أزليّة العلاقة بين «الثالوث الحائيّ»... الـحيّة وحوّاء... والـحياة

أزليّة العلاقة بين «الثالوث الحائيّ»... الـحيّة وحوّاء... والـحياة

كثيرًا‭ ‬ما‭ ‬يطْرب‭ ‬الناس‭ ‬لأشياء‭ ‬وأخبار‭ ‬محفوفة‭ ‬بالمخاطر‭ ‬والمهالك‭. ‬وما‭ ‬ذلك‭ ‬إلاّ‭ ‬لأنّ‭ ‬الإنسان‭ ‬يرتاح‭ ‬إلى‭ ‬استعراض‭ ‬السِّيَر‭ ‬والحكايات‭ ‬المرعبة،‭ ‬وهو‭ ‬بعيد‭ ‬عنها،‭ ‬يسْمو‭ ‬بها‭ ‬خياله‭ ‬وينأى‭ ‬إلى‭ ‬آفاق‭ ‬وأزمان‭ ‬شاسعة‭. ‬لا‭ ‬فرق‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬يقرأها‭ ‬أو‭ ‬يشاهدها،‭ ‬أو‭ ‬يسمع‭ ‬بها‭.‬

ومن‭ ‬هذه‭ ‬الأخبار‭ ‬المثيرة‭ ‬للهواجس،‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يصادفني‭ ‬في‭ ‬طفولتي،‭ ‬وأنا‭ ‬أتجوّل‭ ‬في‭ ‬حقول‭ ‬قريتي،‭ ‬وأتسلّق‭ ‬الأشجار،‭ ‬وأهبط‭ ‬الأودية،‭ ‬أو‭ ‬أقوم‭ ‬بحراثة‭ ‬الأرض‭ ‬وتنظيفها‭ ‬من‭ ‬الهَيْشَر‭ ‬–‭ ‬أو‭ ‬الهَشير،‭ ‬كما‭ ‬تسمّيه‭ ‬العامة‭ ‬–‭ ‬فتصادفني‭ ‬الأفاعي‭ ‬من‭ ‬مختلف‭ ‬الأحجام‭ ‬والمقاييس‭ ‬والألوان،‭ ‬فأخوض‭ ‬معها‭ ‬صنوف‭ ‬العراك‭ ‬الذي‭ ‬غالبًا‭ ‬ما‭ ‬ينتهي‭ ‬بالانتصار‭ ‬عليها‭.. ‬فإنك‭ ‬لا‭ ‬تستطيع‭ ‬أن‭ ‬ترى‭ ‬أفعى‭ ‬ما،‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬مكان،‭ ‬وكنتَ‭ ‬في‭ ‬وضع‭ ‬مؤاتٍ‭ ‬حيالها،‭ ‬إلاّ‭ ‬راودَتْك‭ ‬نفسُك‭ ‬بضربها‭ ‬ضربًا‭ ‬يؤدي‭ ‬إلى‭ ‬موتها‭... ‬حتى‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬فاتتْك‭ ‬وسَلمتْ،‭ ‬انتابك‭ ‬الحزنُ‭ ‬والقلق،‭ ‬لنجاتها،‭ ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬ولاحتمال‭ ‬عودتها‭ ‬إليك،‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬ثانية‭.‬

ولا‭ ‬أشكّ‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬العداء‭ ‬الشديد‭ ‬من‭ ‬قِبلنا،‭ ‬متبادلٌ‭ ‬بيننا‭ ‬وبينها؛‭ ‬فهي‭ ‬لا‭ ‬تخاف‭ ‬شيئًا‭ ‬كالإنسان،‭ ‬والإنسان‭ ‬كذلك،‭ ‬مهما‭ ‬اجتهد‭ ‬العلماء‭ ‬والحكماء‭ ‬في‭ ‬تخفيف‭ ‬الوقع‭ ‬والأثر،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬حكايات‭ ‬وأحاديث‭ ‬وأساطير،‭ ‬عن‭ ‬فوائدها‭ ