قَدَمٌ هنا... وأُخرى هناك
منذ اللحظات الأولى التي درس فيها مع أستاذ البيانو مقطوعة «توكاتا» ليوهان سيباستيان باخ، وهو يردد في أعماقه: «هذه المقطوعة جديرة بأن تعزف في الهواء الطلق، أو في كنيسة قروية حتى تتناغم جملها الموسيقية مع وشوشات الطبيعة!».
وبالفعل، استقر قراره على أن تتكامل أجزاء المقطوعة في أعماقه، فعقد العزم على أن يقوم بآدائها في كاتدرائية «نوتردام» بباريس. ولما كان ذلك مستحيلا، ارتأى أن يحقق رغبته في مكان آخر. ولكن، في أي جهة؟ هل في مقدور ابن المغترب الجزائري المقهور أن يقفز فوق الحواجز، ويقف على النقيض مما هو مقبول ها هنا في أرض فرنسا؟
عرض الفكرة مرات ومرات على والده العجوز الذي يعيش منذ بضع سنوات على كرسي متنقل، فلم يتلق منه إلا تعليقا ساخرا: « ومن يصدقك، يا بني؟ من، يا ترى، يفكر في المزاوجة بين أمرين متناقضين جسدا وروحا؟».
حقا، هو مسلم، أو هو بقايا مسلم في أرض باريس. ويوم قرر أن يتعلم الموسيقى واختار آلة البيانو أداة للعزف، ضحك منه والده وأصدقاؤه من العاملين في أحد مناجم الأردواز، شمالي فرنسا. وما أكثر ما تعين عليه أن يتلقى السؤال التالي: «لم، يا تراك، يا أحمد، لا تتعلم العزف على الماندول أو الكمان بدلا من آلة لا وجود لها إلا داخل الفيلات الفخمة أو الكنائس؟».
سؤال معقول، وأعقل منه على حد تعبيره هو كيف استطاع أن يشق طريقه في هذه الديار الغريبة، وينال أعلى الشهادات في الدراسات الموسيقية؟ أجل، كيف استطاع ابن العامل المغترب القادم من أعماق الريف الجزائري، الباحث عن لقمة العيش، أن يتخطى الحواجز كلها، ويبز أقرانه من الطلبة الفرنسيين أنفسهم؟. وكانت الأسئلة الساخرة تتطامن عندئذ، ويتخذ الحديث معه وجهة أخرى. وكان له ما أراد.
دخل الكنيسة القروية العتيقة ذات فجر تخللته ثلوج صقيعية. صديقه موريس، راعي الكنيسة هو الذي فتح له الباب الجانبي الذي أقيم حديثا. وكان الظن قد ذهب به إلى أن موريس هذا لن يخاطر برتبته الكنسية ويستقبله نزولا عند سابق وعده. في الردهة، أزاح برنوسه القهوي الذي استقدمه من مسقط رأس والده، ونفض عنه حبات الثلج التي التصقت به. ابتدر صديقه بنبرة كلها دعابة:
انظر، يا موريس، ها أنا أخلع برنوسي بينما أنت تظل متدثرا بمسوحك الصوفي هذا.
لم يبد على راعي الكنيسة أنه كان راضيا عن استقباله في ذلك الفجر. الكنيسة بنيت منذ وقت طويل، وأعيد ترميمها في هذه المنطقة الجبلية النائية القريبة من جبال الألب المرصعة بالثلوج. والقرية التي تتربع عليها الكنيسة قديمة جدا، ويقول عنها بعض المؤرخين إنها تعود إلى الزمن الذي استقرت فيه الكاثوليكية جنوب فرنسا. حجارتها صارت ملساء بفعل تقلبات الطقس والأمطار والثلوج على مدار الأزمنة، وناس القرية يعيشون على أغنامهم وعلى صناعة الأجبان التي يجيدونها منذ قرون وقرون. هناك من يأتون على متون شاحنات صغيرة الحجم من مختلف مدن فرنسا وأوربا الغربية للتزود بالجبن وببعض الأواني الفخارية الجميلة.
