ملامحُ الاغترابِ فِي روايةِ «بيتِ النخيلِ»

ملامحُ الاغترابِ فِي روايةِ «بيتِ النخيلِ»

طارق الطَّيِّبُ أديبٌ سودانيُّ الأصل، وُلد في الثاني من شهر يناير سنة 1959م، في حي عين شمس بالقاهرة، ثم سافر سنة 1984م إلى فيينا، حيث أتمَّ دراسته في فلسفة الاقتصاد، ومازال يعيش في فيينا حيث يُدَرِّسُ في ثلاث جامعاتٍ بها إلى جانب كتاباته الأدبية المتنوِّعة.

‭ ‬حصل‭  ‬الطيب‭ ‬على‭ ‬منحة‭ ‬إلياس‭ ‬كانتي‭ ‬elias‭ ‬canetti‭ ‬في‭ ‬فيينا‭ ‬سنة‭ ‬2005م،‭ ‬وزمالة‭ ‬برنامج‭ ‬االكتابة‭ ‬العالميب‭ ‬وبرنامج‭ ‬ابين‭ ‬السطورب‭ ‬بجامعة‭ ‬أيوا‭ ‬في‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأمريكية‭ ‬سنة‭ ‬2008م،‭ ‬ونشر‭ ‬خمسة‭ ‬دواوينَ‭ ‬شعريَّةٍ‭ ‬وروايتيْنِ‭ ‬ومجموعتيْنِ‭ ‬قصصيَّتَيْنِ‭ ‬ومسرحيَّةً‭ ‬واحدةً،‭ ‬وقد‭ ‬لاقت‭ ‬مؤلفاته‭ ‬رواجاً‭ ‬لدى‭ ‬الشعوب‭ ‬الأخرى،‭ ‬فَتُرْجِمَتْ‭ ‬إلى‭ ‬اللغات‭: ‬الإنجليزية‭ ‬والفرنسية‭ ‬والألمانية‭ ‬والاسبانية‭ ‬والإيطالية‭ ‬والرومانية‭ ‬والصربية‭ ‬وألمقدونية،‭ ‬كما‭ ‬أسهم‭ ‬في‭ ‬ترجمة‭ ‬نصوصٍ‭ ‬أدبيةٍ‭ ‬من‭ ‬لغاتٍ‭ ‬أخرى‭. ‬وشارك‭ ‬كذلك‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬المهرجانات‭ ‬الأدبية‭ ‬الدولية،‭ ‬وَعُيِّنَ‭ ‬سفيراً‭ ‬للنمسا‭ ‬لعام‭ ‬الحوار‭ ‬الثقافي‭ ‬
الأوربيdije‭ ‬8002 م،‭ ‬وحصل‭ ‬على‭ ‬عددٍ‭ ‬من‭ ‬الجوائز،‭ ‬منها‭: ‬الجائزة‭ ‬الكبرى‭ ‬للشعر‭ ‬في‭ ‬رومانيا‭ ‬سنة‭ ‬2007م،‭ ‬ووسام‭ ‬الجمهورية‭ ‬النمساوية‭ ‬تقديراً‭ ‬لأعماله‭ ‬الأدبية‭ ‬والتواصل‭ ‬الأدبي‭ ‬محليًّا‭ ‬وعالميًّا‭ ‬سنة‭ ‬2008م،‭ ‬وعيَّن‭ ‬جهاز‭ ‬تنظيم‭ ‬شؤون‭ ‬السودانيين‭ ‬العاملين‭ ‬بالخارج‭ ‬جائزةً‭ ‬باسمه‭ ‬للمبدعين‭ ‬خارج‭ ‬السودان،‭ ‬هي‭ ‬اجائزة‭ ‬الأديب‭ ‬طارق‭ ‬الطَّيِّبِب‭ ‬بدءاً‭ ‬من‭ ‬سنة‭ ‬2013م‭.‬

