عروة بن الورد... أبو الفقراء

عروة بن الورد... أبو الفقراء

قال‭ ‬عنه‭ ‬النقاد‭ ‬إنه‭ ‬أضفى‭ ‬على‭ ‬الصعلكة‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الاحترام‭ ‬والتقدير،‭ ‬وذلك‭ ‬بما‭ ‬تحلّى‭ ‬به‭ ‬هذا‭ ‬الشاعر‭/‬الصعلوك‭ ‬من‭ ‬عطف‭ ‬وسخاء‭ ‬كبيرين‭ ‬على‭ ‬الفقراء،‭ ‬يساعدهم‭ ‬ويمد‭ ‬لهم‭ ‬يد‭ ‬العون،‭ ‬وربما‭ ‬ألقى‭ ‬بنفسه‭ ‬إلى‭ ‬التهلكة‭ ‬دفاعًا‭ ‬عنهم‭. ‬ووصفه‭ ‬مؤرخو‭ ‬الأدب‭ ‬قائلين‭: ‬لقد‭ ‬عُرف‭ ‬بين‭ ‬بني‭ ‬قومه‭ ‬بسماحته‭ ‬وخلقه‭ ‬القويم،‭ ‬وامتدحه‭ ‬عبدالملك‭ ‬بن‭ ‬مروان‭ ‬قائلاً‭: ‬مَن‭ ‬زعم‭ ‬أن‭ ‬حاتما‭ ‬كان‭ ‬أسمحَ‭ ‬الناس‭ ‬فقد‭ ‬ظلمه‭. ‬هذا‭ ‬الشاعر‭/‬الصعلوك‭ ‬هو‭ ‬عروة‭ ‬بن‭ ‬الورد‭ ‬العبسي‭ ‬الغطفاني،‭ ‬الشاعر‭ ‬الجاهلي‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يجمعُ‭ ‬الفقراء‭ ‬ويقوم‭ ‬بأمرهم‭ ‬إذا‭ ‬أخفقوا‭ ‬في‭ ‬غزواتهم‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬لهم‭ ‬معاش‭ ‬أو‭ ‬مغزى،‭ ‬على‭ ‬حد‭ ‬عبارة‭ ‬أبي‭ ‬الفرج‭ ‬الأصفهاني‭.‬

لا‭ ‬تذكر‭ ‬كتب‭ ‬التاريخ‭ ‬سنة‭ ‬ميلاده‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬الدقة،‭ ‬مع‭ ‬أنها‭ ‬تشير‭ ‬إلى‭ ‬أنه‭ ‬توفي‭ ‬قبل‭ ‬الهجرة‭ ‬النبوية‭ ‬بنحو‭ ‬ثلاثين‭ ‬عامًا،‭ ‬لكنها‭ ‬تتبسّط‭ ‬في‭ ‬وصف‭ ‬مغامراته‭ ‬وغزواته‭ ‬مع‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الصعاليك‭ ‬الذين‭ ‬نسبوا‭ ‬إليه،‭ ‬فعرف‭ ‬بعروة‭ ‬الصعاليك‭, ‬يحنو‭ ‬على‭ ‬مريضهم،‭ ‬ويرحم‭ ‬مسنّهم،‭ ‬ويساعد‭ ‬ضعيفهم،‭ ‬فيأخذ‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬ليقيم‭ ‬أود‭ ‬ذاك،‭ ‬كما‭ ‬لاحظ‭ ‬بعضهم‭.‬

جاء‭ ‬في‭ ‬أخباره،‭ ‬كان‭ ‬عروة‭ ‬إذا‭ ‬أصابت‭ ‬الناس‭ ‬سنة‭ ‬شديدة‭ ‬تركوا‭ ‬في‭ ‬دارهم‭ ‬المريض‭ ‬والكبير‭ ‬والضعيف،‭ ‬فيجمع‭ ‬هؤلاء‭ ‬فيكنُف‭ ‬عليهم‭ ‬الكُنُف‭ (‬أي‭ ‬يتخذ‭ ‬أماكن‭ ‬يؤويهم‭ ‬إليها‭) ‬ويطعمهم،‭ ‬ومن‭ ‬قوي‭ ‬منهم‭ ‬إما‭ ‬مريض‭ ‬يبرأ‭ ‬أو‭ ‬ضعيف‭ ‬تثوب‭ ‬قوته‭, ‬خرج‭ ‬به‭ ‬فأغار‭ ‬وجعل‭ ‬لأصحابه‭ ‬الباقين‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬نصيبا،‭ ‬حتى‭ ‬إذا‭ ‬أخصب‭ ‬الناس‭ ‬وألبنوا‭ ‬وذهبت‭ ‬السنة‭ ‬ألحق‭ ‬كل‭ ‬إنسان‭ ‬بأهله‭ ‬وقسم‭ ‬له‭ ‬نصيبه‭ ‬من‭ ‬غنيمة‭ ‬إن‭ ‬كانوا‭ ‬غنموها،‭ ‬فربما‭ ‬أتى‭ ‬الإنسان‭ ‬منهم‭ ‬أهله‭ ‬وقد‭ ‬استغنى،‭ ‬ولذلك‭ ‬لقّب‭ ‬بعروة‭ ‬الصعاليك‭.‬

