مانديلا رَجُلُ التاريخِ المعاصِر
من هو مانديلا؟ إنه: «مناضل جنوب إفريقيا الذي لا يهزم» ولد في 18 يوليو 1918، عُرف في طفولته باسم عشيرته «ماديبا» وعاش شبابه وكهولته حتى قضى ويسمى «نيلسون مانديلا»، وعرف في صغره بشراسته وعناده حتى لقبه والده بالعنيد و«المشاكس»، ولعل هذه الصفات الخلوقية، وحياة الفاقة التي عاشها والجو المشحون بالظلم والقهر والتمييز العنصري، جعلت منه، وعلى مر السنين، بطلا قومياً تفتخر به الأجيال الصاعدة التي تنشد الحرية والحياة الكريمة
يعتبره الباحث سعيد خطيبي»: «واحداً من أهم رموز مواجهة التمييز العنصري، وسطوة الأبيض على الأسود»، فهو الشاب المقاوم الشرس الذي هز الرأي العام الدولي، في النصف الثاني من القرن الماضي، والذي تحول مع الأيام من منتفض محلي إلى بطل أممي وهو شاهد عيان على فترة من أكثر فترات التاريخ المعاصر حرجا، ما أهّله ليصير: «وشما على الذاكرة، وأيقونة ثابتة تتوارثها أجيال القارة السمراء وعنوانا بارزا في مشروع التأسيس لعالم مثالي... يخلص شعوب العالم الثالث من بقايا وتراكمات الأنظمة الأوربية التقليدية».
ومانديلا، برأيي المتواضع، هو: الفاتح الأكبر في التاريخ المعاصر ، فقد فتح جسراً أمام شعب متعدد الهويات، للانتقال بسلام من ضفة الاستعباد إلى ضفة التحرير ، والواضح أن الرجل لم يصنع مجداً لنفسه فحسب، بل لشعب بأكمله عانى الكثير من الظلم والقهر والتمييز العنصري بجميع أشكاله. لذا أصبح رمزاً من رموز العصر الحديث ومحط إجماع في الداخل والخارج، وهو برأي البعض: واحد من أهم شخصيات الألفية الثانية وأجده بدوري: رجل التاريخ المعاصر بعد أن وضع قواعد حياة جديدة، وأسس لوطنية معاصرة بعيدة عن التسلط والهيمنة الأجنبية. وأن عمله النضالي رشحه ليكون مرجعية وحافزاً للمناضلين ضد الاستعمار والمحتل البغيض، ولا مراء إذا قيل فيه: إنه وهب حياته دفاعاً عن قضية عادلة، كما منح الشباب المتحمس رمزية يدافعون بها عن قضاياهم المحقة، وباختصار فإن مانديلا برأي الخطيبي هو كتاب مفتوح يمكن العودة إليه متى شئنا لقراءة ماض قريب تحققت فيه إنجازات كبرى في وقت قصير.
ومن المفرح والمحزن في آن، ما قيل فيه أنه: «ولد في الموت وكبر في الموت»، بحسب الباحث عماد ستيتو، مستنداً في ذلك إلى قصيدة الشاعر السوداني محمد الفيتوري، والسؤال المطروح: هل صحيح ما قيل فيه؟ أم أنه ولد من رحم الحياة الغاضبة، وعاش حياة الكفاح والنضال التي تنبض بمجاهدة الحيف ومصارعة الظلم لدفع الموت الذي يفتك بشعبه وأبناء أمته؟
ولو تركنا هذه التساؤلات وانتقلنا إلى مرحلة شباب مانديلا، والتي انكب فيها على دراسة القانون رغبة منه في الدفاع عن حقوق المظلومين من أبناء جلدته، وبالتالي ليتعرف عن كثب ما للمواطنين من حقوق وما عليهم من واجبات ويكون دفاعه وفق الأنظمة السائدة في البلاد، ولكن بعد عمله بالمحاماة سرعان ما انخرط في العمل السياسي الذي استحوذ على كل وقته وتفكيره.
