البكتيريا... منقذة البيئة
تعد البكتيريا من أكثر الكائنات تفردا, فهي شديدة التنوع ما بين فصائل وأنواع, كما أنها أكثر الكائنات تكيفا مع مختلف الظروف البيئية, فهي تعيش داخل جسم الإنسان والحيوان والنبات وأعماق الأرض والبحار وحتى الفضاء الخارجي.
على الرغم من وجود مليارات الأنواع من البكتيريا فإن أغلبها مازال مجهول الصفات بالنسبة لنا, والفكرة العامة عن البكتيريا أنها تسبب الأمراض، وعلى الرغم من أن عددا محدودا جدا من البكتيريا هو المتسبب بأمراض، فإن الأمراض البكتيرية كالكوليرا والزهري والجمرة الخبيثة تقتل نحو مليوني شخص سنويا معظمهم في إفريقيا، وكذلك تتسبب في عدوى تتلف المحاصيل الزراعية والتي تعالج في الدول النامية بمبيدات ومضادات حيوية تترتب عليها أضرار لاحقة على صحة الإنسان والبيئة. وفي الصناعة ترتبط البكتيريا بصناعة منتجات الألبان عبر عمليات التخمير، وترتبط البكتيريا كذلك بمعالجة الذهب والنحاس وإنتاج الكيماويات والمضادات الحيوية ومجالات أخرى محدودة، لكن في المجال البيئي تحديداً تطورت البكتيريا كثيراً حتى لا يستبعد أن تصبح صديقة البيئة الأولى في العالم والمدافعة الأولى عنها في الغد القريب، والتالي سيخبرنا بذلك.
البكتيريا تنقي البيئة من الكافيين
من الشائع إدمان البشر للمشروبات المنبهة لما تحويه من مادة الكافيين المحفزة للجهاز العصبي، لكن أن توجد بكتيريا مدمنة للكافيين فقد يبدو مزحة، ولا يعني هذا أنها بكتيريا محبة للشاي والقهوة، لكن وكما كشف بحث علمي جديد فقد لاحظ العالم جيفري باريك وزملاؤه أن مادة الكافيين والمواد الكيميائية المرتبطة بها تعد من أكثر ملوثات الماء والمخلفات المائية والبيئة عموما سواء كان مصدر هذه الملوثات عمليات صناعة هذه المواد الداخلة في الشاي والقهوة والمياه الغازية ومشروبات الطاقة ومشتقات الكاكاو والأدوية الشائع استخدامها لعلاج مرض الربو وغيره من الأمراض الرئوية, أو كان مصدر هذه الملوثات الاستهلاك البشري المباشر للمشروبات المنبهة. وهكذا تمكن الاستفادة من هذه المعرفة المسبقة لفريق البحث بوجود أحد أنواع البكتيريا الموجودة طبيعيا في التربة تتغذى على الكافيين ومركباته الشبيهة وهي بكتيريا تعرف علميا باسم Pseudomonas putida CBB5 تتمثل هذه الاستفادة في استخدامها لتنظيف هذه المركبات والحد من التلوث البيئي، ولأن هذه البكتيريا معقدة للغاية كانت الفكرة بنقل موروثها الجيني المسؤول عن غذائها بالكافيين إلى بكتيريا أخرى أكثر بساطة وقابلية للسيطرة والتطويع الوراثي وهي بكتيريا الإشريكية القولونية المعروفة علميا
بـ Escherichia coli، التي تعد فتحا في التعديل الوراثي للبكتيريا واستخدمت في العديد من الدراسات المشابهة، ولذا فقد تم إنتاج هذه البكتيريا المحبة للكافيين، وتوضح الدراسة مبدئيا نتائج لا بأس بها في الحد من التلوث البيئي وخصوصا في المياه.
المرشح البكتيري...
بكتيريا تنقي الهواء الملوث بالمبيدات
يعد «إي كولي» E COLI اختصاراً للاسم العلمي الأصلي لبكتيريا Escherichia coli وباللغة العربية الإشريكية القولونية، وبرغم المعروف عنها أنها توجد في الغذاء ولها خطر على صحة الإنسان، فإنها أكثر أنواع البكتيريا انتشارا في البحوث البيولوجية، ويتم تطويعها من مسبب الضرر إلى جالب النفع الشديد ليس للإنسان فحسب، إنما للبيئة أيضا.
وتعد المبيدات الحشرية من أكثر مشكلات البيئة إزمانا وبوجه خاص المستخدم منها في الدول النامية لمعالجة المحاصيل الزراعية، حيث لا تؤثر في الإنسان بطريق مباشر فقط من خلال تغذيته بالنباتات الملوثة، بل تنتقل إلى التربة وتفقدها خصوبتها بمرور الوقت، وتنتقل كذلك إلى المياه فتصبح البيئة دائرة مغلقة تتفاقم فيها الملوثات. وقد سبق استخدام مرشحات حيوية تعتمد على بعض أنواع البكتيريا والميكروبات التي تقوم بتنظيف الهواء والتربة والماء من المبيدات الحشرية ونواتجها، لكن هذه المرشحات لم تكن ذات فاعلية. ومنذ وقت قريب أعلنت الأكاديمية الصينية للعلوم في بكين عن توصلها لجيل جديد من بكتيريا «إي كولي» المعدلة وراثياً، كي تستخدم كمرشح حيوي للهواء للتخلص من المبيدات الحشرية والمواد التي تتحلل إليها وتكون أكثر خطرا من المواد الأصلية، وخصوصا الباراثيون وميثيل الباراثيون parathion and methyl parathion الناتجين عن مبيدات الفوسفور العضوية التي تعد من أوسع المبيدات الحشرية استخداما والأشد خطورة على مستوى العالم، وقد فاق البحث كل النتائج السابقة له، فقد تمكن من إزالة 2. 95 في المائة للباراثيون و98.6 في المائة لميثيل الباراثيون، لذا فمع بعض التحسين يمكن الوصول لنسبة الإزالة الكاملة، وكذلك ركز فريق البحث على إزالة هذا النوع من المبيدات من الهواء فقط، مع إنه بإمكانه التراكم في التربة والماء، لذا ينتظره مزيد من التطوير والشمولية، ومع ذلك يعد حتى الآن اكتشافاً بيئياً مذهلاً.