ما كان صديقه، راعي الكنيسة، يعتقد أنه قد يغامر بنفسه، ويجيء من باريس في عز البرد، لكنه راجع حساباته في طرفة عين حين بلغته الطرقات على الباب الجانبي قبل الليلة الفائتة. جاء بمفرده، ولم يرد أن يصحبه أحد من زملائه الموسيقيين. تعارف الاثنان منذ بضع سنوات في باريس. كان هو يدرس الموسيقى، ويستعد لتحضير أطروحة عن موسيقى يوهانس سباستيان باخ، أما صديقه، راعي الكنيسة، فكان يدرس اللاهوت، ويعشق الموسيقى الكنسية عشقا جنونيا. أحمد جزائري مسلم، وموريس فرنسي أصيل، ومسيحي راسخ العقيدة أيضا. كانا يلتقيان مرة أو مرتين في الأسبوع الواحد بالقرب من جامعة السوربون، ويحتسيان القهوة معا بعد العصر، أي بعد أن يفرغ كل واحد منهما من أبحاثه الدراسية. وتعمقت الصداقة بينهما، ربما لأنهما ما كانا يتحدثان في شؤون السياسة أبدا، إدراكا منهما أن خوض غمار الحديث في السياسة وفي العلاقات المتوترة بين بلديهما لا بد أن يفسد كل شيء حتى وإن اتفقت أفكارهما حول بعض المواضيع. بل إنهما كانا ينويان التوجه معا إلى فيينا، عاصمة الموسيقى، لاستكمال الدراسة، أحمد في مجال علم التوافق الهارموني، وموريس في بعض جوانب علم اللاهوت. لكن جهلهما باللغة الألمانية حال دون تحقيق رغبتيهما. وأخذ أحمد بنصيحة أستاذه المشرف على أطروحته، فلم يغادر باريس إلى أي جهة لأنها تنطوي هي الأخرى على كل ما يريد التعمق فيه. ولم يكن هذا الأستاذ مخطئا، بل إنه صار صديقا حميما له هو الآخر. وكثيرا ما كان يصطحبه إلى بعض الحفلات الخاصة ويقدمه للحاضرين على أنه نابغة لا يشق له غبار في العزف على البيانو، ومن ثم على آلة الأورج.
ما كان راعي الكنيسة يتحرج منه ومن معتقده. لعل تقاربهما في السن هو الذي وثق الصداقة بينهما بالرغم من تباعد ما يؤمنان به في مجال الدين. حين عيِّن موريس على رأس هذه الكنيسة الجبلية جنوبي فرنسا، دعاه إلى زيارته في يوم من الأيام. وانتظر بضعة أشهر قبل أن يقدم على تلبية الدعوة، ثم اشترط على صديقه أن يفسح له المجال لكي يؤدي معزوفة من المعزوفات في كنيسته بعد أن استوثق من وجود آلة أورج بها.
سعى أهل القرية بمساعدة العديد من أهل الخير في سبيل تجديد آلة الأورج في الكنيسة. ونجحوا في تجديدها فعلا. وتصادف مسعاهم مع قدوم الراعي الجديد. كانوا يحبون الإنصات إلى المقطوعات التي يعزفها بعض الزائرين، خلال الصيف خاصة، ولكنهم ما كانوا ينتظرون أن يقدم أحد على العزف في لحظات الفجر الأولى وفي قلب الصقيع. ولذلك، حين انطلقت الجملة النغمية الأولى من معزوفة «توكاتا» لجوهان سباستيان باخ، اضطربوا في أسرَّتهم وفرشهم، وانتظروا بضع دقائق لكي يغادروها. كان الثلج قد غمر دروب القرية كلها على جري عادته في أواخر شهر ديسمبر، ثم إن البرد الشديد دفعهم إلى التدثر بمعاطفهم الخشنة قبل مغادرة دورهم. وتساءل بعضهم: «من يجرؤ على العزف في هذا الفجر؟ أهو راعي الكنيسة؟ أم هو سائح غريب الأطوار لا يعرف تقاليد القرية أصلا؟»،
الزوار يتكاثرون في هذا الموسم، وبالأمس فقط اضطروا للخروج إلى الشعاب القريبة بحثا عن شاب إنجليزي غاب أثره مع صاحبته.
