الكونشرتو والموسيقى العربية

الكونشرتو والموسيقى العربية

«الكونشرتو» (le concerto) هو قالب موسيقي غربي الأصل، إذ يعود تاريخ ظهوره إلى فترة النهضة في أوربا القديمة (ق 16). وقد عرف هذا القالب تطورات عدة على مدى القرون، مروراً بمختلف الفترات أو الحقب التاريخية الموسيقية في البلدان الأوربية والتي يمكن أن نلخصها في فترة الباروك (l’ère baroque)، فترة الكلاسيك (l’ère classique)، وفترة الرومنطيق (l’ère romantique).

الكونشرتو في الغرب
ظهر الكونشرتو في مناخ ثقافي موسيقي ثري مناسب أعطى للموسيقى الآلية مكانة مهمة. فبعد أن سيطر «الغناء الديني الكنائسي»  على الساحة الفنية الأوربية حتى النصف الأول من القرون الوسطى ظهرت الموسيقى الآلية لتكسح البلاطات والحفلات الدنيوية، وذلك تدريجياً في النصف الثاني من العصور الوسطى. وبدأت الآلات تتخذ مكانة مهمة في الأعمال الموسيقية الآلية التي اختلطت فيها مكونات الموسيقى الدينية بإيقاعات الموسيقى الشعبية الراقصة. 
ومن هنا بدأ الغرب يطلقون على الموسيقى الغنائية اسم «الكانتاتا» (cantata)، وهو مصدر مشتق من اللغة الإيطالية تحديداً من فعل «كانتاري» (cantare) الذي يعني «الغناء»، في حين نعتت الموسيقى الآلية بـ «السوناتة» (sonate) ولهذه الكلمة الجذور نفسها، بيد أنها مشتقة من فعل «سوناري» (sonare) الذي يعني «إحداث رنين»، وهو ما يفسر ارتباطه بالعزف. «وتواصل استعمال مصطلح «السوناتة» للدلالة على «السيمفونية» و«الكونشرتو» وكل القوالب الغنائية الأخرى التي اعتبرها الغرب متساوية طوال القرن السابع عشر.
بعد ذلك تفرعت هذه الموسيقى الآلية إلى قوالب وتمايز  بعضها البعض بمجموعة من الخصائص، فكان الكونشرتو قالباً آلياً خاضعاً إلى ضوابط وتقنين نتيجة قرون من العمل التنظيري وتراكمات عدة لعديد الموسيقيين الغربيين من فترة «الباروك»، وصولاً إلى فترة «الكلاسيك». وساهمت قدرته في إبراز دور الآلة المنفردة في جلب اهتمامات الثقافات الأخرى في دخوله إلى الموسيقى العربية. 

الكونشرتو ودخوله إلى الثقافة الموسيقية العربية
تعرضت جل البلدان العربية إلى حملات استعمارية عسكرية، لم تقتصر على فرض النفوذ السياسي والاقتصادي فحسب، حيث كان لها التأثير الكبير في تطوير الحياة الثقافية لشعوب كل هذه البلدان.
وبذلك ساهمت ثقافات عدة في إثراء الموروث العربي الذي لم يقتصر البتة على أعمال ذات أسس مشرقية بحتة. وتندرج الثقافة الغربية ضمن هذه الثقافات الفاعلة والمُؤثرة في موروثنا العربي، وخير دليل على هذا هو وجود عديد من القوالب وأساليب وأشكال التعبير الفني ذات الأسس الغربية.
فاختلفت التسميات بين «فن تجديدي» و«فن ثوري» على الأعمال الناتجة عن عملية التثاقف هذه، ومن مظاهر هذا التثاقف على الصعيد الموسيقي الاعتماد على المنظومة التونالية والهارمونية، وتطوير تركيبة التخت العربي وجعلها متشابهة مع الأوركسترا السيمفوني، واعتماد القوالب ذات الأصول الغربية في عملية التأليف الموسيقي، أو ما يعرف بالتلحين. واختلفت الآراء في ما إذا كان هذا التجديد إثراء أو طمساً للموروث الموسيقي العربي، وتعددت التساؤلات حول إمكانية الجمع بين قالب ذي أصول غربية بوليفونية وتقاليد الموسيقى العربية المقامية التي تولي الأهمية الكبرى لخط لحني رئيسي واحد. فهل ساهم «الكونشرتو» في تغير ملامح الموسيقى الآلية العربية، أم أن العرب استطاعوا تطويع هذا القالب بما يتفق مع موسيقاهم، فصار قالباً غربياً بروح وخصائص عربية؟ 