ولقد‭ ‬أكد‭ ‬الكاتب‭ ‬طارق‭ ‬الطَّيّبُ‭ ‬أنه‭ ‬أنجز‭ ‬روايته‭ ‬ابيت‭ ‬النخيلب،‭ (‬طبعة‭ ‬الهيئة‭ ‬العامة‭ ‬لقصور‭ ‬الثقافة،‭ ‬سلسلة‭ ‬آفاق‭ ‬عربية،‭ ‬العدد‭ ‬175،‭ ‬القاهرة‭ - ‬مصر،‭ ‬1435هـ‭/ ‬2014م‭)‬،‭ ‬بين‭ ‬مدينتيْ‭ ‬فيينا‭ ‬وأسوان،‭ ‬بين‭ ‬سنتيْ‭ ‬1998م‭ ‬و2005م،‭ ‬أي‭ ‬إنه‭ ‬ظل‭ ‬يكتبها‭ ‬خلال‭ ‬سبع‭ ‬سنواتٍ‭ ‬متواليةٍ،‭ ‬بين‭ ‬وطنه‭ ‬وغربته؛‭ ‬لذلك‭ ‬خرجت‭ ‬الرواية‭ ‬في‭ ‬حوالي‭ ‬أربعمائةٍ‭ ‬وستَّ‭ ‬عشرةَ‭ ‬صفحةً‭.‬

‭ ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬النص‭ ‬الهائل،‭ ‬فإن‭ ‬الكاتب‭ ‬أحكم‭ ‬أدوات‭ ‬سرده‭ ‬الروائي،‭ ‬ولم‭ ‬يشعر‭ ‬المتلقِّي‭ ‬بالملل،‭ ‬بل‭ ‬بالإمتاع‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تنوُّع‭ ‬الأحداث‭ ‬الروائية،‭ ‬ودقة‭ ‬الوصف‭ ‬في‭ ‬المشاهد،‭ ‬وعنصر‭ ‬التكثيف‭ ‬البادي‭ ‬في‭ ‬تنامي‭ ‬الأحداث،‭ ‬فلعل‭ ‬خبرة‭ ‬الطَّيِّبِ‭ ‬في‭ ‬كتابة‭ ‬القصة‭ ‬القصيرة‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬جعلته‭ ‬يمسك‭ ‬بتلابيب‭ ‬السرد‭ ‬الروائي،‭ ‬فلم‭ ‬يقع‭ ‬في‭ ‬فَخّ‭ ‬التَّرَهُّلِ،‭ ‬كما‭ ‬يلمس‭ ‬المتلقِّي‭ ‬أن‭ ‬الرواية‭ ‬تتقاطع‭ ‬مع‭ ‬السيرة‭ ‬الذاتية‭ ‬للكاتب‭.‬

إن‭ ‬استهلال‭ ‬الكاتب‭ ‬روايته‭ ‬ابيت‭ ‬النخيلب‭ ‬يكشف‭ ‬عن‭ ‬روح‭ ‬الاغتراب‭ ‬الذي‭ ‬يستشعره،‭ ‬فهو‭ ‬العربيُّ‭ ‬الأصل‭ ‬المقيم‭ ‬بفيينا،‭ ‬التي‭ ‬كتب‭ ‬عنها‭ ‬روايةً‭ ‬أخرى‭ ‬هي‭ ‬االرحلة‭ ‬797‭ ‬المتجهة‭ ‬إلى‭ ‬فييناب،‭ (‬طبعة‭ ‬دار‭ ‬العين،‭ ‬القاهرة‭- ‬مصر،‭ ‬1435هـ‭ - ‬2014م‭)‬،‭ ‬وقد‭ ‬صدرت‭ ‬الروايتان‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬في‭ ‬سنةٍ‭ ‬واحدةٍ،‭ ‬فيستشعر‭ ‬الطَّيِّبُ‭ ‬الغربةَ‭ ‬حيث‭ ‬ينطلق‭ ‬من‭ ‬فكرةٍ‭ ‬مُؤَدَّاهَا‭ ‬أن‭ ‬المدن‭ ‬الفقيرة‭ ‬حَانِيَةٌ‭ ‬على‭ ‬أصحابها،‭ ‬بينما‭ ‬تكون‭ ‬المدن‭ ‬الغنية‭ ‬قَاسِيَةً‭ ‬على‭ ‬أصحابها،‭ ‬وتوالي‭ ‬الأسئلة‭ ‬الإنكارية‭ ‬في‭ ‬صفحةٍ‭ ‬واحدةٍ‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬إلا‭ ‬حديث‭ ‬النفس‭ ‬عن‭ ‬غربتها‭: ‬لماذا‭ ‬أنا‭ ‬هنا؟‭! ‬وماذا‭ ‬أفعل‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المدينة؟‭! ‬ولماذا‭ ‬لا‭ ‬أعود؟‭! ‬وكيف‭ ‬أَحِلُّ‭ ‬هذه‭ ‬الورطة؟‭! ‬وكيف‭ ‬أخرج‭ ‬بأقل‭ ‬خسائرَ‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬اللُّعْبَةِ‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬الانسحاب‭ ‬منها؟‭! ‬وكيف‭ ‬أستمرُّ‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬أموت‭ ‬فيها؟‭!‬