حاول راعي الكنيسة أن يثنيه عن العزف بالرغم من أنه قدم له وعدا قاطعا بأن يفسح له المجال لتحقيق رغبته العجيبة. أكد أحمد له أن العزف في نظره أشبه ما يكون بنوبة جنون تنفجر وتفعل أفاعيلها، ثم يعود كل شيء إلى حالته الطبيعية. هو يعتبر نفسه الآن في لحظة من لحظات الجنون، ولن يقنعه أحد بالعدول عن قراره. ثم إنه لا يريد أن تفلت منه هذه الفرصة الذهبية بعد أن وقــــف قبالة آلة الأورج. هو وعد قطعه على نفسه بأن يعزف مقطوعة «توكاتا» في كنيسة، أيا ما كانت هذه الكنيسة.
الجملة النغمية الأولى من المعزوفة زعزعت كيان راعي الكنيسة. خشي على نفسه أولا، وفي بضع ثوان، حسب ألف حساب لردود أفعال أهل القرية ذلك الفجر. اليوم يوم جمعة، وليس يوم أحد. كيف يفسر لهم إقدام هذا الزائر الغريب على العزف في مثل هذه الساعة المبكرة، وفي قلب هذا البرد الصقيعي؟ يبدو أن أحمد ألقى بنفسه في بحر لا يعرف آخره. ها هي الجملة النغمية الأولى تتبعها الجملة الثانية التي تندرج ضمن الاستهلال. وها هي أصابع أحمد الرشيقة تقع على مفاتيح الأورج متسارعة، ولكن، بفخامة واتزان. الجملة النغمية الثانية هي هي، أي أنها أشبه ما تكون بباب ينفتح على مصراعيه قبل أن يتمكن إنسان ما من الولوج عبره. وها هو أحمد يهز رأسه من شدة الانتشاء برغم أنه لايزال في بداية المقطوعة. أما موريس، فقد وقف إلى جانبه هنيهة، ثم جعل يذرع وسط الكنيسة ذهابا وإيابا تحت وطأة الحيرة. أجل، كيف يفسر لأهل القرية غرابة هذا الذي يحدث في كنيستهم هذا الفجر؟ وما الذي سيقوله لأولئك الذين عينوه على رأسها؟
تتابعت الجمل النغمية، وحين بلغ الجملة العاشرة، تمايل طربا، إذ إنه اعتبرها دائما وأبدا بيت القصيد في معزوفة «توكاتا». هي جملة فيها الكثير من التلوينات، ولعل الموسيقيين الإسبان أخذوا الكثير منها، ولاسيما «إسحاق ألبنيز». ذلك ما أكده أحمد في أحاديثه مع زملائه من طلاب الموسيقى.
فرك راعي الكنيسة يديه، لا على سبيل تدفئتهما، بل من القلق المداهم. ما كان يدري أن صديقه سيقدم على هذه الجرأة التي لا نظير لها في تاريخ هذه الكنيسة، بل في تاريخ العلاقة بين مسلم ومسيحي. وبالرغم من أنه يطرب لموسيقى الأورج، فإنه في هذا الفجر أنأى ما يكون عن الاستمتاع بها. همه الأول والأخير الآن هو كيف يفسر مثل هذه الحالة الغريبة لجميع أبناء القرية. ثم تساءل: «أتراهم يطربون لما يبلغ آذانهم؟ قد يطربون، ولكنهم لن يتقبلوا أن يوقظهم إنسان ما عند الفجر، وفي مثل هذا الطقس البارد».
