جمال العربية: لغةٌ.. وإبداعُ لغة في الذكرى الثلاثين لرحيل صلاح عبدالصبور
جمال العربية: لغةٌ.. وإبداعُ لغة في الذكرى الثلاثين لرحيل صلاح عبدالصبور
أ- كلمة في معجمه الشعري: 1- الليل (يا صديقتي) ينفضني بلا ضمير ويطلق الظنون في فراشي الصغير (من قصيدة: رحلة في الليل) 5- أ- (من قصيدة: رسالة إلى صديقة) 6- نامي أيا (صديقتي) المعذبة (من قصيدة: استطراد أعتذر عنه) **** لم تجئ كلمة «صديقتي» في العديد من قصائد صلاح عبدالصبور في مسار رحلته الشعرية مصادفةً أو عفْو الخاطر، فبزوغها في النصف الأول من خمسينيات القرن الماضي، مرتبط بنضج وجدان الشاعر المعاصر من ناحية، وبداية تململ الشاعر الذي ينزع إلى صوغ المعادل الشعري لإحساسه بالمرأة في حياته، في صيغة تتسم بالجدّة، والتخلص من شوائب التكرار وانعدام الشحنة المشعة لكلماتٍ أخرى أصبحت باردة ومستهلكة من مثل: حبيبي، وحبيبتي، ومحبوبتي، التي امتلأت بها صفحات التراث الشعري القديم والحديث معًا، وأصبحت هذه المفردات وغيرها بمنزلة الاستهلال الفاتر الذي يُولّده عزف مكرور وغناء لم يعد يُحرّك شعورًا أو يثير عاطفة. مفردة «صديقتي» في معجم صلاح عبدالصبور، هي من ناحية سبْق شعري وشعوري انفرد به من بين أقرانه في إبداع قصيدة الريادة في حركة الشعر الجديد، ومن ناحية أخرى تعبير عن نظرة جديدة مغايرة إلى المرأة عندما تصبح صاحبة أو محبوبة أو ملهمة، فإذا بها في الميزان المتمرد على «طرطشة» الرومانسية الزاعقة التي اشتهر بها شعراء أبولّو الذين سبقوا شعراء التجديد، وبخاصة رومانسية إبراهيم ناجي تأخذ بأيدينا إلى حالة المشاركة الإنسانية، والدفء الواقعي، والمواجهة المشتركة لواقع الحياة، بدءًا باليومي المتناثر منها وانتهاءً بالوجودي والكوني الشامل. الصداقة هنا تتضمن «الحب» بمعناه المعروف والشائع في أدبيات الإبداع العربي وزيادة، وتتضمن موقفًا إنسانيًّا يفسح المجال للندّيّة والمشاركة، وحمل المسئولية التي ينوء بها اثنان، حتى لا ينفرد بها أحدهما نجاحًا أو فشلاً، اندفاعًا أو إحباطًا. وبالرغم من أن صلاح عبدالصبور استخدم مفردات أخرى مألوفة وغير مألوفة من طراز: واحدتي وحبيبتي ورفيقتي وحبيبي ونجمي، إلا أن سبقه وانفراده بين شعراء جيله بهذه المفردة التي تزيّن معجمه الشعري يظل في سياقه التاريخي منتصف خمسينيات القرن الماضي وفي مسار الشعر المعاصر حتى اليوم - يظل يعني الكثير عن الثقافة الإنسانية والموقف الشعري على مستوى الحياة والتصور بالنسبة لنموذج جديد في العلاقة العاطفية بين الرجل والمرأة، وحلم الانتماء إلى كائن إنساني يتوهج بركائز الصداقة الحقيقية، صداقة العقل والقلب والتوجُّه والمشاركة. من خلال علاقة لا تجسّد الذوبان الرومانسيّ باعتباره مقام الوجد والهيام، ولا تؤكد النزوع الجسدي باعتباره ظمأ الرغبة وجوع الشهوة، لكنها تعني هذا التوازن الحميم بين ما هو انعطاف وتأمّل، وجموح وتعقُّل، وانجذاب وتكامل. ب إبداع لغة: عندما فاجأ صلاح عبدالصبور حياتنا الأدبية بديوانه الثاني «أقول لكم» وعليه سمْت الرائي الحكيم، والواخز الذي يوقظنا على عارنا وسلبياتنا ومباذلنا، ويأخذ بأيدينا إلى فضاءاته العليا بعيدًا عن ترابية البشر، وعهر الواقع وعبثيته، كان رد الفعل سلبيًّا عند من ينفسون عليه مكانته الشعرية، التي أصبحت حديث الناس، وتعجّله في ارتداء قناع الحكمة واصطناع صوت الحكيم وهو لايزال في مقتبل العمر، فما الذي سيطرقه إذن في رأيهم في عمره القادم؟ لكنهم لم يفطنوا إلى الشاعر الذي كان مسكونًا بمسٍّ من النبوة، كاشفٍ عن هجمة الوباء القادم وضراوته، محذِّرٍ من السقوط في مذلة الواقع ومستنقع ضروراته، ملوِّح بقرب النهاية التي سيضطر الناس عندها إلى الاختيار، وهو ما صوره بلغة شعرية درامية فذَّة في مسرحيته «ليلى والمجنون» الفاضحة لما يتصوره البعض حبًّا عصريًّا، وهو في جوهره وهْمُ الشهوة والمذلة والجوع والتملك، بينما يقف «سعيد» منتصبًا في وجه مَنْ معه، ووجه جمهور المسرحية، ووجهنا جميعًا وهو يتحدث بصوت صلاح عبدالصبور: الرائي، الحكيم، المهزوم، المتوجِّع: هذي آخر أشعاري (هذا ما خطَّ مساء اليوم الثاني) كهان الكلمات الكتبة (هذا ما خط مساء اليوم الثالث) لا أملك أن أتكلم (هذا ما خط مساء اليوم الرابع) لا، لا، لا أملك إلا أن أتكلم (وهذا ما خط مساء اليوم الخامس) يا سيدنا القادم من بعدي ويصدح صوت «سعيد» في المنظر الثالث من الفصل الثالث من المسرحية وهو يقول: أبغي أن أبعث برسالة (يخرج ورقة من جيبه، ويبدأ في القراءة) يا سيدنا القادم من بعدي ويبدو أن الشعوب العربية قد تذكّرت في مناسبة الذكرى الثلاثين لرحيل صلاح عبدالصبور صيحة «سعيد» المدوِّية في مسرحية ليلى والمجنون: فانفجروا أو موتوا وليته بيننا الآن، ليراها وقد أجابت بصورة حاسمة، مزَلزلة: لقد انفَجرْنَا أيها الشاعر العظيم!. ------------------------------- كُلٌّ عَلَى الدنيَا لَهُ حرصُ أبوالعتاهية
|