منْ مَلامحِ العلْم
لعل أبلغ تعبير عن العلم هو أنه إبداع ممنهج يقع في قمة المعرفة الإنسانية. ويقوم أي فرع من العلوم على أساس مجموعة تعريفات دقيقة ومجموعات من البديهيات والمسلمات، تنتج عنها بالبرهان وعلى أساس من المنهج العلمي نظريات، يمكن التأكد من صحتها واقعيًّا. وتُمكِّن هذه النظريات الإنسان من فهم الظواهر المختلفة، ومن استخدام نشاط الناس في ما يحقق تقدم البشرية وتحقيق الرخاء للجماهير.
تعني كلمة «علم» من الناحية اللغوية المعرفة، ويُقصد بالمعرفة المعلومات المنهجية عن الظواهر المادية والاجتماعية، وعليه يكون العلم هو انعكاس الظواهر المادية والاجتماعية في الوعي الإنساني.
ومن المعروف أنه على عكس العلم، فإن الجهل بشيء يعني غياب المعلومات عن هذا الشيء. ويمكن تمثيل عملية التطور المعرفي (التقدم العلمي) بعملية غمر العقل الإنساني في بحر الواقع؛ فالوعي الإنساني يتقدم من المعرفة السطحية (البدائية) إلى المعرفة متزايدة التعمق والتوسع.
والمعرفة قيمة إنسانية يتميز بها الإنسان عن بقية الكائنات. فمن المعروف أن الإنسان قد تعلم منذ فجر التاريخ كيف يُشعل النار ليتمكن من إنضاج الطعام، كما تعلم التجارة والزراعة وتربية الدواجن والحيوانات المنزلية، كما تمكن من بناء مسكن يأوي إليه، وتمكن كذلك من عمل بعض الآلات البسيطة التي تعينه على الحياة وعلى السيطرة على الطبيعة. وقد بدأت هذه المعارف البدائية في التحول إلى معرفة علمية، عندما بدأ الإنسان في ترتيب الوقائع (الحقائق) المختلفة، وإجراء المقارنة بينها ودراستها دراسة منظمة، ليحاول استخلاص مبادئ وقوانين عامة تحكم الظواهر المتشابهة.
وتمكن ملاحظة أن النشاط البشري حتى القرن السادس عشر، كان يسير بشكل عام في اتجاهين منفصلين إلى حد كبير، أولهما الاتجاه الفلسفي أو الذهني، ويُعالج فيه العلم النظري الأفكار والنظريات التي تحكم الظواهر المختلفة. وثانيهما الاتجاه اليدوي، الذي يتضمن عمل الحرفيين، وهو الذي يستفيد من الأفكار والنظريات التي يصل إليها الاتجاه الأول دون استيعابها. ويمكن اعتبار الانفصال بين الاتجاهين نوعًا من الانفصال بين الرأس واليد. وقد التقى الاتجاهان في العصور الوسطى، ويعتبر هذا الالتقاء بداية العلم الحديث، الذي يقوم على إجراء التجارب ومتابعتها، كما يقوم على تقديم النظريات، التي صارت تعتمد أكثر فأكثر على الرياضيات. ولم يعد العلم الحديث يكتفي بمجرد فهم ما يدور في البيئة المحيطة، بل أصبح يسعى كذلك للسيطرة على هذه البيئة والتحكم فيها لخدمة الإنسان.