أخبار‭ ‬كثيرة‭ ‬تداولتها‭ ‬كتب‭ ‬التراث‭ ‬تصوّر‭ ‬كرم‭ ‬عروة‭ ‬وإصراره‭ ‬على‭ ‬تقاسم‭ ‬ما‭ ‬يملك‭ ‬من‭ ‬غنائم‭ ‬مع‭ ‬فقراء‭ ‬قبيلته،‭ ‬وينبّه‭ ‬الدكتور‭ ‬عبدالحليم‭ ‬حفني‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الخصال‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬مجرّد‭ ‬كرم‭ ‬أو‭ ‬رغبة‭ ‬في‭ ‬الجود،‭ ‬وإنما‭ ‬كانت‭ ‬خصالاً‭ ‬أصيلة‭ ‬فيه،‭ ‬وربما‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬الصعاليك‭ ‬توحي‭ ‬بإيمانهم‭ ‬بأن‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬أيديهم‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬شركة‭ ‬بينهم‭ ‬وبين‭ ‬غيرهم،‭ ‬وبأنه‭ ‬ينبغي‭ ‬آلا‭ ‬يترك‭ ‬محروم‭ ‬أو‭ ‬بائس‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬عون‭ ‬أو‭ ‬رعاية‭, ‬مضيفًا‭ ‬أن‭ ‬كثرة‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬كرمهم‭ ‬في‭ ‬القصائد‭ ‬التي‭ ‬نظموا‭ ‬لا‭ ‬نستشفّ‭ ‬منها‭ ‬فخرًا‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬نستشفّ‭ ‬منها‭ ‬دفاعًا‭ ‬عن‭ ‬أنفسهم‭ ‬ضد‭ ‬لائميهم‭ ‬على‭ ‬الإسراف‭ ‬وتبديد‭ ‬المال‭. ‬يقول‭ ‬عروة‭:‬

دعيني‭ ‬للغنى‭ ‬أسعى‭ ‬فإني

رأيتُ‭ ‬الناسَ‭ ‬شرُّهُم‭ ‬الفقيرُ

وأبعدُهم‭ ‬وأهونُهم‭ ‬عليهم

وإن‭ ‬أمسى‭ ‬لهُ‭ ‬حسبٌ‭ ‬وخيرُ

ويُقصيهِ‭ ‬الدنيُّ‭ ‬وتزدريهِ

حليلتُهُ‭ ‬وينهرُهُ‭ ‬الصغيرُ

ويلقى‭ ‬ذا‭ ‬الغِنى‭ ‬ولهُ‭ ‬جلالٌ

يكادُ‭ ‬فؤادُ‭ ‬صَاحبِهِ‭ ‬يَطيرُ

قليلٌ‭ ‬ذنبُهُ‭ ‬والذنبُ‭ ‬جمٌّ

ولكن‭ ‬للغنى‭ ‬ربٌّ‭ ‬غفورُ

قال‭ ‬ابن‭ ‬الإعرابي‭: ‬أجدب‭ ‬ناس‭ ‬من‭ ‬بني‭ ‬عبس‭ ‬في‭ ‬سنة‭ ‬أصابتهم،‭ ‬فأهلكت‭ ‬أموالهم‭ ‬وأصابهم‭ ‬جوع‭ ‬شديد‭ ‬وبؤس،‭ ‬فأتوا‭ ‬عروة‭ ‬بن‭ ‬الورد‭ ‬فجلسوا‭ ‬أمام‭ ‬بيته،‭ ‬فلما‭ ‬رأوه‭ ‬صرخوا‭: ‬‮«‬يا‭ ‬أبا‭ ‬الصعاليك‭ ‬أغثنا‮»‬‭ ‬فَرقَّ‭ ‬لهم‭. ‬وخرج‭ ‬ليغزو‭ ‬بهم،‭ ‬ويصيب‭ ‬معاشا،‭ ‬فنهته‭ ‬امرأته‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬لما‭ ‬تخوّفت‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬الهلاك‭ ‬فعصاها،‭ ‬وخرج‭ ‬غازيا‭ ‬وقد‭ ‬صوّر‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬قصائده‭ ‬الجميلة،‭ ‬وأثبت‭ ‬الحوار‭ ‬الطريف‭ ‬الذي‭ ‬انعقد‭ ‬بينه‭ ‬وبينها،‭ ‬وخلال‭ ‬هذا‭ ‬الحوار‭ ‬عدّد‭ ‬عروة‭ ‬القيم‭ ‬التي‭ ‬ينهض‭ ‬عليها‭ ‬‮«‬مذهب‮»‬‭ ‬الصعلوك،‭ ‬وهي‭ ‬قيم‭ ‬الإيثار‭ ‬والفتوة‭ ‬والحميّة‭... ‬فالصعلوك‭ ‬وإن‭ ‬خرج‭ ‬على‭ ‬سلطان‭ ‬القبيلة‭ ‬وسطوتها،‭ ‬فإنّه‭ ‬لم‭ ‬يخرج‭ ‬على‭ ‬قيمها‭ ‬وجملة‭ ‬نواميسها‭.‬