حياته العاطفية والزوجية
من اللافت أن العمل السياسي الذي عشقه مانديلا لم ينسه الاستجابة إلى رعشات قلبه، فقد كان يمتلك قلبا متلهفا دائما للحب لأنه مصدر قوته وصموده أمام نكبات الزمن، وفي يقينه بحسب الباحث منير آولاد الجيلالي: إن الذي يصنع المعجزات العظيمة هو الحب ، لذا نجد من الصعب الفصل بين حياة مانديلا الشخصية والعاطفية وبين حياته السياسية والنضالية، فالرجل وحدة متكاملة تجمع كل المواصفات الإنسانية والعاطفية إلى جانب حماسه النضالي المتأجج في داخله، والذي أحدث زلزالاً كبيراً في أنماط الحكم، ما أدى إلى إلغاء التسلط البغيض على الشعوب المغلوبة على أمرها.
فمانديلا المناضل الصلب، هو نفسه العاشق الأنيق كما يصفه الجيلالي فقد ظل وفيا، حتى وهو يتنقل بين سجون جنوب إفريقيا ومستشفياتها، إلى نداء قلبه الذي تقاسمته وجوه نساء كثيرات مع حبه الكبير لوطنه، فهو لا يحب أن يكون خائفاً من الحب أو بعيدا عنه، لأن الحب بنظره: عظيم الإلهام .
أحب مانديلا الكثيرات، إلا أنه تزوج ثلاث مرات وبدأت محاولته الأولى للزواج في عام 1940 عندما رفض الزواج ممن اختارتها له عائلته، وكان زواجه الأول الذي كلل بالنجاح في العام 1944 من السيدة افلين نتوكماسي، أنجب منها ابنتين وولدين، قبل أن ينفصلا في العام 1957، بسبب التزاماته النضالية والثورية التي كانت تأخذ معظم وقته. بعدها عاش مانديلا لحظات عاطفية قوية وسط أوضاع سياسية متقلبة أسفرت عن زواجه الثاني في العام 1958 من ويني مد يكيزيلا الاخصائية الاجتماعية بنت الاثنين والعشرين ربيعا، وأنجب منها بنتين، وبعد عشر سنوات من زواجهما حُكم عليه بالسجن مدى الحياة ليقضي سبعة وعشرين عاماً من عمره خلف القضبان، وبعد مرور سنتين على إطلاق سراحه من السجن انفصل مانديلا عن ويني في العام 1992 ثم طلقها رسميا عام 1996. ويعزز الجيلالي سبب ذلك إلى تورط ويني في فضائح سياسية عديدة وقضايا فساد واستغلال نفوذ، وانخراطها في أعمال متطرفة أساءت كثيراً إلى رمزيته والتزامه وهو داخل زنزانته، ما أساء إلى منهجه السياسي وخطه النضالي القائم على المصالحة الوطنية، والتجميع العرقي من أجل مناهضة الاستبداد والتمييز العنصري. وفي عيد ميلاده الثمانين المصادف في يوليو / تموز 1998 تزوج مانديلا للمرة الثالثة من غراسا ماشيل أرملة سامورا ماشيل رئيس موزمبيق وحليف حزب المؤتمر الوطني الإفريقي، والتي كانت أول وزيرة للتربية والثقافة بعد استقلال بلادها.
النمر الأسمر خلف قضبان زنزانته
الحقيقة أن المتتبع لسيرة حياة مانديلا يلاحظ بوضوح التغيير الكبير الذي حصل في حياته، فقد أصبح إنساناً آخر بعد سبعة وعشرين عاماً من القهر والظلم والوحدة في زنزانته المظلمة، فبعد أن كان في أول حياته النضالية مجرد ناشط سياسي بصفته عضواً في منظمة قيادة جنوب إفريقيا، وكرس كل أوقاته للعمل دون هواده، فجأة وجد نفسه وحيداً خلف القضبان، واعترته حالة من الهدوء والصفاء الذهني، وبدأ يسترجع مسلسل حياته الماضية، وبخاصة عندما خذل عائلته برفضه الزواج ممن اختارتها له، وكان ذلك صدمة قوية لهم.