وبرغم أن العلم يسعى لإشباع احتياجات البشر، فإن هناك من يشعر بالخوف والرعب من العلم، فعلى سبيل المثال، هناك من يرفض قانون بقاء المادة «المادة لا تفنى ولا تستحدث»، بل وهناك من يرتعب من احتمال أن يقود هذا القانون بعض الناس إلى تساؤلات من قبيل «ألا تعتبر قصة الخلق الواردة في معظم الأديان استحداثًا للمادة من العدم؟»، وهنا يجب لفت الانتباه في ما يتعلق بمثل هذه الأسئلة إلى أن العلم لا يقدم إجابة نهائية من القضايا التي يعالجها، وإنما يقدم رؤية، من المعلوم أنها سوف تتغير وتتطور. فعلى سبيل المثال، يربط العلم الحديث بين المادة والطاقة، فيمكن للمادة أن تتحول إلى طاقة والعكس صحيح. وبناء على ذلك يرى البعض أن مصدر الخلق الإلهي هو طاقة موجودة منذ الأزل، ثم تحولت عند الخلق إلى مادة، وهو ما يرونه متفقًا مع الرؤية الدينية.
وقد كان مفهوم القانون العلمي موضع جدل ومناقشات منذ القرن الثامن عشر. وكان هناك رأي ينادي بفصل العلم عن الأديان والفلسفة، ويعتقد أن مهمة العلم هي السعي لاكتشاف القوانين العلمية بمعزل عن أي قضايا وأفكار فلسفية أو دينية. ويعتقد كثير من العلماء أن البحث عن القوانين العلمية والعمل في مجال البحث العلمي يعتبران في حد ذاتهما تقربًا إلى الإله وتعبدًا وتأملاً في الذات الإلهية وقدراتها وحكمتها.
ومن المهم ملاحظة أن القوانين العلمية «النهائية» Ultimate هدف بعيد المنال، وذلك لأن العلم والمعرفة عملية ذات طبيعة تراكمية لانهائية Infinitely accumulating، فالمعرفة تنمو وتتقدم داخل العقل الإنساني الفردي والجمعي بشكل تدريجي متواصل، وما يتوصل إليه العلماء من حين إلى آخر هو في نهاية الأمر تصور بشري في لحظة محددة للعلاقات بين العناصر المختلفة، التي يستطيعون رصدها لهذه الظواهر، وهو تصور يختلف عما يمكن تسميته بـ«العلاقات الحقيقية» بين هذه العناصر، إضافة إلى أن مدى تعبير هذه العناصر عن الظواهر هو أمر محل بحث مستمر. ويصف هذا التصور البشري المؤقت هذه العلاقات بشكل تقريبي Approximate ، ما يعني أن التقدم العلمي هو في حقيقة الأمر تزايد في دقة وصف هذه العلاقات. ولهذا يمكن وصف المفاهيم والنتائج والنظريات العلمية بأنها نسبية، والمقصود بالنسبية هو نسبتها إلى «الحقيقة المطلقة» Absolute truth ، أي درجة اقترابها منها، كما تعني النسبية كذلك، أن المعرفة العلمية تنتسب إلى لحظة زمنية معينة، حيث إنها تتغير وتتطور مع الزمن، وبهذا فالعلم هو عملية لا نهاية لها من التقدم المستمر نحو «الحقيقة».
ويمكن من جهة أخرى وصف القوانين العلمية بأنها إحصائية، بمعنى أنه يمكن التحقق إحصائيًا من انطباقها في عدد كبير من الحالات أو في عدد كبير من التجارب، وفي ظل ظروف محددة وليس في جميع الحالات وفي جميع الظروف بشكل مطلق. وعليه يكون التقدم العلمي هو بمعنى من المعاني «التوصل إلى قوانين تنطبق على عدد أكبر من الحالات التي كان يتم التعامل معها سابقًا وفي ظل ظروف أكثر تنوعًا».
ولعله من المفيد الإشارة إلى أن ما يسمى بالقوانين العلمية، لا يعبر عن الواقع والحقيقة مائة في المائة، وإنما هو من إبداع واكتشاف فكر العلماء الخلاق، وإن كانت إبداعات ليست منقطعة الصلة بالواقع، بل على العكس، فإنها تنبع من التفاعل مع الواقع، ولذلك فهي إبداعات مفيدة ورائعة، وهي في حقيقتها انعكاس للواقع المادي في عقول هؤلاء العلماء. ويمكن للتبسيط تشبيه العلاقة بين الواقع المادي وبين العلم بالعلاقة بين جسر (كوبري) وظله، فظل الجسر لا يمكن أن يوجد إلا إذا كان الجسر موجودًا، ولكنهما بالطبع غير متطابقين، فقد يكون الجسر دافئًا نتيجة لتأثير حرارة الشمس، بينما يكون ظله على سطح الماء باردًا.
