرة‭ ‬على‭ ‬مشاعره،‭ ‬والتحكم‭ ‬في‭ ‬نفسيته،‭ ‬وتوجيهه‭ ‬لخدمة‭ ‬مصالحهم‭. ‬وتم‭ ‬تصوير‭ ‬الكلام‭ ‬بوصفه‭ ‬حربًا،‭ ‬يُسمح‭ ‬للمتكلم‭ ‬فيها‭ ‬أن‭ ‬يستخدم‭ ‬كل‭ ‬الأدوات‭ ‬المتاحة،‭ ‬بغض‭ ‬النظر‭ ‬عن‭ ‬أخلاقيتها‭.‬

لقد‭ ‬كانت‭ ‬هذه‭ ‬الممارسات‭ ‬وراء‭ ‬النقد‭ ‬العنيف‭ ‬الذي‭ ‬شنه‭ ‬أفلاطون‭ ‬على‭ ‬الممارسات‭ ‬البلاغية‭ ‬اليونانية،‭ ‬مفنِّداً‭ ‬انتهاكها‭ ‬لمبادئ‭ ‬الخير‭ ‬والحق‭ ‬والعدل‭. ‬غير‭ ‬أن‭ ‬البديل‭ ‬الذي‭ ‬اقترحه‭ ‬أفلاطون‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يسير‭ ‬في‭ ‬اتجاه‭ ‬بلاغة‭ ‬أخلاقية‭ ‬أقل‭ ‬تلاعبًا،‭ ‬بل‭ ‬سعى‭ ‬بدلا‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬القضاء‭ ‬على‭ ‬البلاغة‭ ‬ذاتها،‭ ‬ووضع‭ ‬الجدل‭ ‬الأكاديمي‭ ‬المتخصص‭ ‬مكانها،‭ ‬فطرد‭ ‬الخطباء‭ ‬من‭ ‬جمهوريته،‭ ‬التي‭ ‬وضع‭ ‬الفلاسفة‭ ‬على‭ ‬عرشها‭. ‬وعلى‭ ‬خلاف،‭ ‬ذلك‭ ‬فإن‭ ‬البلاغة‭ ‬المصرية‭ ‬القديمة،‭ ‬دافعت‭ ‬عن‭ ‬بلاغة‭ ‬تكون‭ ‬الأخلاق‭ ‬قاعدتها‭ ‬الأساسية،‭ ‬وبحسب‭ ‬ميشيل‭ ‬فوكس،‭ ‬فإن‭ ‬‮«‬الأخلاق‭ ‬والقيم‭ ‬هي‭ ‬الطريقة‭ ‬الأساسية‭ ‬للحجاج‭ ‬في‭ ‬البلاغة‭ ‬المصرية‮»‬‭. ‬ومع‭ ‬ذلك،‭ ‬فإن‭ ‬الربط‭ ‬بين‭ ‬البلاغة‭ ‬والأخلاق‭ (‬السائدة‭) ‬كانت‭ ‬له‭ ‬تأثيرات‭ ‬جانبية‭ ‬سلبية‭ ‬لعل‭ ‬أبرزها‭ ‬تسخير‭ ‬البلاغة‭ ‬للحفاظ‭ ‬على‭ ‬الوضع‭ ‬القائم‭.‬

 

