اتجاهات تربوية ... الذكاء الروحي

مع نهاية القرن العشرين، أصبح مصطلح الذكاء الروحي أو (SQ)، من المصطلحات التي تناقش في الأوساط العلمية, الفلسفية والنفسية، والدينية، كذكاء ثالث يطرح سؤال «لماذا؟», التي تتكامل مع كل من «ماذا؟» الذكاء المنطقي التقليدي (IQ)، و«كيف؟» الذكاء العاطفي (EQ)، لتكتمل الصورة بالربط بين التفكير بالعقل وبالقلب، وبالروح. وللذكاء الروحي تعريفات عديدة، منها «القدرة على إيجاد معنى وهدف وقيم في حياتنا، وربط ما نقوم به وما نعيشه بسياق أكبر، وأغنى، وأعـــمق»، فـــهو بمنزلة الدليل الباطني الذي يمكن أن يقودنا إلى السلام، والنجاح، والسعادة.
عادة ما يكون الأذكياء روحياً محبين، ومرحين، ومسالمين، ويتمتعون بالمرونة، وبدرجة عالية من الوعي بالذات، والقدرة على مواجهة المعاناة والتعلم منها، وتحمل الألم والتغلب عليه، وضبط النفس في المواقف الصعبة. كما يميلون لطرح أسئلة مثل «من أنا؟»، و«من أين أتيت؟»، و«لماذا أنا هنا؟»، و«ماذا يمكن أن أفعل؟»، ويبحثون عن إجابات، وعن روابط تجمع الأشياء المختلفة، ويستلهمون من الرؤى والقيم، ومن صفاتهم أيضاً، اللطف، وقوة الإيمان، وحب الخير، والاستقلالية.
الطريق إلى الذكاء الروحي
يمكن للذكاء الروحي أن يتحقق- كما يرى ريتشارد بوول في كتابه «الخطوات السبع للذكاء الروحي»- عبر الوعي، والبحث عن معنى، وتقييم الأمور، ثم التمركز حول الذات، وطرح أسئلة مثل «لماذا أفعل ما أفعل؟»، بعد ذلك، تكوين رؤية خاصة، والعمل - بعد التخطيط- لإظهار الفاعلية الموصلة للخطوة الأخيرة، وهي معرفة المهمة الحقيقية في الحياة.
اختبارات قياس
مع اتساع تداول المصطلح، أصبحت هناك محاولات لوضع اختبارات لقياس واكتشاف هذا النوع من الذكاء، وفي هذا الصدد، تجد مولي بينتون، وهي طبيبة نفسية، ومتخصصة في روحانية الأطفال، أنه من الممكن اكتشاف الموهوبين روحياً من خلال سبعة فروع من شجرة الحياة، هي:
1- الحكمة والحدس 2- التعاطف، والانتماء، والارتباط 3-الموت الجسدي 4- عالم الروح 5- النور والظلام، والخير والشر 6-اللعب العلاجي 7-التحول.
وذلك بطرح أسئلة تستطلع مشاعر الفرد، وخبراته الباطنية من خيال، وشعور، وممارسات، كالإحساس بالوجود في العالم لتأدية مهمة خاصة، أو علاقته بأشخاص ماتوا جسدياً، لكنهم باقون معه، والأحلام التي تتكرر لديه، والإحساس بحدوث الشيء قبل وقوعه، والتعاطف مع الآخرين في محنهم، والتأمل في الكون، وفي الظواهر الطبيعية كقوس قزح، أو البرق والرعد، ومناجاة الله، واستخدام الخيال والإبداع، وسواها.
