قَدَمٌ هنا... وأُخرى هناك

قَدَمٌ هنا... وأُخرى هناك

منذ‭ ‬اللحظات‭ ‬الأولى‭ ‬التي‭ ‬درس‭ ‬فيها‭ ‬مع‭ ‬أستاذ‭ ‬البيانو‭ ‬مقطوعة‭ ‬‮«‬توكاتا‮»‬‭ ‬ليوهان‭ ‬سيباستيان‭ ‬باخ،‭ ‬وهو‭ ‬يردد‭ ‬في‭ ‬أعماقه‭: ‬‮«‬هذه‭ ‬المقطوعة‭ ‬جديرة‭ ‬بأن‭ ‬تعزف‭ ‬في‭ ‬الهواء‭ ‬الطلق،‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬كنيسة‭ ‬قروية‭ ‬حتى‭ ‬تتناغم‭ ‬جملها‭ ‬الموسيقية‭ ‬مع‭ ‬وشوشات‭ ‬الطبيعة‭!‬‮»‬‭.‬

وبالفعل،‭ ‬استقر‭ ‬قراره‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬تتكامل‭ ‬أجزاء‭ ‬المقطوعة‭ ‬في‭ ‬أعماقه،‭ ‬فعقد‭ ‬العزم‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يقوم‭ ‬بآدائها‭ ‬في‭ ‬كاتدرائية‭ ‬‮«‬نوتردام‮»‬‭ ‬بباريس‭. ‬ولما‭ ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬مستحيلا،‭ ‬ارتأى‭ ‬أن‭ ‬يحقق‭ ‬رغبته‭ ‬في‭ ‬مكان‭ ‬آخر‭. ‬ولكن،‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬جهة؟‭ ‬هل‭ ‬في‭ ‬مقدور‭ ‬ابن‭ ‬المغترب‭ ‬الجزائري‭ ‬المقهور‭ ‬أن‭ ‬يقفز‭ ‬فوق‭ ‬الحواجز،‭ ‬ويقف‭ ‬على‭ ‬النقيض‭ ‬مما‭ ‬هو‭ ‬مقبول‭ ‬ها‭ ‬هنا‭ ‬في‭ ‬أرض‭ ‬فرنسا؟

عرض‭ ‬الفكرة‭ ‬مرات‭ ‬ومرات‭ ‬على‭ ‬والده‭ ‬العجوز‭ ‬الذي‭ ‬يعيش‭ ‬منذ‭ ‬بضع‭ ‬سنوات‭ ‬على‭ ‬كرسي‭ ‬متنقل،‭ ‬فلم‭ ‬يتلق‭ ‬منه‭ ‬إلا‭ ‬تعليقا‭ ‬ساخرا‭: ‬‮«‬‭ ‬ومن‭ ‬يصدقك،‭ ‬يا‭ ‬بني؟‭ ‬من،‭ ‬يا‭ ‬ترى،‭ ‬يفكر‭ ‬في‭ ‬المزاوجة‭ ‬بين‭ ‬أمرين‭ ‬متناقضين‭ ‬جسدا‭ ‬وروحا؟‮»‬‭.‬

حقا،‭ ‬هو‭ ‬مسلم،‭ ‬أو‭ ‬هو‭ ‬بقايا‭ ‬مسلم‭ ‬في‭ ‬أرض‭ ‬باريس‭. ‬ويوم‭ ‬قرر‭ ‬أن‭ ‬يتعلم‭ ‬الموسيقى‭ ‬واختار‭ ‬آلة‭ ‬البيانو‭ ‬أداة‭ ‬للعزف،‭ ‬ضحك‭ ‬منه‭ ‬والده‭ ‬وأصدقاؤه‭ ‬من‭ ‬العاملين‭ ‬في‭ ‬أحد‭ ‬مناجم‭ ‬الأردواز،‭ ‬شمالي‭ ‬فرنسا‭. ‬وما‭ ‬أكثر‭ ‬ما‭ ‬تعين‭ ‬عليه‭ ‬أن‭ ‬يتلقى‭ ‬السؤال‭ ‬التالي‭: ‬‮«‬لم،‭ ‬يا‭ ‬تراك،‭ ‬يا‭ ‬أحمد،‭ ‬لا‭ ‬تتعلم‭ ‬العزف‭ ‬على‭ ‬الماندول‭ ‬أو‭ ‬الكمان‭ ‬بدلا‭ ‬من‭ ‬آلة‭ ‬لا‭ ‬وجود‭ ‬لها‭ ‬إلا‭ ‬داخل‭ ‬الفيلات‭ ‬الفخمة‭ ‬أو‭ ‬الكنائس؟‮»‬‭.‬