شعور‭ ‬الكاتب‭ ‬بعدم‭ ‬التوافق‭ ‬مع‭ ‬الواقع‭ ‬وعدم‭ ‬انسجامه‭ ‬معه،‭ ‬بدا‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬وصفه‭ ‬الدقيق‭ ‬لأثاث‭ ‬شقته‭ ‬التي‭ ‬يقطنها،‭ ‬فلا‭ ‬الشقة‭ ‬متميزةٌ‭ ‬موقعاً،‭ ‬ولا‭ ‬الأثاث‭ ‬متميزٌ‭ ‬توافقاً،‭ ‬وذلك‭ ‬لا‭ ‬يخلو‭ ‬من‭ ‬الرمزية،‭ ‬التي‭ ‬قد‭ ‬تحيل‭ ‬الأمر‭ ‬إلى‭ ‬وطنه‭ ‬العربي‭ ‬غير‭ ‬المتميز‭ ‬حضاريًّا،‭ ‬وأبناء‭ ‬أمته‭ ‬غير‭ ‬المشاركين‭ ‬في‭ ‬الحضارة‭ ‬اليوم‭.‬

فيقول‭ ‬الكاتب‭ ‬عن‭ ‬موقع‭ ‬سكنه‭: ‬اأسكن‭ ‬في‭ ‬الدور‭ ‬الأخير‭ ‬من‭ ‬بِنَايَةٍ‭ ‬قديمةٍ‭ ‬نَجَتْ‭ ‬من‭ ‬دمار‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية،‭ ‬لكنها‭ ‬لم‭ ‬تَنْجُ‭ ‬من‭ ‬الزمن،‭ ‬لم‭ ‬يُجدد‭ ‬شباكٌ‭ ‬فيها‭ ‬ولا‭ ‬حتى‭ ‬بلاطةٌ‭ ‬واحدةٌ،‭ ‬الأدوار‭ ‬العليا‭ ‬في‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬البِنَايَاتِ‭ ‬القديمة‭ ‬لا‭ ‬يفضلها‭ ‬سكان‭ ‬هذه‭ ‬المدينة‭ ‬لأسبابٍ‭ ‬كثيرةٍ؛‭ ‬أبسطها‭ ‬غياب‭ ‬المصاعد،‭ ‬وضيق‭ ‬درجاتها‭ ‬الحلزونية،‭ ‬بمداخلها‭ ‬المعتمة،‭ ‬وبرودتها‭ ‬القارسة،‭ ‬ورطوبتهاب‭.‬

