الموجة الجديدة في السينما الفرنسية

ظهر مصطلح «الموجة الجديدة الفرنسية» La Nouvelle Vague للمرة الأولى في أواخر خمسينيات القرن الماضي، وبلغت أفلام تلك الموجة ذروة ازدهارها بين عامي 1958 و1964م، واستمرت في التصاعد والنمو حتى عام 1973م. «ليست الموجة الجديدة حركة، ولا مدرسة، ولا جماعة، بل هي سمة مميزة»، هذا ما كتبه فرانسوا تروفو، أحد أبرز مخرجي الموجة الجديدة في مجلة «دفاتر السينما».
قبل ذلك بحوالي عقد من الزمان، كتب المبشر الأول بظهور هذه السمة المميزة ذوبالأحرى السمات المميزة ذ ألكسندر آستروك في مقاله امولد حركة طليعية جديدة... ستيللو الكاميراب (1948م)، ما يشير صراحة إلى أن الظهور المرتقب لأولئك المخرجين الجدد هو نتيجة الطموح إلى الخروج من إسار الصبغة التقليدية التي هيمنت على السينما الفرنسية حتى ستينيات القرن الماضي، والتي كان طابعها السائد الاعتماد على الروائيين المشاهير، بمعنى أن المخرجين الجدد صاروا يمارسون كتابة أفلامهم بأنفسهم عن طريق الصورة السينمائية، لا عبر الصيغة الأدبية، إذ إن الحوار صار لا يشغل إلا جزءاً يسيراً جداً في السيناريو، بل إن سيناريو بعض الأفلام الروائية الطويلة لم يعد يتجاوز بكثير عشر صفحات.
اتجاه طليعي جديد
في المقابل، قد يبدو غريباً للوهلة الأولى أن هذه االموجة الجديدةب انطلقت من مجموعة من النقاد السينمائيين عملوا وكتبوا في مجلة ادفاتر السينماب التي أسسها الناقد المنظّر أندريه بازان، منهم فرانسوا تروفو، إريك رومر، كلود شابرول وجاك ريفيت، ثبتوا فيه سلطتهم ككتّاب/ مخرجين في آن معاً. هؤلاء وسواهم بشّروا باتجاه طليعي جديد ومختلف عن المألوف والسائد في السينما التقليدية في فرنسا، مستلهمين أعمال رواد أنجلوساكسونيين، مثل تشارلي تشابلن، جون فورد، ألفريد هتشكوك، أورسون وِيلز، نيكولاس راي وهوارد هوكس، مبشرين بنمط سينمائي أقرب ما يكون إلى االسينما المستقلةب في الولايات المتحدة وبريطانيا، خاصة أنه اضطر إلى الاعتماد على ميزانيات إنتاج متواضعة، إن لم نقل هزيلة، وعلى سلطة مطلقة للمخرج/ المؤلف بدل اعتماد صناعة السينما على طاقم جماعي، حيث إن مخرجي الموجة الجديدة صاروا يكتبون أفلامهم بأنفسهم، أو يشاركون بكتابتها على أبعد تقدير.
رؤية بعين الخيال
اقتصر مديح أولئك المخرجين الجدد على جان رينوار وجان فيغو فحسب من الجيل السابق لهم، وربما يذكر عشاق السينما الجملة المشهورة لرينوار: اانتهى الفيلم، فلنبدأ التصويرب، إذ إنها جملة تدل على أن المخرج المبدع هو من يرى فيلمه بعين الخيال قبل أن يشرع في تصويره، وهو مفهوم لقي ترحيباً بالغاً من أولئك المخرجين الشباب آنذاك، الذين احتفوا بأهمية الصورة، لا الكلام. يذكر أنه عندما أخرج جان - لوك غودار فيلمه اعلى آخر نفسب، أشاد النقاد بالأداء الواقعي العفوي للنجم الشاب آنذاك جان بول بلموندو، لكن بلموندو علّق متهكماً: العل السبب كان يكمن في اعتقاده الضمني في أثناء التصوير أن الفيلم لن يرى النور أبداًب. والغريب أن بلموندو لمع بعد ذلك في نمطين متوازيين من السينما، أحدهما تجاري بحت مثل اأزواج العام الثانيب وارجل الريوب، وثانيهما فني مثل فيلم غودار ابييرو المجنونب، محققاً النجاح في كليهما. ولعل إحدى مقولات غودار تشي بجوهر تفكير مخرجي الموجة الجديدة النابع من رصد إحباطات الإنسان وخيبات أمله وانعدام مرجعياته منذ ذلك العصر، حين قال: االانتحار هو آخر الحريات المتاحة للإنسان في عصرناب.