وسائلةٍ‭ ‬أين‭ ‬الرحيلُ‭ ‬وسائلِ

ومن‭ ‬يسأل‭ ‬الصعلوكَ‭ ‬أين‭ ‬مذاهبه؟

مذهبهُ‭ ‬أن‭ ‬الفِجاجَ‭ ‬عريضةٌ

إذا‭ ‬ضنَّ‭ ‬عنهُ‭ ‬بالفعالِ‭ ‬أقاربه

فلا‭ ‬أتركُ‭ ‬الإخوانَ‭ ‬ما‭ ‬عشت‭ ‬للردى

كما‭ ‬أنهُ‭ ‬لا‭ ‬يتركُ‭ ‬الماءَ‭ ‬شاربه

ولا‭ ‬يستضامُ‭ ‬الدهرَ‭ ‬جاري‭ ‬ولا‭ ‬أرى

كمن‭ ‬بات‭ ‬تسري‭ ‬للصديق‭ ‬عقاربه

وإن‭ ‬جارتي‭ ‬ألوت‭ ‬رياحٌ‭ ‬ببيتها

تغافلتُ‭ ‬حتى‭ ‬يستُرَ‭ ‬البيتَ‭ ‬جانبه

ثمة‭ ‬صورة‭ ‬دأب‭ ‬النقّاد‭ ‬ومؤرخو‭ ‬الأدب‭ ‬على‭ ‬رسمها‭ ‬لهذا‭ ‬الصعلوك،‭ ‬هي‭ ‬صورة‭ ‬الشاعر‭ ‬المرهف‭ ‬الحسّ،‭ ‬المدافع‭ ‬عن‭ ‬قيم‭ ‬العدالة،‭ ‬الحامي‭ ‬شرف‭ ‬الجارة،‭ ‬بل‭ ‬عملوا‭ ‬على‭ ‬تمييزه‭ ‬من‭ ‬بقية‭ ‬الصعاليك،‭ ‬وقالوا‭ ‬إنه‭ ‬لا‭ ‬يغزو‭ ‬للنهب‭ ‬والسلب‭ ‬كبقية‭ ‬شعراء‭ ‬الصعاليك‭ ‬أمثال‭ ‬‮«‬الشنفري‮»‬‭ ‬و«تأبط‭ ‬شرًا‮»‬،‭ ‬وإنما‭ ‬يغزو‭ ‬ليُعين‭ ‬الفقراء‭ ‬والمستضعفين‭ ‬حتى‭ ‬أطلق‭ ‬عليه‭ ‬لقب‭ ‬‮«‬أبي‭ ‬الفقراء‮»‬‭ ‬و«أبي‭ ‬المساكين‮»‬،‭ ‬مؤكدين‭ ‬أن‭ ‬عروة‭ ‬لم‭ ‬يُغر‭ ‬على‭ ‬كريم‭ ‬يبذل‭ ‬ماله‭ ‬للناس،‭ ‬بل‭ ‬كان‭ ‬يختار‭ ‬لغارته‭ ‬ممن‭ ‬عُرفوا‭ ‬بالبخل،‭ ‬ومن‭ ‬لا‭ ‬يمدون‭ ‬للمحتاج‭ ‬في‭ ‬قبائلهم‭ ‬يد‭ ‬العون،‭ ‬فلا‭ ‬يراعون‭ ‬ضعفًا‭ ‬ولا‭ ‬قرابة‭ ‬ولا‭ ‬حقًا‭ ‬من‭ ‬حقوق‭ ‬قومهم‭... ‬وبلغ‭ ‬عروة‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬لا‭ ‬يؤثر‭ ‬نفسه‭ ‬بشيء‭ ‬على‭ ‬مَن‭ ‬يرعاهم‭ ‬من‭ ‬صعاليكه،‭ ‬فلهم‭ ‬مثل‭ ‬حظه،‭ ‬سواء‭ ‬شاركوه‭ ‬في‭ ‬الغارات‭ ‬التي‭ ‬يشنها‭ ‬أو‭ ‬قعد‭ ‬بهم‭ ‬المرض‭ ‬أو‭ ‬الضعف،‭ ‬وهو‭ ‬بذلك‭ ‬يضرب‭ ‬مثلاً‭ ‬رفيعًا‭ ‬في‭ ‬الرحمة‭ ‬والإيثار‭. ‬وقد‭ ‬فاق‭ ‬إعجاب‭ ‬الناس‭ ‬بكرمه‭ ‬لدرجة‭ ‬أن‭ ‬عبدالملك‭ ‬بن‭ ‬مروان‭ ‬كان‭ ‬يقول‭: ‬‮«‬من‭ ‬زعم‭ ‬أن‭ ‬حاتمًا‭ ‬أسمح‭ ‬الناس‭ ‬فقد‭ ‬ظلم‭ ‬عروة‭ ‬بن‭ ‬الورد‭..‬‮»‬،‭ ‬بل‭ ‬ذهبوا‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬القول‭ ‬إنه‭ ‬كان‭ ‬يلقى‭ ‬العاشق‭ ‬المحب‭ ‬الذي‭ ‬يشكو‭ ‬الصدود،‭ ‬فينظم‭ ‬من‭ ‬أجله‭ ‬الشعر‭ ‬ويطلب‭ ‬إليه‭ ‬أن‭ ‬ينسبه‭ ‬إلى‭ ‬نفسه‭ ‬ويلقيه‭ ‬على‭ ‬أسماع‭ ‬معشوقته،‭ ‬وكان‭ ‬يقابل‭ ‬الضعيف‭ ‬الذي‭ ‬يشكو‭ ‬الظلم،‭ ‬فيخلع‭ ‬عليه‭ ‬زيه‭ ‬ويعطيه‭ ‬حصانه‭ ‬وحسامه‭.‬

 