ثم‭ ‬يفيض‭ ‬الكاتب‭ ‬في‭ ‬وصف‭ ‬أثاث‭ ‬شقته،‭ ‬قائلاً‭: ‬اأثاث‭ ‬شقتي‭ ‬مُبَعْثَرٌ‭ ‬في‭ ‬شكلٍ‭ ‬عَبَثِيٍّ،‭ ‬مثل‭ ‬سوقٍ‭ ‬لِلْخُرْدَةِ‭ ‬وَالرُّوبَابِيكْيَا،‭ ‬ليس‭ ‬هناك‭ ‬قطعةُ‭ ‬أثاثٍ‭ ‬واحدةٌ‭ ‬في‭ ‬الغرفة‭ ‬تشبه‭ ‬الأخرى‭: ‬دولابٌ‭ ‬قديمٌ‭ ‬بُنِّيٌّ‭ ‬غامقٌ،‭ ‬ضَلْفَةٌ‭ ‬منه‭ ‬لا‭ ‬تنفتح‭ ‬أبداً،‭ ‬والأخرى‭ ‬لا‭ ‬تنغلق‭ ‬أبداً،‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬كرسيٍّ‭ ‬معدنيٍّ‭ ‬حديثٍ‭ ‬لعله‭ ‬من‭ ‬مستشفًى،‭ ‬وآخرَ‭ ‬من‭ ‬البلاستيك‭ ‬ربما‭ ‬من‭ ‬مطعمٍ‭ ‬رخيصٍ،‭ ‬كَنَبَتَان،ِ‭ ‬واحدةٌ‭ ‬مُخَطَّطَةٌ‭ ‬مثل‭ ‬جلد‭ ‬الحمار‭ ‬الوحشي،‭ ‬والأخرى‭ ‬جلديةٌ‭ ‬حمراءُ‭ ‬فاقعةُ‭ ‬اللونِ‭ ‬كأنها‭ ‬من‭ ‬بيت‭ ‬متعةٍ،‭ ‬المائدة‭ ‬المائلة‭ ‬بيضاء‭ ‬من‭ ‬خشب‭ ‬قشرة‭ ‬الأبلاكاش‭ ‬من‭ ‬شركة‭ ‬إِيكْيَا،‭ ‬عليها‭ ‬بُقَعٌ‭ ‬لحروق‭ ‬سجائرَ،‭ ‬وشروخٌ‭ ‬كأنها‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬سجن‭ ‬تعذيبٍ،‭ ‬الأرضية‭ ‬من‭ ‬مشمعٍ‭ ‬رخيصٍ‭ ‬بلونٍ‭ ‬أحمرَ‭ ‬محروقٍ،‭ ‬لن‭ ‬أتحدث‭ ‬عن‭ ‬المطبخ،‭ ‬وغرفة‭ ‬النوم‭ ‬الضيقة،‭ ‬وسريرها‭ ‬الذي‭ ‬يبدأ‭ ‬في‭ ‬الصَّرِيرِ‭ ‬بمجرد‭ ‬اللمس،‭ ‬الشقة‭ ‬تكاد‭ ‬تصلح‭ ‬كَمُتْحَفٍ‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬لولا‭ ‬ورق‭ ‬الحائط‭ ‬الذي‭ ‬غَيَّرْتُهُ‭ ‬لينقلني‭ ‬نفسيًّا‭ ‬إلى‭ ‬مكانٍ‭ ‬آخرَ‭ ‬أحبهب،‭ ‬وهذه‭ ‬الجملة‭ ‬الأخيرة‭ ‬تُعَبِّرُ‭ ‬عن‭ ‬أن‭ ‬التغيير‭ ‬الواقعي‭ ‬من‭ ‬حوله‭ ‬ليس‭ ‬سوى‭ ‬تغييرٍ‭ ‬ظاهريًّ‭ ‬لم‭ ‬يتطرق‭ ‬إلى‭ ‬تغيير‭ ‬الجوهر‭!.‬

إن‭ ‬الوعود‭ ‬الزائفة‭ ‬بين‭ ‬المالك‭ ‬والمستأجر‭ ‬تمثل‭ ‬مشهداً‭ ‬رائعاً‭ ‬في‭ ‬الرواية،‭ ‬وهو‭ ‬مشهدٌ‭ ‬رمزيٌّ‭ ‬لأوربا‭ ‬التي‭ ‬تمتلك،‭ ‬والعرب‭ ‬الذين‭ ‬يَتَسَوَّلُونَ‭ ‬منها،‭ ‬لدرجةٍ‭ ‬جعلتهم‭ ‬لا‭ ‬يَتَسَوَّلُونَ‭ ‬سوى‭ ‬الأحلام‭ ‬الزائفة‭ ‬التي‭ ‬ليس‭ ‬إلى‭ ‬تحقيقها‭ ‬من‭ ‬سبيلٍ،‭ ‬لكن‭ ‬العرب‭ ‬يرتضون‭ ‬من‭ ‬أوربا‭ ‬بالأحلام؛‭ ‬لأنهم‭ ‬لا‭ ‬يملكون‭ ‬من‭ ‬واقعهم‭ ‬إلا‭ ‬السراب‭!.‬

