السينما الملحمية

السينما الملحمية هي السينما التي تمجد الإنسان على الأرض بكل طموحه ومشاعره وآلامه وأخطائه. وقد قدمت السينما الأمريكية العديد من الأفلام التي تعد اليوم من كلاسيكيات السينما العالمية، والتي سنتناول بعضا منها في هذا المقال.
سنحاول في السطور التالية أن نستعرض أهم ملامح السينما الملحمية، ونقدم كيف تناولها كل فيلم، أو كيف تمت معالجتها في الأفلام المختلفة:
أولاً: البطل الفرد
الكثير من الأفلام الملحمية يحمل اسم هذا البطل الفرد، مثل: «سبارتكوس» (1960) من بطولة كيرك دوجلاس، لورانس أوليفييه، جين سيمونز ومن إخراج ستانلي كوبريك، وفيلم «بن هور» الذي قدم مرات عدة في السينما الأمريكية، أولاها كانت فيلما صامتا في العام 1907، ثم كان الفيلم الصامت الثاني في العام 1925، من بطولة رومان نافارو، وفرانسيز بوشمان وماي ماكفوي، ومن إخراج فرد نبلو ولكن النسخة الأشهر هي نسخة 1959 من بطولة شارلتون هستون وهايا هراريت وجاك هوكنز ومن إخراج وليام ويلر، والبطل الفرد يمثل استثناء ويعكس الطبيعة البشرية في مجموعها، وكيف يمكن للإنسان بالإيمان أن يكون بطلاً.
ثانيا: قضية الحرية
مأساة أبطال الأفلام الملحمية هي في البحث عن الحرية المسلوبة منهم، ومن عائلاتهم، وممن يعيشون معهم، في «سبارتكوس» يدور الصراع بين مجموعة من المصارعين العبيد وبين السادة الرومان الذين يعتبرون هؤلاء العبيد من الأشياء، ويدفعونهم للقتال بينهم حتى الموت، لكن الصراع يحتدم عندما يرفض أحد المصارعين قتل زميله في الحلبة، بل ويتجرأ ويقذف برمحه على منصة السادة، فيتم عقابه بقتله وتعليق جثته في ساحة السكن الذي يقيم فيه المصارعون، ليكون أمثولة لهم، لكنهم في صباح اليوم التالي يقتلون حراسهم ويستولون على المكان ويبدأون ثورة ضد «روما» نفسها، التي تشعر بالخطر على الدولة كلها، القائمة على نظام صارم، يحتل العبيد فيه مكاناً مركزياً. ويرسل مجلس النواب الروماني القائد العسكري والسياسي الكبير «ماركوس ليسينوس» - لورانس أوليفييه - على رأس جيش جرار لمواجهة جيش «سبارتكوس» المكون من المصارعين المحررين والهاربين والفلاحين البسطاء الذين كانت الجيوش الرومانية قد جلبتهم من أرجاء الإمبراطورية للعمل لدى النبلاء الرومان، بينما كان «سبارتكوس» يخطط للذهاب للبحر وركوب السفن للإبحار بعيداً عن إيطاليا والتنعم بالحرية. وينتهي الفيلم بموت «سبارتكوس» على عمود خشبي، بينما ينظر لزوجته وحبيبته «فيرونيا» - جين سيمونز - تبتعد هي وابنه الرضيع بعد أن أكدت له أن ابنه سيكون حراً وسيعرف من هو أبوه ونضاله من أجل الحرية.