سؤال‭ ‬معقول،‭ ‬وأعقل‭ ‬منه‭ ‬على‭ ‬حد‭ ‬تعبيره‭ ‬هو‭ ‬كيف‭ ‬استطاع‭ ‬أن‭ ‬يشق‭ ‬طريقه‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الديار‭ ‬الغريبة،‭ ‬وينال‭ ‬أعلى‭ ‬الشهادات‭ ‬في‭ ‬الدراسات‭ ‬الموسيقية؟‭ ‬أجل،‭ ‬كيف‭ ‬استطاع‭ ‬ابن‭ ‬العامل‭ ‬المغترب‭ ‬القادم‭ ‬من‭ ‬أعماق‭ ‬الريف‭ ‬الجزائري،‭ ‬الباحث‭ ‬عن‭ ‬لقمة‭ ‬العيش،‭ ‬أن‭ ‬يتخطى‭ ‬الحواجز‭ ‬كلها،‭ ‬ويبز‭ ‬أقرانه‭ ‬من‭ ‬الطلبة‭ ‬الفرنسيين‭ ‬أنفسهم؟‭. ‬وكانت‭ ‬الأسئلة‭ ‬الساخرة‭ ‬تتطامن‭ ‬عندئذ،‭ ‬ويتخذ‭ ‬الحديث‭ ‬معه‭ ‬وجهة‭ ‬أخرى‭. ‬وكان‭ ‬له‭ ‬ما‭ ‬أراد‭.‬

دخل‭ ‬الكنيسة‭ ‬القروية‭ ‬العتيقة‭ ‬ذات‭ ‬فجر‭ ‬تخللته‭ ‬ثلوج‭ ‬صقيعية‭. ‬صديقه‭ ‬موريس،‭ ‬راعي‭ ‬الكنيسة‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬فتح‭ ‬له‭ ‬الباب‭ ‬الجانبي‭ ‬الذي‭ ‬أقيم‭ ‬حديثا‭. ‬وكان‭ ‬الظن‭ ‬قد‭ ‬ذهب‭ ‬به‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬موريس‭ ‬هذا‭ ‬لن‭ ‬يخاطر‭ ‬برتبته‭ ‬الكنسية‭ ‬ويستقبله‭ ‬نزولا‭ ‬عند‭ ‬سابق‭ ‬وعده‭. ‬في‭ ‬الردهة،‭ ‬أزاح‭ ‬برنوسه‭ ‬القهوي‭ ‬الذي‭ ‬استقدمه‭ ‬من‭ ‬مسقط‭ ‬رأس‭ ‬والده،‭ ‬ونفض‭ ‬عنه‭ ‬حبات‭ ‬الثلج‭ ‬التي‭ ‬التصقت‭ ‬به‭. ‬ابتدر‭ ‬صديقه‭ ‬بنبرة‭ ‬كلها‭ ‬دعابة‭:‬

انظر،‭ ‬يا‭ ‬موريس،‭ ‬ها‭ ‬أنا‭ ‬أخلع‭ ‬برنوسي‭ ‬بينما‭ ‬أنت‭ ‬تظل‭ ‬متدثرا‭ ‬بمسوحك‭ ‬الصوفي‭ ‬هذا‭.‬

لم‭ ‬يبد‭ ‬على‭ ‬راعي‭ ‬الكنيسة‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬راضيا‭ ‬عن‭ ‬استقباله‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الفجر‭. ‬الكنيسة‭ ‬بنيت‭ ‬منذ‭ ‬وقت‭ ‬طويل،‭ ‬وأعيد‭ ‬ترميمها‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المنطقة‭ ‬الجبلية‭ ‬النائية‭ ‬القريبة‭ ‬من‭ ‬جبال‭ ‬الألب‭ ‬المرصعة‭ ‬بالثلوج‭. ‬والقرية‭ ‬التي‭ ‬تتربع‭ ‬عليها‭ ‬الكنيسة‭ ‬قديمة‭ ‬جدا،‭ ‬ويقول‭ ‬عنها‭ ‬بعض‭ ‬المؤرخين‭ ‬إنها‭ ‬تعود‭ ‬إلى‭ ‬الزمن‭ ‬الذي‭ ‬استقرت‭ ‬فيه‭ ‬الكاثوليكية‭ ‬جنوب‭ ‬فرنسا‭. ‬حجارتها‭ ‬صارت‭ ‬ملساء‭ ‬بفعل‭ ‬تقلبات‭ ‬الطقس‭ ‬والأمطار‭ ‬والثلوج‭ ‬على‭ ‬مدار‭ ‬الأزمنة،‭ ‬وناس‭ ‬القرية‭ ‬يعيشون‭ ‬على‭ ‬أغنامهم‭ ‬وعلى‭ ‬صناعة‭ ‬الأجبان‭ ‬التي‭ ‬يجيدونها‭ ‬منذ‭ ‬قرون‭ ‬وقرون‭. ‬هناك‭ ‬من‭ ‬يأتون‭ ‬على‭ ‬متون‭ ‬شاحنات‭ ‬صغيرة‭ ‬الحجم‭ ‬من‭ ‬مختلف‭ ‬مدن‭ ‬فرنسا‭ ‬وأوربا‭ ‬الغربية‭ ‬للتزود‭ ‬بالجبن‭ ‬وببعض‭ ‬الأواني‭ ‬الفخارية‭ ‬الجميلة‭.‬