التأويل‭ ‬النفسي‭ ‬للصحة

لكن‭ ‬كيف‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نتأول‭ ‬أسباب‭ ‬جنوح‭ ‬عروة‭ ‬إلى‭ ‬الصعلكة؟‭ ‬البعض‭ ‬أوّل‭ ‬هذا‭ ‬الجنوح‭ ‬تأويلاً‭ ‬نفسيًا،‭ ‬فذهب‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬أمه‭ ‬تنتهي‭ ‬إلى‭ ‬نهد‭ ‬من‭ ‬قضاعة،‭ ‬وهي‭ ‬بذلك‭ ‬أقل‭ ‬منزلة‭ ‬من‭ ‬أبيه‭. ‬وقد‭ ‬انعكست‭ ‬منزلة‭ ‬الأم‭ ‬على‭ ‬علاقة‭ ‬الولد‭ ‬بوالده‭ ‬الذي‭ ‬اضطهده‭ ‬وفضّل‭ ‬عليه‭ ‬الأخ‭ ‬الأكبر‭. ‬كما‭ ‬أن‭ ‬قومه‭ ‬احتقروه‭ ‬لدنوّ‭ ‬منزلة‭ ‬أمه‭. ‬فلم‭ ‬يكن‭ ‬إقباله‭ ‬على‭ ‬الغزو‭ ‬غاية‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬وعيًا‭ ‬شعوريًا‭ ‬واضحًا‭ ‬ولّده‭ ‬إحساس‭ ‬بالغبن‭ ‬الاجتماعي‭. ‬فالظلم‭ ‬والاضطهاد‭ ‬اللذان‭ ‬عانى‭ ‬منهما‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬والده‭ ‬دفعاه‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يصبح‭ ‬زعيم‭ ‬الصعاليك،‭ ‬وراح‭ ‬يغزو‭ ‬أصحاب‭ ‬الثروات‭ ‬والبخلاء‭ ‬ويوزع‭ ‬الغنائم‭ ‬على‭ ‬جماعته‭ ‬وعلى‭ ‬الفقراء‭.‬

لكنّ‭ ‬البعض‭ ‬الآخر‭ ‬أوّل‭ ‬هذا‭ ‬الجنوح‭ ‬بتوق‭ ‬عروة‭ ‬إلى‭ ‬تحقيق‭ ‬العدالة‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬وهذا‭ ‬التأويل‭ ‬دافع‭ ‬عنه‭ ‬الناقد‭ ‬يوسف‭ ‬خليف‭ ‬في‭ ‬دراسته‭ ‬الموسومة‭ ‬بـ«الشعراء‭ ‬الصعاليك‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬الجاهلي‮»‬،‭ ‬وهي‭ ‬الدراسة‭ ‬التي‭ ‬أفرغت‭ ‬مصطلح‭ ‬الصعلكة‭ ‬من‭ ‬دلالات‭ ‬الإغارة‭ ‬والسّبي‭ ‬والقتل،‭ ‬وملأته‭ ‬بدلالات‭ ‬الفداء‭ ‬والتضحية‭ ‬وحبّ‭ ‬العدل،‭ ‬فتحوّل‭ ‬الصعاليك،‭ ‬بسبب‭ ‬ذلك،‭ ‬من‭ ‬رجال‭ ‬ينتهبون‭ ‬السائر‭ ‬في‭ ‬الصحراء،‭ ‬يلتعبون‭ ‬به‭ ‬ويتخطّفونه‭ ‬ويأكلون‭ ‬ماله،‭ ‬إلى‭ ‬فتيان‭ ‬يشركون‭ ‬الفقراء‭ ‬في‭ ‬مال‭ ‬الأغنياء‭ ‬ويجعلون‭ ‬لهم‭ ‬فيه‭ ‬نصيبًا،‭ ‬بل‭ ‬حقًا‭ ‬يغتصبونه‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬يؤد‭ ‬إليهم‭.‬

هكذا‭ ‬استقرّت‭ ‬صورة‭ ‬الصعلوك‭ ‬في‭ ‬ذاكرتنا‭ ‬رمزًا‭ ‬للتمرد‭ ‬على‭ ‬القبيلة،‭ ‬للثورة‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬العدالة‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬للصراع‭ ‬بين‭ ‬طبقة‭ ‬الفقراء،‭ ‬ممثلة‭ ‬في‭ ‬شُذاذ‭ ‬القبائل‭ ‬وفقرائها،‭ ‬وطبقة‭ ‬المالة‭ ‬ممثلّة‭ ‬في‭ ‬الأغنياء‭. ‬وهو‭ ‬الصراع‭ ‬الذي‭ ‬ضم‭ - ‬في‭ ‬نظر‭ ‬يوسف‭ ‬خليف‭ - ‬براعم‭ ‬لم‭ ‬تتفتّح‭ ‬تمامًا‭ ‬من‭ ‬النظرية‭ ‬الاشتراكية‭ ‬الحديثة‭.‬