البكتيريا حامية المعادن
تتآكل المعادن بسبب الصدأ، أي ما تنتجه العوامل البيئية من عمليات أكسدة، وكذلك تتفاعل بعض أنواع البكتيريا كيميائيا مع المعدن وتسبب عملية التأكسد التي ينتج عنها الصدأ, ولكن وجد أن أنواعا أخرى من البكتيريا تقوم بعكس هذه العملية عند تفاعلها مع المعادن، ليس هذا فحسب، بل تحميها كذلك من مسببات الصدأ الخارجية، لذا طور بعض الباحثين بجامعة «شيفلد هالام» البريطانية محلولا هلاميا، يحوي نوعين من البكتيريا الحاملة لهذه الصفة، وتم دهنها على أنواع مختلفة من المعدن، وبغمس عينات معدنية طليت بالمحلول مع أخرى لم تطل به داخل الماء لمدة شهر كامل، وجد أن العينات غير المطلية تآكلت ثلاث مرات أسرع من العينات المطلية بالسائل المحتوي البكتيريا، ومع أن طلاءات المعادن الكيميائية منتشرة بشدة للغرض نفسه، إلا أنها تحوي مواد ضارة بالبيئة والإنسان، أما المحلول البكتيري الجديد فهو صديق للبيئة.
دور البكتيريا في مناجم النحاس
تعد دولة شيلي في أمريكا اللاتينية أكبر مصدر للنحاس في العالم، ويعتبر مصدر دخلها الرئيس، حيث يمثل نحو70 في المائة من إجمالي صادراتها. ويعد النحاس سلعة عالية الطلب من الناحية الاقتصادية، فيدخل في صناعة الأجهزة الكهربية والإلكترونيات والهواتف والمجوهرات ومواد البناء. والمشكلة أن استخراجه من المناجم عملية مرهقة ومكلفة للغاية وملوثة للبيئة كذلك، وتحوي خطورة شديدة، حيث يموت 12 ألف شخص في حوادث المناجم سنويا. لذا ومن منطلق «الحاجة أم الاختراع» طورت شيلي طريقة جديدة لاستخراج معدنها الأثير، حيث قامت شركة «بيوسيجما» - الشيلية - وتعد رائدة في مجالها, بالتعاون مع شركات يابانية بتطوير طريقة تعتمد على تفاعل البكتيريا مع الصخور المحتوية على النحاس، ومن ثم تعمل على استخراجه من الصخور بدلا من الحفر أو الاستخراج التقليدي، وتقارب كفاءة هذه الطريقة المطورة 90 في المائة، أي تزيد مرة ونصف المرة على كفاءة الطرق التقليدية (60 في المائة)، إضافة إلى أن تكلفتها تقل كثيرا. ويقول أحد الكيميائيين في الشركة إن السر في نجاح هذه التقنية هو اعتمادهم على أنواع من البكتيريا موجودة فعلا في مناجم النحاس الطبيعية، وتعمل هذه البكتيريا على استخراج النحاس بطريقة طبيعية، لكن ذلك يتطلب مئات السنين، لذا تجري الشركة بعض عمليات الترشيح الحيوي لتسريع العملية. وانتقلت هذه الطريقة أخيراً إلى البرازيل وأستراليا وجنوب إفريقيا، ولا تقتصر على استخراج النحاس فقط، بل وتصلح للذهب واليورانيوم كذلك. ويطلق البعض على مثل هذه التقنية التعدين الحيوي، ويتوقع أنه تعدين المستقبل لتقليل التكلفة الاقتصادية، والأهم تقليل التلوث الناتج عن التعدين التقليدي.
بكتيريا معدلة وراثيا لمحاربة تغير المناخ
تجربة فريدة قام بها فريق متخصص في الكيمياء الحيوية بمعهد لورنس بيركلي بالولايات المتحدة الأمريكية, وفكرتهم عن محاربة تغير المناخ قائمة على سحب غاز ثاني أكسيد الكربون من الجو إلى صخور يمكن دفنها في القشرة الأرضية، ووجدوا أن البكتيريا تساعد على تسريع عملية السحب، فقاموا بتعديلها وراثيا لمزيد من الكفاءة. وثاني أكسيد الكربون عند ضخه في الصخور المسامية في القشرة الأرضية يتفاعل مع ذرات المعادن الموجودة بالماء الجوفي القريب من الصخور، ويتحول إلى أملاح معدنية كربونية مثل مادة كربونات الكالسيوم، وقد قام العلماء بوضع البكتيريا في محلول كلوريد الكالسيوم، ثم عند ضخ ثاني أكسيد الكربون وجدوا أن كربونات الكالسيوم الناتجة ذات تركيب بلوري مختلف كثيرا عما ينتج في الطبيعة, ويقوم العلماء بمزيد من التطوير للبكتيريا لتهيئتها للنمو في ظروف مماثلة لأعماق الأرض .