وهكذا، أصبحت عملية تنمية الذكاء الروحي، أو الذكاء الأخلاقي، ضرباً من الاستثمار، لتكوين رأسمال روحي، أو ثروة لتحسين نوعية الحياة، ولتغذية جوانب عميقة في حياة الإنسان، ثروة تكتسب بالبحث عن أعمق المعاني، والقيم، وأسمى الأهداف، وأنبل الدوافع. فوظيفة رأس المال الروحي معرفة «ما أنا؟» في مقابل «بماذا أفكر؟» و«بماذا أشعر؟» في كل من رأس المال المادي التقليدي المرتبط بالذكاء التقليدي، ورأس المال الاجتماعي المرتبط بالذكاء العاطفي. ويتضمن- رأس المال الروحي- طاقة قادرة على تغيير سلوك البشر وتغييرهم ليقتربوا من الكمال.
دانا زوهار
لقد ارتبط مصطلح الذكاء الروحي، بدانا زوهار، وهي كاتبة وفيلسوفة أمريكية درست الفيزياء والفلسفة بجامعة MIT، وأنجزت دراسات عليا في الفلسفة وعلم النفس والدين في هارفارد، وألفت العديد من الكتب منفردة، ومع زوجها الطبيب النفسي البريطاني إيان مارشال، لعل أشهرها «الذكاء الروحي»، و«رأس المال الروحي». أما البداية فكانت في مؤتمر بماليزيا، حيث دار النقاش حول الذكاءين التقليدي والعاطفي، وطرحت زوهار حينها فكرة الذكاء الروحي، ولاقت الفكرة قبولا، وأثارت أسئلة الحضور، وتزامن ذلك مع ظهور دراسات أثبتت وجود منطقة في الدماغ مكرسة للخبرات الروحية، تشير إلى أن الإيمان بالله مدمج في عتاد الدماغ. ولكي تنشط هذه المنطقة، على الإنسان أن يطيل التفكير في أمور مهمة، ومعان عميقة، وقيم جوهرية، كما يمكن أن تنشط أثناء ممارسة الشعائر والطقوس الدينية.
مبادئ الذكاء الروحي
ومن المبادئ التي يقوم عليها الذكاء الروحي، من وجهة نظر زوهار:
- الإيجابية: القدرة على مواجهة الحياة بكل ما فيها، وتحويل الأزمات إلى فرص للنمو واكتساب الصلابة، وإعادة النظر في القيم والأهداف وفي طرق العيش، وطرق أبواب جديدة للعمل وللحياة.
- الوعي بالذات: أن نعرف من نكون؟ وبماذا نعتقد، وما دوافعنا العميقة التي تجعلنا ننهض كل صباح ونعمل ونتعلم، ونكون على استعداد للتضحية؟ ونعرف أننا أكثر من مجرد أشخاص نعمل لنشتري ونستهلك، ونمارس أنشطة الحياة اليومية السطحية، بل جوهر أعمق، متواصل مع الله وقادر على العطاء وخدمة الآخرين.
- التواضع: التخلي عن الغرور الذي يجعلنا نفكر بأن العالم ملكنا وحدنا، فنجور على البشر، والكائنات الأخرى، ونفسد البيئة والكوكب، ونصادر حق الأجيال القادمة في خيرات الأرض، ونمنع المساعدة عن الفقراء والضعفاء، ونفشل في سماع الصوت الذي بداخلنا، ولا نستطيع الاستماع لبعضنا، ولا ننتبه إلى أننا نلعب أدواراً في دراما كبيرة، ورأينا مجرد رأي وللآخرين أدوارهم، بالإضافة إلى آرائهم التي لابد أن تحترم.
- التعاطف: القدرة على أن نضع أنفسنا مكان الآخرين، ونقدر وضعهم ومشاعرهم، وآلامهم، ونواسيهم، ونساعدهم، ونفرح معهم.
- السير في ضوء رؤية وقيم: العمل من منطلق مبادئ، والانتقال من ثقافة الطمع، والخوف، والأنانية، إلى ثقافة التعاون، وتحمل مسؤولية الأسرة، والعلاقات، والعمل، والكوكب، والاهتمام بـ «النحن» بدلا من «الأنا»، أي نخدم بعضنا، ونقدم ما في وسعنا، ومن قلوبنا.