أمضى أحمد ثماني دقــــــائق واثنــــتين وثلاثين ثانية قبالة آلة الأورج، هي المدة التي تستغرقها مقطوعة «توكاتا» في العزف. حين ضغط على الجملة الهارمونية الأخيرة، لم يسارع إلى القيام من مكانه، بل جعل ينتظر رأي صديقه موريس المهموم بإيجاد ما يمكن قوله لأهل القرية. ثم قام من مكانه، ووضع برنوسه القهوي على كتفيه، وقد بدا عليه أنه أسعد الخلق طرا. لقد حقق ما يريده في هذه الكنيسة الجبلية ووسط الصقيع الثلجي، وهو مستعد الآن لتلقي أي عقوبة قد تنهال عليه دون صديقه موريس.
في هذه اللحظات بلغ سمعه طرق خفيف على الباب الذي ولج منه. تردد راعي الكنيسة في وقفته، وتبادل نظرات استفسار مع أحمد الذي قال له دون تردد: «اذهب، يا موريس، وافتح.. رئيس البلدية هو الذي يطرق عليك الباب الآن. أنا واثق من ذلك. هذا أمر منتظر من جانبه». ثم أضاف ببعض السخرية: «كنيستك هذه تمردت على جميع عاداتها!». وفتح موريس الباب بعد لأي، فإذا به قبالة جمع من أهل القرية يتقدمهم رئيس البلدية فعلا، وإلى يمينه اثنان من رجال الدرك في زيهما الرسمي من الصوف الخشن الأسود، وتعلو رأسيهما قبعتان عليهما نثار الثلج. في وجوه الناس تساؤلات أدرك موريس سببها. مضت بضع ثوان متثاقلة قبل أن يسأله رئيس البلدية عن تلك الغرابة الموسيقية التي ما عرفتها القرية من قبل، ولا منذ أن دخلت المسيحية إليها قبل قرون وقرون. لم يتلعثم موريس في الإجابة، بل قال بعد أن قضى على جميع أسباب القلق والخوف في أعماقه: «صباح الخير، يا أهل القرية! كان
لا بد لي من أن أفي بوعد قطعته على نفسي. أما العازف فهو صديقي، هذا الذي ترونه الآن قبالتكم».
برنوس أحمد القهوي يثير دهشتهم جميعا. أدرك رئيس البلدية والدركيان أنهم أمام معضلة من المعضلات: مسلم في كنيسة يعزف مقطوعة لباخ عند الفجر! عندئذ، أشار رئيس البلدية إلى الدركيين باقتياد العازف إلى المخفر للتحقيق معه، فبادر أحدهما إلى وضع يده على ساعده نزولا عند أمره. ثم خاطب راعي الكنيسة بقوله: «أما أنت، فإن المسؤولين عنك سينظرون في أمرك!» وما أسرع ما ارتفعت همهمة المتجمهرين، واقترب أحدهم يبدو عليه أن له معرفة عميقة بالموسيقى، فسأله بصوت مرتفع: «ولم، يا رئيس البلدية، نلقي القبض على هذا العازف الفذ؟ ألأنه تجرأ وقدم لنا معزوفة من معزوفات يوهانس باخ في كنيستنا هذه، وفي هذه اللحظات الأولى من الفجر؟» غير أن الدركيين مضيا بأحمد إلى المخفر في صمت، بينما دخل رئيس البلدية الكنيسة لكي يتباحث مع موريس في أمر ما حدث. وبقي المتجمهرون من أهل القرية ينتظرون مدة نصف ساعة خارج الكنيسة بالرغم من البرودة الشديدة. وعندما أبصروا راعي كنيستهم يخرج إليهم مبتسما مع رئيس البلدية، أدركوا أن الأمور سارت على ما يرام بينهما. بدا التفهم على وجه رئيس البلدية، أما راعي الكنيسة فوقف عند المدخل هادئ البال لا تشوب وجهه شائبة من حيرة أو قلق. قال الشخص الذي بدا عليه أنه على معرفة عميقة بالموسيقى: «هذا يعني أن العازف الماهر سيطلق سراحه بعد حين. لن نقبل بمعاقبته بتهمة أنه أيقظنا هذا الفجر الصقيعي، وعزف لنا، وهو المسلم القادم من بعيد، إحدى روائع يوهانس باخ».
وعاد الجميع إلى مساكنهم غير عابئين بالثلج الذي جعل يتهاطل على قريتهم الجبلية النائية .