هذه‭ ‬المعاني‭ ‬أخذت‭ ‬شكل‭ ‬حقائق‭ ‬لم‭ ‬يقدم‭ ‬أحدٌ‭ ‬على‭ ‬تمحيصها‭ ‬واستقصائها‭ ‬والنظر‭ ‬فيها،‭ ‬بل‭ ‬ربّما‭ ‬وجدنا‭ ‬من‭ ‬كبار‭ ‬النقاد‭ ‬من‭ ‬سعى‭ ‬إلى‭ ‬توكيدها‭ ‬وترسيخها‭ ‬في‭ ‬العقول‭ ‬والأذهان‭. ‬هكذا‭ ‬انتقلت‭ ‬أفكار‭ ‬يوسف‭ ‬خليف‭ ‬إلى‭ ‬أعمال‭ ‬نقديّة‭ ‬أخرى‭ ‬وذابت‭ ‬في‭ ‬تضاعيفها،‭ ‬وهكذا‭ ‬تناسخت‭ ‬وتناسلت‭ ‬حتى‭ ‬نسي‭ ‬النقّاد‭ ‬الأصل‭ ‬الذي‭ ‬تحدرت‭ ‬منه‭. ‬ولعل‭ ‬أول‭ ‬من‭ ‬تلقّف‭ ‬هذه‭ ‬الأفكار‭ ‬وقدّمها‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬أكثر‭ ‬تناسقًا‭ ‬وجاذبية‭ ‬هو‭ ‬أدونيس‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬الثابت‭ ‬والمتحوّل‮»‬،‭ ‬حيث‭ ‬ذهب‭ - ‬كما‭ ‬ذهب‭ ‬يوسف‭ ‬خليف‭ ‬من‭ ‬قبله‭ - ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬الصعاليك‭ ‬كانوا‭ ‬يصدرون‭ ‬عن‭ ‬إحساس‭ ‬عفوي‭ ‬برفض‭ ‬الفروق‭ ‬الطبقية‭. ‬ويتجلّى‭ ‬الرفض‭ ‬أقوى‭ ‬ما‭ ‬يتجلّى‭ ‬في‭ ‬قصائد‭ ‬عروة‭ ‬بن‭ ‬الورد‭ ‬الذي‭ ‬تمرّد‭ ‬على‭ ‬القرابة‭ ‬الدموية‭ ‬والقبلية،‭ ‬وانفتح‭ ‬على‭ ‬الإنسان‭ ‬بما‭ ‬هو‭ ‬إنسان،‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬يتجاوز‭ ‬الولاء‭ ‬القبلي‭ ‬واللون‭ ‬والغنى‭. ‬ويؤكد‭ ‬أدونيس‭ ‬أن‭ ‬العالم‭ ‬الشعري‭ ‬الذي‭ ‬خلقه‭ ‬عروة‭ ‬في‭ ‬قصائده‭ ‬هو‭ ‬عالم‭ ‬الاحتفاء‭ ‬بالإنسان‭ ‬والمعاناة‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تحقيق‭ ‬هذا‭ ‬الاحتفاء‭. ‬لقد‭ ‬حوّل‭ ‬هذا‭ ‬الشاعر‭ ‬حياته‭ ‬إلى‭ ‬كفاح‭ ‬ضد‭ ‬الراهن‭ ‬الجائر‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يستغلّ‭ ‬الإنسان‭ ‬ويستهين‭ ‬به‭. ‬وفي‭ ‬مرحلة‭ ‬ثانية‭ ‬يتأمل‭ ‬أدونيس‭ ‬علاقة‭ ‬عروة‭ ‬بالموت‭ ‬فيقول‭ ‬إن‭ ‬بطولة‭ ‬عروة‭ ‬لا‭ ‬تؤمن‭ ‬بعالم‭ ‬آخر‭ ‬وراء‭ ‬الموت،‭ ‬بل‭ ‬تتخذ‭ ‬من‭ ‬الإنسان‭ ‬بدايتها‭ ‬ونهايتها‭. ‬فعروة‭ ‬لا‭ ‬يموت‭ ‬طمعًا‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬ينتظره‭ ‬وراء‭ ‬الموت،‭ ‬بل‭ ‬يموت‭ ‬لأنه‭ ‬يريد‭ ‬تحقيق‭ ‬مشروع‭ ‬أخلاقيّ‭ ‬يتمثل‭ ‬في‭ ‬تأصيل‭ ‬مفهوم‭ ‬العدالة‭ ‬بين‭ ‬الناس‭.‬

هذه‭ ‬المعاني‭ - ‬وغيرها‭ ‬كثير‭ - ‬ليست‭ ‬إلا‭ ‬ترديدًا‭ ‬لما‭ ‬قاله‭ ‬يوسف‭ ‬خليف‭ ‬وتزكية‭ ‬لجملة‭ ‬من‭ ‬الأفكار‭ ‬مازالت‭ ‬في‭ ‬حاجة‭ ‬إلى‭ ‬استقراء‭ ‬واستقصاء‭ ‬وفحص‭.‬

 

الصعلوك‭ ‬والتضحية

أما‭ ‬الناقد‭ ‬جابر‭ ‬عصفور‭ ‬فإنه‭ ‬يؤكد،‭ ‬بوضوح،‭ ‬أنه‭ ‬مازال‭ ‬مقتنعًا‭ ‬بما‭ ‬علّمه‭ ‬إيّاه‭ ‬أستاذه‭ ‬يوسف‭ ‬خليف‭ ‬من‭ ‬أنّ‭ ‬التمرّد‭ ‬المتفجّر‭ ‬في‭ ‬شعر‭ ‬الصعاليك‭ ‬قد‭ ‬أبرز‭ - ‬في‭ ‬نظره‭ - ‬ما‭ ‬قامت‭ ‬عليه‭ ‬حياة‭ ‬الصعلوك‭ ‬من‭ ‬معاني‭ ‬التضحية‭ ‬بالنفس‭ ‬في‭ ‬سبيل‭ ‬المبدأ‭ ‬وارتحاله‭ ‬الدائم‭ ‬في‭ ‬بلاد‭ ‬ليس‭ ‬فيها‭ ‬متسع‭.‬

لقد‭ ‬ظل‭ ‬جابر‭ ‬عصفور‭ ‬في‭ ‬مقالته‭ ‬التي‭ ‬نشرها‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬غواية‭ ‬التراث‮»‬‭ ‬سنة‭ ‬1995‭ ‬متشبثًا‭ ‬بآراء‭ ‬يوسف‭ ‬خليف،‭ ‬يشهد‭ ‬بها‭ ‬ويسعى‭ ‬إلى‭ ‬توكيدها‭.‬

لكن‭ ‬المعاني‭ ‬التي‭ ‬تضمنّها‭ ‬كتاب‭ ‬خليف‭ ‬لم‭ ‬تتسلل‭ ‬إلى‭ ‬الأعمال‭ ‬النقدية‭ ‬فحسب،‭ ‬وإنما‭ ‬تسلّلت‭ ‬إلى‭ ‬الأعمال‭ ‬الإبداعية‭ ‬أيضًا،‭ ‬حيث‭ ‬أصبح‭ ‬الصعلوك‭ ‬صورة‭ ‬للزعامة‭ ‬العادلة‭ ‬وقناعًا‭ ‬للثائر‭ ‬الذي‭ ‬استدرك‭ ‬على‭ ‬نواميس‭ ‬الواقع‭ ‬وقوانينه‭.‬

