مساحيق المعادن... وقود لـمحركات وسائط نقل المستقبل
تستهلك وسائط النقل المختلفة جانباً كبيراً من الوقود الأحفوري الذي يتم إنتاجه عالميا، وهذه الكميات الكبيرة من الوقود التي يتم حرقها، تعد مصدراً رئيساً للتلوث البيئي وخصوصاً في المدن، وقد سعى كثير من الباحثين إلى تطوير أنواع جديدة من محركات وسائط النقل التي تعمل على مصادر أخرى من الطاقة، فتم تطوير المحركات الكهربائية ومحركات خلايا الوقود والهيدروجين، ومحركات الهواء المضغوط، وفي مطلع القرن الحالي تبلورت فكرة تطوير أنواع جديدة من المحركات تعمل على حرق مساحيق المعادن, وهي ما أطلق عليها اسم محركات الاحتراق المعدني.
تعود فكرة استخدام مساحيق المعادن لتشغيل المحركات إلى ثمانينيات القرن الماضي، عندما طور مدير المعهد الهندسي في كييف الكيميائي الأوكراني سولومون لابينوف Solomon Labinov محركا يتحمل درجات حرارة عالية تبلغ 2200 درجة سلسيوس، التي سوف تنتج عن حرق مسحوق معدن الحديد فيه (محرك احتراق الجازولين ينتج حرارة تتراوح بين 900 و1500 درجة سلسيوس)، حيث تم حرق جزيئات حديد ميكرومترية الحجم Micrometry Sized في محرك الاحتراق الداخلي المعدل.
ويعتمد إنتاج الطاقة من مسحوق المعدن على حرق المعدن بشكل مباشر بوجود الأكسجين، حيث سيتكون أكسيد المعدن وتنطلق كمية كبيرة من الطاقة الحرارية التي يمكن استغلالها لتشغيل محرك تم تعديله، حيث يتم تزويده بمسحوق المعدن على شكل رذاذ ممزوج مع الهواء في اسطوانات المحرك، إلا أن محرك لابينوف توقف عن العمل بعد وقت قصير من تشغيله، بسبب التفاعل السريع الذي تم بين مسحوق الحديد والأكسجين وتراكم أكسيد الحديد داخل اسطوانات المحرك.
وبالرغم من إخفاق هذا المحرك، فإن لابينوف استأنف أبحاثه وتعاون مع فريق من الباحثين الكيميائيين في مختبر «أوك ريدج الوطني National Laboratory Oak Ridge» في ولاية تينيسي الأمريكية وذلك في عام 2003، حيث استفاد من الأبحاث التي تم تحقيقها في مجال الجسيمات الدقيقة النانوية Nanoparticules ذات النقاء العالي، التي تم إنتاجها في نهاية القرن الماضي.
وهكذا تحققت فكرة تشغيل أول محرك يعمل بمساحيق المعادن، حيث تم استخدام مسحوق الحديد بقطر يبلغ 50 نانومترا - النانو يساوي جزءا من ألف مليون جزء من الملليمتر- من أجل حدوث الأكسدة على درجة حرارة 800 درجة سلسيوس، وإعطاء الكمية المناسبة من الطاقة الحرارية اللازمة لتشغيل المحرك، وهذا يمنع تشكل الأبخرة المؤكسدة، وخصوصا أكاسيد النيتروجين والغازات السامة ويحقق أداء جيدا للمحرك.
وتبين التجارب التي أجريت على مساحيق المعادن، أن كمية الطاقة التي يتم الحصول عليها عند حرقها، تبلغ أكثر من ضعفي الطاقة التي يمكن الحصول عليها من حرق الجازولين مثلا، وهذا يعتمد على نوع المعدن، ويبين خبير النمذجة من مختبر أوك ريدج الباحث بوبي سومبتر Bobby Sumpter بقوله «إن السيارة التي يتم تشغيلها على وقود مسحوق الحديد، تقطع مسافة تبلغ ثلاثة أضعاف المسافة التي تقطعها سيارة تعمل بالجازولين عند تساوي حجم خزان السيارتين وتساوي وزنهما، بالإضافة إلى أن الوقود المعدني قابل للتدوير وإعادة الاستخدام من جديد».
ويتميز الوقود المعدني بأنه غير ضار بالبيئة، حيث لا تنبعث منه غازات ضارة بالبيئة كثاني أكسيد الكربون والهيدروكربونات غير المحترقة وغيرها من الغازات الملوثة، أما إعادة تدويره فتكون من خلال عملية نزع الأكسجين من مسحوق المعدن، إذ يتم تفاعل الأكسجين مع الهيدروجين على درجة حرارة 425 درجة سلسيوس، وتسمى هذه العملية تفاعل اختزال، حيث يتكون بخار الماء ومسحوق المعدن بشكل نقي، ويصبح جاهزا للاستخدام من جديد، أيضا فقد اقترح أن يتم تدوير الوقود المعدني المستنفذ بواسطة أول أكسيد الكربون لإنتاج ثاني أكسيد الكربون، الذي يمكن جمعه واستخدامه في بعض الصناعات.