ما‭ ‬كان‭ ‬صديقه،‭ ‬راعي‭ ‬الكنيسة،‭ ‬يعتقد‭ ‬أنه‭ ‬قد‭ ‬يغامر‭ ‬بنفسه،‭ ‬ويجيء‭ ‬من‭ ‬باريس‭ ‬في‭ ‬عز‭ ‬البرد،‭ ‬لكنه‭ ‬راجع‭ ‬حساباته‭ ‬في‭ ‬طرفة‭ ‬عين‭ ‬حين‭ ‬بلغته‭ ‬الطرقات‭ ‬على‭ ‬الباب‭ ‬الجانبي‭ ‬قبل‭ ‬الليلة‭ ‬الفائتة‭. ‬جاء‭ ‬بمفرده،‭ ‬ولم‭ ‬يرد‭ ‬أن‭ ‬يصحبه‭ ‬أحد‭ ‬من‭ ‬زملائه‭ ‬الموسيقيين‭. ‬تعارف‭ ‬الاثنان‭ ‬منذ‭ ‬بضع‭ ‬سنوات‭ ‬في‭ ‬باريس‭. ‬كان‭ ‬هو‭ ‬يدرس‭ ‬الموسيقى،‭ ‬ويستعد‭ ‬لتحضير‭ ‬أطروحة‭ ‬عن‭ ‬موسيقى‭ ‬يوهانس‭ ‬سباستيان‭ ‬باخ،‭ ‬أما‭ ‬صديقه،‭ ‬راعي‭ ‬الكنيسة،‭ ‬فكان‭ ‬يدرس‭ ‬اللاهوت،‭ ‬ويعشق‭ ‬الموسيقى‭ ‬الكنسية‭ ‬عشقا‭ ‬جنونيا‭. ‬أحمد‭ ‬جزائري‭ ‬مسلم،‭ ‬وموريس‭ ‬فرنسي‭ ‬أصيل،‭ ‬ومسيحي‭ ‬راسخ‭ ‬العقيدة‭ ‬أيضا‭. ‬كانا‭ ‬يلتقيان‭ ‬مرة‭ ‬أو‭ ‬مرتين‭ ‬في‭ ‬الأسبوع‭ ‬الواحد‭ ‬بالقرب‭ ‬من‭ ‬جامعة‭ ‬السوربون،‭ ‬ويحتسيان‭ ‬القهوة‭ ‬معا‭ ‬بعد‭ ‬العصر،‭ ‬أي‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬يفرغ‭ ‬كل‭ ‬واحد‭ ‬منهما‭ ‬من‭ ‬أبحاثه‭ ‬الدراسية‭. ‬وتعمقت‭ ‬الصداقة‭ ‬بينهما،‭ ‬ربما‭ ‬لأنهما‭ ‬ما‭ ‬كانا‭ ‬يتحدثان‭ ‬في‭ ‬شؤون‭ ‬السياسة‭ ‬أبدا،‭ ‬إدراكا‭ ‬منهما‭ ‬أن‭ ‬خوض‭ ‬غمار‭ ‬الحديث‭ ‬في‭ ‬السياسة‭ ‬وفي‭ ‬العلاقات‭ ‬المتوترة‭ ‬بين‭ ‬بلديهما‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬أن‭ ‬يفسد‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬حتى‭ ‬وإن‭ ‬اتفقت‭ ‬أفكارهما‭ ‬حول‭ ‬بعض‭ ‬المواضيع‭. ‬بل‭ ‬إنهما‭ ‬كانا‭ ‬ينويان‭ ‬التوجه‭ ‬معا‭ ‬إلى‭ ‬فيينا،‭ ‬عاصمة‭ ‬الموسيقى،‭ ‬لاستكمال‭ ‬الدراسة،‭ ‬أحمد‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬علم‭ ‬التوافق‭ ‬الهارموني،‭ ‬وموريس‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬جوانب‭ ‬علم‭ ‬اللاهوت‭. ‬لكن‭ ‬جهلهما‭ ‬باللغة‭ ‬الألمانية‭ ‬حال‭ ‬دون‭ ‬تحقيق‭ ‬رغبتيهما‭. ‬وأخذ‭ ‬أحمد‭ ‬بنصيحة‭ ‬أستاذه‭ ‬المشرف‭ ‬على‭ ‬أطروحته،‭ ‬فلم‭ ‬يغادر‭ ‬باريس‭ ‬إلى‭ ‬أي‭ ‬جهة‭ ‬لأنها‭ ‬تنطوي‭ ‬هي‭ ‬الأخرى‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يريد‭ ‬التعمق‭ ‬فيه‭. ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬هذا‭ ‬الأستاذ‭ ‬مخطئا،‭ ‬بل‭ ‬إنه‭ ‬صار‭ ‬صديقا‭ ‬حميما‭ ‬له‭ ‬هو‭ ‬الآخر‭. ‬وكثيرا‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يصطحبه‭ ‬إلى‭ ‬بعض‭ ‬الحفلات‭ ‬الخاصة‭ ‬ويقدمه‭ ‬للحاضرين‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬نابغة‭ ‬لا‭ ‬يشق‭ ‬له‭ ‬غبار‭ ‬في‭ ‬العزف‭ ‬على‭ ‬البيانو،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬على‭ ‬آلة‭ ‬الأورج‭.‬