في فيلم «بن هور» تبدو القصة أكثر تعقيدا، فبن هور من عائلة يهودية ثرية تقطن القدس إبان السيطرة الرومانية على المنطقة والعالم، لكن مؤامرة تودي به وأمه وشقيقته للسجن بتهمة محاولة قتل الحاكم الروماني. ويتم نقله لروما وينتهي به الأمر للعمل على مجذاف في سفينة حربية مقيداً بالسلاسل مع العبيد وكأنه واحد منهم. لكنه في إحدى المعارك ينقذ حياة أدميرال روماني هو «كوينتس أرياس»، الذي كان معجباً بإيمان «بن هور» بربه وثقته بنفسه التي لا تتفق مع وضعه الاجتماعي وعمله. ونتيجة لهذه الصداقة العجيبة يقرر الإمبراطور الروماني بعد عودتهم إلى روما أن يهدي هذا العبد إلى الأدميرال كهدية للنصر الذي أحرزوه في المعركة. وفي الحفل الذي يقيمه الأدميرال في قصره يفاجئ الجميع بأن يجعل «جودا بن هور» في منزلة ابنه ويعطيه خاتمه (دليل السلطة)، لكن بن هور يصر على العودة إلى وطنه لينقذ أمه وشقيقته من السجن وينتقم من صديق طفولته القائد العسكري الروماني للقدس «ميسالا».
فكرة العودة للوطن بين الإنساني والسياسي
استعملت السينما العالمية الفيلم الملحمي في بداياتها - وربما حتى الآن - كشكل دعائي مؤثر من أجل شحن المتفرجين بقيم وأفكار ومشاعر تخدم الأهداف التي يرونها، وهذه الحقيقة السينمائية أكدتها الدراسات المتوالية التي قام عليها باحثون جادون من جميع أنحاء العالم، وفي فترات تاريخية متباعدة، بحيث نزعت عنها فكرة التأثير السياسي والتوجيه العقدي.
لذا يجب ألا نستغرب من تكرار فكرة العودة للوطن في كل الأفلام الملحمية تقريباً، التي غالباً ما تقترن بشعور إيماني عميق لدى البطل، يصل في بعض الأفلام إلى الإيحاء بأنه وعد من الرب بتحقيق اللقاء بالعائلة هناك.
في فيلم المصارع (2000) الأمريكي - البريطاني المشترك، من إخراج ريدلي سكوت وبطولة راسل كراو وجواكين فينيكس وكوني نيلسن، وبعد أن يقتل المصارع الإمبراطور في الحلبة أمام الجمهور وأعضاء البرلمان الحاضرين، تميل شقيقة الإمبراطور على المصارع الذي قتل شقيقها وتهمس له: «اذهب إليهم... اذهب»، وتستعرض الكاميرا صورة الحلم الذي كان يتكرر طوال الفيلم في خيال البطل، فنرى الزوجة والابن وكأنهما في منزل العائلة ينتظرانه. ونشعر بأنه سيلتقي بهما في الجنة بعد أن تعذر اللقاء على الأرض.
لكن هذا المعنى الإنساني الرقيق يصبح ملتبساً بمعنى سياسي صارخ حالما يصبح الوطن هو «الأراضي المقدسة في فلسطين» وعندما يكون البطل يهودياً بشكل صريح، وهو ما نجده في فيلمي «بن هور» (1959) و«باراباس» (1961) المأخوذ عن قصة بعنوان «باراباس اليهودي» للكاتب بار لاجركيفست وهي شخصية خيالية تظهر لأول مرة في مسرحية للكاتب كريستوفر مارلو بعنوان «يهودي مالطا» والتي كتبها في العام 1589 أو 1590.
لكن العلاقة بين العودة والبطل تتحول في فيلم «ذهب مع الريح» إلى علاقة مع الأرض المتمثلة في مزرعة «تارا» التي نشأت فيها البطلة سكارليت أوهارا وشهدت فيها أيام الصبا ونمو الحب والعائلة من حولها، قبل اندلاع الحرب الأهلية الأمريكية التي تجري أحداث الفيلم أثناءها. وتتحول فكرة العودة إلى الأمل الأخير لها بعد أن تموت ابنتها «بوني» ويهجرها زوجها «ريت باتلر» (كلارك جيبل) وينتهي الفيلم بها وهي تتمتم باسم «تارا» وتجلس وحيدة على سلم البهو بعد أن ودعها «ريت» نهائياً.
