أســـرَى الشّاشـــات

أســـرَى الشّاشـــات

وفيما‭ ‬الصمتُ‭ ‬هو‭ ‬سيدُ‭ ‬الموقف،‭ ‬باتت‭ ‬السهراتُ‭ ‬العائليةُ‭ ‬يتخلّلها‭ ‬بعضُ‭ ‬الأحاديث‭ ‬العابرة،‭ ‬التي‭ ‬يدور‭ ‬أغلبها‭ ‬حول‭ ‬ما‭ ‬شاهدَ‭ ‬أو‭ ‬قرأ‭ ‬على‭ ‬النت،‭ ‬ولا‭ ‬تتم‭ ‬إلا‭ ‬بتواصل‭ ‬الإمساك‭ ‬بالهاتف‭ ‬ليعودَ‭ ‬الصمتُ‭ ‬ويتسلل‭ ‬مجدداً،‭ ‬والعيون‭ ‬مسلَّطة‭ ‬على‭ ‬الشّاشات‭ ‬الصغيرة‭ ‬للهواتف‭ ‬الذّكية،‭ ‬التي‭ ‬تقدّم‭ ‬لك‭ ‬ما‭ ‬شئتَ‭ ‬من‭ ‬ألعابٍ‭ ‬إلكترونية‭ ‬واتصال‭ ‬على‭ ‬الشبكة‭ ‬العنكبوتية‭ ‬ووسائل‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬فتحس‭ ‬كأنها‭ ‬نافذتُك‭ ‬على‭ ‬الحياة،‭ ‬وتنسى‭ ‬وأنتَ‭ ‬تحدقُ‭ ‬بها‭ ‬لونَ‭ ‬السماء‭ ‬وطلاءَ‭ ‬جدران‭ ‬البيت،‭ ‬ولمعة‭ ‬الحزن‭ ‬أو‭ ‬التماعة‭ ‬الفرح‭ ‬في‭ ‬عيون‭ ‬من‭ ‬هم‭ ‬بقربك،‭ ‬لكأنّك‭ ‬بعيدٌ‭ ‬عنهم‭ ‬وغائب‭ ‬رغم‭ ‬حضورك‭ ‬الجسدي؛‭ ‬فكلٌّ‭ ‬غارقٌ‭ ‬في‭ ‬عالمه‭ ‬الملون‭ ‬قريباً‭ ‬وبعيداً‭ ‬عمّا‭ ‬وعمّن‭ ‬حوله‭!‬

الهواتفُ‭ ‬الخليوية‭ ‬التي‭ ‬بات‭ ‬وجودها‭ ‬توأماً‭ ‬للحياة‭ ‬المعاصرة،‭ ‬وباتت‭ ‬ضرورة،‭ ‬وتحديثها‭ ‬ومواكبة‭ ‬آخر‭ ‬الموديلات‭ ‬أو‭ ‬متابعة‭ ‬الخيارات‭ ‬تشكّل‭ ‬جزءاً‭ ‬مستحدثاً‭ ‬وطفيلياً‭ ‬عنيداً‭ ‬من‭ ‬ميزانية‭ ‬الأسرة‭ ‬العربية،‭ ‬بصرف‭ ‬النظر‭ ‬عن‭ ‬المستوى‭ ‬الاجتماعي‭ ‬والقدرة‭ ‬الشرائية‭ ‬وأولويات‭ ‬الحياة‭ ‬الخاصة‭ ‬بها،‭ ‬فكأنّها‭ ‬مسألةُ‭ ‬حياة،‭ ‬لا‭ ‬بل‭ ‬موضع‭ ‬تفاخر‭ ‬وسباق‭ ‬وتنافس‭ ‬وارتباط‭ ‬بقيمة‭ ‬الفرد‭ ‬وانفتاحه‭ ‬ومستواه‭ ‬الفكري‭ ‬وتعاطيه‭ ‬مع‭ ‬العصر‭.‬

