الموجة الجديدة في السينما الفرنسية

الموجة الجديدة في السينما الفرنسية

ظهر‭ ‬مصطلح‭ ‬‮«‬الموجة‭ ‬الجديدة‭ ‬الفرنسية‮»‬‭ ‬La‭ ‬Nouvelle‭ ‬Vague‭ ‬للمرة‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬أواخر‭ ‬خمسينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬وبلغت‭ ‬أفلام‭ ‬تلك‭ ‬الموجة‭ ‬ذروة‭ ‬ازدهارها‭ ‬بين‭ ‬عامي‭ ‬1958 و1964م،‭ ‬واستمرت‭ ‬في‭ ‬التصاعد‭ ‬والنمو‭ ‬حتى‭ ‬عام‭ ‬1973م‭. ‬‮«‬ليست‭ ‬الموجة‭ ‬الجديدة‭ ‬حركة،‭ ‬ولا‭ ‬مدرسة،‭ ‬ولا‭ ‬جماعة،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬سمة‭ ‬مميزة‮»‬،‭ ‬هذا‭ ‬ما‭ ‬كتبه‭ ‬فرانسوا‭ ‬تروفو،‭ ‬أحد‭ ‬أبرز‭ ‬مخرجي‭ ‬الموجة‭ ‬الجديدة‭ ‬في‭ ‬مجلة‭ ‬‮«‬دفاتر‭ ‬السينما‮»‬‭.‬

‭ ‬قبل‭ ‬ذلك‭ ‬بحوالي‭ ‬عقد‭ ‬من‭ ‬الزمان،‭ ‬كتب‭ ‬المبشر‭ ‬الأول‭ ‬بظهور‭ ‬هذه‭ ‬السمة‭ ‬المميزة‭ ‬ذوبالأحرى‭ ‬السمات‭ ‬المميزة‭ ‬ذ‭ ‬ألكسندر‭ ‬آستروك‭ ‬في‭ ‬مقاله‭ ‬امولد‭ ‬حركة‭ ‬طليعية‭ ‬جديدة‭... ‬ستيللو‭ ‬الكاميراب‭ (‬1948م‭)‬،‭ ‬ما‭ ‬يشير‭ ‬صراحة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬الظهور‭ ‬المرتقب‭ ‬لأولئك‭ ‬المخرجين‭ ‬الجدد‭ ‬هو‭ ‬نتيجة‭ ‬الطموح‭ ‬إلى‭ ‬الخروج‭ ‬من‭ ‬إسار‭ ‬الصبغة‭ ‬التقليدية‭ ‬التي‭ ‬هيمنت‭ ‬على‭ ‬السينما‭ ‬الفرنسية‭ ‬حتى‭ ‬ستينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬والتي‭ ‬كان‭ ‬طابعها‭ ‬السائد‭ ‬الاعتماد‭ ‬على‭ ‬الروائيين‭ ‬المشاهير،‭ ‬بمعنى‭ ‬أن‭ ‬المخرجين‭ ‬الجدد‭ ‬صاروا‭ ‬يمارسون‭ ‬كتابة‭ ‬أفلامهم‭ ‬بأنفسهم‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬الصورة‭ ‬السينمائية،‭ ‬لا‭ ‬عبر‭ ‬الصيغة‭ ‬الأدبية،‭ ‬إذ‭ ‬إن‭ ‬الحوار‭ ‬صار‭ ‬لا‭ ‬يشغل‭ ‬إلا‭ ‬جزءاً‭ ‬يسيراً‭ ‬جداً‭ ‬في‭ ‬السيناريو،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬سيناريو‭ ‬بعض‭ ‬الأفلام‭ ‬الروائية‭ ‬الطويلة‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬يتجاوز‭ ‬بكثير‭ ‬عشر‭ ‬صفحات‭.‬

 