قصة الحب الخالدة
في جميع الأفلام الملحمية نجد قصة حب خالدة: بين «سبارتكوس» و«فيرونيا»، وبين «بن هور» و«إستر»، وبين «المصارع» و«زوجته». لكن هذه القصة تتسع لتصبح محور الفيلم في «ذهب مع الريح»، فحب «إسكارليت أوهارا» للسيد «أشلي وليكس» يسيطر على الأبطال والأحداث بشكل مؤثر. وفي المقابل نجد قصة الحب اليائس من القائد الروماني «ماركوس ليسينوس» لـ «فيرانيا»، الذي يصرح لها به عندما كانت في قصره بعد أن استولى عليها مخالفاً عهده لـ «باتيتاس» مالك العبيد المصارعين، الذي يلعب دوره «بيتر أستينوف»، الذي كان قد وعده بأن يكون هو المسؤول عن بيع العبيد بعد النصر عليهم. ودون أن يعلم أنه سيسرقها بعد قليل لمصلحة خصمه اللدود السيناتور «جراكوس» - يلعب دوره تشارلز ليتون - الذي منحها وابنها صكك الحرية الذي سينتقلان به في أمان مع «باتيتاس».
قالت فيرانيا لماركوس ليسينوس: إنه يستطيع أن يحصل على جسدها، لكنه لن يحصل على حبها، أو قلبها، لأنهما ملك «سبارتكوس» وحده. وواجهته بحقيقة أنه من شدة خوفه من «سبارتكوس» يريد أن يحصل على شيء يخصه عساه يتخلص من هذا الخوف.
وهذه هي مشكلة ريت باتلر في «ذهب مع الريح» مع سكارليت أوهارا، فحتى عندما تزوجها لم يستطع أن يجعلها تنسى حبها لأشلي وليكس. إن هناك شيئاً غامضاً يشبه الحلم ويتعدى المال والثروة والسلطة، وحتى الجسد، يأسر خيال المرأة ويسيطر عليها، بحيث لا تستطيع الفكاك منه، وهو الحب الذي يبحث عنه كل هؤلاء المحبون التعساء لدى بطلات الأفلام الملحمية دون جدوى. وهذا ما يجعل خصومهم ينتصرون عليهم قبل أن يقابلوهم.
الإنتاج والمناظر
لما كانت الأفلام الملحمية تهدف إلى التأثير في وجدان المتفرجين، وإقناعهم بصدق الأحداث التاريخية التي يشاهدونها، وربما صدق القضية التي يمثلها البطل ويدافع عنها، كانت الفخامة والبذخ والدقة التاريخية - قدر المستطاع - من مقومات الفيلم الملحمي.
في فيلم «بن هور» هناك مشهد لسباق الخيل بين «جودا بن هور» وخصمه اللدود القائد الروماني «ميسالا» ويستغرق المشهد على الشاشة (9 دقائق) مازال حتى اليوم يعد أعظم مشهد لسباق الخيل في الموروث السينمائي العالمي كله.
ولتصوير هذا المشهد بهذه الروعة، قامت الشركة المنتجة بتمهيد قطعة من الأرض بتكلفة بلغت مليون دولار في العام 1959، وقد عمل في هذه المهمة 1000 عامل لمدة عام كامل. وتم استيراد 400000 (أربعمائة ألف طن) من الرمال الصفراء المحببة الصغيرة من شواطئ البحر المتوسط. كما جلبت الشركة 78 حصاناً من يوغوسلافيا وصقلية - في إيطاليا - لكي تكون جاهزة للمشاركة في المشهد. وقامت الشركة ببناء حلقة شبيهة للحلقة الأصلية بجوارها لكي تتدرب فيها الخيول والممثلون قبيل التصوير، كما استخدمت لمبيت الخيل. وهنا يجب أن نذكر أن تكلفة الفيلم بما فيها أجور الممثلين والإقامة كانت ما يقارب 15 مليون دولار، لكنه حقق عوائد عند العرض الأول بلغت 147 مليون دولار، لكن هذه الأرباح الخيالية لا تقارن مع أرباح فيلم «ذهب مع الريح» الذي تكلف فقط ما يقرب من أربعة ملايين، بينما تعدت عوائد شباك التذاكر عند العرض الأول ما يزيد على 309 ملايين دولار. ويعود هذا إلى شهرة القصة التي كتبتها مارجريت ميتشيل وحصلت على جائزة «بوليتزر» للآداب، بجانب أنها تتناول مرحلة مهمة من التاريخ الأمريكي.