فهل‭ ‬التسابقُ‭ ‬على‭ ‬اقتناء‭ ‬الهاتف‭ ‬الخليوي‭ ‬الأكثر‭ ‬حداثة‭ ‬يشكل‭ ‬سبقاً‭ ‬فكرياً‭ ‬وإنجازاً‭ ‬ويرفع‭ ‬من‭ ‬شأن‭ ‬مقتنيه‭ ‬والموديلات‭ ‬في‭ ‬تحديث‭ ‬متواصل،‭ ‬وما‭ ‬تمّ‭ ‬شراؤه‭ ‬قبل‭ ‬أشهر‭ ‬يفقد‭ ‬جزءاً‭ ‬كبيراً‭ ‬من‭ ‬قيمته‭ ‬الشرائية‭ ‬والمعنوية؟‭ ‬أهي‭ ‬حمى‭ ‬الشراء‭ ‬ولعنة‭ ‬الاستهلاك‭ ‬وشراهة‭ ‬التعاطي‭ ‬مع‭ ‬التكنولوجيا؟‭ ‬أم‭ ‬هي‭ ‬لغة‭ ‬العصر‭ ‬الذي‭ ‬فقد‭ ‬كثيراً‭ ‬من‭ ‬أبجديات‭ ‬الحوار؟‭ ‬أم‭ ‬لعلّها‭ ‬رغبةٌ‭ ‬دفينةٌ‭ ‬لدى‭ ‬الشاب‭ ‬العربي‭ ‬بالشعور‭ ‬بالإنجاز‭ ‬والامتلاء‭ ‬العاطفي‭ ‬والمعنوي‭ ‬والإحساس‭ ‬بالتفوق؟

‭ ‬لا‭ ‬حياة‭ ‬دون‭ ‬اتصال‭ ‬وتواصل‭ ‬مستمر،‭ ‬دون‭ ‬تلك‭ ‬الأصبع‭ ‬السادسة‭ ‬في‭ ‬الكف،‭ ‬أعني‭ ‬االخليويب،‭ ‬الذي‭ ‬غدا‭ ‬صديقاً‭ ‬غير‭ ‬صدوق؛‭ ‬يعطيكَ‭ ‬ما‭ ‬قد‭ ‬يفيد‭ ‬وما‭ ‬لا‭ ‬يفيد،‭ ‬وربما‭ ‬يضرُّ‭ ‬بدرجاتٍ‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬التكهُّن‭ ‬بها،‭ ‬ويسرقُ‭ ‬منك‭ ‬الوقتَ‭ ‬مادةَ‭ ‬الحياة،‭ ‬وتنسى‭ ‬وأنت‭ ‬تصافح‭ ‬هاتفك‭ ‬أن‭ ‬تتفقّد‭ ‬أصابعَ‭ ‬الوقت‭!‬

 

مجانية‭ ‬مصادر‭ ‬المعرفة

في‭ ‬المقابل،‭ ‬هذا‭ ‬المدى‭ ‬المفتوح‭ ‬سهّلَ‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬المعلومة،‭ ‬وساهمَ‭ ‬في‭ ‬توسيع‭ ‬الآفاق،‭ ‬وهو‭ ‬يشكّل‭ ‬حصيلةً‭ ‬معرفية‭ ‬بصرف‭ ‬النظر‭ ‬عن‭ ‬فحواها،‭ ‬وقادر‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يُشعر‭ ‬من‭ ‬لا‭ ‬يستخدمه‭ ‬بأنه‭ ‬منعزلٌ‭ ‬وأعمى‭ ‬وبعيد‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬يواكب‭ ‬ويشاهد‭ ‬ويسمع‭ ‬ويرى،‭ ‬كلّ‭ ‬ذلك‭ ‬مدعوم‭ ‬بالصورة‭ ‬لغة‭ ‬العصر‭ ‬وفمه،‭ ‬وبالصوت‭ ‬وبتعدد‭ ‬وتنوُّع‭ ‬المصادر‭ ‬وبزخم‭ ‬المستخدمين،‭ ‬وباعتبار‭ ‬من‭ ‬لا‭ ‬يجاري‭ ‬اللهاث‭ ‬التكنولوجي‭ ‬شخص‭ ‬متخلف‭ ‬عن‭ ‬عصره‭ ‬أو‭ ‬متقوقع‭ ‬على‭ ‬ذاته،‭ ‬نعم‭ ‬إن‭ ‬للتطور‭ ‬التكنولوجي‭ ‬فوائد‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬حصرها؛‭ ‬فما‭ ‬يعرفه‭ ‬أبناءُ‭ ‬هذا‭ ‬الجيل‭ ‬احتجنا‭ ‬لسنواتٍ‭ ‬طويلة‭ ‬لنعرفه‭ ‬إنْ‭ ‬تيسرت‭ ‬لنا‭ ‬المعرفة،‭ ‬مَن‭ ‬منا‭ ‬ينسى‭ ‬القاعات‭ ‬الفسيحة‭ ‬في‭ ‬مكتبات‭ ‬الجامعات‭ ‬حين‭ ‬كانت‭ ‬تمتلئُ‭ ‬بالطلبة‭ ‬وهم‭ ‬يكدّسون‭ ‬المراجعَ‭ ‬أمامهم،‭ ‬ويمضون‭ ‬الساعات‭ ‬الطوال‭ ‬في‭ ‬التسجيل‭ ‬على‭ ‬بطاقات‭ ‬كرتونية‭ ‬لاستخدامها‭ ‬في‭ ‬كتابة‭ ‬بحث‭ ‬أو‭ ‬إتمام‭ ‬رسالة‭ ‬لنيل‭ ‬درجة‭ ‬الماجستير،‭ ‬فيما‭ ‬الصمت‭ ‬يرفرفُ‭ ‬فوق‭ ‬رؤوسهم؟