اتجاه‭ ‬طليعي‭ ‬جديد

في‭ ‬المقابل،‭ ‬قد‭ ‬يبدو‭ ‬غريباً‭ ‬للوهلة‭ ‬الأولى‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬االموجة‭ ‬الجديدةب‭ ‬انطلقت‭ ‬من‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬النقاد‭ ‬السينمائيين‭ ‬عملوا‭ ‬وكتبوا‭ ‬في‭ ‬مجلة‭ ‬ادفاتر‭ ‬السينماب‭ ‬التي‭ ‬أسسها‭ ‬الناقد‭ ‬المنظّر‭ ‬أندريه‭ ‬بازان،‭ ‬منهم‭ ‬فرانسوا‭ ‬تروفو،‭ ‬إريك‭ ‬رومر،‭ ‬كلود‭ ‬شابرول‭ ‬وجاك‭ ‬ريفيت،‭ ‬ثبتوا‭ ‬فيه‭ ‬سلطتهم‭ ‬ككتّاب‭/ ‬مخرجين‭ ‬في‭ ‬آن‭ ‬معاً‭. ‬هؤلاء‭ ‬وسواهم‭ ‬بشّروا‭ ‬باتجاه‭ ‬طليعي‭ ‬جديد‭ ‬ومختلف‭ ‬عن‭ ‬المألوف‭ ‬والسائد‭ ‬في‭ ‬السينما‭ ‬التقليدية‭ ‬في‭ ‬فرنسا،‭ ‬مستلهمين‭ ‬أعمال‭ ‬رواد‭ ‬أنجلوساكسونيين،‭ ‬مثل‭ ‬تشارلي‭ ‬تشابلن،‭ ‬جون‭ ‬فورد،‭ ‬ألفريد‭ ‬هتشكوك،‭ ‬أورسون‭ ‬وِيلز،‭ ‬نيكولاس‭ ‬راي‭ ‬وهوارد‭ ‬هوكس،‭ ‬مبشرين‭ ‬بنمط‭ ‬سينمائي‭ ‬أقرب‭ ‬ما‭ ‬يكون‭ ‬إلى‭ ‬االسينما‭ ‬المستقلةب‭ ‬في‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬وبريطانيا،‭ ‬خاصة‭ ‬أنه‭ ‬اضطر‭ ‬إلى‭ ‬الاعتماد‭ ‬على‭ ‬ميزانيات‭ ‬إنتاج‭ ‬متواضعة،‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬نقل‭ ‬هزيلة،‭ ‬وعلى‭ ‬سلطة‭ ‬مطلقة‭ ‬للمخرج‭/ ‬المؤلف‭ ‬بدل‭ ‬اعتماد‭ ‬صناعة‭ ‬السينما‭ ‬على‭ ‬طاقم‭ ‬جماعي،‭ ‬حيث‭ ‬إن‭ ‬مخرجي‭ ‬الموجة‭ ‬الجديدة‭ ‬صاروا‭ ‬يكتبون‭ ‬أفلامهم‭ ‬بأنفسهم،‭ ‬أو‭ ‬يشاركون‭ ‬بكتابتها‭ ‬على‭ ‬أبعد‭ ‬تقدير‭.‬

 

