نيكولاس دي لارجيّار «صورة توماس جيرمان وزوجته»

نيكولاس دي لارجيّار «صورة توماس جيرمان وزوجته»

في نوفمبر 1996م، باعت دار المزاد العلني «سوذبيز» في نيويورك طبقاً من الفضة بمبلغ عشرة ملايين ومائتي ألف دولار، ليصبح بذلك أغلى قطعة فضة واحدة في التاريخ. وصانع هذا الطبق هو الصائغ الفرنسي الشهير توماس جيرمان (1673 – 1748م) الظاهر مع زوجته في هذه اللوحة، والذي اشتهر بشكل خاص بصياغة أدوات موائد الطعام، وكان من بين زبائنه، إضافة إلى البلاط الفرنسي، ملوك نابولي وإسبانيا والبرتغال.

الرسام‭ ‬هو‭ ‬الفرنسي‭ ‬نيكولاس‭ ‬دي‭ ‬لارجيّار،‭ ‬الذي‭ ‬ولد‭ ‬في‭ ‬باريس‭ ‬عام‭ ‬1656م،‭ ‬ودرس‭ ‬الرسم‭ ‬في‭ ‬مشغل‭ ‬الفنان‭ ‬بيتر‭ ‬ليلي‭ ‬في‭ ‬إنجلترا،‭ ‬حيث‭ ‬لمع‭ ‬نجمه‭ ‬بسرعة،‭ ‬ووصلت‭ ‬شهرته‭ ‬إلى‭ ‬الملك‭ ‬تشارلز‭ ‬الثاني‭ ‬الذي‭ ‬أراد‭ ‬إبقاء‭ ‬الفنان‭ ‬في‭ ‬لندن،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬خوف‭ ‬الفنان‭ ‬من‭ ‬الاضطرابات‭ ‬الطائفية‭ ‬بين‭ ‬الكاثوليك‭ ‬والبروتستانت،‭ ‬دفعه‭ ‬للعودة‭ ‬إلى‭ ‬باريس‭. ‬واستمرار‭ ‬حذره‭ ‬من‭ ‬الاضطرابات‭ ‬في‭ ‬إنجلترا‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬جعله‭ ‬يرفض‭ ‬عرضاً‭ ‬آخر‭ ‬من‭ ‬الملك‭ ‬الإنجليزي‭ ‬جيمس‭ ‬الثاني‭ ‬الذي‭ ‬أراده‭ ‬أن‭ ‬يتولى‭ ‬مسؤولية‭ ‬العناية‭ ‬بمجموعة‭ ‬اللوحات‭ ‬الملكية‭. ‬

لقي‭ ‬دي‭ ‬لارجيّار‭ ‬حفاوة‭ ‬كبيرة‭ ‬في‭ ‬وطنه‭ ‬الأم،‭ ‬وكان‭ ‬في‭ ‬الثلاثين‭ ‬من‭ ‬عمره‭ ‬عندما‭ ‬قُبل‭ ‬عضواً‭ ‬في‭ ‬الأكاديمية‭ ‬الفرنسية‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يرأسها‭ ‬آنذاك‭ ‬الرسام‭ ‬شارل‭ ‬لو‭ ‬برون‭. ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬الأكاديمية‭ ‬صنّفته‭ ‬كرسام‭ ‬مواضيع‭ ‬تاريخية‭ (‬وهي‭ ‬المواضيع‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬الأرقى‭ ‬في‭ ‬نظر‭ ‬الأكاديمية‭ ‬حتى‭ ‬أواسط‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭)‬،‭ ‬فإن‭ ‬أشهر‭ ‬أعماله‭ ‬وأفضلها‭ ‬هي‭ ‬بلا‭ ‬شك‭ ‬الصور‭ ‬الشخصية‭ ‬التي‭ ‬رسمها‭ ‬لمعاصريه‭.‬

انهالت‭ ‬عليه‭ ‬الطلبات‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬حدب‭ ‬وصوب،‭ ‬فرسم‭ ‬العائلة‭ ‬المالكة‭ ‬الفرنسية،‭ ‬وملك‭ ‬بولندا،‭ ‬والعشرات‭ ‬من‭ ‬النبلاء‭ ‬الفرنسيين‭ ‬والأوربيين،‭ ‬ومن‭ ‬الفلاسفة‭ ‬رسم‭ ‬فولتير‭ ‬ومونتسكيو‭. ‬ففي‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭ ‬بدا‭ ‬وكأن‭ ‬المكانة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬المرموقة‭ ‬لأي‭ ‬شخصية‭ ‬لا‭ ‬تكتمل‭ ‬إلا‭ ‬بلوحة‭ ‬بريشة‭ ‬دي‭ ‬لارجيّار‭.  ‬تعود‭ ‬صورة‭ ‬الصائغ‭ ‬جيرمان‭ ‬وزوجته‭ ‬إلى‭ ‬عام‭ ‬1736م،‭ ‬عندما‭ ‬كان‭ ‬الفنان‭ ‬في‭ ‬ذروة‭ ‬شهرته‭ ‬وعطائه،‭ ‬كما‭ ‬هي‭ ‬حال‭ ‬الصائغ‭ ‬أيضاً‭. ‬ولعل‭ ‬أكثر‭ ‬ما‭ ‬قرّب‭ ‬بين‭ ‬الصائغ‭ ‬والرسام‭ ‬هو‭ ‬أنهما‭ ‬من‭ ‬أكبر‭ ‬أساتذة‭ ‬فن‭ ‬االروكوكوب‭ ‬القائم‭ ‬على‭ ‬الخطوط‭ ‬المنحنية‭ ‬والمنحنيات‭ ‬المعاكسة،‭ ‬والذي‭ ‬بلغ‭ ‬ذروة‭ ‬رواجه‭ ‬في‭ ‬أوربا‭ ‬بأسرها‭ ‬آنذاك‭.‬