‭ ‬اليوم‭ ‬اختلفت‭ ‬وسائل‭ ‬البحث‭ ‬وتعددت‭ ‬مصادرُ‭ ‬المعرفة،‭ ‬وباتت‭ ‬شبه‭ ‬مجانية‭ ‬وبأقلّ‭ ‬وقتٍ‭ ‬وجهد،‭ ‬دون‭ ‬الحاجة‭ ‬إلى‭ ‬الرجوع‭ ‬لأكداسٍ‭ ‬من‭ ‬الكتب‭ ‬والمراجع،‭ ‬لكن‭ ‬ربما‭ ‬ثمة‭ ‬حاجة‭ ‬إلى‭ ‬تعليم‭ ‬فن‭ ‬البحث‭ ‬وتنظيم‭ ‬الوقت؛‭ ‬فـ‭ ‬االإنترنتب‭ ‬تحميكَ‭ ‬من‭ ‬ذلّ‭ ‬السؤال،‭ ‬لكن‭ ‬قد‭ ‬تنسيك‭ ‬الأسئلة‭! ‬

ما‭ ‬يتعرّض‭ ‬له‭ ‬مستخدم‭ ‬الهاتف‭ ‬الذكي‭ ‬من‭ ‬تجارب‭ ‬معرفيةٍ‭ ‬وبصريةٍ‭ ‬يثري‭ ‬مخزونه‭ ‬الفكري‭ ‬ويؤثر‭ ‬في‭ ‬بنيته‭ ‬النفسية‭ ‬ومنظومته‭ ‬القيمية‭ ‬بدرجةٍ‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬التكهن‭ ‬بها‭ ‬أو‭ ‬الحكم‭ ‬عليها‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬التحكم‭ ‬بها،‭ ‬فهل‭ ‬نكتفي‭ ‬بالنظر‭ ‬ورفع‭ ‬الأكتاف‭ ‬دلالة‭ ‬العجز،‭ ‬أم‭ ‬نلجأ‭ ‬إلى‭ ‬اللّوم‭ ‬وهو‭ ‬أسهل‭ ‬الطرق‭ ‬للهروب‭ ‬من‭ ‬مشكلة؟‭! ‬هل‭ ‬نلومُ‭ ‬الزّمان‭ ‬أم‭ ‬الجيل‭ ‬أم‭ ‬أنفسنا؟‭ ‬ربما‭ ‬الاعتراف‭ ‬بوجود‭ ‬مشكلة‭ ‬هو‭ ‬المفتاح‭ ‬الأول‭ ‬في‭ ‬طريق‭ ‬الحل،‭ ‬أو‭ ‬التقليل‭ ‬من‭ ‬تبعاتها‭ ‬وتداعياتها‭.‬

 