بلاغة‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬الوضع‭ ‬القائم‭ ‬

في‭ ‬مقابل‭ ‬بلاغة‭ ‬التغيير

يشير‭ ‬دارسو‭ ‬البلاغة‭ ‬المصرية‭ ‬القديمة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬التعاليم‭ ‬البلاغية‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭ ‬كانت‭ ‬تربط‭ ‬البلاغة‭ ‬بالسلوك‭ ‬القويم‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭. ‬فالشخص‭ ‬البليغ‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬يحرص‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬كلامه‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬مواطنًا‭ ‬صالحًا‭. ‬وفي‭ ‬ظل‭ ‬مجتمع‭ ‬أبوي‭ ‬طبقي‭ ‬يقوم‭ ‬على‭ ‬التقليد‭ ‬وتفاوت‭ ‬السلطة،‭ ‬فإن‭ ‬صلاح‭ ‬المواطن‭ ‬كان‭ ‬يعني‭ ‬بالأساس‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬الوضع‭ ‬القائم،‭ ‬واحترامه‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬التقديس‭. ‬بصياغة‭ ‬أخرى،‭ ‬كان‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬علاقات‭ ‬السلطة‭ ‬القائمة‭ ‬وترسيخها‭ ‬عبر‭ ‬الكلام،‭ ‬هو‭ ‬البوابة‭ ‬الأساسية‭ ‬للوصف‭ ‬بالبلاغة‭. ‬ويتجلى‭ ‬هذا‭ ‬المبدأ‭ ‬بوضوح‭ ‬في‭ ‬التعاليم‭ ‬التي‭ ‬تأمر‭ ‬المتكلمين‭ ‬بمراعاة‭ ‬مكانة‭ ‬المخاطَب‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬واستخدام‭ ‬ألقاب‭ ‬التبجيل،‭ ‬وعلامات‭ ‬الخضوع‭ ‬غير‭ ‬اللغوية‭ ‬أثناء‭ ‬الحديث‭ ‬مع‭ ‬ذوي‭ ‬السلطة،‭ ‬مثل‭ ‬انحناء‭ ‬القامة‭ ‬وخفوت‭ ‬الصوت،‭ ‬والإشارات‭ ‬الحركية‭ ‬المحدودة‭.‬

على‭ ‬خلاف‭ ‬ذلك،‭ ‬فإن‭ ‬البلاغة‭ ‬اليونانية‭ ‬كانت‭ ‬ترسخ‭ ‬فكرة‭ ‬دور‭ ‬الكلام‭ ‬في‭ ‬مقاومة‭ ‬الوضع‭ ‬القائم‭ ‬وتغييره‭ ‬لمصلحة‭ ‬المتكلمين‭. ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬البلاغة‭ ‬وسيلة‭ ‬للترقي‭ ‬المجتمعي،‭ ‬ووسيلة‭ ‬للتنازع‭ ‬على‭ ‬السلطة‭ ‬مع‭ ‬من‭ ‬يمتلكونها‭ ‬أو‭ ‬يطالبون‭ ‬بها‭. ‬ويمكن‭ ‬أن‭ ‬نفهم‭ ‬سر‭ ‬إقبال‭ ‬شباب‭ ‬أثينا‭ ‬على‭ ‬دروس‭ ‬تعليم‭ ‬البلاغة‭ - ‬رغم‭ ‬تكلفتها‭ ‬الباهظة‭ ‬بمعايير‭ ‬ذلك‭ ‬الزمان‭- ‬إذا‭ ‬وضعنا‭ ‬في‭ ‬الاعتبار‭ ‬حقيقة‭ ‬أن‭ ‬البلاغة‭ ‬كانت‭ ‬مفتاحًا‭ ‬للسلطة،‭ ‬أي‭ ‬أنها‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬ذاتها‭ ‬أداة‭ ‬لخلق‭ ‬علاقات‭ ‬سلطة‭ ‬جديدة‭. ‬وهكذا‭ ‬يتجلى‭ ‬التناقض‭ ‬بين‭ ‬المجتمعين‭ ‬المصري‭ ‬واليوناني‭ ‬القديمين،‭ ‬ففي‭ ‬حين‭ ‬كانت‭ ‬البلاغة‭ ‬المصرية‭ ‬أداة‭ ‬لإنتاج‭ ‬واستمرار‭ ‬علاقات‭ ‬السلطة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والسياسية‭ ‬المجحفة،‭ ‬كانت‭ ‬البلاغة‭ ‬اليونانية‭ ‬أداة‭ ‬لتغيير‭ ‬علاقات‭ ‬السلطة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والسياسية‭. ‬وبالتأكيد،‭ ‬فإن‭ ‬استمرار‭ ‬نظام‭ ‬الحكم‭ ‬الفرعوني‭ ‬المصري‭ ‬على‭ ‬مدار‭ ‬آلاف‭ ‬السنين،‭ ‬في‭ ‬مقابل‭ ‬التقلبات‭ ‬والتغيرات‭ ‬الجذرية‭ ‬في‭ ‬أنظمة‭ ‬الحكم‭ ‬اليونانية‭ ‬في‭ ‬مدى‭ ‬زمني‭ ‬أقل‭ ‬من‭ ‬قرنين،‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬فهمه‭ ‬بمعزل‭ ‬عن‭ ‬البحث‭ ‬في‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬البلاغة‭ ‬والسلطة‭. ‬وهي‭ ‬علاقة‭ ‬كان‭ ‬أبرز‭ ‬تجلياتها‭ ‬الاحتفاء‭ ‬بالصمت‭ ‬الحكيم‭.‬