الموسيقى الآلية العربية
إن المتمعن في الموروث الموسيقي العربي يلاحظ النقص الواضح والجلي للقوالب الآلية مقارنة بالقوالب الغنائية. وهو ما يؤكده قول باسم حنا بطرس: «نلاحظ الغلبة القائمة للموسيقى الغنائية التي باتت ولاتزال تحتل كل المساحات الفنية، بحيث لم تترك مجالاً لاستيعاب الموسيقى الآلية». ولعل السبب في ذلك يرجع إلى تمجيد الكلمة والمعاني الشعرية على حساب الجانب الآلي الموسيقي المجرد.
وبذلك اقتصرت الموسيقى الآلية في بادئ الأمر على بعض القوالب الدخيلة من حيث الأصول على الموسيقى العربية. وعادة ما تسبق هذه القوالب العمل الغنائي، بهدف تقديمه أو التمهيد له، وعلى سبيل المثال يمكن أن نذكر «الدولاب» أو «القد»...  وقد ساهمت عوامل عدة في تطور مكانة هذه القطع الآلية في الموسيقى العربية.

عوامل دخول قالب الكونشرتو إلى الموسيقى العربية
ساهمت عوامل عدة في إدخال قالب «الكونشرتو» إلى الموسيقى العربية، وسنحاول في ما يلي التعريج على أهم هذه العوامل:
- ساهمت حملة نابليون بونابارت على مصر (1798-1801)، بالإضافة إلى الواقع الاستعماري الذي عاشته جل الأقطار العربية في الاحتكاك بالثقافة الغربية، والارتماء في هذه الحضارة الدخيلة جراء الانبهار بالتقدم والرقي اللذين حققتهما النهضة الثقافية والفنية الغربية. 
- تطور الآلات وتقنيات العزف عليها، بالإضافة إلى توظيف بعض الآلات الغربية في التخت العربي وتغير طرق الأداء والتركيبة التقليدية للتخت العربي التي أصبحت شيئاً فشيئاً تشابه التركيبة الأوركسترالية الغربية.
- سهولة التأثير في الموسيقى العربية، وذلك بسبب اعتمادها على «التلقين الشفوي» وعدم خضوعها إلى عملية التدوين المعتمدة على الترقيم الموسيقي الغربي الذي يساهم بشكل أو بآخر في المحافظة على الموسيقى ودرء مخاطر التغيير أو التأثر بالروافد الخارجية عنها. وقد عبرت شيرين المعلوف عن هذه الفكرة بقولها:
«ساهم التقدم العلمي التكنولوجي في وصول القوالب الغربية الدخيلة واقتحامها الأذن العربية، وكذا ظهور فئة من الموسيقيين المنبهرين بثقافة الغرب والساعين إلى التجديد، بالاعتماد على مخزون هذه الثقافات الموسيقي».

كونشرتو عربي أم قالب الكونشرتو في الثقافة الموسيقية العربية؟
ساهم دخول «قالب الكونشرتو» في تطوير التأليف الآلي العربي الذي كان شبه مقتصر على دور التمهيد للوصلات الغنائية. ونظراً لما يتميز به هذا القالب من خصائص بوليفونية هارمونية ناتجة عن أصوله الغربية، فإن التأليف فيه قد غيَّر من المسارات اللحنية التي كانت معتمدة في التلاحين ذات التقاليد العربية البحتة. فأصبحنا نتلمس في هذه المسارات اللحنية مناخاً غربياً يركز بالخصوص على المقامات المشابهة (من حيث أبعاد سلَّمها) للسلالم الغربية. واتسع المجال الصوتي، مقارنة بما كان عليه قبل استعمال هذا القالب، فصار يمتد على أكثر من ديوانين ويفوق أحياناً الدواوين الثلاثة، وهو مجال صوتي لم نتعوده في المناخ الموسيقي العربي. 
والمتمعن في البناء اللحني لبعض «الكونشيرتات» الملحنة من طرف ملحنين عرب، أمثال عطية شرارة، عمار الشريعي، سيمون شاهين يلاحظ استغلال المؤلفين لبعض النماذج وتطويرها وتصويرها من خلال أساليب تأليف غربية مثل الزيادة، (augmentation) والاختصار (diminition) .
إن سيطرة الموسيقى الغربية على المسارات اللحنية لـ«الكونشيرتات العربية» لا ينكرها إلا جاحد، ولعلها راجعة إلى اعتماد هذا القالب على قواعد التأليف التونالية، بيد أن هذه السيطرة ليست كلية ولا تخلو من بعض الاستثناء، إذ يمكن ملاحظة بعض التغييرات، خاصة في ما يتعلق ببعض المقامات المستعملة ذات الأصول العربية، لكنه استعمال حذر يأخذ بعين الاعتبار البناء الهارموني للكونشرتو ولا يتناقض معه ■