ما‭ ‬كان‭ ‬راعي‭ ‬الكنيسة‭ ‬يتحرج‭ ‬منه‭ ‬ومن‭ ‬معتقده‭. ‬لعل‭ ‬تقاربهما‭ ‬في‭ ‬السن‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬وثق‭ ‬الصداقة‭ ‬بينهما‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬تباعد‭ ‬ما‭ ‬يؤمنان‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬الدين‭. ‬حين‭ ‬عيِّن‭ ‬موريس‭ ‬على‭ ‬رأس‭ ‬هذه‭ ‬الكنيسة‭ ‬الجبلية‭ ‬جنوبي‭ ‬فرنسا،‭ ‬دعاه‭ ‬إلى‭ ‬زيارته‭ ‬في‭ ‬يوم‭ ‬من‭ ‬الأيام‭. ‬وانتظر‭ ‬بضعة‭ ‬أشهر‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يقدم‭ ‬على‭ ‬تلبية‭ ‬الدعوة،‭ ‬ثم‭ ‬اشترط‭ ‬على‭ ‬صديقه‭ ‬أن‭ ‬يفسح‭ ‬له‭ ‬المجال‭ ‬لكي‭ ‬يؤدي‭ ‬معزوفة‭ ‬من‭ ‬المعزوفات‭ ‬في‭ ‬كنيسته‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬استوثق‭ ‬من‭ ‬وجود‭ ‬آلة‭ ‬أورج‭ ‬بها‭.‬

سعى‭ ‬أهل‭ ‬القرية‭ ‬بمساعدة‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬أهل‭ ‬الخير‭ ‬في‭ ‬سبيل‭ ‬تجديد‭ ‬آلة‭ ‬الأورج‭ ‬في‭ ‬الكنيسة‭. ‬ونجحوا‭ ‬في‭ ‬تجديدها‭ ‬فعلا‭. ‬وتصادف‭ ‬مسعاهم‭ ‬مع‭ ‬قدوم‭ ‬الراعي‭ ‬الجديد‭. ‬كانوا‭ ‬يحبون‭ ‬الإنصات‭ ‬إلى‭ ‬المقطوعات‭ ‬التي‭ ‬يعزفها‭ ‬بعض‭ ‬الزائرين،‭ ‬خلال‭ ‬الصيف‭ ‬خاصة،‭ ‬ولكنهم‭ ‬ما‭ ‬كانوا‭ ‬ينتظرون‭ ‬أن‭ ‬يقدم‭ ‬أحد‭ ‬على‭ ‬العزف‭ ‬في‭ ‬لحظات‭ ‬الفجر‭ ‬الأولى‭ ‬وفي‭ ‬قلب‭ ‬الصقيع‭. ‬ولذلك،‭ ‬حين‭ ‬انطلقت‭ ‬الجملة‭ ‬النغمية‭ ‬الأولى‭ ‬من‭ ‬معزوفة‭ ‬‮«‬توكاتا‮»‬‭ ‬لجوهان‭ ‬سباستيان‭ ‬باخ،‭ ‬اضطربوا‭ ‬في‭ ‬أسرَّتهم‭ ‬وفرشهم،‭ ‬وانتظروا‭ ‬بضع‭ ‬دقائق‭ ‬لكي‭ ‬يغادروها‭. ‬كان‭ ‬الثلج‭ ‬قد‭ ‬غمر‭ ‬دروب‭ ‬القرية‭ ‬كلها‭ ‬على‭ ‬جري‭ ‬عادته‭ ‬في‭ ‬أواخر‭ ‬شهر‭ ‬ديسمبر،‭ ‬ثم‭ ‬إن‭ ‬البرد‭ ‬الشديد‭ ‬دفعهم‭ ‬إلى‭ ‬التدثر‭ ‬بمعاطفهم‭ ‬الخشنة‭ ‬قبل‭ ‬مغادرة‭ ‬دورهم‭. ‬وتساءل‭ ‬بعضهم‭: ‬‮«‬من‭ ‬يجرؤ‭ ‬على‭ ‬العزف‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الفجر؟‭ ‬أهو‭ ‬راعي‭ ‬الكنيسة؟‭ ‬أم‭ ‬هو‭ ‬سائح‭ ‬غريب‭ ‬الأطوار‭ ‬لا‭ ‬يعرف‭ ‬تقاليد‭ ‬القرية‭ ‬أصلا؟‮»‬،
‭ ‬الزوار‭ ‬يتكاثرون‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الموسم،‭ ‬وبالأمس‭ ‬فقط‭ ‬اضطروا‭ ‬للخروج‭ ‬إلى‭ ‬الشعاب‭ ‬القريبة‭ ‬بحثا‭ ‬عن‭ ‬شاب‭ ‬إنجليزي‭ ‬غاب‭ ‬أثره‭ ‬مع‭ ‬صاحبته‭.‬