وبحسب تصريحاته في مقابلة أجرتها معه إحدى المذيعات الأمريكيات وترجمتها راجية حمدي فقد كان يعاتب نفسه وهو في السجن لعدم تقديره للأشخاص الذين قدموا له يد المساعدة إبان دراسته، وعقد العزم بعد إطلاق سراحه على الوفاء لكل من وقف بجانبه، فقال: فقط داخل السجن بدأت التفكير في كل الوجوه التي وقفت بجانبي، أخذت أتساءل: لماذا لم أبلغهم حينها بامتناني لكل ما فعلوه من أجلي؟ شعرت بضآلتي وسوء تصرفي تجاه كرمهم معي ودعمهم لي طوال تلك السنين، حينها، عاهدت نفسي على أنه إذا تسنى لي الخروج من السجن فسأرد الجميل لكل من ساعدني .
كما انصب كل تفكيره في الطبقة الكادحة التي يعاني أفرادها العوز والمرض، وصمم على أن يقضي ما تبقى من حياته في مساعدة الفقراء، بل مواجهة الفقر (العدو الأكبر للإنسانية)، إذا وفق بتحرير أبناء أمته من الفقر والجهل يكون قد خطا نحو السعادة التي يحلم بها.
من هذا المنطق قرر مانديلا أن يضع خطة لحياته المستقبلية بعد خروجه من السجن، وفي طليعتها تأمين السعادة للطبقة الكادحة ولو بالحد الأدنى، وبرأيه يمكن أن يتحقق ذلك من خلال بناء المدارس والمستشفيات وتقديم المنح الدراسية، وبخاصة للأطفال للتخفيف من ظاهرة الأمية المتفشية في مجتمعه، لهذا كان خلال وجوده في السجن يشجع أصحابه على متابعة تحصيلهم العلمي، حتى استطاع بعضهم الخروج من الاعتقال، وقد حصل على أكثر من درجة علمية، في هذا السياق كان يقول: «لا تستطيع أي أمة النهوض من دون العلم. فقط من أمتلكوا هبة العلم هم من يقودون تقدم الأمم.. وأن تحصين أنفسنا بالعلم كان بمنزلة امتلاك السلاح لنيل الحرية».
وفي السجن المظلم، أمضى مانديلا حوالي ربع قرن من حياته، قضى منها في جزيرة روبن أكثر من ثمانية عشر عاماً، حينها رأى بناته عندما كانت أعمارهن تتراوح بين عامين وثلاثة، وبعدها لم يراهن مرة أخرى حتى بلغن نحوالسادسة عشرة، كما سجن في جنوب إفريقيا في سجن فيكتور فيرسير، وكان السجن محاصراً برجال الشرطة والجيش، هذا بشهادة جان غيلوانو كاتب سيرة مانديلا.
ويصرح مانديلا في مقابلة مع المذيعة الأمريكية، بأنه لم ير أحداً طوال مدة عقوبته، وفي نظره: «هذه واحدة من أقسى العقوبات التي يمكن أن يفرضها السجن» وحقيقة الأمر أنه من الصعب على المرء أن يتصور الحياة من دون قدرته على ملامسة أبنائه وعناقهم، أو على الأقل رؤيتهم، وهذه هي الخسارة الأفدح التي تكبدها مانديلا بوجوده داخل جدران السجن.
لقد كان مانديلا في زنزانته يفعل كل ما يحلو له مثل أداء الرياضة صباحاً ومساء، كما وفر له السجن الطعام ثلاث مرات في اليوم، والملابس الضرورية، والخدمات الطبية، وكان ينام لمدة اثنتي عشرة ساعة متتالية، وهذا كان ينغص عليه حياته رغم مرارتها، لأن بعض الناس خارج السجن لم يحصلوا على ما يحصل عليه هو داخل السجن، وعلى الرغم من أن زنزانته كانت تغلق في الرابعة مساء وحتى اليوم التالي، وتمكن بدهائه وحنكته من أن يبقى على اتصال بأخبار العالم الخارجي، فقد أنشأ صداقة مع بعض الحراس الذين كانوا يتكرمون عليه في أخذه إلى مكان تفريغ النفايات، حيث يجد هناك الصحف القديمة فيقوم بتنظيفها ويأخذها إلى زنزانته لقراءتها في السر.