لقد‭ ‬ظلت‭ ‬قراءة‭ ‬يوسف‭ ‬خليف‭ ‬لشعر‭ ‬الصعاليك‭ ‬تُوجِّه‭ ‬الدارسين‭ ‬والمبدعين‭ ‬على‭ ‬حد‭ ‬سواء‭.‬

لا‭ ‬أحد‭ ‬من‭ ‬النقاد‭ ‬انعطف‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الشعر‭ ‬يتأوله‭ ‬من‭ ‬جديد،‭ ‬ولا‭ ‬أحد‭ ‬تمكّن‭ ‬من‭ ‬نقض‭ ‬آراء‭ ‬يوسف‭ ‬خليف‭ ‬أو‭ ‬الاستدراك‭ ‬عليها‭. ‬والحال‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬القراءة‭ ‬كانت‭ ‬مشروطة‭ ‬بلحظتها‭ ‬التاريخية،‭ ‬موصولة‭ ‬بظروف‭ ‬سياسية‭ ‬مخصوصة،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬قراءة‭ ‬بريئة‭ ‬أو‭ ‬محايدة،‭ ‬وإنما‭ ‬كانت‭ ‬قراءة‭ ‬ماكرة‭ ‬لا‭ ‬تقول‭ ‬المقروء،‭ ‬أي‭ ‬شعر‭ ‬الصعاليك،‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬تقول‭ ‬القارئ،‭ ‬ولا‭ ‬تفصح‭ ‬عن‭ ‬الموروث‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬تفصح‭ ‬عن‭ ‬الوارث‭.‬

لقد‭ ‬نشر‭ ‬الدكتور‭ ‬خليف‭ ‬كتابه‭ ‬سنة‭ ‬1955،‭ ‬أي‭ ‬حين‭ ‬تحوّلت‭ ‬مصر‭ ‬إلى‭ ‬الاشتراكية،‭ ‬وباتت‭ ‬العدالة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬خيارًا‭ ‬سياسيًا‭ ‬انحاز‭ ‬إليه‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬المثقفين‭.‬

هذه‭ ‬المرحلة،‭ ‬مرحلة‭ ‬الخيار‭ ‬الاشتراكي،‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬وراء‭ ‬استحضار‭ ‬هذه‭ ‬الرموز‭ ‬الشعرية‭ ‬ووراء‭ ‬ضخها‭ ‬بدماء‭ ‬جديدة‭. ‬ولا‭ ‬غرابة‭ ‬في‭ ‬ذلك،‭ ‬بما‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬حقبة‭ ‬من‭ ‬حقب‭ ‬التاريخ‭ ‬تُبطل،‭ ‬كما‭ ‬أوضح‭ ‬لوتمان،‭ ‬سلطان‭ ‬رموز‭ ‬معينة،‭ ‬وتبعث‭ ‬من‭ ‬الرماد‭ ‬رموزًا‭ ‬أخرى‭ ‬تزكّيها‭. ‬كل‭ ‬حقبة‭ ‬تهيل‭ ‬التراب‭ ‬على‭ ‬نصوص،‭ ‬وتعيد‭ ‬خلق‭ ‬نصوص‭ ‬أخرى‭ ‬خلقًا‭ ‬ثانيًا‭.‬

في‭ ‬هذا‭ ‬السياق‭ ‬نفهم‭ ‬سبب‭ ‬العودة‭ ‬في‭ ‬الخمسينيات‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬إلى‭ ‬شعر‭ ‬الصعاليك،‭ ‬ونفهم‭ ‬خاصة‭ ‬سبب‭ ‬تأوّلها‭ ‬تأويلاً‭ ‬اجتماعيًا‭.‬

لقد‭ ‬لاحظ‭ ‬يوسف‭ ‬خليف‭ ‬نفسه‭ ‬أن‭ ‬ديوان‭ ‬الشعر‭ ‬العربي‭ ‬قد‭ ‬أهمل‭ ‬لقرون‭ ‬عدة‭ ‬شعر‭ ‬الصعاليك،‭ ‬استبعده‭ ‬وحوّله‭ ‬إلى‭ ‬هامش،‭ ‬أي‭ ‬إلى‭ ‬بضعة‭ ‬من‭ ‬الأبيات‭ ‬المتناثرة‭ ‬التي‭ ‬يفزع‭ ‬إليها‭ ‬أهل‭ ‬اللغة‭ ‬كلما‭ ‬أرادوا‭ ‬شاهدا‭ ‬يؤكد‭ ‬قاعدة‭ ‬أو‭ ‬يثبت‭ ‬استثناء‭. ‬فهذا‭ ‬الشعر‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬محلّ‭ ‬عناية‭ ‬الرّواة‭ ‬ولا‭ ‬رعاية‭ ‬النقّاد،‭ ‬فلا‭ ‬هؤلاء‭ ‬أقبلوا‭ ‬على‭ ‬دراسته،‭ ‬ولا‭ ‬أولئك‭ ‬عملوا‭ ‬على‭ ‬جمعه‭.‬