ثورة‭ ‬في‭ ‬التعليم

‭ ‬نحتاجُ‭ ‬إلى‭ ‬تبني‭ ‬منهجية‭ ‬مدروسة‭ ‬للتعامل‭ ‬مع‭ ‬الأمر،‭ ‬وأهم‭ ‬ما‭ ‬نحن‭ ‬بحاجة‭ ‬إليه‭ ‬عربياً‭ - ‬برأيي‭ - ‬هو‭ ‬العمل‭ ‬على‭ ‬إجراء‭ ‬تغيير‭ ‬جذري‭ ‬في‭ ‬المنظومة‭ ‬التعليمية،‭ ‬وربما‭ ‬نحتاج‭ ‬إلى‭ ‬ثورةٍ‭ ‬في‭ ‬التعليم؛‭ ‬فالطالبُ‭ ‬الذي‭ ‬في‭ ‬جيبه‭ ‬هاتفٌ‭ ‬خليوي‭ ‬ذكيٌّ‭ ‬وعلى‭ ‬جدران‭ ‬بيته‭ ‬شاشات‭ ‬تبثُ‭ ‬سيلاً‭ ‬من‭ ‬سيلِ‭ ‬الفضائيات‭ ‬التي‭ ‬تسرقُ‭ ‬حواسَه،‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬الطالب‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يقنعه‭ ‬أو‭ ‬يؤثر‭ ‬فيه‭ ‬معلمٌ‭ ‬ملقّن‭ ‬وكتابٌ‭ ‬بالأبيض‭ ‬وبالأسود‭ ‬وحصة‭ ‬حاسوب‭ ‬تقليدية‭ ‬بأجهزة‭ ‬غالباً‭ ‬ما‭ ‬تكون‭ ‬قديمة‭ ‬وعددها‭ ‬أقل‭ ‬من‭ ‬عدد‭ ‬الطلبة،‭ ‬مما‭ ‬يؤدي‭ ‬إلى‭ ‬تزاحمهم‭ ‬عليها،‭ ‬وطبيعة‭ ‬المادة‭ ‬مقيدة‭ ‬ونظرية،‭ ‬ويلجأ‭ ‬المعلمُ‭ ‬إلى‭ ‬تحفيظ‭ ‬الطلبة‭ ‬نظراً‭ ‬إلى‭ ‬صعوبة‭ ‬التطبيق‭ ‬العملي‭.‬

‭ ‬أما‭ ‬حوسبةُ‭ ‬التعليم،‭ ‬فمازالت‭ ‬حلماً‭ ‬متعثراً‭ ‬أو‭ ‬كلاماً‭ ‬نظرياً‭ ‬لم‭ ‬يطبق‭ ‬عربياً‭ ‬بعد‭ ‬بدرجةٍ‭ ‬كافيةٍ‭ ‬ومرضية‭.‬

إذن‭ ‬ثمة‭ ‬فجوة‭ ‬تكنولوجية‭ ‬يعيشها‭ ‬الطالب‭ ‬بين‭ ‬ما‭ ‬بيده‭ ‬من‭ ‬أجهزة‭ ‬متطورة‭ ‬وما‭ ‬عليه‭ ‬أن‭ ‬يكابده‭ ‬من‭ ‬جمود‭ ‬وتقليدية‭ ‬في‭ ‬المدرسة،‭ ‬مما‭ ‬يجعلها‭ ‬عاملَ‭ ‬طردٍ‭ ‬لا‭ ‬جذب،‭ ‬فكيف‭ ‬نطلب‭ ‬منه‭ ‬ونطالبه‭ ‬بحفظ‭ ‬كمٍّ‭ ‬كبيرٍ‭ ‬من‭ ‬المعلومات‭ ‬واسترجاعها‭ ‬على‭ ‬الورق‭ ‬بعد‭ ‬فترةٍ‭ ‬لقياس‭ ‬قدراته‭ ‬التحصيلية،‭ ‬وهو‭ ‬يحصل‭ ‬بكبسة‭ ‬زر‭ ‬على‭ ‬المعلومة‭ ‬ويسترجعها‭ ‬أمامه‭ ‬على‭ ‬الشاشة؟‭ ‬

كيف‭ ‬نتوقع‭ ‬منه‭ ‬الهدوء‭ ‬والانسجام‭ ‬في‭ ‬الغرفة‭ ‬الصفية‭ ‬المفتقرة‭ ‬أو‭ ‬الخالية‭ ‬من‭ ‬الشّاشات،‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬سبورة‭ ‬صماء‭ ‬يسجل‭ ‬عليها‭ ‬المعلمُ‭ ‬ويلقّنُ‭ ‬باستراتيجيات‭ ‬مكرورة‭ ‬لا‭ ‬ترتقي‭ ‬إلى‭ ‬تعليم‭ ‬التفكير‭ ‬ولا‭ ‬تنتظر‭ ‬السؤال،‭ ‬وغالباً‭ ‬لا‭ ‬تحترم‭ ‬الحوار‭ ‬ولا‭ ‬تفعّل‭ ‬دورَ‭ ‬طالبٍ‭ ‬تيقظُه‭ ‬التكنولوجيا‭ ‬من‭ ‬نومه،‭ ‬وتقتادُه‭ ‬خلال‭ ‬نهاره،‭ ‬وتخاطبُه‭ ‬وتمدُّه‭ ‬بالخبرات‭ ‬المعرفية‭ ‬المتنوعة،‭ ‬وتطبع‭ ‬على‭ ‬جبينه‭ ‬قبلةً‭ ‬ضوئية‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يغفو‭ ‬ممسكاً‭ ‬بهاتفه‭ ‬المضيء؟‭ ‬