حاول‭ ‬راعي‭ ‬الكنيسة‭ ‬أن‭ ‬يثنيه‭ ‬عن‭ ‬العزف‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬أنه‭ ‬قدم‭ ‬له‭ ‬وعدا‭ ‬قاطعا‭ ‬بأن‭ ‬يفسح‭ ‬له‭ ‬المجال‭ ‬لتحقيق‭ ‬رغبته‭ ‬العجيبة‭. ‬أكد‭ ‬أحمد‭ ‬له‭ ‬أن‭ ‬العزف‭ ‬في‭ ‬نظره‭ ‬أشبه‭ ‬ما‭ ‬يكون‭ ‬بنوبة‭ ‬جنون‭ ‬تنفجر‭ ‬وتفعل‭ ‬أفاعيلها،‭ ‬ثم‭ ‬يعود‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬إلى‭ ‬حالته‭ ‬الطبيعية‭. ‬هو‭ ‬يعتبر‭ ‬نفسه‭ ‬الآن‭ ‬في‭ ‬لحظة‭ ‬من‭ ‬لحظات‭ ‬الجنون،‭ ‬ولن‭ ‬يقنعه‭ ‬أحد‭ ‬بالعدول‭ ‬عن‭ ‬قراره‭. ‬ثم‭ ‬إنه‭ ‬لا‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬تفلت‭ ‬منه‭ ‬هذه‭ ‬الفرصة‭ ‬الذهبية‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬وقــــف‭ ‬قبالة‭ ‬آلة‭ ‬الأورج‭. ‬هو‭ ‬وعد‭ ‬قطعه‭ ‬على‭ ‬نفسه‭ ‬بأن‭ ‬يعزف‭ ‬مقطوعة‭ ‬‮«‬توكاتا‮»‬‭ ‬في‭ ‬كنيسة،‭ ‬أيا‭ ‬ما‭ ‬كانت‭ ‬هذه‭ ‬الكنيسة‭. ‬

الجملة‭ ‬النغمية‭ ‬الأولى‭ ‬من‭ ‬المعزوفة‭ ‬زعزعت‭ ‬كيان‭ ‬راعي‭ ‬الكنيسة‭. ‬خشي‭ ‬على‭ ‬نفسه‭ ‬أولا،‭ ‬وفي‭ ‬بضع‭ ‬ثوان،‭ ‬حسب‭ ‬ألف‭ ‬حساب‭ ‬لردود‭ ‬أفعال‭ ‬أهل‭ ‬القرية‭ ‬ذلك‭ ‬الفجر‭. ‬اليوم‭ ‬يوم‭ ‬جمعة،‭ ‬وليس‭ ‬يوم‭ ‬أحد‭. ‬كيف‭ ‬يفسر‭ ‬لهم‭ ‬إقدام‭ ‬هذا‭ ‬الزائر‭ ‬الغريب‭ ‬على‭ ‬العزف‭ ‬في‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬الساعة‭ ‬المبكرة،‭ ‬وفي‭ ‬قلب‭ ‬هذا‭ ‬البرد‭ ‬الصقيعي؟‭ ‬يبدو‭ ‬أن‭ ‬أحمد‭ ‬ألقى‭ ‬بنفسه‭ ‬في‭ ‬بحر‭ ‬لا‭ ‬يعرف‭ ‬آخره‭. ‬ها‭ ‬هي‭ ‬الجملة‭ ‬النغمية‭ ‬الأولى‭ ‬تتبعها‭ ‬الجملة‭ ‬الثانية‭ ‬التي‭ ‬تندرج‭ ‬ضمن‭ ‬الاستهلال‭. ‬وها‭ ‬هي‭ ‬أصابع‭ ‬أحمد‭ ‬الرشيقة‭ ‬تقع‭ ‬على‭ ‬مفاتيح‭  ‬الأورج‭ ‬متسارعة،‭ ‬ولكن،‭ ‬بفخامة‭ ‬واتزان‭. ‬الجملة‭ ‬النغمية‭ ‬الثانية‭ ‬هي‭ ‬هي،‭ ‬أي‭ ‬أنها‭ ‬أشبه‭ ‬ما‭ ‬تكون‭ ‬بباب‭ ‬ينفتح‭ ‬على‭ ‬مصراعيه‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يتمكن‭ ‬إنسان‭ ‬ما‭ ‬من‭ ‬الولوج‭ ‬عبره‭. ‬وها‭ ‬هو‭ ‬أحمد‭ ‬يهز‭ ‬رأسه‭ ‬من‭ ‬شدة‭ ‬الانتشاء‭ ‬برغم‭ ‬أنه‭ ‬لايزال‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬المقطوعة‭. ‬أما‭ ‬موريس،‭ ‬فقد‭ ‬وقف‭ ‬إلى‭ ‬جانبه‭ ‬هنيهة،‭ ‬ثم‭ ‬جعل‭ ‬يذرع‭ ‬وسط‭ ‬الكنيسة‭ ‬ذهابا‭ ‬وإيابا‭ ‬تحت‭ ‬وطأة‭ ‬الحيرة‭. ‬أجل،‭ ‬كيف‭ ‬يفسر‭ ‬لأهل‭ ‬القرية‭ ‬غرابة‭ ‬هذا‭ ‬الذي‭ ‬يحدث‭ ‬في‭ ‬كنيستهم‭ ‬هذا‭ ‬الفجر؟‭ ‬وما‭ ‬الذي‭ ‬سيقوله‭ ‬لأولئك‭ ‬الذين‭ ‬عينوه‭ ‬على‭ ‬رأسها؟‭ 

تتابعت‭ ‬الجمل‭ ‬النغمية،‭ ‬وحين‭ ‬بلغ‭ ‬الجملة‭ ‬العاشرة،‭ ‬تمايل‭ ‬طربا،‭ ‬إذ‭ ‬إنه‭ ‬اعتبرها‭ ‬دائما‭ ‬وأبدا‭ ‬بيت‭ ‬القصيد‭ ‬في‭ ‬معزوفة‭ ‬‮«‬توكاتا‮»‬‭. ‬هي‭ ‬جملة‭ ‬فيها‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬التلوينات،‭ ‬ولعل‭ ‬الموسيقيين‭ ‬الإسبان‭ ‬أخذوا‭ ‬الكثير‭ ‬منها،‭ ‬ولاسيما‭ ‬‮«‬إسحاق‭ ‬ألبنيز‮»‬‭. ‬ذلك‭ ‬ما‭ ‬أكده‭ ‬أحمد‭ ‬في‭ ‬أحاديثه‭ ‬مع‭ ‬زملائه‭ ‬من‭ ‬طلاب‭ ‬الموسيقى‭. ‬

فرك‭ ‬راعي‭ ‬الكنيسة‭ ‬يديه،‭ ‬لا‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬تدفئتهما،‭ ‬بل‭ ‬من‭ ‬القلق‭ ‬المداهم‭. ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يدري‭ ‬أن‭ ‬صديقه‭ ‬سيقدم‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الجرأة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬نظير‭ ‬لها‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬هذه‭ ‬الكنيسة،‭ ‬بل‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬مسلم‭ ‬ومسيحي‭. ‬وبالرغم‭ ‬من‭ ‬أنه‭ ‬يطرب‭ ‬لموسيقى‭ ‬الأورج،‭ ‬فإنه‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الفجر‭ ‬أنأى‭ ‬ما‭ ‬يكون‭ ‬عن‭ ‬الاستمتاع‭ ‬بها‭. ‬همه‭ ‬الأول‭ ‬والأخير‭ ‬الآن‭ ‬هو‭ ‬كيف‭ ‬يفسر‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬الحالة‭ ‬الغريبة‭ ‬لجميع‭ ‬أبناء‭ ‬القرية‭. ‬ثم‭ ‬تساءل‭: ‬‮«‬أتراهم‭ ‬يطربون‭ ‬لما‭ ‬يبلغ‭ ‬آذانهم؟‭ ‬قد‭ ‬يطربون،‭ ‬ولكنهم‭ ‬لن‭ ‬يتقبلوا‭ ‬أن‭ ‬يوقظهم‭ ‬إنسان‭ ‬ما‭ ‬عند‭ ‬الفجر،‭ ‬وفي‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬الطقس‭ ‬البارد‮»‬‭.‬

أمضى‭ ‬أحمد‭ ‬ثماني‭ ‬دقــــــائق‭ ‬واثنــــتين‭ ‬وثلاثين‭ ‬ثانية‭ ‬قبالة‭ ‬آلة‭ ‬الأورج،‭ ‬هي‭ ‬المدة‭ ‬التي‭ ‬تستغرقها‭ ‬مقطوعة‭ ‬‮«‬توكاتا‮»‬‭ ‬في‭ ‬العزف‭. ‬حين‭ ‬ضغط‭ ‬على‭ ‬الجملة‭ ‬الهارمونية‭ ‬الأخيرة،‭ ‬لم‭ ‬يسارع‭ ‬إلى‭ ‬القيام‭ ‬من‭ ‬مكانه،‭ ‬بل‭ ‬جعل‭ ‬ينتظر‭ ‬رأي‭ ‬صديقه‭ ‬موريس‭ ‬المهموم‭ ‬بإيجاد‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬قوله‭ ‬لأهل‭ ‬القرية‭. ‬ثم‭ ‬قام‭ ‬من‭ ‬مكانه،‭ ‬ووضع‭ ‬برنوسه‭ ‬القهوي‭ ‬على‭ ‬كتفيه،‭ ‬وقد‭ ‬بدا‭ ‬عليه‭ ‬أنه‭ ‬أسعد‭ ‬الخلق‭ ‬طرا‭. ‬لقد‭ ‬حقق‭ ‬ما‭ ‬يريده‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الكنيسة‭ ‬الجبلية‭ ‬ووسط‭ ‬الصقيع‭ ‬الثلجي،‭ ‬وهو‭ ‬مستعد‭ ‬الآن‭ ‬لتلقي‭ ‬أي‭ ‬عقوبة‭ ‬قد‭ ‬تنهال‭ ‬عليه‭ ‬دون‭ ‬صديقه‭ ‬موريس‭. ‬