- العفوية: العيش في اللحظة الراهنة، في الهنا والآن، ومواجهة المشكلات وكأنها مشكلات جديدة، ورمي الهموم وترك الافتراضات المسبقة، حتى نكون حاضرين لمن معنا وما حولنا.
- النظرة الكلية: رؤية الصورة الكبرى، والعلاقات المتشابكة، والشعور بالانتماء، أي أن نعرف أن العالم واحد لا يتجزأ، ونحن نؤثر ونتأثر بالطبيعة والبيئة من حولنا، وفي بعضنا، ونستطيع - مثلا - أن ننقل عدوى اليأس أو ننشر الأمل.
- طرح الأسئلة: الحاجة، والوصول إلى الخلاصة، والحكمة، فلا نقبل الأمور كما هي، ولا نقوم بالعمل حسب الأوامر فحسب، بل نفكر دوما، ونسأل ونعيش مع الأسئلة، ونبحث عن تفسيرات، وطرق، ونتائج مختلفة.
- القدرة على إعادة رسم الأطر: النظر من بعيد للمشكلة، أو الموقف والرؤية ضمن السياق الأكبر، ومن جوانب متعددة، وتبني نماذج جديدة.
- الاستقلالية: القدرة على مواجهة الأغلبية، والتمسك بالقناعات، وبما نراه صوابا حتى لو لم يكن كما يريده الناس، ولكن بعد مواجهة الذات والتأكد مما نريده حقا، وما نظن أنه الصواب، من دون غرور.
- الاحتفاء بالتنوع: تقدير الآخرين واحترام الاختلاف، ومعرفة جماله وأهميته، فهو يعني أن نرى ألوانا متباينة، ونتعلم جديداً، ونساعد بعضنا، ونتكامل.
- الإحساس بالمهمة: تلبية النداء للعطاء، والخدمة التي نعتقد أننا ولدنا من أجلها.
لماذا أعيش؟
جاءت فكرة كتاب زوهار ومارشال «رأس المال الروحي» من سؤال «لماذا أعيش؟»، الذي طرحه طفلهما عندما كان في الخامسة. فكما ذكرت زوهار في المقدمة، أن الإجابة عن السؤال لم تكن سهلة، ولم تستطع الرد إلا بعد أسابيع من التأمل، بعدها قالت: «لكي تجعل العالم مكاناً أفضل مما كان عليه قبل أن تولد». وفي وقت لاحق، سأل الابن عما يمكن أن يدرسه ويعمل به، فردت الأم: «لا يهم ماذا تختار أو ماذا تعمل، المهم أن تشكل حياتك فرقا». ثم دفعتها هذه الإجابة إلى محاسبة نفسها بطرح سؤال مهم هو «هل ما أفعله في الحياة أفضل ما يمكن؟»، وأدركت حينها ضرورة أن تتغلب على الشعور بقلة الحيلة، والاكتئاب الذي كان يلازمها بسبب ما يجري من تدهور بسبب غياب القيم والأخلاق والالتزام، والمعاني العميقة، وغلبة دوافع العمل السلبية كالخوف والطمع والغضب على الدوافع الإيجابية السامية، مثل التعاون، والإبداع، والعطاء، التي تعد أرقى أشكال الروحانية. وراحت بعد ذلك تعيد قراءة كتب مهمة، وألهمتها القراءة. وعرفت أن سبب مشكلات العالم، وجود مشكلة في الإنسان، ولكي ينصلح حال العالم، لابد من أن ينصلح حال الإنسان أولا، أي أن حياة الإنسان في التحليل النهائي هي الأهم. وبوصف التعليم مدخلا مهما لإصلاح العالم، رأت زوهار ضرورة التوقف عن التركيز على هدف الحصول على وظيفة، والاهتمام بتكوين إنسان صالح، ومواطن فعال. ومعرفة أن هناك فرقاً شاسعاً ما بين حشو الأدمغة بالحقائق والمعلومات، وبين تنمية الذكاء الروحي باستخراج المعرفة والإمكانات الفطرية الكامنة في البشر، واستثارة فضولهم، وتشجيعهم على التفكير النقدي، ومساعدتهم على الشعور ببهجة التعلم، وهي التربية الحقيقية.