أبناؤنا‭ ‬ليلاً‭ ‬يشبهون‭ ‬الحشرة‭ ‬الملقبة‭ ‬بـ‭ ‬اسراج‭ ‬الحصادينب،‭ ‬فهل‭ ‬يستضيئون‭ ‬بما‭ ‬هو‭ ‬خيرٌ‭ ‬لهم،‭ ‬أم‭ ‬إنّ‭ ‬الأمر‭ ‬نسبيٌّ‭ ‬ولا‭ ‬يمكن‭ ‬قياسه‭ ‬أو‭ ‬الحكم‭ ‬عليه؟‭ ‬

مُشتتات‭ ‬ومغريات‭ ‬وملهيات‭ ‬يتعرّض‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬هم‭ ‬في‭ ‬سنّ‭ ‬الدراسةِ،‭ ‬مما‭ ‬يتطلّبُ‭ ‬التركيز‭ ‬على‭ ‬النوع‭ ‬لا‭ ‬الكم،‭ ‬وتفعيل‭ ‬البحث‭ ‬العلمي،‭ ‬واحترام‭ ‬سعة‭ ‬أفق‭ ‬الطالب،‭ ‬وتذكير‭ ‬المعلم‭ ‬بأنه‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬المصدرَ‭ ‬الوحيد‭ ‬للمعلومة،‭ ‬وأنّ‭ ‬الكتاب‭ ‬المعتمد‭ ‬أو‭ ‬المنهاج‭ ‬سيفشلُ‭ ‬في‭ ‬إقناع‭ ‬الطالب‭ ‬والوصول‭ ‬إليه‭ ‬والأخذ‭ ‬بيده‭ ‬إذا‭ ‬ظلّ‭ ‬تقليدياً،‭ ‬لأنّ‭ ‬زمن‭ ‬الشّاشات‭ ‬ليس‭ ‬زمناً‭ ‬تقليدياً،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬خارج‭ ‬عن‭ ‬المألوف‭ ‬ويواصل‭ ‬الخروج‭ ‬عن‭ ‬كلّ‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬متوقع‭.‬

‭ ‬زمنُ‭ ‬التواصل‭ ‬شرع‭ ‬البابَ‭ ‬لمواسم‭ ‬من‭ ‬الجفاف‭ ‬العاطفي‭ ‬والتصحر‭ ‬أحياناً‭ ‬في‭ ‬العلاقات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬وبين‭ ‬أفراد‭ ‬الأسرة،‭ ‬وبخاصة‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬الأبناء‭ ‬الذين‭ ‬شكّلت‭ ‬لهم‭ ‬التكنولوجيا‭ ‬جدراناً‭ ‬مصطنعة‭ ‬من‭ ‬الأمان‭ ‬والاحتواء،‭ ‬والعالم‭ ‬المتكامل‭ ‬الأركان؛‭ ‬فلم‭ ‬يعد‭ ‬الوالدان‭ ‬المنبع‭ ‬الرئيس‭ ‬للمنظومة‭ ‬القيمية‭ ‬والمعرفية‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬السنوات‭ ‬الأولى‭ ‬من‭ ‬العمر،‭ ‬فالذين‭ ‬تفتحت‭ ‬عيونُ‭ ‬وعيهم‭ ‬على‭ ‬الشاشات،‭ ‬وباتت‭ ‬جزءاً‭ ‬من‭ ‬طبيعة‭ ‬حياتهم،‭ ‬أصبح‭ ‬الاستغناء‭ ‬عنها‭ ‬غير‭ ‬منطقي‭ ‬وغير‭ ‬وارد؛‭ ‬فكأنها‭ ‬اليدُ‭ ‬الثالثة‭ ‬لهم،‭ ‬التي‭ ‬تساعدُ‭ ‬وتبحثُ‭ ‬وتقيمُ‭ ‬العلاقات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬الافتراضية،‭ ‬وتعرقلُ‭ ‬المجرى‭ ‬الطبيعي‭ ‬للنهار‭ ‬وتستهلك‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الطاقاتِ،‭ ‬وتستنفد‭ ‬كثيراً‭ ‬من‭ ‬الوقت‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬مفيد‭ ‬وما‭ ‬غير‭ ‬مفيد‭.‬