لكن‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬تنكبّ‭ ‬عنه‭ ‬النقّاد‭ ‬القدماء‭ ‬تعفّفًا‭ ‬أو‭ ‬ترفّعا‭ ‬أو‭ ‬بحثا‭ ‬عن‭ ‬سلامة‭ ‬موهومة،‭ ‬أقبل‭ ‬عليه‭ ‬النقّاد‭ ‬المعاصرون‭ ‬يقرأونه‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬وعي‭ ‬حديث،‭ ‬خالعين‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬المعاني‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬مستمدّ‭ ‬من‭ ‬ثقافتهم‭ ‬الفكرية‭ ‬والسياسية‭ ‬الحديثة‭.‬

لهذا‭ ‬نحن‭ ‬نستغرب‭ ‬قول‭ ‬يوسف‭ ‬خليف‭ ‬إن‭ ‬موضوع‭ ‬الصعاليك‭ ‬قد‭ ‬قفز‭ ‬إلى‭ ‬ذهنه،‭ ‬فجأة،‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬تسوّغه‭ ‬أسباب‭ ‬موضوعية‭ ‬تسنده‭ ‬وتؤكده‭. ‬ونذهب‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الموضوع‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬ليخطر‭ ‬بذهن‭ ‬الرجل‭ ‬لولا‭ ‬طبيعة‭ ‬المرحلة‭ ‬السياسية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تمرّ‭ ‬بها‭ ‬مصر‭. ‬فهذه‭ ‬الدراسة‭ ‬لا‭ ‬تكشف،‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬عن‭ ‬العصر‭ ‬الجاهلي‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬تكشف‭ ‬عن‭ ‬العصر‭ ‬الحديث،‭ ‬ولا‭ ‬تقول‭ ‬هواجس‭ ‬الصعاليك‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬تقول‭ ‬هواجس‭ ‬الكاتب‭ ‬وأحلامه‭.‬

ونحبّ‭ ‬الآن‭ ‬أن‭ ‬نسأل‭:‬

هل‭ ‬يمكن‭ ‬التوسّل‭ ‬بمقاربات‭ ‬أخرى‭ ‬نقرأ‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬هذه‭ ‬القصيدة؟

 

التمرد‭ ‬أولاً

إن‭ ‬قراءة‭ ‬متأنّية‭ ‬لهذا‭ ‬الشعر‭ ‬تكشف‭ ‬عن‭ ‬وجود‭ ‬مداخل‭ ‬أخرى‭ ‬كثيرة‭ ‬يمكن‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬الإنصات‭ ‬إلى‭ ‬قصيدة‭ ‬الصعاليك،‭ ‬واحتواء‭ ‬تجربتها‭. ‬فالصعلوك‭ -‬‭ ‬كما‭ ‬نحب‭ ‬أن‭ ‬نزعم‭ - ‬هو‭ ‬قبل‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬متمرّد‭ ‬في‭ ‬قصيدته،‭ ‬فإذا‭ ‬كان‭ ‬يوسف‭ ‬خليف‭ ‬قد‭ ‬أكّد‭ ‬أن‭ ‬الصعلوك‭ ‬خرج‭ ‬على‭ ‬تقاليد‭ ‬القبيلة‭ ‬ونواميسها،‭ ‬فنحن‭ ‬نؤكد‭ ‬أن‭ ‬الصعلوك‭ ‬قد‭ ‬خرج‭ ‬على‭ ‬تقاليد‭ ‬القصيدة‭ ‬الجاهلية‭ ‬السائدة‭ ‬وقواعدها‭. ‬فالصعلوك‭ ‬واجه‭ ‬الذاكرة‭ ‬الجماعية‭ ‬بالذاكرة‭ ‬الفردية،‭ ‬فلم‭ ‬يستعد‭ ‬بنية‭ ‬القصيدة‭ ‬التقليدية‭ ‬ولم‭ ‬يسترجع‭ ‬صورها‭ ‬المتواترة،‭ ‬وإنما‭ ‬أسس‭ ‬بنى‭ ‬جديدة‭ ‬وشكل‭ ‬صورا‭ ‬مستحدثة‭ ‬متحها‭ ‬من‭ ‬تجربته،‭ ‬من‭ ‬حياته،‭ ‬من‭ ‬أوجاعه‭. ‬فعالم‭ ‬النص‭ ‬في‭ ‬قصائد‭ ‬الصعاليك‭ ‬ليس‭ ‬منفصلاً‭ ‬عن‭ ‬نص‭ ‬العالم‭: ‬إنهما‭ ‬متداخلان‭ ‬متشابكان‭.‬