بوابات الروح
وفي الإطار نفسه، دعت «راشيل كيسلر» - مؤلفة كتاب روح التعليم - إلى الالتفات لحياة الطلاب الباطنية، وإلى بعد العمق في التجربة الإنسانية، وتوق الطلاب لشيء أكثر من المواد الدراسية. ومما ذكرته كيسلر، أنه مع حضور الروح في التعليم نستمع باهتمام أكبر، ليس لما يقوله الناس فقط، بل إلى الرسائل التي بين الكلمات، ونركز على ما يتمتع بجوهر، ومعنى، ويصبح توق الطلاب، ودهشتهم، وحكمتهم، وخوفهم، وارتباكهم، من الأمور المهمة للمنهج، وتصبح الأسئلة على القدر نفسه من أهمية الإجابات، وقدمت ما وصفته بسبع بوابات للروح في التعليم، وهي:
- التوق إلى ترابط عميق: يصف نوعية العلاقة الوثيقة، والمفعمة بالاهتمام والرعاية الأصيلة، والمحملة بالمعنى، والمتضمنة لمشاعر الانتماء، وشعور الطالب بأن هناك من يسمعه ويعرفه بشكل حقيقي. ويمكن لهذه العلاقة العميقة أن تكون مع الذات، أو مع الآخرين، أو مع الطبيعة، أو مع قوى عليا.
- الشوق إلى الصمت والعزلة: كثيراً ما يكون مجالاً متناقضاً، مشحوناً بالخوف، والحاجة الملحة، كمتنفس من طغيان الانشغال، والضوضاء، حيث يكون الصمت طريقاً للسكون، والراحة لبعض التأمل والدعاء.
- البحث عن معنى وهدف: في ما يتعلق باستكشاف الأسئلة الكبرى، مثل «لماذا أنا هنا؟»، و«هل لحياتي معنى؟»، و«كيف السبيل لمعرفته؟»، و«ما الذي يحمله المستقبل؟».
- التعطش للبهجة والسرور: حاجة يمكن أن تلبى من خلال خبرات غاية في البساطة، مثل اللعب، والاحتفال، والتعبير عن العرفان بالجميل، كما يصف هذا التعطش، شدة ما يمور داخل الطلاب من شعور، في مواجهة الجمال، أو القوة، أو النعم الإلهية، أو الذكاء، أو الحب، أو بهجة الحياة.
- الدافع المبدع: وهو المجال المألوف بصورة أكبر لتغذية الروح في المدرسة، بينما هو ليس سوى جزء، وسواء كان وضع فكرة جديدة، أو عمل فني، أو اكتشاف علمي، أو رؤية جديدة تماماً للحياة، يشعر الطلاب بدهشة الإبداع، وغموضه.
- الحاجة إلى السمو والتجاوز: تصف رغبة الصغار في المضي لأبعد من حدودهم المدركة، ولا يتضمن ذلك الواقع الغامض فحسب، بل الخبرات غير العادية في الفنون، أو الرياضات، أو المواد الأكاديمية، أو العلاقات الإنسانية. وبالاعتراف بهذه الحاجة الإنسانية العالمية وتقديرها، يمكن للمعلمين مساعدة طلابهم على تلبيتها بصورة بناءة.
- الحاجة إلى طقوس: طقوس تتعامل مع المرور من مرحلة الطفولة إلى البلوغ، حيث يمكن أن يعطي الكبار الصغار أدوات للتعامل مع نقلات الحياة، وتوديعها. وتتضمن مقابلة هذه الحاجة احتفال المعلمين، وأولياء الأمور المرحب بدخول الصغار عالم الكبار.
وتعد هذه البوابات السبع مداخل لتنمية الذكاء الروحي، بشرط أن تفتح جميعها في الوقت نفسه .