ويقترح الباحثون أكثر من طريقة لتنشيط المعدن المؤكسد في المحرك، حيث يمكن أن يتم تجميع المعدن المستنفذ في خزان داخل المركبة، يتم تفريغه لاحقا في محطات خاصة لإعادة تدويره من جديد، أو أن تتم هذه العملية داخل المركبة، ضمن نظام خاص مع توفير مصدر للهيدروجين والاستفادة من حرارة المحرك التي نتجت عن عملية احتراقه.
وبالرغم من مميزات هذا الوقود، فإن استعماله يواجه تحديات تقنية تتطلب ابتكار حلول مناسبة، إذ إن مساحيق المعادن تتفاعل مع الأكسجين بشكل سريع جدا يبلغ جزءاً من مليون من الثانية، وتنطلق كامل الطاقة منها بشكل فوري، وهو ما يتجاوز عملية الاستثمار الميكانيكي اللازم تحقيقها لتشغيل المحرك بشكل مناسب، ولحل هذه المعضلة، اقترح الباحثون أن يتم تقليص مساحة سطح المعدن المتماس مع الأكسجين، من خلال تجميع المسحوق على شكل عناقيد Clusters، ما يؤدي إلى السيطرة على معدل الاحتراق، وقد بينت التجارب أنه قد تحقق إبطاء في عملية أكسدة الحديد، حيث بلغت 500 مللي ثانية، وهذا مناسب لتشغيل المحركات، ويوضح الباحث سومبتر ذلك بقوله «إن فريق العمل أجرى تجاربه في حجرة احتراق في محرك معدل، لكن يلزم مزيد من الأبحاث للتوصل إلى التوازن الدقيق بين سرعة الاحتراق والحرارة الناتجة وقدرة وكفاءة المحرك».
كذلك فإن من سلبيات مساحيق المعادن، ثقل وزنها بسبب كثافتها العالية، فخزان وقود السيارة العادية يستوعب حوالي 40 كيلوجراما من الجازولين، بينما لو تم ملؤه بمسحوق الحديد فإن وزنه سيبلغ 195 كيلوجراما، أضف إلى ذلك أن الحديد ليس مثاليا لإنتاج الطاقة، ولذلك تتجه الأنظار لاستخدام مسحوق معدن الألمنيوم أو البورون أو غيرهما من المعادن، نظرا لخفة وزنهما، وتدل التجارب أن مسحوق الألمنيوم الأكثر مناسبة لاستخدامـــه كـــوقـــود مـــعـــدني، فبالإضافة إلى كثافته القليلة، فإن لدى الباحثين معلومات كافية عنه وعن استخدامه كوقود، حيث تم استخدامه كوقود في عمليات إطلاق عدد من صواريخ الفضاء خلال السنوات القليلة الماضية.
ويوضح مدير مختبر LCSR في أورليان Orleans بفرنسا الباحث إسكــــنــــدر غــــوكالب Iskander Gokalp بـــــــقــوله «إن استخدام مسحوق الألمنيوم كوقود معدني مناسب، حيث إن ملء خزان سيارة متوسطة بمسحوق الألمنيوم لقطع مسافة 500 كيلومتر، لن يتجاوز وزن هذا المسحوق 45 كيلوجراما، وهذا يوازي تقريبا وزن الخزان نفسه المملوء بالجازولين».
من جهته، ذكر الباحث ديف بيتش Dave Beach في مختبر أوك ريدج الوطني، أن استخدام الوقود المعدني ليس مقتصرا على تشغيل محركات السيارات، بل يمكن أن يستخدم في تشغيل عدد كبير من المحركات ووحدات التدفئة المنزلية ومحركات توليد الطاقة الكهربائية وغيرها، وأن عملية تحويل محركات الاحتراق كالتوربينات الغازية ومحركات الآليات الضخمة التقليدية إلى محركات تعمل بالوقود المعدني أمر ممكن فنيا، وهو بحاجة إلى تعديل أنظمة التزود بالوقود وإيجاد حلول تصميمية لتجميع الوقود المستنفذ، إلا أن المعضلة الكبرى التي تواجه محرك الاحتراق المعدني، هي توفير الجسيمات النانوية المعدنية بالأقطار المناسبة، إذ إن ما يتم إنتاجه الآن يبلغ بضعة كيلوجرامات في اليوم وبكلفة عالية.
هذه المعوقات التي تواجه تقنية محرك الاحتراق المعدني، يتوقع أن يتم تذليلها خلال العقد الثالث من هذا القرن، وأن تصبح مساحيق المعادن، الوقود المثالي لمحركات المستقبل .