ذكرى القدَّيسة بربارة... إخاء بالقمح واللوز والزبيب
اعتادت الموظفة الفلسطينية نيفين مصلح أبوالليل إحياء ذكرى القدّيسة بربارة، على طريقتها الخاصة، وسط زملائها وزميلاتها في العمل، وهم جميعاً مسلمون، وباتت المناسبة عُرفًا لها ولهم، تُحضّر لها مُبكّرًا ويستعدّون هم لها أيضًا، وينتظرون طعام البربارة الذي يُحبّونه كثيرًا، كما تقول أبو الليل.
في ليلة حلول الذكرى، تقوم أبو الليل هي ووالدتها وشقيقتها، بتجهيز القمح وتنقيته وغسله، تمهيدًا لسلقه بالماء، كما تقوم بشراء توابل وبهارات ما يُعرف
بـ «أكلة البربارة»، التي تعتمد على القمح بالدرجة الرئيسة، وشراء اللوز والجوز، والصنوبر والزّبيب، والفواكه المُجفّفة التي تضاف إلى القمح وتزيّنه.
إحياء ذكرى القديسة
ويحيي المسيحيون في الرابع من ديسمبر (كانون الأول) من كل عام، ذكرى استشهاد القديسة بربارة، رمز الثبات على المبادئ والإيمان، التي تم تعذيبها ببشاعة قبل إعدامها عام 303 م بقطع رأسها بالفأس من قبل والدها، عقابًا لها على إيمانها بالسيد المسيح ورفضها عبادة الأوثان التي كانت ديانة والدها.
وتشير أبوالليل إلى أن بربارة كانت على قدر كبير من العلم والفهم والذكاء، وعاشت فترات طويلة من التأمّل، الأمر الذي جعلها تُدرك أن عبادة الأوثان تناقض الإيمان، فغضب منها والدها وحاول أن يثنيها عن هذه الأفكار، والتجأ إلى التهديد والوعيد، وكان غنيًّا جدًّا ووثنيًّا متحمّسًا يكره المسيحيين، أمّا والدتها فقد ماتت وهي طفلة صغيرة، وكانت بربارة، وهي ابنته الوحيدة، جميلة جداً وذكيّة، فخاف عليها أبوها، فبنى لها قصراً مُحصّنًا عالي الأسوار، ووضع لها الخدم والحراس، وأحضر لها أساتذةً ليعلّموها علوم ذلك العصر، حتى تنشأ على حُبّ آلهتهم. وأتاحت لها وحدتها عادة التأمّل والتفكير، وقادتها كثرة التأمّل إلى البحث عن الإله الحقيقي الذي خلق السماء والأرض والنجوم، مُنكرةً أن تكون الأوثان آلهة.
حكاية القمح المسلوق
وتقول: من العادات والتقاليد أن نأكل القمح المسلوق في عيد القدّيسة العظيمة في الشهيدات بربارة، وذلك لأنّ حبّة القمح لا تُثمر ولا تأتي بسُنبلة إلا إذا ماتت، بالإضافة إلى أن بربارة كانت تعتاش في غرفة «الحمّام» التي حبسها فيها أبوها على حبات القمح التي كانت تُلقيها إليها إحدى الحمامات عبر طاقة صغيرة، من هنا جاءت أهمية القمح في حكاية القديسة.
ويحتفل المسيحيون الغربيون بعيد البربارة في الرابع من ديسمبر (كانون الأول) من كل عام، والشرقيون في السابع عشر منه، ويقولون في الأمثال: «في عيد البربارة بتطلع الميّ من قدوح الفارة»، لغزارة هطلان الأمطار في هذا الوقت من العام. وفي عيد البربارة يأكلون القمح والقطايف ويتنكرون بأزياء غريبة، وأحيانا يتناسون السبب الرئيس للاحتفال بهذا العيد، وهو تضحية القديسة بربارة بنفسها في سبيل مسيحيتها.
ويرى البعض أن القديسة بربارة بينما كانت تهرب من والدها الذي يريد قتلها بعد اعتناقها للمسيحية، مرت بحقل مزروع بالقمح، ولكي يخفيها الرب نمت سنابل القمح وغطّتها، ويعتبرون أن التنكّر تقليد متّبع في العيد، وإن كانت الكنيسة لا ترفضه ولكنها لا تحبّذه وتدعو للصلوات والابتهالات في هذا العيد.
سيرة حياة الشهيدة
ولدت القديسة بربارة في أوائل القرن الثالث للمسيح، كان أبوها، واسمه ذيوسقورس، يكره المسيحيين ويزدريهم، وكانت بربارة ابنته الوحيدة جميلة جداً وذكية فخاف عليها أبوها، فبنى لها قصراً عالي الأسوار، جعل فيه كل أنواع البهجة كي لا يكون لها كسجن تقيم فيه، ووضع لها خداماً وحراساً وأحضر لها أساتذة مهرة ليعلموها علوم ذلك العصر حتى تنشأ على حب آلهتهم.