موضوع العلم
يدرس العلم الظواهر التي تتوافر فيها شروط أهمها:
أ- أن تكون ظواهر متكررة الحدوث.
ب- أن تكون جديرة ببذل الجهد في إدراكها بالسعي إلى الوصول إلى القوانين الحاكمة لها، بمعنى أن تكون هناك فائدة متوقعة تستحق بذل الجهد من أجل بحث الظاهرة.
ج - أن يكون هناك إمكان لمتابعتها بشكل أو آخر.
ويبين تاريخ العلم أن العقل البشري يستفيد من الإحساسات البشرية، ولكنه ينفذ إلى ما وراءها ليصل إلى ما لا تستطيع الإحساسات وحدها النفاذ إليه.
ومن الطبيعي أن يتمتـــع الأفـــراد على المستوى الشخصي بدرجة أو أخرى من التـفكير العلمي، أو ما يسمى أحيانًا بالتـــفكـــير العقلاني. كما أنه من الطبيعي كذلك أن يــكون هناك من يعادي العلم والتفكير العلمي، كما أنه من الطبيعي أن يكون هناك من يؤمـــن بما يسمى بالتفكير الخرافي.
ويبين التاريخ أن مسيرة العلم كانت دائمًا مسيرة ظافرة وإن كان هذا لا ينفي تعرضها لخسائر عارضة مؤقتة في بعض الفترات أو اللحظات، كتعرض بعض العلماء للإعدام أو الحبس عقابًا لهم على ما توصلوا إليه من نتائج علمية تتعارض مع آراء بعض أصحاب النفوذ السياسي أو الديني. فما من معركة دخلها العلم إلا وانتصر فيها على المدى الطويل. ولا شك في أن هذا يعود إلى أن العلم قوة صديقة للإنسان تسعى لخيره. ويبين تاريخ البشرية أنه ما من تقدم تحقق في حياة الإنسان إلا وكان للعلم الفضل الأول فيه. ومع الأسف، توهم معظم المعادين للعلم في جميع المعارك التي اصطنعوها مع العلم أن العلم يشكل خطرًا على الدين أو على المجتمع.
العلم والدين
تختلف طبيعة المعرفة العلمية جذريًّا عن طبيعة العقيدة الدينية، التي تعني الثقة المطلقة والتسليم الإيماني غير المشروط الخالي من أي شكوك بالمعتقدات الدينية، دون وضعها على محك التجربة أو اشتراط البرهان المنطقي عليها، وإن كان هذا لا يعني أن المعرفة العلمية ليست محل ثقة، فالثقة يمكن أن تقوم على أساس علمي يعي أن المعرفة العلمية لا تكتمل أبدًا بشكل نهائي، وأنها تمثل أقصى ما أمكن للإنسان أن يصل إليه في حينه، ومع ذلك فالشك العلمي فيها وإعادة تقييمها مطلوبان دائمًا، ويمد العلم الإنسان بالنظريات والقوانين التي تساعده على مواجهة الطبيعة والحياة.