رؤية‭ ‬بعين‭ ‬الخيال

اقتصر‭ ‬مديح‭ ‬أولئك‭ ‬المخرجين‭ ‬الجدد‭ ‬على‭ ‬جان‭ ‬رينوار‭ ‬وجان‭ ‬فيغو‭ ‬فحسب‭ ‬من‭ ‬الجيل‭ ‬السابق‭ ‬لهم،‭ ‬وربما‭ ‬يذكر‭ ‬عشاق‭ ‬السينما‭ ‬الجملة‭ ‬المشهورة‭ ‬لرينوار‭: ‬اانتهى‭ ‬الفيلم،‭ ‬فلنبدأ‭ ‬التصويرب،‭ ‬إذ‭ ‬إنها‭ ‬جملة‭ ‬تدل‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬المخرج‭ ‬المبدع‭ ‬هو‭ ‬من‭ ‬يرى‭ ‬فيلمه‭ ‬بعين‭ ‬الخيال‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يشرع‭ ‬في‭ ‬تصويره،‭ ‬وهو‭ ‬مفهوم‭ ‬لقي‭ ‬ترحيباً‭ ‬بالغاً‭ ‬من‭ ‬أولئك‭ ‬المخرجين‭ ‬الشباب‭ ‬آنذاك،‭ ‬الذين‭ ‬احتفوا‭ ‬بأهمية‭ ‬الصورة،‭ ‬لا‭ ‬الكلام‭. ‬يذكر‭ ‬أنه‭ ‬عندما‭ ‬أخرج‭ ‬جان‭ - ‬لوك‭ ‬غودار‭ ‬فيلمه‭ ‬اعلى‭ ‬آخر‭ ‬نفسب،‭ ‬أشاد‭ ‬النقاد‭ ‬بالأداء‭ ‬الواقعي‭ ‬العفوي‭ ‬للنجم‭ ‬الشاب‭ ‬آنذاك‭ ‬جان‭ ‬بول‭ ‬بلموندو،‭ ‬لكن‭ ‬بلموندو‭ ‬علّق‭ ‬متهكماً‭: ‬العل‭ ‬السبب‭ ‬كان‭ ‬يكمن‭ ‬في‭ ‬اعتقاده‭ ‬الضمني‭ ‬في‭ ‬أثناء‭ ‬التصوير‭ ‬أن‭ ‬الفيلم‭ ‬لن‭ ‬يرى‭ ‬النور‭ ‬أبداًب‭. ‬والغريب‭ ‬أن‭ ‬بلموندو‭ ‬لمع‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬نمطين‭ ‬متوازيين‭ ‬من‭ ‬السينما،‭ ‬أحدهما‭ ‬تجاري‭ ‬بحت‭ ‬مثل‭ ‬اأزواج‭ ‬العام‭ ‬الثانيب‭ ‬وارجل‭ ‬الريوب،‭ ‬وثانيهما‭ ‬فني‭ ‬مثل‭ ‬فيلم‭ ‬غودار‭ ‬ابييرو‭ ‬المجنونب،‭ ‬محققاً‭ ‬النجاح‭ ‬في‭ ‬كليهما‭. ‬ولعل‭ ‬إحدى‭ ‬مقولات‭ ‬غودار‭ ‬تشي‭ ‬بجوهر‭ ‬تفكير‭ ‬مخرجي‭ ‬الموجة‭ ‬الجديدة‭ ‬النابع‭ ‬من‭ ‬رصد‭ ‬إحباطات‭ ‬الإنسان‭ ‬وخيبات‭ ‬أمله‭ ‬وانعدام‭ ‬مرجعياته‭ ‬منذ‭ ‬ذلك‭ ‬العصر،‭ ‬حين‭ ‬قال‭: ‬االانتحار‭ ‬هو‭ ‬آخر‭ ‬الحريات‭ ‬المتاحة‭ ‬للإنسان‭ ‬في‭ ‬عصرناب‭. ‬

لكن‭ ‬في‭ ‬المقابل،‭ ‬فإن‭ ‬عديداً‭ ‬من‭ ‬أولئك‭ ‬المخرجين‭ ‬الفرنسيين‭ ‬صوروا‭ ‬الحب‭ ‬كخلاص‭ ‬وحيد‭ ‬من‭ ‬الموت‭ ‬والنسيان،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬قرّبهم‭ ‬من‭ ‬المدرسة‭ ‬الوجودية‭. ‬

 

النزعة‭ ‬الذاتية

هناك‭ ‬سمات‭ ‬عديدة‭ ‬طبعت‭ ‬أفلام‭ ‬االموجة‭ ‬الجديدةب،‭ ‬برغم‭ ‬تعدد‭ ‬إسهامات‭ ‬المخرجين‭ ‬وتفاوتها‭ ‬بين‭ ‬النجاح‭ ‬والفشل‭. ‬نذكر‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬السمات‭ ‬النزعة‭ ‬الذاتية‭ ‬الانطباعية‭ ‬في‭ ‬الرؤية‭ ‬والتصور،‭ ‬اللجوء‭ ‬إلى‭ ‬تقنية‭ ‬اللقطات‭ ‬البعيدة‭ ‬وتصوير‭ ‬مشاهد‭ ‬بالغة‭ ‬الطول،‭ ‬الخروج‭ ‬بالكاميرا‭ ‬من‭ ‬الاستديوهات‭ ‬إلى‭ ‬مواقع‭ ‬التصوير‭ ‬الحقيقية،‭ ‬الاعتماد‭ ‬على‭ ‬الإضاءة‭ ‬الطبيعية،‭ ‬استخدام‭ ‬زوايا‭ ‬غير‭ ‬مألوفة‭ ‬للتصوير،‭ ‬مثل‭ ‬تصوير‭ ‬حوار‭ ‬بين‭ ‬شخصيتين‭ ‬من‭ ‬وراء‭ ‬ظهريهما‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال،‭ ‬اللجوء‭ ‬إلى‭ ‬القطع‭ ‬المونتاجي‭ ‬الحاد‭ ‬في‭ ‬نقلات‭ ‬مفاجئة‭ ‬في‭ ‬المكان‭ ‬والزمان،‭ ‬عدم‭ ‬تهيب‭ ‬استخدام‭ ‬الاستعادة‭ ‬الذهنية‭ - ‬أي‭ ‬الـ‭ ‬افلاش‭ ‬باكب‭ -  ‬في‭ ‬أفلامهم،‭ ‬وبالأخص‭ ‬تجسيد‭ ‬حياة‭ ‬طبيعية‭ ‬لشخصيات‭ ‬شابة‭ ‬تعاني‭  ‬الفوضوية‭ ‬والإحباط‭ ‬والنقمة،‭ ‬على‭ ‬نقيض‭ ‬الصورة‭ ‬المألوفة‭ ‬للشخصيات‭ ‬الأدبية‭ ‬الرومانسية‭ ‬في‭ ‬السينما‭ ‬الفرنسية‭ ‬التقليدية‭.  ‬أضفت‭ ‬هذه‭ ‬التقنيات‭ - ‬برغم‭ ‬تواضع‭ ‬بعضها‭ ‬وفقر‭ ‬أدواته‭ - ‬طابعاً‭ ‬طازجاً‭ ‬ونضراً‭ ‬على‭ ‬أفلام‭ ‬االموجة‭ ‬الجديدةب،‭ ‬حيث‭ ‬غدت‭ ‬أفلامهم‭ ‬أشبه‭ ‬بالأيقونات‭ ‬المقدسة،‭ ‬وألهمت‭ ‬المزيد‭ ‬من‭ ‬المخرجين‭ ‬والأدباء‭ ‬أيضاً‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬أرجاء‭ ‬العالم‭ ‬وثقافاته‭ ‬المتباينة،‭ ‬خاصةً‭ ‬في‭ ‬أوربا،‭ ‬حيث‭ ‬استلهمت‭ ‬من‭ ‬االواقعية‭ ‬الجديدة‭ ‬في‭ ‬السينما‭ ‬الإيطاليةب‭ ‬النزعة‭ ‬التسجيلية‭ ‬في‭ ‬معالجة‭ ‬الموضوعات‭ ‬فنياً،‭ ‬وإن‭ ‬خمد‭ ‬بريقها‭ ‬بعد‭ ‬بضعة‭ ‬عقود،‭ ‬وأصبحت‭ ‬قيمتها‭ ‬مقتصرة‭ ‬على‭ ‬الريادة‭ ‬الطليعية‭. ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬تجاوز‭ ‬تعبير‭ ‬االفيلم‭- ‬الستيللوب‭ ‬الاقتصار‭ ‬على‭ ‬كتابة‭ ‬الفيلم‭ ‬بالكاميرا‭ ‬كبديل‭ ‬عن‭ ‬الطابع‭ ‬الأدبي‭ ‬القديم‭ ‬السائد،‭ ‬بل‭ ‬تعداه‭ ‬إلى‭ ‬تأثير‭ ‬سينمائي‭ ‬على‭ ‬الأدب‭ ‬نفسه‭ ‬لدى‭ ‬الكتّاب‭ ‬الشباب‭ ‬في‭ ‬القصة‭ ‬القصيرة‭ ‬والمسرح‭ ‬من‭ ‬جيل‭ ‬السبعينيات‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬التحديد،‭ ‬خاصةً‭ ‬أنهما‭ ‬الجنسان‭ ‬الأدبيان‭ ‬الوحيدان‭ ‬اللذان‭ ‬يتطلبان‭ ‬الكثافة‭ ‬والإيجاز‭ ‬والتركيز‭. ‬

 