لكن في المقابل، فإن عديداً من أولئك المخرجين الفرنسيين صوروا الحب كخلاص وحيد من الموت والنسيان، وهو ما قرّبهم من المدرسة الوجودية.
النزعة الذاتية
هناك سمات عديدة طبعت أفلام االموجة الجديدةب، برغم تعدد إسهامات المخرجين وتفاوتها بين النجاح والفشل. نذكر من تلك السمات النزعة الذاتية الانطباعية في الرؤية والتصور، اللجوء إلى تقنية اللقطات البعيدة وتصوير مشاهد بالغة الطول، الخروج بالكاميرا من الاستديوهات إلى مواقع التصوير الحقيقية، الاعتماد على الإضاءة الطبيعية، استخدام زوايا غير مألوفة للتصوير، مثل تصوير حوار بين شخصيتين من وراء ظهريهما على سبيل المثال، اللجوء إلى القطع المونتاجي الحاد في نقلات مفاجئة في المكان والزمان، عدم تهيب استخدام الاستعادة الذهنية - أي الـ افلاش باكب - في أفلامهم، وبالأخص تجسيد حياة طبيعية لشخصيات شابة تعاني الفوضوية والإحباط والنقمة، على نقيض الصورة المألوفة للشخصيات الأدبية الرومانسية في السينما الفرنسية التقليدية. أضفت هذه التقنيات - برغم تواضع بعضها وفقر أدواته - طابعاً طازجاً ونضراً على أفلام االموجة الجديدةب، حيث غدت أفلامهم أشبه بالأيقونات المقدسة، وألهمت المزيد من المخرجين والأدباء أيضاً في مختلف أرجاء العالم وثقافاته المتباينة، خاصةً في أوربا، حيث استلهمت من االواقعية الجديدة في السينما الإيطاليةب النزعة التسجيلية في معالجة الموضوعات فنياً، وإن خمد بريقها بعد بضعة عقود، وأصبحت قيمتها مقتصرة على الريادة الطليعية. سرعان ما تجاوز تعبير االفيلم- الستيللوب الاقتصار على كتابة الفيلم بالكاميرا كبديل عن الطابع الأدبي القديم السائد، بل تعداه إلى تأثير سينمائي على الأدب نفسه لدى الكتّاب الشباب في القصة القصيرة والمسرح من جيل السبعينيات على وجه التحديد، خاصةً أنهما الجنسان الأدبيان الوحيدان اللذان يتطلبان الكثافة والإيجاز والتركيز.
اختلاط الأزمنة
هكذا، بدلاً من تجنب انصباغ السينما بالصبغة الأدبية، انصبغ الأدب الجديد بالخيال السينمائي ذي الطابع البصري، وأصبح اختلاط الأزمنة في الحبكة، وتجسيد شخصيات شبان محبطة تطلب التعويض العاطفي، سمات مألوفة في الأدب الجديد، كما في سينما االموجة الجديدةب.
بالتالي، فإن عديداً من أدباء الطليعة في مصر وسورية في أواخر ستينيات القرن الماضي عكسوا في قصصهم ومسرحياتهم هذا التأثير السينمائي، وخصوصاً أن تلك الموجة تحولت من الفن إلى ثورة اجتماعية/ سياسية في عام 1968م، بعدما جرت إزاحة مدير السينماتيك الفرنسي هنري لانغلوا عن منصبه، فكانت تلك هي الشرارة التي جعلت نيران اثورة الشبابب تهب من باريس لتجتاح فرنسا بأسرها، ولتخلف آثاراً لا تمحى على الثقافة والفنون. في الواقع، تمركز مخرجو االموجة الجديدة الفرنسيةب في باريس واندمجوا في أجوائها الثقافية الثورية في تلك الحقبة المشوبة بالحماسة والرغبة في التغيير.