في‭ ‬هذه‭ ‬اللحظات‭ ‬بلغ‭ ‬سمعه‭ ‬طرق‭ ‬خفيف‭ ‬على‭ ‬الباب‭ ‬الذي‭ ‬ولج‭ ‬منه‭. ‬تردد‭ ‬راعي‭ ‬الكنيسة‭ ‬في‭ ‬وقفته،‭ ‬وتبادل‭ ‬نظرات‭ ‬استفسار‭ ‬مع‭ ‬أحمد‭ ‬الذي‭ ‬قال‭ ‬له‭ ‬دون‭ ‬تردد‭: ‬‮«‬اذهب،‭ ‬يا‭ ‬موريس،‭ ‬وافتح‭..   ‬رئيس‭ ‬البلدية‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬يطرق‭ ‬عليك‭ ‬الباب‭ ‬الآن‭. ‬أنا‭ ‬واثق‭ ‬من‭ ‬ذلك‭. ‬هذا‭ ‬أمر‭ ‬منتظر‭  ‬من‭ ‬جانبه‮»‬‭. ‬ثم‭ ‬أضاف‭ ‬ببعض‭ ‬السخرية‭: ‬‮«‬كنيستك‭ ‬هذه‭ ‬تمردت‭ ‬على‭ ‬جميع‭ ‬عاداتها‭!‬‮»‬‭. ‬وفتح‭ ‬موريس‭ ‬الباب‭ ‬بعد‭ ‬لأي،‭ ‬فإذا‭ ‬به‭ ‬قبالة‭ ‬جمع‭ ‬من‭ ‬أهل‭ ‬القرية‭ ‬يتقدمهم‭ ‬رئيس‭ ‬البلدية‭ ‬فعلا،‭ ‬وإلى‭ ‬يمينه‭ ‬اثنان‭ ‬من‭ ‬رجال‭ ‬الدرك‭ ‬في‭ ‬زيهما‭ ‬الرسمي‭ ‬من‭ ‬الصوف‭ ‬الخشن‭ ‬الأسود،‭ ‬وتعلو‭ ‬رأسيهما‭ ‬قبعتان‭ ‬عليهما‭ ‬نثار‭ ‬الثلج‭. ‬في‭ ‬وجوه‭ ‬الناس‭ ‬تساؤلات‭ ‬أدرك‭ ‬موريس‭ ‬سببها‭. ‬مضت‭ ‬بضع‭ ‬ثوان‭ ‬متثاقلة‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يسأله‭ ‬رئيس‭ ‬البلدية‭ ‬عن‭ ‬تلك‭ ‬الغرابة‭ ‬الموسيقية‭ ‬التي‭ ‬ما‭ ‬عرفتها‭ ‬القرية‭ ‬من‭ ‬قبل،‭ ‬ولا‭ ‬منذ‭ ‬أن‭ ‬دخلت‭ ‬المسيحية‭ ‬إليها‭ ‬قبل‭ ‬قرون‭ ‬وقرون‭. ‬لم‭ ‬يتلعثم‭ ‬موريس‭ ‬في‭ ‬الإجابة،‭ ‬بل‭ ‬قال‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬قضى‭ ‬على‭ ‬جميع‭ ‬أسباب‭ ‬القلق‭ ‬والخوف‭ ‬في‭ ‬أعماقه‭: ‬‮«‬صباح‭ ‬الخير،‭ ‬يا‭ ‬أهل‭ ‬القرية‭! ‬كان‭ ‬
لا‭ ‬بد‭ ‬لي‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬أفي‭ ‬بوعد‭ ‬قطعته‭ ‬على‭ ‬نفسي‭. ‬أما‭ ‬العازف‭ ‬فهو‭ ‬صديقي،‭ ‬هذا‭ ‬الذي‭ ‬ترونه‭ ‬الآن‭ ‬قبالتكم‮»‬‭.‬