ولإدراك ضخامة هذه الأرقام نذكر أن فيلم المصارع (2000) من بطولة راسل كراو تكلف ما يقرب من 103 ملايين دولار، ولم تتجاوز عوائد شباك التذاكر عند العرض الأول 458 مليوناً. وبرغم ضخامة الرقم، فإن التكلفة العالية نسبيا والفارق الزمني، وزيادة عدد دور العرض السينمائي بشكل مذهل، تجعل المقارنة تميل إلى فيلم «ذهب مع الريح» بالتأكيد.
الجوائز والدعاية
تعد الجوائز السينمائية من أهم وسائل الدعاية غير المباشرة للأفلام. فبجانب أن الأفلام الفائزة - بل وحتى المرشحة - تنال قسطا من الدعاية أثناء حفل توزيع الجوائز والتي غالباً ما تحظى بتغطية إعلامية كبيرة - تلفزيونية وصحفية - نجد أن الجمهور بدأ يتأثر بتلك الجوائز، وخاصة «الأوسكار» التي تحظى بتقدير كبير لدى النقاد والجمهور العادي على السواء.
لكن ما لا يعرفه الكثيرون أن الشركات الكبرى تمارس ضغوطا كبيرة لكي تحقق أفلامها الجوائز، سواء بالرشى العينية المتمثلة في الهدايا والدعوات للإقامة في أفخم الفنادق لأعضاء لجان التحكيم والصحفيين والنقاد، أو من خلال الإعلانات التي تنشرها في الصحف والمجلات وفي القنوات التلفزيونية لتلك الأفلام.
ويرى البعض أن هذه «التربيطات» هي جزء من الصناعة والتسويق. ويرى البعض الآخر أن هذه «التربيطات» تخل بمبدأ المساواة في التنافس، لأن بعض الأفلام المستقلة لا تمتلك إمكانيات مادية ضخمة مثل شركات الإنتاج الكبرى. لكنها قد تصنع أفلاماً جميلة وتستحق الجوائز.
لكن الشفافية واستقلال الصحف النسبي، جعلا من الأفلام التي تفوز ولا تستحق عرضة لهجوم كبير، مما قلل من تدخلات الشركات للتأثير في لجان التحكيم، وإلا تعرضت المهرجانات وفكرة الجوائز نفسها للخطر.
والحقيقة أن الأفلام الملحمية كانت دائما ما تحصد الجوائز في المسابقات الدولية والمهرجانات، ففيلم «ذهب مع الريح» فاز بثماني جوائز أوسكار، وكان قد ترشح لـ 13 جائزة أوسكار. أما فيلم «بن هور» فقد فاز بـ 11جائزة، وكان ترشح لـ 12 جائزة أوسكار. وظل هو الفيلم الأكثر فوزا بجوائز الأوسكار من عام 1959 وحتى عام 1998 عندما نجح فيلم «تيتانيك»، بطولة ليوناردو دي كابريو وكيت وينسلوت، ومن إخراج جيمس كاميرون، في الحصول على العدد نفسه من الجوائز، الذي سرعان ما حصل عليه فيلم ملحمي آخر في عام 2004، وهو فيلم «ملك الخواتم، عودة الملك»، بطولة، إليا وود، وشين إستن ومن إخراج بيتر جاكسون.
أما فيلم المصارع بطولة راسل كراو وجواكين فينيكس، ومن إخراج ريدلي سكوت، فبرغم نجاحه الجماهيري الكبير، فإنه لم يستطع أن يحصل سوى على خمس جوائز أوسكار .