العلم والفن
يختلف الإبداع العلمي كذلك عن الأشكال الإبداعية الجمالية للفن، وإن كان كلاهما انعكاسًا للواقع، فبينما يحدث هذا الانعكاس في العلم عن طريق التعريفات والبديهيات والمسلمات والنظريات، فإن هذا الانعكاس يحدث في الفن عن طريق أشكال جمالية أخرى مختلفة، وإن كان كلاهما تجريدًا وتعـميمًا للواقع. ويبين تاريخ العلم أنه خلاصة الوعي الإنساني, وأن العلم يقضي أثناء تقدمه على الأفكار التي تتسم بالذاتية، فلا بقاء في العلم لغير الموضوعية، وذلك على عكس الفن، حيث يرتبط الإبداع الفني بذاتية المبدع، أي بتجربته الشخصية. فالعلم هو نتيجة مجردة لعملية تاريخية طويلة من التطور، بينما في الفن يكون الفنان نفسه مصدر الإبداع الذي ينتج عن التجربة الذاتية للفنان، أي أنه يعبر عن تفاعل ذات الفنان مع الواقع الخارجي، أما إذا كان الإنتاج لا يعبر عن تفاعل الذات مع الموضوع، بمعنى أنه ناتج عن الواقع دون تفاعل معه، فإنه يكون نسخًا للواقع، أما في العلم فإنه لابد من استبعاد كل ما هو شخصي وذاتي فتُستبعد كل المفاهيم القائمة على تجربة شخصية متميزة (بمعنى أنها فريدة من نوعها).
العلم والمجتمع
العلم في جوهره عملية اجتماعية مرتبطة بالإنسان المبدع (العالم)، وتهدف نتائجه إلى خدمة الإنسان، كما أن نشأة العلم وتطوره هما جزء لا يتجزأ من تاريخ الإنسانية، وهناك تأثير متبادل بين العلم والمجتمع، فلا يمكن أن تقوم للعلم قائمة من دون الإنسان، كما لا يمكن أن يوجد مجتمع متقدم من دون علم. والهدف الأساسي للعلم هو الاستجابة لمتطلبات الإنسان وتلبية احتياجاته.
كما يخضع اختيار مواضيع البحث العلمي واتجاهاتها، وكذلك معدلات التقدم فيها، واتجاهات المجتمع والدول في استخدام نتائج العلم، لتأثير العديد من العوامل الاجتماعية، مثل الاحتياجات المادية للمجتمع وطبيعة البناء الاقتصادي والاجتماعي ونوعية الأفكار الفلسفية والاقتصادية السائدة في المجتمع، وأهم هذه العوامل هي الاحتياجات المادية وهي تتضمن متطلبات التقدم العلمي من أدوات وأجهزة وتصنيع أدوات الإنتاج مثل آلات المصانع، ولا يرتبط نجاح العالم في بحثه بمدى عبقريته فقط، وإنما يرتبط كذلك بتوافر الأجهزة اللازمة للبحث، وعلى ذلك يمكن استنتاج أن التقدم التكنولوجي هو الضامن لتوفير أجهزة البحث العلمي، مثل أجهزة القياس بالفيمتو ثانية. ومن جهة أخرى فإن التطبيق والممارسة هما أحد معايير تقدير قيمة المعارف العلمية، كما أن استخدام نتائج البحث العلمي في إنتاج المتطلبات الاجتماعية هو دافع قوي للبحث العلمي، ويبين تاريخ العلم أن الاستخدام العملي لاكتشاف علمي ما يقود إلى تقدم تكنولوجي، ويقود التقدم التكنولوجي بدوره إلى مزيد من التقدم العلمي.
ويمــــكن تصنيـــف الاحتياجات المادية للمجتمع التي يستهدف العلم تلبيتها إلى احتياجات المدى القريب، والمقصود بها الاحتياجات المطلوبة بسرعة وفورًا، واحتياجات المدى البعيد، إلى هذا الحد أو ذاك، والتي تتضمن الاحتياجات الاستراتيجية والاحتياجات التي تفتح أبواب التقدم البشري، مثل البحث في مجال الخريطة الجينية وفي مجال سفن الفضاء. ولابد من ملاحظة أن قصر استخدام نتائج البحث العلمي على المتطلبات العاجلة للحياة اليومية يؤدي إلى تحجيم وإبطاء التقدم العلمي .