يوضح‭ ‬الكاتب‭ ‬طريقة‭ ‬الْحِيلَةِ‭ ‬التي‭ ‬تتحصل‭ ‬بها‭ ‬مالكة‭ ‬الشقة‭ ‬على‭ ‬إيجارها‭ ‬منه،‭ ‬ثُمَّ‭ ‬تُمَنِّيهِ‭ ‬بوعودٍ‭ ‬زائفةٍ‭ ‬فَقَدَتْ‭ ‬مضمونها‭ ‬وصارت‭ ‬في‭ ‬الظاهر‭ ‬كالعبارات‭ ‬الْمَسْكُوكَةِ‭ ‬التي‭ ‬يلقيها‭ ‬المرء‭ ‬على‭ ‬صديقه‭ ‬وعدوه‭ ‬على‭ ‬حَدّ‭ ‬سواء،‭ ‬فيقول‭: ‬اتأتي‭ ‬في‭ ‬أول‭ ‬يوم‭ ‬من‭ ‬أول‭ ‬كل‭ ‬شهرٍ‭ ‬لتأخذ‭ ‬إيجارها‭ ‬دون‭ ‬إِبْطَاءٍ،‭ ‬لا‭ ‬يهمها‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬اليوم‭ ‬يوم‭ ‬سبتٍ‭ ‬أو‭ ‬يوم‭ ‬أحدٍ‭ ‬أو‭ ‬يوم‭ ‬عيدٍ،‭ ‬تصعد‭ ‬الأدوار‭ ‬الخمسة‭ ‬سريعةً‭ ‬حتى‭ ‬يكاد‭ ‬نَفَسُهَا‭ ‬ينقطع،‭ ‬تكون‭ ‬لطيفةً‭ ‬ظريفةً‭ ‬حتى‭ ‬تأخذ‭ ‬الإيجار‭ ‬مِنِّي‭ ‬ثم‭ ‬تَفِرُّ‭ ‬من‭ ‬أمامي‭ ‬خفيفةً‭ ‬كَالْحَمَامَةِ،‭ ‬تخشى‭ ‬من‭ ‬تَذَمُّرِي‭ ‬الصامت‭ ‬أن‭ ‬ينفجر،‭ ‬أعرف‭ ‬أنها‭ ‬تكسب‭ ‬جيداً‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الشقق‭ ‬العديدة‭ ‬التي‭ ‬تتملكها‭ ‬ومن‭ ‬قروض‭ ‬البنك،‭ ‬وأعرف‭ ‬أن‭ ‬تصليح‭ ‬هذا‭ ‬الخراب‭ ‬لن‭ ‬يكلفها‭ ‬كثيراً،‭ ‬لكنها‭ ‬تَتَّكِئُ‭ ‬على‭ ‬صبري‭ ‬وفقري‭ ‬وقلة‭ ‬حِيلَتِي،‭ ‬تَعِدُنِي‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬زيارةٍ‭ ‬بتصليح‭ ‬أشياءَ‭ ‬كثيرةٍ‭ ‬خربانةٍ‭ ‬في‭ ‬الشقة،‭ ‬وتتصل‭ ‬أمامي،‭ ‬لا‭ ‬أعرف‭ ‬بمن؛‭ ‬لكي‭ ‬يَنْطَلِي‭ ‬عَلَيَّ‭ ‬المشهد،‭ ‬لكنها‭ ‬لن‭ ‬تُصْلِحَ‭ ‬أي‭ ‬شيءٍ‭ ‬على‭ ‬الإطلاق،‭ ‬وَعَلَيَّ‭ ‬أن‭ ‬أكرر‭ ‬رجائي‭ ‬هذا‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬إطْلَالَةٍ‭ ‬لها،‭ ‬وأن‭ ‬تكرر‭ ‬هي‭ ‬وعودها،‭ ‬حتى‭ ‬أَصْبَحَتْ‭ ‬هذه‭ ‬الرجاءات‭ ‬والوعود‭ ‬جُمَلاً‭ ‬مثل‭ ‬طقوس‭ ‬السلام‭ ‬والوداعب‭.‬