والملاحظ في شخصية مانديلا، أنه كان متماسكا ومتفائلا بالعودة إلى الحرية على الرغم من المحن التي كان يعانيها في سجنه، فهو يرى أن حريته هي حرية شعبه وأبناء جلدته، لذا كان يقول: الحرية لا يمكن أن تعطى على جرعات، فالمرء إما أن يكون حراً أو لا يكون حرا و الجبناء يموتون مرات عديدة قبل موتهم، والشجاع لا يموت إلا مرة واحدة . ومما ساعد مانديلا على الصمود في سجنه، أنه كان يقرأ أشعار الحماس التي تقوي عزيمته، فذكر الباحث عماد ستيتو أن مانديلا قضى حوالي ربع قرن يكرر قصيدة واحدة كتبها شاعر اسكتلندي بعنوان الرجل الذي لا يمكن قهره ومما جاء فيها:
أشكر الرب في كل الأحوال/ إذ رفع روحي إلى أعالي السحاب/ أمام قبضة النصيب لم أفزع ولم أبكي جهراً وتحت مطرقة المصير نزف رأسي، ولكن لم ينحن...
مانديلا على درب الحرية
وبعد طول معاناة تم الإفراج عن مانديلا في الحادي عشر من فبراير1990، وفق مقالة سارة تيسير وترجمة عبدالله كمون. ولم يخرج من سجنه منهزما أو ذليلا، وإنما كان كالنمر المنتصر على جلاديه، فظهر من بين الجموع شاهراً قبضته، وزوجته ويني آخذة بذراعه، وما إن نال حريته حتى أصبح إنسانا آخر، فبعد أن كان في بدايات حياته شاباً مغروراً سرعان ما تخلص من تلك الصفة التي لم تجلب له شيئاً، بحسب قوله: إلا الأعداء . فقد كان يعمل، وهو في زنزانته، على ترويض نفسه حتى صار أقل غروراً وعدائية مما كان عليه قبل دخوله السجن، فقد كان يسلح نفسه بقراءة روائع الأدب وبخاصة رواية عناقيد الغضب، فيقول عن نفسه في إحدى المقابلات: «تركت السجن أكثر وعياً عما كنت عليه، وعندما يزيد وعي المرء تقل عدائيته وغروره».
تأثيره في الشعر والسينما والفن
وإلى جانب كون مانديلا نقطة اجتماع المبدعين في الشعر، والسينما، والموسيقى، يرى سعد خطيبي أنه أصبح الرمز والصورة الحاضرة في كل مكان: في المقاهي، الأمكنة العامة، المدارس، الجامعات، على جدران الشوارع، وعلى القمصان، وواجهات المحال التجارية، وعلى شاشات الهواتف الجوالة. وكل ذلك لأن مانديلا بشهادة الكاتبة نادين غورديمير هو «أبو أمة جنوب إفريقيا» بعد أن أسس لوطنية جديدة ، وأن عمله الميداني رشحه ليكون مرجعية حياتية فهو حكيم بزي إنسان بسيط.
نهاية رجل شجاع
في 18 يوليو 2013 بلغ مانديلا الخامسة والتسعين من عمره، بعد أن حقق لأمته كل ما تصبو إليه من المجد، كما حقق الشهرة العالمية الواسعة لمشروعه النضالي، بعد أن تخطى كل المحن والمآسي. وأثبت بحق إن إفريقيا تلك القارة المظلومة دائماً، هي بحاجة ماسة إلى رجل شجاع وحكيم مثله، وقد برهن على ذلك حينما نجح في إنقاذ بلاده من الحرب الأهلية المحتملة. وفي 5 ديسمبر 2013 وبعد صراع طويل مع الغاصبين والمرض، واجه مانديلا الموت بشجاعة، كما واجه الحياة بشجاعة وثبات.
وإن رحل مانديلا! فسيبقى شعلة نضال تنير الدرب أمام المجاهدين الشرفاء الذين يتطلعون إلى غد مشرق بالأمل والحرية والحياة الشريفة .