 

بلاغة‭ ‬الصمت‭ ‬في‭ ‬مقابل‭ ‬بلاغة‭ ‬الكلام

لقد‭ ‬احتفت‭ ‬البلاغة‭ ‬اليونانية‭ ‬بالبراعة‭ ‬في‭ ‬الكلام،‭ ‬والقدرة‭ ‬على‭ ‬إنتاج‭ ‬خطاب‭ ‬مؤثر‭ ‬مقنع‭. ‬وفي‭ ‬ظل‭ ‬ديمقراطية‭ ‬أثينا،‭ ‬كانت‭ ‬القدرات‭ ‬البلاغية‭ ‬للمواطن‭ ‬الأثيني‭ ‬متطلبًا‭ ‬أساسيًا‭ ‬من‭ ‬متطلبات‭ ‬الترقي‭ ‬السياسي‭ ‬والاجتماعي‭. ‬في‭ ‬ظل‭ ‬هذا‭ ‬الولع‭ ‬بالبيان،‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬الطبيعي‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬العبارة‭ ‬الأكثر‭ ‬دلالة‭ ‬على‭ ‬دور‭ ‬الكلام‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬هي‭ ‬عبارة‭ ‬‮«‬تكلم‭ ‬حتى‭ ‬أراك‮»‬،‭ ‬التي‭ ‬ينسبها‭ ‬القدماء‭ ‬إلى‭ ‬الفيلسوف‭ ‬سقراط‭. ‬وهي‭ ‬عبارة‭ ‬تجعل‭ ‬اعتراف‭ ‬الآخرين‭ ‬بوجود‭ ‬المرء‭ ‬مرهونًا‭ ‬بكلامه،‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬إيمان‭ ‬بأن‭ ‬مَنْ‭ ‬لا‭ ‬يُرى‭ (‬أي‭ ‬يتكلم‭)‬،‭ ‬ربما‭ ‬لا‭ ‬يوجد‭.‬

لم‭ ‬تكن‭ ‬هذه‭ ‬هي‭ ‬الحال‭ ‬في‭ ‬الحضارة‭ ‬المصرية‭ ‬القديمة‭. ‬فالمصريون‭ ‬القدماء‭ ‬قدسوا‭ ‬الصمت،‭ ‬وجعلوا‭ ‬من‭ ‬الكلام‭ ‬مغامرة‭ ‬غير‭ ‬محسوبة‭ ‬العواقب‭. ‬ولا‭ ‬تزال‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الأمثال‭ ‬الشعبية‭ ‬التي‭ ‬تجري‭ ‬على‭ ‬ألسنة‭ ‬المصريين‭ ‬ترسخ‭ ‬هذا‭ ‬التقدير‭ ‬الاستثنائي‭ ‬للصمت،‭ ‬مثل‭ ‬‮«‬لسانك‭ ‬حصانك،‭ ‬إن‭ ‬صنته‭ ‬صانك،‭ ‬وإن‭ ‬هنته‭ ‬هانك‮»‬،‭ ‬و«إن‭ ‬كان‭ ‬الكلام‭ ‬من‭ ‬فضة‭ ‬يبقى‭ ‬السكوت‭ ‬من‭ ‬ذهب‮»‬‭.‬