اختلاط‭ ‬الأزمنة

هكذا،‭ ‬بدلاً‭ ‬من‭ ‬تجنب‭ ‬انصباغ‭ ‬السينما‭ ‬بالصبغة‭ ‬الأدبية،‭ ‬انصبغ‭ ‬الأدب‭ ‬الجديد‭ ‬بالخيال‭ ‬السينمائي‭ ‬ذي‭ ‬الطابع‭ ‬البصري،‭ ‬وأصبح‭ ‬اختلاط‭ ‬الأزمنة‭ ‬في‭ ‬الحبكة،‭ ‬وتجسيد‭ ‬شخصيات‭ ‬شبان‭ ‬محبطة‭ ‬تطلب‭ ‬التعويض‭ ‬العاطفي،‭ ‬سمات‭ ‬مألوفة‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬الجديد،‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬سينما‭ ‬االموجة‭ ‬الجديدةب‭. ‬

بالتالي،‭ ‬فإن‭ ‬عديداً‭ ‬من‭ ‬أدباء‭ ‬الطليعة‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬وسورية‭ ‬في‭ ‬أواخر‭ ‬ستينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬عكسوا‭ ‬في‭ ‬قصصهم‭ ‬ومسرحياتهم‭ ‬هذا‭ ‬التأثير‭ ‬السينمائي،‭ ‬وخصوصاً‭ ‬أن‭ ‬تلك‭ ‬الموجة‭ ‬تحولت‭ ‬من‭ ‬الفن‭ ‬إلى‭ ‬ثورة‭ ‬اجتماعية‭/ ‬سياسية‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1968م،‭ ‬بعدما‭ ‬جرت‭ ‬إزاحة‭ ‬مدير‭ ‬السينماتيك‭ ‬الفرنسي‭ ‬هنري‭ ‬لانغلوا‭ ‬عن‭ ‬منصبه،‭ ‬فكانت‭ ‬تلك‭ ‬هي‭ ‬الشرارة‭ ‬التي‭ ‬جعلت‭ ‬نيران‭ ‬اثورة‭ ‬الشبابب‭ ‬تهب‭ ‬من‭ ‬باريس‭ ‬لتجتاح‭ ‬فرنسا‭ ‬بأسرها،‭ ‬ولتخلف‭ ‬آثاراً‭ ‬لا‭ ‬تمحى‭ ‬على‭ ‬الثقافة‭ ‬والفنون‭. ‬في‭ ‬الواقع،‭ ‬تمركز‭ ‬مخرجو‭ ‬االموجة‭ ‬الجديدة‭ ‬الفرنسيةب‭ ‬في‭ ‬باريس‭ ‬واندمجوا‭ ‬في‭ ‬أجوائها‭ ‬الثقافية‭ ‬الثورية‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الحقبة‭ ‬المشوبة‭ ‬بالحماسة‭ ‬والرغبة‭ ‬في‭ ‬التغيير‭.‬

نذكر‭ ‬بين‭ ‬أشهر‭ ‬الأفلام‭ ‬الرائدة‭ ‬التي‭ ‬رسمت‭ ‬معالم‭ ‬وسمات‭ ‬االموجة‭ ‬الجديدةب‭: ‬اسيرج‭ ‬الجميلب‭ (‬1958‭) ‬إخراج‭ ‬كلود‭ ‬شابرول،‭ ‬من‭ ‬بطولة‭ ‬جان‭ - ‬كلود‭ ‬بريالي،‭ ‬واالأربعمائة‭ ‬ضربةب‭ (‬1959‭) ‬إخراج‭ ‬فرانسوا‭ ‬تروفو،‭ ‬واجول‭ ‬وجيمب‭ (‬1962‭)‬،‭ ‬وكلاهما‭ ‬من‭ ‬بطولة‭ ‬جان‭ ‬مورو،‭ ‬واعلى‭ ‬آخر‭ ‬نفسب‭ (‬1960‭) ‬من‭ ‬بطولة‭ ‬جان‭ - ‬بول‭ ‬بلموندو‭ ‬وجين‭ ‬سيبرغ،‭ ‬وابييرو‭ ‬المجنونب‭ (‬1965‭) ‬إخراج‭ ‬جان‭ - ‬لوك‭ ‬غودار،‭ ‬من‭ ‬بطولة‭ ‬جان‭ - ‬بول‭ ‬بلموندو‭ ‬وآنا‭ ‬كارينا،‭ ‬اليلتي‭ ‬عند‭ ‬مودب‭ (‬1969‭) ‬واركبة‭ ‬كليرب‭ (‬1970‭) ‬إخراج‭ ‬إريك‭ ‬رومر‭.‬

