كتاب يدعو إلى مواصلة العيش بطموح «الحياة الثانية»
كعادته التي دأب عليها لعقود، يكتب المفكر والفيلسوف الفرنسي فرانسوا جوليان* François Jullien مقالاته بيده في مكتبه الموجود في أعلى الدرج الخشبي، بعيداً عن الحاسوب والهاتف، معتبراً أن التفكير في الحداثة والمواضيع الراهنة يفرض أحياناً الابتعاد عن تلك التجهيزات، بل وحتى عن رفوف الكتب اليونانية والصينية والفرنسية.
في هذا الجو المفعم بالهدوء والسكينة، أنتج المؤلف عمله الأخير المعنون بـ االحياة الثانيةب Une seconde vie، الصادر في بداية 2017 عن دار النشر غراسي Grasset. يطرح المؤلف في هذا الكتاب سؤالاً نادراً ما تتناوله الفلسفة: كيف نفكر في العيش؟ ذلك أنه عندما نتقدم في الحياة، يطالعنا سؤال غالباً ما يطرحه كل واحد منا من دون أن نبحث له عن إجابة: لماذا مازلت مستمراً في العيش؟
ويترتب على هذا التساؤل تساؤلات أخرى شكلت الأعمدة التي أُسس عليها صرْح هذا العمل:
- ماذا يعني مفهوم االوجودب؟
- كيف تستعمل اليوم هذه الكلمة في مجتمعنا حتى على نحو سلس وسريع جداً؟
- ما مفهوم االحياة الثانيةب؟
- كيف لي ألا أكرر حياتي، وأن أعيد إحياءها من جديد، والبدء في الوجود؟ أو بعبارة أخرى: كيف أستعيد حياتي وأعيد لها التوهج والبريق؟
- كيف يمكن أن ينبني االحب الثانيب على الحميمية اللانهائية بدل الامتلاك؟
يحاول المؤلف الإجابة عن هذه التساؤلات، باحثاً عن السبل الكفيلة لضمان السعادة والحكمة والارتقاء بمستوى التنمية البشرية للفرد في المجتمع. فبالنسبة إلى الفيلسوف وعالم الصينيات فرانسوا جوليان، فيعتبر أن فعل االعيشب هو فعل حاسم مازال مدار الحديث في مختلف الأوساط الفكرية، منطلقاً في هذا العمل من كلاسيكيات الفكر الصيني ومؤسسي الفكر الطاوي taoïsme من أمثال لاوزي Laozi وزهيانغزي Zhuangzi، ومن خلال محاورات أفكار كُتّاب ومفكرين أوربيين بدءاً
بـ اهيراقليطب Héraclite إلى بروست Proust، ومن مونتين Montaigne إلى نيتشه Nietzsch.
لقد بحثت الفلسفة اليونانية في مفاهيم االأناب، واالهويةب، واالتجريدب، وغيرها من المفاهيم التي تتقصى الحقيقة، لكنها لم تتناول مورداً آخر للحقيقة، ذلك الذي ينبع من التجربة المعيشة. وقد سعى جوليان في هذا الكتاب إلى إبراز الجانب الفلسفي في البحث عن نتائج أكثر طموحاً عن تلك التساؤلات التي تروّج لحقيقة االحياة الثانيةب.
ولتحديد المراد من هذا المفهوم، يقول جوليان: اإن المسألة لا تتعلق بالعمر، إذ يمكننا البدء في وقت مبكر جداً أو حتى متأخر جداً، وهذه هي الحياة الثانية، وهذا ما أسميه بالوضوح. يمكن أخذ الدعم لذلك من أجل إصلاح وجودنا من خلال إمكان العودة، والتفكير في ماضينا، فعندما نلج الحياة، نؤمن بالاختيار الذي يفضي بنا إلى الحريةب.
الحب الثاني
إن الحياة الثانية هي حياة تتحول ببطء وتبدأ في الاختيار والإصلاح، فالجميع يأمل مع بداية كل سنة أن تكون سنة جديدة مفعمة بالأمل وفي تحقيق بداية جديدة.