لكن بربارة تعرّفت على الديانة المسيحية والكتاب المقدّس وتجسّد المسيح وافتدائه للبشر، وأُعجبت ببتوليّة السيدة العذراء مريم، فآمنت بذلك، ومن ذلك الوقت خصصت بتوليتها للرب على مثال العذراء. ولما أخبرت أباها أنها لا تريد أن تتزوج لأنها أصبحت مسيحية ونذرت نفسها للرب يسوع، غضب غضباً شديداً، وخاصة بعد أن رأى أنها قد حطمت الأصنام في البيت ووضعت صلباناً بدلاً منها، فاستلّ سيفه ليقتلها ولكنها هربت منه، فلحق بها عند صخرة كبيرة فانفتحت الصخرة - كما تقول الروايات - وعبرت بربارة فيها ثم أطبقت الصخرة عليها، ولما عرف أبوها مكانها أمسكها وجرّها من شعرها ووضعها في قبو مظلم.
ولما علم الوالي (مركيانوس) بأن بربارة أصبحت مسيحية، أرسل لها وطلب منها أن تترك المسيحية وتعود إلى عبادة الأصنام فرفضت، فأمر بجلدها فجلدوها وجرّوا جسمها على قطع من الفخّار المكسّر وجرحوها وعلّقوها في الفضاء ورأسها إلى أسفل وضربوها ورشّوا على جسدها الجريح ملحاً لكي يزيدوا آلامها إلا أنها لم تستسلم، فأعادوها إلى السجن، وفي اليوم التالي وجدوا أنها قد شُفيت من جروحها، فسألوها كيف شفيت؟ فقالت لهم: «إن الذي شفاني هو الرب يسوع المسيح». فثار الحاكم وأمر بأن يعذّبوها ويعرّوها من ثيابها ويطوفوا بها في الشوارع حتى يبصق عليها كل من يراها، أما هي فصلّت وتضرّعت إلى الله أن ينقذها من هذا العقاب، وأن يستر جسدها حتى لا يراه الناس، وما كادت تنهي صلاتها حتى شاهد الناس أن جروحها قد شفيت، فخاف الحاكم وأمر بقطع رأسها، فأخرجها أبوها خارج المدينة، وقطع رأسها بضربة من فأسه، حينئذ انصبّ عليه غضب الله بصاعقة أحرقته وأحرقت مركيانوس الحاكم الظالم معه، وذاع صيت بربارة بين الناس، وكثرت العجائب التي نالها الناس بتضرعاتها واتخذها الناس شفيعة لهم، وخاصة في أمراض العيون واشتداد الصواعق والمهن الخطرة، وشُيّد على اسمها كثير من الكنائس في العالم.
ويعتقد كثيرون أن جسد القديسة بربارة موجود حاليًا في كنيسة باسمها في مصر القديمة. وقد رأى بعض المؤرخين أنها استشهدت في هليوبوليس بمصر.
وتختلف المصادر في تحديد هويتها، فمن قائل إنها ولدت في نيقوديميا (في آسيا الصغرى)، إلى قائل إنها ولدت في لبنان، في مدينة بعلبك، إلى قائل إنها ولدت في فلسطين، وحتى في مصر. وجرت العادة أن يرتدي الأطفال في عيد القديسة بربارة الأقنعة، في إشارة إلى رؤية بربارة للمسيح الطفل وقد شوّه الألم منظره. وأما القمح المسلوق فيرمز في تراث الكنيسة للقيامة.
قرية فلسطينية تحيي ذكراها
قرية عابود الفلسطينية التي تقع في الشمال الغربي من مدينة رام الله ونصف سكانها من المسيحيين، تحتفل كعادتها في كل عام بعيد القديسة الشهيدة بربارة، حيث هنالك كنيسة تاريخية تقع فوق جبل مطل على القرية تحمل اسم القديسة الشهيدة بربارة، وحسب التقليد المحلي المتداول فإن الشهيدة عاشت في هذا المكان، وفي هذا الموسم يحتفى بهذا العيد، حيث إن أهالي القرية يعتبرون الشهيدة بربارة شفيعتهم، إضافة إلى السيدة العذراء شفيعة كنيسة البلدة.
وفي هذا العام، شارك الكثيرون في الاحتفال رغم تراكم الثلوج والبرد الشديد، حيث بدأ بصلاة الغروب في كنيسة السيدة العذراء، ومن ثم تم تنظيم مسيرة احتفالية إلى كنيسة القديسة بربارة فوق الجبل، وبعدها تناول الجميع طعام البربارة التقليدي في قاعة الكنيسة. وترأس الاحتفال سيادة المطران عطا الله حنا رئيس أساقفة سبسطية للروم الأرثوذكس، وهو شخص يحظى بالتقدير والاحترام في أوساط الفلسطينيين مسيحيين ومسلمين.