 

مكانة‭ ‬رفيعة‭ ‬

لعل‭ ‬الغريب‭ ‬والمفاجئ‭ ‬حتى‭ ‬لصانعي‭ ‬تلك‭ ‬الأفلام‭ ‬أنها‭ ‬حظيت‭ ‬بشهرة‭ ‬بوأت‭ ‬السينما‭ ‬الفرنسية‭ ‬مكانة‭ ‬رفيعة‭ ‬عالمياً،‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬نفسها‭.‬

‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال،‭ ‬نجح‭ ‬فيلم‭ ‬ارجل‭ ‬وامرأةب‭ (‬1966‭)‬،‭ ‬من‭ ‬إخراج‭ ‬كلود‭ ‬لولوش،‭ ‬وبطولة‭ ‬آنوك‭ ‬إيميه،‭ ‬وجان‭ - ‬لوي‭ ‬ترانتينيان،‭ ‬نجاحاً‭ ‬مدوياً‭ ‬وظلت‭ ‬موسيقاه‭ ‬تتردد‭ ‬في‭ ‬الذاكرة‭ ‬حتى‭ ‬الآن،‭ ‬وكذلك‭ ‬نجح‭ ‬فيلما‭ ‬آلان‭ ‬رينيه‭ ‬اهيروشيما‭ ‬يا‭ ‬حبيب‭ (‬1959‭) ‬واالعام‭ ‬الفائت‭ ‬في‭ ‬مارينبادب‭ (‬1961‭)‬،‭ ‬وفيلما‭ ‬جاك‭ ‬جيمي‭ ‬امظلات‭ ‬شيربورغب‭ (‬1964‭) ‬من‭ ‬بطولة‭ ‬كاترين‭ ‬دونوف‭ ‬ومارك‭ ‬ميشيل،‭ ‬والولاب‭ (‬1961‭) ‬من‭ ‬بطولة‭ ‬آنوك‭ ‬إيميه‭ ‬ومارك‭ ‬ميشيل،‭ ‬وفيلم‭ ‬االمخلوقاتب‭ (‬1966‭) ‬من‭ ‬إخراج‭ ‬آنييس‭ ‬فاردا،‭ ‬وبطولة‭ ‬كاترين‭ ‬دونوف،‭ ‬وميشيل‭ ‬بيكولي‭. ‬ولايزال‭ ‬عشاق‭ ‬السينما‭ ‬يذكرون‭ ‬الأثر‭ ‬العميق‭ ‬الذي‭ ‬تركه‭ ‬فيلم‭ ‬لولوش‭ ‬ارجل‭ ‬وامرأةب‭ ‬على‭ ‬جمهور‭ ‬الشباب‭ ‬المثقف‭ ‬في‭ ‬دمشق،‭ ‬حين‭ ‬افتتح‭ ‬به‭ ‬االنادي‭ ‬السينمائيب‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1967،‭ ‬فقد‭ ‬رسم‭ ‬تغييراً‭ ‬غير‭ ‬متوقع‭ ‬في‭ ‬أذهانهم‭ ‬عن‭ ‬شكل‭ ‬السينما‭ ‬الحديثة،‭ ‬من‭ ‬سماته‭ ‬الاحتفاء‭ ‬بالبساطة‭ ‬المتناهية‭ ‬وتحريض‭ ‬الخيال‭ ‬المتمرد‭ ‬لجيل‭ ‬الشباب‭ ‬المحبط‭ ‬والغاضب‭. ‬

 