قصيدة‭ ‬الصعلوك‭ ‬تحرّكت‭ ‬في‭ ‬أفق‭ ‬جمالي‭ ‬وفنّي‭ ‬يختلف‭ ‬عن‭ ‬الآفاق‭ ‬التي‭ ‬تحرّكت‭ ‬فيها‭ ‬قصائد‭ ‬الشعراء‭ ‬الجاهليين‭. ‬اختارت‭ ‬هذه‭ ‬القصيدة‭ ‬لغة‭ ‬الخرافة‭ ‬وبنيتها‭ ‬ورموزها‭. ‬فالدخول‭ ‬إلى‭ ‬فضائها‭ ‬دخول‭ ‬في‭ ‬فضاء‭ ‬تملأه‭ ‬أشباح‭ ‬الغيلان‭ ‬وتتجاوب‭ ‬فيه‭ ‬أصوات‭ ‬الذؤبان،‭ ‬ويتراءى‭ ‬فيه‭ ‬الإنسان‭ ‬بقناع‭ ‬الحيوان،‭ ‬والحيوان‭ ‬بقناع‭ ‬الإنسان،‭ ‬لكأن‭ ‬غرض‭ ‬هذا‭ ‬الشعر‭ ‬يتمثل‭ ‬في‭ ‬إخراجنا‭ ‬من‭ ‬عهد،‭ ‬وإدخالنا‭ ‬في‭ ‬عهد‭ ‬آخر‭ ‬مختلف،‭ ‬إخراجنا‭ ‬من‭ ‬عهد‭ ‬اللوغوس‭ ‬والقوانين‭ ‬الثابتة‭ ‬والتقاليد‭ ‬الراسخة‭ ‬إلى‭ ‬عهد‭ ‬الميتوس‭ ‬والفراديس‭ ‬الضائعة‭ ‬والبدايات‭ ‬السعيدة،‭ ‬حيث‭ ‬الحدود‭ ‬بين‭ ‬الممالك‭ ‬الثلاث‭: ‬مملكة‭ ‬الإنسان،‭ ‬ومملكة‭ ‬الحيوان،‭ ‬ومملكة‭ ‬النبات‭ ‬لم‭ ‬تزل‭ ‬غامضة‭ ‬ملتبسة‭. ‬في‭ ‬هذه‭ ‬القصيدة‭ ‬يتحول‭ ‬الصعاليك‭ ‬إلى‭ ‬ذئاب،‭ ‬يرفعون‭ ‬أصواتهم‭ ‬بالعواء،‭ ‬ويرتقون‭ ‬المراقب‭ ‬يرصدون‭ ‬الفرائس،‭ ‬بينما‭ ‬تتحول‭ ‬الأوابد‭ ‬والكواسر‭ ‬إلى‭ ‬كائنات‭ ‬عاقلة‭ ‬تخاطب‭ ‬الإنسان‭ ‬خطاب‭ ‬القرين‭ ‬للقرين‭. ‬الشعر‭ ‬هنا‭ ‬عودٌ‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬الطبقات،‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬الصراع،‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬القوانين،‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬الممنوع‭ ‬والمباح‭. ‬فالصورة‭ ‬التي‭ ‬يرسمها‭ ‬الصعلوك‭ ‬عن‭ ‬نفسه‭ ‬هي‭ ‬صورة‭ ‬الرجل‭ ‬الذي‭ ‬استبدل‭ ‬التحضّر‭ ‬بالتبدّي،‭ ‬والناس‭ ‬بالضواري،‭ ‬والأنس‭ ‬بالوحشة،‭ ‬كل‭ ‬قصائد‭ ‬الصعاليك‭ ‬ليست‭ ‬إلا‭ ‬وصفًا‭ ‬لهذه‭ ‬الرحلة‭ ‬المعكوسة‭: ‬رحلة‭ ‬الإنسان‭ ‬من‭ ‬الحاضر‭ ‬إلى‭ ‬الماضي،‭ ‬من‭ ‬الحضارة‭ ‬إلى‭ ‬التوحّش،‭ ‬من‭ ‬مملكة‭ ‬العقل‭ ‬إلى‭ ‬مملكة‭ ‬الغرائز‭ ‬والرغبات‭ ‬المضطربة‭.‬

هذه‭ ‬الرحلة‭ ‬المعكوسة‭ ‬إنما‭ ‬هي‭ ‬إيقاع‭ ‬متواتر‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬الأعمال‭ ‬الأدبية‭ ‬الكبرى‭: ‬ملحمة‭ ‬كلكامش،‭ ‬الأوديسا،‭ ‬ألف‭ ‬ليلة‭ ‬وليلة،‭ ‬حيّ‭ ‬بن‭ ‬يقظان،‭ ‬روبنسون‭ ‬كروزو،‭ ‬عوليس،‭ ‬متاهات‭ ‬برخس‭.‬

في‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬الأعمال‭ ‬حاول‭ ‬الإنسان‭ ‬أن‭ ‬يستنبت‭ ‬أجنحة‭ ‬ويعود‭ ‬إلى‭ ‬الفردوس‭ ‬الذي‭ ‬تركه‭ ‬منذ‭ ‬زمن‭ ‬بعيد،‭ ‬حاول‭ ‬أن‭ ‬يلغي‭ ‬كل‭ ‬أزمنة‭ ‬القهر‭ ‬والقمع،‭ ‬ويسترجع‭ ‬طفولة‭ ‬الكائن‭ ‬والكون‭ ‬معا‭. ‬وسواء‭ ‬أكانت‭ ‬هذه‭ ‬الرحلة‭ ‬إلى‭ ‬الداخل‭ ‬أم‭ ‬إلى‭ ‬الخارج‭ ‬فالنتيجة‭ ‬واحدة،‭ ‬وهي‭ ‬استدراج‭ ‬اللغة‭ ‬حتى‭ ‬تقول‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬متوحّش‭ ‬وبريء‭ ‬وغامض‭ ‬فينا،‭ ‬أي‭ ‬أن‭ ‬تقول،‭ ‬بعبارة‭ ‬واحدة،‭ ‬رعشتنا‭ ‬أمام‭ ‬المجهول،‭ ‬مجهول‭ ‬الذات‭ ‬والعالم‭ ‬من‭ ‬حولنا،‭ ‬وقد‭ ‬تمكّنت،‭ ‬في‭ ‬نظري،‭ ‬قصيدة‭ ‬الصعاليك‭ ‬من‭ ‬وصف‭ ‬هذه‭ ‬الرعشة‭,  ‬وقالت‭ - ‬بطريقة‭ ‬باذخة‭ - ‬رغبتنا‭ ‬في‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬شجرة‭ ‬المعرفة‭ ‬من‭ ‬جديد،‭ ‬وإصرارنا‭ ‬على‭ ‬ارتكاب‭ ‬الخطيئة‭ ‬نفسها،‭ ‬خطيئة‭ ‬حبّنا‭ ‬للأرض،‭ ‬أي‭ ‬حبّنا‭ ‬للشعر‭ .