‭ ‬ربما‭ ‬ثمة‭ ‬ضحايا‭ ‬صامتون‭ ‬لعصر‭ ‬االميدياب‭ ‬هم‭ ‬جيلُ‭ ‬الآباء‭ ‬والأمهات‭ ‬من‭ ‬أبناء‭ ‬القرن‭ ‬المنقضي،‭ ‬الذين‭ ‬يحاولون‭ ‬مجاراة‭ ‬التطور‭ ‬التكنولوجي،‭ ‬لكنه‭ ‬لم‭ ‬يحتل‭ ‬الجزءَ‭ ‬الحميم‭ ‬في‭ ‬دواخلهم‭ ‬التي‭ ‬بُنيت‭ ‬بدفء‭ ‬وحميمية‭ ‬الجلسات‭ ‬العائلية‭ ‬والتواصل‭ ‬البصري‭ ‬والمباشر‭ ‬وجهاً‭ ‬لوجه‭ ‬مع‭ ‬الآخرين‭ ‬وليس‭ ‬بـ‭ ‬االفيس‭ ‬بوكب‭ ‬مثلاً‭!‬

 

استهلاك‭ ‬التكنولوجيا

‭ ‬النواحي‭ ‬الإيجابية‭ ‬للهاتف‭ ‬الخليوي‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬حصرها؛‭ ‬فهي‭ ‬نتاجُ‭ ‬عقودٍ‭ ‬من‭ ‬التطورِ‭ ‬العلميّ،‭ ‬فيه‭ ‬تيسيرٌ‭ ‬للحياة‭ ‬وتغيير‭ ‬في‭ ‬ملامحها‭ ‬وطبيعتها‭ ‬ومجرياتها،‭ ‬فهي‭ ‬مؤثرةٌ‭ ‬في‭ ‬العمل‭ ‬والحياة،‭ ‬وأصبحت‭ ‬ملازمةُ‭ ‬هاتف‭ ‬خليوي‭ ‬للفرد‭ ‬أمراً‭ ‬بديهياً،‭ ‬فهل‭ ‬تحوّلنا‭ ‬التكنولوجيا‭ - ‬شئنا‭ ‬أم‭ ‬أبينا‭- ‬إلى‭ ‬أرقام؟‭ ‬

هل‭ ‬بتنا‭ ‬مستهلكين‭ ‬لها‭ ‬ولمنتجاتها‭ ‬ونقتات‭ ‬على‭ ‬ثمارها‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬نعي‭ ‬الحاجة‭ ‬الملحة‭ ‬إلى‭ ‬آلية‭ ‬لضبط‭ ‬الوضع؟‭ ‬هل‭ ‬ينطبق‭ ‬علينا‭ ‬المثل‭ ‬القائل‭ ‬اهجين‭ ‬وقعَ‭ ‬في‭ ‬سلة‭ ‬تينب؟

‭ ‬كثيراً‭ ‬ما‭ ‬أشاهد‭ ‬أماً‭ ‬اترشوب‭ ‬ابنها‭ ‬الصغير‭ ‬بهاتفها‭ ‬الخليوي‭ ‬الذكيّ‭ ‬كي‭ ‬يجلسَ‭ ‬هادئاً‭ ‬منشغلاً‭ ‬ريثما‭ ‬تنجزُ‭ ‬واجباتِها‭ ‬المنزلية،‭ ‬أو‭ ‬تتم‭ ‬حاجتها‭ ‬في‭ ‬صالون‭ ‬التجميل‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬لتتابعَ‭ ‬مسلسَلها‭ ‬المفضل،‭ ‬وينشأ‭ ‬الطفلُ‭ ‬في‭ ‬سنواته‭ ‬الأولى‭ ‬مفتوناً‭ ‬بالشاشةِ‭ ‬الآسرةِ‭ ‬الساحرة،ِ‭ ‬التي‭ ‬تسرقه‭ ‬أضواؤها‭ ‬وأصواتُها‭ ‬وعواملُ‭ ‬الجذب‭ ‬المتعددة‭ ‬والمتنوعة‭ ‬فيها‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يعي‭ ‬أنه‭ ‬أصبح‭ ‬أسيراً‭ ‬لها،‭ ‬نعم‭ ‬نحن‭ ‬اأسرى‭ ‬الشاشاتب،‭ ‬لنعترف‭.‬