لقد‭ ‬استعمل‭ ‬الطَّيِّبُ‭ ‬عدداً‭ ‬من‭ ‬الألفاظ‭ ‬الدائرة‭ ‬على‭ ‬ألسنة‭ ‬العامة‭ ‬مما‭ ‬يُستعمل‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬اليومية،‭ ‬وبعضها‭ ‬أصله‭ ‬عربيٌّ‭ ‬والآخر‭ ‬مُعَرَّبٌ،‭ ‬والكاتب‭ ‬إذ‭ ‬يَعْمَدُ‭ ‬إلى‭ ‬استعمال‭ ‬الشائع‭ ‬من‭ ‬الألفاظ‭ ‬ليكون‭ ‬المشهد‭ ‬الروائي‭ ‬أكثر‭ ‬التصاقاً‭ ‬بالواقع‭ ‬الْمَعِيشِ‭ ‬الذي‭ ‬أراد‭ ‬التعبير‭ ‬عنه،‭ ‬وهذا‭ ‬من‭ ‬شأنه‭ ‬أن‭ ‬يَحْمِلَ‭ ‬المتلقِّي‭ ‬على‭ ‬مشاركة‭ ‬الكاتب‭ ‬في‭ ‬نصه‭ ‬الروائي،‭ ‬فَبِجُمَلٍ‭ ‬متواليات‭ ‬في‭ ‬صفحةٍ‭ ‬واحدةٍ‭ ‬يقول‭: ‬افي‭ ‬الشتاء‭ ‬يُزَرْجِنُ‭ ‬البابب،‭ ‬وايَكْحَتُ‭ ‬في‭ ‬الأرضب،‭ ‬وابيضةٌ‭ ‬واحدةٌ‭ ‬في‭ ‬الثلاجة‭ ‬مَدْفُوشَةٌ‭ ‬من‭ ‬أسفلهاب،‭ ‬وارائحتها‭ ‬تُكَرْكِبُ‭ ‬بطنيب،‭ ‬واتبدأ‭ ‬البيضة‭ ‬تَشُرُّ‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬أصابعي‭ ‬إلى‭ ‬يدي‭ ‬الأخرى‭ ‬في‭ ‬خيوطٍ‭ ‬لَزِجَةٍ‭ ‬مُقْرِفَةٍب،‭ ‬واتسقط‭ ‬البيضة‭ ‬على‭ ‬الأرض‭ ‬في‭ ‬صوتٍ‭ ‬بَائِخٍب‭! ‬وكلها‭ ‬ألفاظٌ‭ ‬من‭ ‬مشاهدَ‭ ‬حياتيةٍ‭ ‬مزعجةٍ‭ ‬تدل‭ ‬على‭ ‬معاناة‭ ‬الكاتب‭/ ‬البطل‭ ‬بوصفه‭ ‬فقيراً‭ ‬ومغترباً‭.‬

وعلى‭ ‬مدار‭ ‬الرواية‭ ‬كلها،‭ ‬نلحظ‭ ‬إجادة‭ ‬الكاتب‭ ‬دقة‭ ‬الوصف،‭ ‬وكتابة‭ ‬المشاهد‭ ‬بتكثيفٍ‭ ‬بالغٍ‭ ‬للصور‭ ‬الجزئية‭ ‬والكلية‭ ‬معاً،‭ ‬كما‭ ‬أجاد‭ ‬في‭ ‬عمل‭ ‬حَوَاشٍ‭ ‬على‭ ‬مدار‭ ‬الرواية‭ ‬كلها،‭ ‬يشرح‭ ‬فيها‭ ‬للقارئ‭ ‬العربي‭ ‬أسماء‭ ‬الأشخاص‭ ‬والأماكن‭ ‬والاصطلاحات‭ ‬النمساوية؛‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬تُسْتَغْلَقَ‭ ‬عليه،‭ ‬مما‭ ‬أضفى‭ ‬على‭ ‬الْبُعْدِ‭ ‬الأدبيِّ‭ ‬للرواية‭ ‬بُعْداً‭ ‬ثقافيًّا‭ .