برنوس‭ ‬أحمد‭ ‬القهوي‭ ‬يثير‭ ‬دهشتهم‭ ‬جميعا‭. ‬أدرك‭ ‬رئيس‭ ‬البلدية‭ ‬والدركيان‭ ‬أنهم‭ ‬أمام‭ ‬معضلة‭ ‬من‭ ‬المعضلات‭: ‬مسلم‭ ‬في‭ ‬كنيسة‭ ‬يعزف‭ ‬مقطوعة‭ ‬لباخ‭ ‬عند‭ ‬الفجر‭! ‬عندئذ،‭ ‬أشار‭ ‬رئيس‭ ‬البلدية‭ ‬إلى‭ ‬الدركيين‭ ‬باقتياد‭ ‬العازف‭ ‬إلى‭ ‬المخفر‭ ‬للتحقيق‭ ‬معه،‭ ‬فبادر‭ ‬أحدهما‭ ‬إلى‭ ‬وضع‭ ‬يده‭ ‬على‭ ‬ساعده‭ ‬نزولا‭ ‬عند‭ ‬أمره‭. ‬ثم‭ ‬خاطب‭ ‬راعي‭ ‬الكنيسة‭ ‬بقوله‭: ‬‮«‬أما‭ ‬أنت،‭ ‬فإن‭ ‬المسؤولين‭ ‬عنك‭ ‬سينظرون‭ ‬في‭ ‬أمرك‭!‬‮»‬‭ ‬وما‭ ‬أسرع‭ ‬ما‭ ‬ارتفعت‭ ‬همهمة‭ ‬المتجمهرين،‭ ‬واقترب‭ ‬أحدهم‭ ‬يبدو‭ ‬عليه‭ ‬أن‭ ‬له‭ ‬معرفة‭ ‬عميقة‭ ‬بالموسيقى،‭ ‬فسأله‭ ‬بصوت‭ ‬مرتفع‭: ‬‮«‬ولم،‭ ‬يا‭ ‬رئيس‭ ‬البلدية،‭ ‬نلقي‭ ‬القبض‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬العازف‭ ‬الفذ؟‭ ‬ألأنه‭ ‬تجرأ‭ ‬وقدم‭ ‬لنا‭ ‬معزوفة‭ ‬من‭ ‬معزوفات‭ ‬يوهانس‭ ‬باخ‭ ‬في‭ ‬كنيستنا‭ ‬هذه،‭ ‬وفي‭ ‬هذه‭ ‬اللحظات‭ ‬الأولى‭ ‬من‭ ‬الفجر؟‮»‬‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬الدركيين‭ ‬مضيا‭ ‬بأحمد‭ ‬إلى‭ ‬المخفر‭ ‬في‭ ‬صمت،‭ ‬بينما‭ ‬دخل‭ ‬رئيس‭ ‬البلدية‭ ‬الكنيسة‭ ‬لكي‭ ‬يتباحث‭ ‬مع‭ ‬موريس‭ ‬في‭ ‬أمر‭ ‬ما‭ ‬حدث‭. ‬وبقي‭ ‬المتجمهرون‭ ‬من‭ ‬أهل‭ ‬القرية‭ ‬ينتظرون‭ ‬مدة‭ ‬نصف‭ ‬ساعة‭ ‬خارج‭ ‬الكنيسة‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬البرودة‭ ‬الشديدة‭. ‬وعندما‭ ‬أبصروا‭ ‬راعي‭ ‬كنيستهم‭ ‬يخرج‭ ‬إليهم‭ ‬مبتسما‭ ‬مع‭ ‬رئيس‭ ‬البلدية،‭ ‬أدركوا‭ ‬أن‭ ‬الأمور‭ ‬سارت‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬يرام‭ ‬بينهما‭. ‬بدا‭ ‬التفهم‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬رئيس‭ ‬البلدية،‭ ‬أما‭ ‬راعي‭ ‬الكنيسة‭ ‬فوقف‭ ‬عند‭ ‬المدخل‭ ‬هادئ‭ ‬البال‭ ‬لا‭ ‬تشوب‭ ‬وجهه‭ ‬شائبة‭ ‬من‭ ‬حيرة‭ ‬أو‭ ‬قلق‭.  ‬قال‭ ‬الشخص‭ ‬الذي‭ ‬بدا‭ ‬عليه‭ ‬أنه‭ ‬على‭ ‬معرفة‭ ‬عميقة‭ ‬بالموسيقى‭: ‬‮«‬هذا‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬العازف‭ ‬الماهر‭ ‬سيطلق‭ ‬سراحه‭ ‬بعد‭ ‬حين‭. ‬لن‭ ‬نقبل‭ ‬بمعاقبته‭ ‬بتهمة‭ ‬أنه‭ ‬أيقظنا‭ ‬هذا‭ ‬الفجر‭ ‬الصقيعي،‭ ‬وعزف‭ ‬لنا،‭ ‬وهو‭ ‬المسلم‭ ‬القادم‭ ‬من‭ ‬بعيد،‭ ‬إحدى‭ ‬روائع‭ ‬يوهانس‭ ‬باخ‮»‬‭.‬

وعاد‭ ‬الجميع‭ ‬إلى‭ ‬مساكنهم‭ ‬غير‭ ‬عابئين‭ ‬بالثلج‭ ‬الذي‭ ‬جعل‭ ‬يتهاطل‭ ‬على‭ ‬قريتهم‭ ‬الجبلية‭ ‬النائية‭ .