هذا‭ ‬التقدير‭ ‬الاستثنائي‭ ‬للصمت‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يرجع‭ ‬إلى‭ ‬الضوابط‭ ‬الاجتماعية‭ ‬الصارمة‭ ‬التي‭ ‬خضع‭ ‬لها‭ ‬المصريون،‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬مجتمع‭ ‬استبدادي،‭ ‬يرسِّخ‭ ‬علاقات‭ ‬سلطة‭ ‬ظالمة،‭ ‬ويضفي‭ ‬الشرعية‭ ‬عليها‭ ‬بواسطة‭ ‬تقديس‭ ‬الصمت‭. ‬وبذلك‭ ‬يتجنب‭ ‬النظام‭ ‬الاجتماعي‭ ‬القار‭ ‬التعرض‭ ‬للتحدي‭ ‬أو‭ ‬المساءلة‭ ‬أو‭ ‬النقد،‭ ‬ويكتسب‭ ‬قوة‭ ‬رمزية‭ ‬تمكنه‭ ‬من‭ ‬الاستمرار‭. ‬وقد‭ ‬تعزز‭ ‬تغلغل‭ ‬تقديس‭ ‬الصمت‭ ‬بسبب‭ ‬حجب‭ ‬المصريين‭ ‬العاديين‭ ‬عن‭ ‬المشاركة‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬العامة،‭ ‬وانحسار‭ ‬البلاغة‭ ‬في‭ ‬سياقات‭ ‬شخصية‭ ‬أو‭ ‬اجتماعية‭ ‬محدودة،‭ ‬إضافة‭ ‬بالطبع‭ ‬إلى‭ ‬سياق‭ ‬الشكوى‭ ‬والتقاضي‭ ‬الذي‭ ‬يمثله‭ ‬نص‭ ‬‮«‬شكاوى‭ ‬الفلاح‭ ‬الفصيح‮»‬‭. ‬

إن‭ ‬المقارنة‭ ‬التفصيلية‭ ‬بين‭ ‬البلاغات‭ ‬القديمة‭ ‬تكشف‭ ‬عن‭ ‬أهمية‭ ‬مراجعة‭ ‬الروايات‭ ‬المستقرة‭ ‬حول‭ ‬نشأة‭ ‬العلم‭. ‬كما‭ ‬تبرز‭ ‬ضرورة‭ ‬بلورة‭ ‬الإسهامات‭ ‬المهمة‭ ‬للحضارات‭ ‬القديمة‭ ‬التي‭ ‬تم‭ ‬تهميشها‭ ‬لأكثر‭ ‬من‭ ‬نصف‭ ‬ألفية‭ ‬من‭ ‬الزمان،‭ ‬انفردت‭ ‬فيها‭ ‬أوربا‭ ‬وورثتُها‭ ‬بكتابة‭ ‬تاريخ‭ ‬العلوم‭. ‬والمفارقة‭ ‬المؤلمة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬حاضرة‭ ‬هي‭ ‬أن‭ ‬عملية‭ ‬تصحيح‭ ‬ومراجعة‭ ‬التـــاريخ‭ ‬السائد‭ ‬للعلم،‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬يتصدى‭ ‬لها‭ - ‬غالبًا‭ - ‬باحثون‭ ‬غربيــــون،‭ ‬إذ‭ ‬إن‭ ‬هذه‭ ‬المهمة‭ ‬تقع‭ ‬بالأساس‭ ‬على‭ ‬عاتق‭ ‬الباحثين‭ ‬المنتمين‭ ‬إلى‭ ‬الحضارات‭ ‬الشرقية‭. ‬والأمل‭ ‬معقود‭ ‬على‭ ‬الأجيال‭ ‬الشابة‭ ‬من‭ ‬الباحثين‭ ‬ممن‭ ‬يجدر‭ ‬بهم‭ ‬أن‭ ‬يعملوا‭ ‬على‭ ‬إنجاز‭ ‬تاريخ‭ ‬غير‭ ‬متحيز‭ ‬للعلوم‭ .