إن مثل هذا القرار الجيد قد يساعدنا في إحياء تطلعاتنا. يقول في هذا الصدد: القد حانت ساعة التغيير لبدء حياة جديدة ومشروع جديد، لوقف تكرار حياتنا بكل ما تحمله من روتين ممل وهموم قاتمة. هي دعوة لإصلاح الذات والبدء في التواجدب. فلا جدوى من البكاء أو حتى الوعظ، يجب علينا استثمار مواردنا، بداية بالموارد الفكرية واستعادة زمام المبادرة.
وللوصول إلى ذلك، سيتم التفكير في الحقائق التي لا تظهر بشكل جلي، ولكن تشوب الحياة نفسها بشكل خفي. فعن طريق التجربة المتراكمة وخبراتنا السابقة يمكننا أن نحاول مجدداً.
يتحدث الكاتب أيضاً عن العلاقة الزوجية والشعور بالمحبة، متسائلا: هل يمكن أيضاً أن نعيش االحب الثانيب مع الشخص نفسه؟ أو كيف يمكن أن ينبني االحب الثانيب على الحميمية اللانهائية بدل الامتلاك؟.
يعتبر فرانسوا جوليان أن غياب شعلة الحب يتحول بعد ذلك إلى رغبة مطفأة تتخلى عن وهجها لدرجة فقدان التسامح بين الطرفين، وسيبحث كل طرف آنذاك عن حريته بعيداً عن الآخر.
إن الكاتب يدعو إلى رفض هذا النمط الخاطئ الذي يبدأ فيه الحب شعلة ليتحول بعد ذلك إلى جمر خافت. ذلك أن الحب الثاني ممكن، وللقيام بذلك يجب التفكير في الحميمية وجعلها موضوعاً مستمراً إلى ما لا نهاية، لينتقل بعد ذلك للإجابة عن تساؤل آخر لا يقل أهمية عن سابقيه: كيف نستعيد حياتنا؟.
يعتبر جوليان أن التفكير في هدوء هو السبيل الأمثل لاتخاذ قرارات ناضجة تجعلنا نعود إلى الانتعاش والاستمتاع بالحياة، وذلك من خلال التفكير مثلاً في أيام الإجازة. فغالبا ما نذهب في العطل من أجل البحث عن هفوة وقت تنسينا الرتابة اليومية، وتجعلنا منفتحين على فضاء آخر وأناس آخرين، حتى نتمكن من استعادة الروح، وهذا ما يسمح باستعادة زمام المبادرة التي هي طريقة ناجعة لإعادة الانخراط في حياة أكثر عدلاً، وتميزاً، وحرية، إضافة إلى إلى أن ما راكمناه من خبرة في الحياة يمكننا من إعادة النظر فيما عايشناه في حياتنا، فقد يفضي بنا ذلك إلى اتخاذ قرارات جيدة وبدايات مستنيرة.
كما يقدم المؤلف بعض الاقتراحات الأخرى التي تمكننا من هذه الاستعادة، مثل:
- بعث الطاقة الإيجابية والثقة بالنفس.
- الابتعاد عن النظرة الضيقة للحياة.
- الخروج من القوقعة والدوامة التي لا نهاية لها، حيث تمضي حياتنا من دون أن نستمتع بها أو نعيشها كما ينبغي.
- الخروج من الروتين من خلال التفكير في تغيير عاداتنا وضرورة إيماننا بقيمة الحياة.
- الدعوة إلى التفاؤل والتفكير الإيجابي.
- مساءلة النفس في تحقيق وضع أفضل.
- دور الإجازة في الراحة النفسية وتنشيط الدماغ والترويح عن النفس.
- الاستمتاع بالحياة يحسن الأداء في مجالات العمل.
مبادرات جريئة
يمكن القول إن كتاب االحياة الثانيةب عمل منفتح على فكر سخي ومحفز يدعو إلى االبدء الفعلي في الوجود والتواجدب. وقد حاول فرانسوا جوليان في مقالات هذا الكتاب مواجهة العالم والغوص في أعماق النفس البشرية من أجل البحث عن مبادرات جريئة ومبتكرة، من خلال تناول مفهوم االحياة الثانيةب، الذي لم يلق العناية الكافية من قبل الدارسين في مجال البحث الفلسفي، ومناوشة ما يطرحه هذا الموضوع من تساؤلات عدة.
وقد قدم المؤلف عديداً من الطرق والاقتراحات للاستمتاع بالحياة وبثّ روح إيجابية في نفس الإنسان، تدفعه لأن يبدأ حياته من جديد بهمة وعزيمة قوية .