سمات‭ ‬فريدة

ولعل‭ ‬سمة‭ ‬الانتقال‭ ‬عبر‭ ‬الأزمان‭ ‬جاءت‭ ‬إلى‭ ‬االموجة‭ ‬الجديدةب‭ ‬من‭ ‬مدرسة‭ ‬اتيار‭ ‬الوعيب‭ ‬الأدبية،‭ ‬التي‭ ‬تألق‭ ‬مارسيل‭ ‬بروست‭ ‬فيها‭ ‬عبر‭ ‬روايته‭ ‬الضخمة‭ ‬االزمن‭ ‬الضائعب،‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬الروائيين‭ ‬البريطانيين‭ ‬فرجينيا‭ ‬وولف‭ ‬وجيمس‭ ‬جويس‭. ‬

هذه‭ ‬الأفلام‭ ‬وعديد‭ ‬سواها‭ ‬مثال‭ ‬لتجاوز‭ ‬االموجة‭ ‬الجديدةب‭ ‬المألوف‭ ‬والسائد،‭ ‬وفي‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬تكريس‭ ‬للسمات‭ ‬الفريدة‭ ‬للتيار‭ ‬الذي‭ ‬بدأ‭ ‬خجولاً‭ ‬وفقيراً‭ ‬بشكل‭ ‬متزايد‭ ‬النجاح‭ ‬جماهيرياً‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬العالم‭ ‬أجمع‭. ‬

لكن،‭ ‬والحق‭ ‬يقال،‭ ‬إن‭ ‬هذه‭ ‬الأفلام‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬ليقيض‭ ‬لها‭ ‬أن‭ ‬تظهر‭ ‬لولا‭ ‬الأسس‭ ‬التي‭ ‬غرستها‭ ‬االموجة‭ ‬الجديدةب‭ ‬في‭ ‬الذوق‭ ‬العام،‭ ‬فجعلته‭ ‬أكثر‭ ‬تقبلاً‭ ‬لأفلام‭ ‬من‭ ‬نمط‭ ‬مختلف‭ ‬ومبتكر‭.‬

في‭ ‬الواقع،‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬معظم‭ ‬الأفلام‭ ‬الأولى‭ ‬لمخرجي‭ ‬االموجة‭ ‬الجديدةب‭ ‬أفلاماً‭ ‬جماهيرية،‭ ‬لأنها‭ ‬نحت‭ ‬إلى‭ ‬كسر‭ ‬النمطي‭ ‬والسائد‭ ‬والمألوف،‭ ‬لكن‭ ‬تلك‭ ‬الأفلام‭ ‬اللاحقة‭ ‬بدأت‭ ‬تحرز‭ ‬تدريجياً‭ ‬تصاعداً‭ ‬في‭ ‬جماهيريتها،‭ ‬وخاصةً‭ ‬أنها‭ ‬عبرت‭ ‬عن‭ ‬الطابع‭ ‬الفلسفي‭ ‬الوجودي‭ ‬للمفكر‭ ‬جان‭ ‬بول‭ ‬سارتر‭ ‬وزميلته‭ ‬سيمون‭ ‬دو‭ ‬بوفوار،‭ ‬واتخذت‭ ‬قصص‭ ‬الحب‭ ‬مهرباً‭ ‬وخلاصاً‭ ‬من‭ ‬الإحباط،‭ ‬والحرب‭ ‬والجريمة‭ ‬محورين‭ ‬لها‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الأحيان،‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬أبطالها‭ ‬أحياناً‭ ‬يقعون‭ ‬في‭ ‬ردود‭ ‬فعل‭ ‬عنيفة‭ ‬ودامية‭ ‬ترتد‭ ‬بالأذى‭ ‬حتى‭ ‬على‭ ‬أنفسهم‭.‬

‭ ‬إنها‭ ‬السمة‭ ‬النفسانية‭ ‬المميزة‭ ‬فرنسياً،‭  ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬عالمياً،‭ ‬لجيل‭ ‬أواخر‭ ‬الستينيات‭ ‬وحقبة‭ ‬السبعينيات‭ ‬بالكامل،‭ ‬التي‭ ‬انعكست‭ ‬على‭ ‬معظم‭ ‬الأدباء‭ ‬الشباب‭ ‬عموماً‭ ‬وبعض‭ ‬السينمائيين‭ ‬خصوصاً،‭ ‬في‭ ‬عالمنا‭ ‬العربي،‭ ‬وتحديداً‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬وسورية‭ ‬ولبنان‭ .