نذكر بين أشهر الأفلام الرائدة التي رسمت معالم وسمات االموجة الجديدةب: اسيرج الجميلب (1958) إخراج كلود شابرول، من بطولة جان - كلود بريالي، واالأربعمائة ضربةب (1959) إخراج فرانسوا تروفو، واجول وجيمب (1962)، وكلاهما من بطولة جان مورو، واعلى آخر نفسب (1960) من بطولة جان - بول بلموندو وجين سيبرغ، وابييرو المجنونب (1965) إخراج جان - لوك غودار، من بطولة جان - بول بلموندو وآنا كارينا، اليلتي عند مودب (1969) واركبة كليرب (1970) إخراج إريك رومر.
مكانة رفيعة
لعل الغريب والمفاجئ حتى لصانعي تلك الأفلام أنها حظيت بشهرة بوأت السينما الفرنسية مكانة رفيعة عالمياً، حتى في الولايات المتحدة نفسها.
على سبيل المثال، نجح فيلم ارجل وامرأةب (1966)، من إخراج كلود لولوش، وبطولة آنوك إيميه، وجان - لوي ترانتينيان، نجاحاً مدوياً وظلت موسيقاه تتردد في الذاكرة حتى الآن، وكذلك نجح فيلما آلان رينيه اهيروشيما يا حبيب (1959) واالعام الفائت في مارينبادب (1961)، وفيلما جاك جيمي امظلات شيربورغب (1964) من بطولة كاترين دونوف ومارك ميشيل، والولاب (1961) من بطولة آنوك إيميه ومارك ميشيل، وفيلم االمخلوقاتب (1966) من إخراج آنييس فاردا، وبطولة كاترين دونوف، وميشيل بيكولي. ولايزال عشاق السينما يذكرون الأثر العميق الذي تركه فيلم لولوش ارجل وامرأةب على جمهور الشباب المثقف في دمشق، حين افتتح به االنادي السينمائيب في عام 1967، فقد رسم تغييراً غير متوقع في أذهانهم عن شكل السينما الحديثة، من سماته الاحتفاء بالبساطة المتناهية وتحريض الخيال المتمرد لجيل الشباب المحبط والغاضب.
سمات فريدة
ولعل سمة الانتقال عبر الأزمان جاءت إلى االموجة الجديدةب من مدرسة اتيار الوعيب الأدبية، التي تألق مارسيل بروست فيها عبر روايته الضخمة االزمن الضائعب، إلى جانب الروائيين البريطانيين فرجينيا وولف وجيمس جويس.
هذه الأفلام وعديد سواها مثال لتجاوز االموجة الجديدةب المألوف والسائد، وفي الوقت نفسه تكريس للسمات الفريدة للتيار الذي بدأ خجولاً وفقيراً بشكل متزايد النجاح جماهيرياً على مستوى العالم أجمع.
لكن، والحق يقال، إن هذه الأفلام لم يكن ليقيض لها أن تظهر لولا الأسس التي غرستها االموجة الجديدةب في الذوق العام، فجعلته أكثر تقبلاً لأفلام من نمط مختلف ومبتكر.
في الواقع، لم تكن معظم الأفلام الأولى لمخرجي االموجة الجديدةب أفلاماً جماهيرية، لأنها نحت إلى كسر النمطي والسائد والمألوف، لكن تلك الأفلام اللاحقة بدأت تحرز تدريجياً تصاعداً في جماهيريتها، وخاصةً أنها عبرت عن الطابع الفلسفي الوجودي للمفكر جان بول سارتر وزميلته سيمون دو بوفوار، واتخذت قصص الحب مهرباً وخلاصاً من الإحباط، والحرب والجريمة محورين لها في كثير من الأحيان، وإن كان أبطالها أحياناً يقعون في ردود فعل عنيفة ودامية ترتد بالأذى حتى على أنفسهم.
إنها السمة النفسانية المميزة فرنسياً، ومن ثم عالمياً، لجيل أواخر الستينيات وحقبة السبعينيات بالكامل، التي انعكست على معظم الأدباء الشباب عموماً وبعض السينمائيين خصوصاً، في عالمنا العربي، وتحديداً في مصر وسورية ولبنان .