 

الرسم‭ ‬بعفوية

رسم‭ ‬الفنان‭ ‬لوحته‭ ‬هذه‭ ‬بشغف‭ ‬ظاهر،‭ ‬ففي‭ ‬محيط‭ ‬من‭ ‬الألوان‭ ‬البنية‭ ‬والترابية‭ ‬الداكنة،‭ ‬خصّ‭ ‬وجهي‭ ‬الرجل‭ ‬وزوجته‭ ‬بالألوان‭ ‬الوردية‭ ‬الزاهية،‭ ‬ليجذب‭ ‬نظر‭ ‬المشاهد‭ ‬إليهما‭. ‬ومن‭ ‬دون‭ ‬اللونين‭ ‬الأزرق‭ ‬والأحمر‭ ‬في‭ ‬ملابس‭ ‬المرأة،‭ ‬كان‭ ‬مناخ‭ ‬اللوحة‭ ‬سيشبه‭ ‬مناخات‭ ‬لوحات‭ ‬البؤساء‭. ‬غير‭ ‬أن‭ ‬الثوب‭ ‬الداكن‭ ‬المبطن‭ ‬بقماش‭ ‬الساتان‭ ‬الأزرق‭ ‬الثمين‭ ‬جاء‭ ‬كافياً‭ ‬ليشير‭ ‬إلى‭ ‬المكانة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬المرموقة‭. ‬

غير‭ ‬أن‭ ‬أهم‭ ‬ما‭ ‬يميّز‭ ‬هذه‭ ‬اللوحة‭ ‬عن‭ ‬غيرها‭ ‬من‭ ‬الصور‭ ‬الشخصية‭ ‬الكثيرة‭ ‬التي‭ ‬أنجزها‭ ‬الرسام،‭ ‬هو‭ ‬العفوية‭ ‬المتمثلة‭ ‬في‭ ‬رسم‭ ‬الشخصيتين‭ ‬بملابس‭ ‬البيت‭ ‬أو‭ ‬العمل،‭ ‬بخلاف‭ ‬معظم‭ ‬لوحاته‭ ‬الأخرى،‭ ‬حيث‭ ‬نرى‭ ‬النبلاء‭ ‬والملوك‭ ‬بكامل‭ ‬ملابسهم‭ ‬الرسمية،‭ ‬وفي‭ ‬وضعيات‭ ‬شبه‭ ‬متحجرة‭. ‬وأضفى‭ ‬أسلوب‭ ‬االروكوكوب‭ ‬بحركته‭ ‬وخطوطه‭ ‬المنحنية‭ ‬مزيداً‭ ‬من‭ ‬الحيوية‭ ‬على‭ ‬اللوحة‭ ‬ككل‭. ‬طبعاً،‭ ‬لم‭ ‬يفت‭ ‬الرسام‭ ‬أن‭ ‬يزج‭ ‬في‭ ‬اللوحة‭ ‬ببعض‭ ‬أعمال‭ ‬الصائغ‭ ‬الشهير،‭ ‬فنراه‭ ‬هنا‭ ‬يسند‭ ‬يده‭ ‬اليمنى‭ ‬إلى‭ ‬إبريق‭ ‬من‭ ‬الفضة‭ ‬والبرونز،‭ ‬فيما‭ ‬يشير‭ ‬باليسرى‭ ‬إلى‭ ‬شمعدان‭ ‬من‭ ‬الفضة‭ ‬على‭ ‬الرف‭ ‬في‭ ‬الزاوية‭ ‬العلوية‭ ‬اليمنى‭.  ‬وكلا‭ ‬التحفتين‭ ‬الفضيتين‭ ‬مصوغة‭ ‬بأسلوب‭ ‬االروكوكوب‭ ‬الذي‭ ‬اشتهر‭ ‬به‭ ‬الصائغ‭. ‬كما‭ ‬نرى‭ ‬على‭ ‬الطاولة‭ ‬مجموعة‭ ‬رسائل‭ (‬طلبات‭ ‬الزبائن‭)‬،‭ ‬وكتاباً‭ ‬هو‭ ‬سجّل‭ ‬بالأعمال‭ ‬المزدهرة‭. ‬

فاللوحة‭ ‬ليست‭ ‬مجرد‭ ‬صورة‭ ‬زبون،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬صورة‭ ‬حليف‭ ‬فني‭ ‬يشارك‭ ‬الرسام‭ ‬نظرته‭ ‬إلى‭ ‬الجمال‭ .