ذاكرة تعبق «ياسميناً»

ذاكرة تعبق «ياسميناً»

كان‭ ‬باب‭ ‬ذلك‭ ‬البيت‭ ‬أخضر‭ ‬خشبياً‭ ‬ذا‭ ‬مربعات‭ ‬بارزة،‭ ‬وأمامه‭ ‬ما‭ ‬يشبه‭ ‬الرواق‭ ‬الصغير‭ ‬بين‭ ‬مساحتي‭ ‬غرس‭ ‬يحوطهما‭ ‬سياج‭ ‬عالٍ‭. ‬كانت‭ ‬تمرّ‭ ‬كل‭ ‬صباح‭ ‬بالدرب‭ ‬فتاة،‭ ‬تلاحق‭ ‬أصابعها‭ ‬الصغيرة‭ ‬أي‭ ‬زهرة‭ ‬يمكن‭ ‬الوصول‭ ‬إليها‭ ‬عبر‭ ‬فتحات‭ ‬السياج‭ ‬الضيقة،‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬تساقط‭ ‬منها‭ ‬على‭ ‬الأرض،‭ ‬ومعها‭ ‬أطفال‭ ‬آخرون،‭ ‬يحاولون‭ ‬قطف‭ ‬الأزهار‭ ‬الأكثر‭ ‬قرباً،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يُفتح‭ ‬الباب‭ ‬فيهرب‭ ‬الجميع‭ ‬من‭ ‬ملاحقة‭ ‬صاحب‭ ‬البيت‭ ‬واحتجاجه‭ ‬دفاعاً‭ ‬عن‭ ‬شجرته؛‭ ‬إنها‭ ‬شجرة‭ ‬الياسمين‭ ‬ذات‭ ‬الزهور‭ ‬البيضاء‭ ‬الرقيقة‭ ‬برائحتها‭ ‬المحببة،‭ ‬التي‭ ‬تزيد‭ ‬ضفيرة‭ ‬الفتاة‭ ‬جمالا،‭ ‬لكنها‭ ‬نادراً‭ ‬ما‭ ‬تحصل‭ ‬عليها‭.‬

زهرة‭ ‬الياسمين‭ ‬تسمى‭ ‬ملكة‭ ‬الليل‭ ‬في‭ ‬الهند،‭ ‬وتعتبر‭ ‬من‭ ‬أقدم‭ ‬الزهور‭ ‬التي‭ ‬استخرجت‭ ‬منها‭ ‬العطور‭ ‬عبر‭ ‬التاريخ،‭ ‬ويُعتقد‭ ‬أن‭ ‬جبال‭ ‬الهمالايا‭ ‬هي‭ ‬المهد‭ ‬الأول‭ ‬لهذه‭ ‬الزهرة‭ ‬الجميلة‭. ‬عرفت‭ ‬منذ‭ ‬زمن‭ ‬الفراعنة‭ ‬باسم‭ ‬اأسمنب،‭ ‬ومنه‭ ‬اشتق‭ ‬الاسم‭ ‬القبطي‭ ‬اأسمينب‭ ‬ثم‭ ‬صار‭ ‬اياسمينب،‭ ‬حيث‭ ‬وجدت‭ ‬أكاليل‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الزهور‭ ‬في‭ ‬قبور‭ ‬الفراعنة‭ ‬ومعابدهم،‭ ‬وكذلك‭ ‬فعل‭ ‬أهل‭ ‬البيت‭ ‬ذي‭ ‬الباب‭ ‬الأخضر،‭ ‬حيث‭ ‬توّجوا‭ ‬وليدتهم‭ ‬الصغيرة‭ ‬بهذا‭ ‬الزهر‭ ‬ووضعوه‭ ‬على‭ ‬مخدّتها‭ ‬ليهدّئها‭ ‬ويسهّل‭ ‬نومها،‭ ‬وسمّوها‭ ‬تيمّنا‭ ‬به‭... ‬أليس‭ ‬االياسمينب‭ ‬هبة‭ ‬الله‭ ‬في‭ ‬اللغة‭ ‬الفارسية؟‭!‬

تمنّوا‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬مولودتهم‭ ‬برقّة‭ ‬وجمال‭ ‬وقناعة‭ ‬الشجرة؛‭ ‬فهي‭ ‬لا‭ ‬تحتاج‭ ‬إلا‭ ‬إلى‭ ‬بعض‭ ‬الضوء‭ ‬والعناية‭ ‬والتقليم،‭ ‬لتمنح‭ ‬البيت‭ ‬الذي‭ ‬ترتمي‭ ‬على‭ ‬جدرانه‭ ‬إيحاء‭ ‬البيوت‭ ‬الدمشقية‭ ‬الحالمة‭ ‬المعبقة‭ ‬بالتاريخ‭ ‬والحب‭ ‬والياسمين‭. ‬سحرت‭ ‬شاعرها‭ ‬نزار‭ ‬قباني‭ ‬وجعلته‭ ‬يفتتن‭ ‬ويتعلم‭ ‬منها‭ ‬اأبجدية‭ ‬الياسمينب،‭ ‬كما‭ ‬تغنى‭ ‬بها‭ ‬في‭ ‬أشعاره‭ ‬ونظم‭ ‬قصيدة‭ ‬اطوق‭ ‬الياسمينب‭ ‬فأدرج‭ ‬الزهرة‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬قصائده‭...‬‭ ‬عشق‭ ‬الياسمين‭ ‬فلُقّب‭ ‬به‭ ‬وصار‭ ‬شاعره‭.‬

إندونيسيا‭ ‬كذلك‭ ‬أغرمت‭ ‬بالياسمين‭ ‬واختارته‭ ‬رمزاً‭ ‬لها،‭ ‬كما‭ ‬تعتبر‭ ‬تونس‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬البلدان‭ ‬الغنية‭ ‬بالزهرة‭ ‬ذاتها،‭ ‬فأزقتها،‭ ‬بيوتها،‭ ‬شايها‭ ‬ومشمومها‭ ‬كلها‭ ‬تعبق‭ ‬به،‭ ‬فيما‭ ‬سميت‭ ‬ثورتها‭ ‬بثورة‭ ‬الياسمين‭.‬

كبرت‭ ‬الفتاة‭ ‬ولم‭ ‬تفتأ‭ ‬تعشق‭ ‬الياسمين‭. ‬حل‭ ‬عيد‭ ‬ميلادها‭ ‬فتلقت‭ ‬هدية‭ ‬ما‭ ‬كادت‭ ‬تفتحها‭ ‬حتى‭ ‬استعادت‭ ‬كل‭ ‬ذكريات‭ ‬قطف‭ ‬ياسمين‭ ‬البيت‭ ‬ذي‭ ‬الباب‭ ‬الأخضر‭. ‬احتوت‭ ‬العلبة‭ ‬على‭ ‬طوق‭ ‬ياسمين‭ ‬وبطاقة‭ ‬بالغة‭ ‬الرقة‭ ‬اكل‭ ‬المنى‭ ‬بميلاد‭ ‬معبق‭ ‬بالأحلام‭ ‬المحققةب،‭ ‬فتدفّق‭ ‬العطر‭ ‬وطوق‭ ‬ياسمين‭ ‬نزار‭ ‬والبيت‭ ‬المحروس‭ ‬القديم،‭ ‬فعبقت‭ ‬الذاكرة‭ ‬كلها‭ ‬اياسميناًب‭ >‬