‭ ‬الآن‭ ‬فيما‭ ‬أكتب‭ ‬كلماتي‭ ‬أنظر‭ ‬إلى‭ ‬شاشة‭ ‬االلاب‭ ‬توبب‭ ‬وأستأذن‭ ‬فكري‭ ‬لحظاتٍ‭ ‬كي‭ ‬أتفقّد‭ ‬شاشةَ‭ ‬هاتفي‭ ‬الذكيّ‭ ‬بجانبي،‭ ‬وأتركُ‭ ‬ما‭ ‬أقوم‭ ‬به‭ ‬لأتابعَ‭ ‬شاشةَ‭ ‬التلفاز‭ ‬وأفكر‭ ‬بمقالة‭ ‬عن‭ ‬اأسرى‭ ‬الشّاشاتب‭!‬

‭ ‬أذكر‭ ‬جارنا‭ ‬كبير‭ ‬السن‭ ‬الذي‭ ‬يطيل‭ ‬الجلوس‭ ‬أمام‭ ‬مدخل‭ ‬العمارة،‭ ‬كم‭ ‬كان‭ ‬يكثرُ‭ ‬من‭ ‬ذمّ‭ ‬جنون‭ ‬الناس‭ ‬بالهواتف‭ ‬الخليوية‭ ‬ممن‭ ‬يراهم‭ ‬من‭ ‬الداخلين‭ ‬والخارجين،‭ ‬ويشكو‭ ‬ويشتم‭ ‬انشغال‭ ‬أولاده‭ ‬بها،‭ ‬حتى‭ ‬أهداه‭ ‬أحدهم‭ ‬هاتفاً‭ ‬خليوياً‭ ‬حديثاً‭ ‬وعلّمه،‭ ‬بعد‭ ‬جهدٍ،‭ ‬كيفية‭ ‬استخدامه‭ ‬وهمس‭ ‬بأذنه‭ ‬أنه‭ ‬للضرورة،‭ ‬فأصبح‭ ‬العابرون‭ ‬للعمارة‭ ‬يدخلون‭ ‬ويخرجون‭ ‬وهو‭ ‬منشغل‭ ‬عنهم‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬يده،‭ ‬مكبٌّ‭ ‬كالطالب‭ ‬النجيب‭ ‬على‭ ‬هاتفه‭ ‬الخليوي‭!‬

‭ ‬لو‭ ‬استطعنا‭ ‬حسابَ‭ ‬الفترة‭ ‬الزمنية‭ ‬اليومية‭ ‬التي‭ ‬نقضيها‭ ‬في‭ ‬تصفّحٍ‭ ‬سريعٍ‭ ‬لشاشات‭ ‬هواتفنا‭ ‬الذّكية‭ ‬ومواقعِ‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي‭ ‬وإحصاء‭ ‬عدد‭ ‬المرات‭ ‬لأصابتنا‭ ‬صدمة،‭ ‬ووصلتْ‭ ‬إلينا‭ ‬مرارةُ‭ ‬الإحساس‭ ‬بهدر‭ ‬الوقت،‭ ‬لكننا‭ ‬اعتدنا‭ ‬التخفيف‭ ‬من‭ ‬هول‭ ‬الصدمة‭ ‬والتقليل‭ ‬من‭ ‬أهمية‭ ‬الأمر،‭ ‬باعتبار‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬التصفّح‭ ‬سريع‭ ‬ودونه‭ ‬نشعر‭ ‬بالوحدة،‭ ‬وأنّ‭ ‬الجميع‭ ‬يقومون‭ ‬بذلك،‭ ‬فهل‭ ‬الانزواء‭ ‬على‭ ‬الشاشات‭ ‬يمثّلُ‭ ‬هروباً‭ ‬من‭ ‬الوحدةِ‭ ‬أو‭ ‬أحد‭ ‬أسبابها؟

ربما‭ ‬قراءةُ‭ ‬الآثار‭ ‬النفسية‭ ‬لإدمان‭ ‬الهاتف‭ ‬الذكي‭ ‬ومواقع‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬وقفةٍ‭ ‬أخرى‭ .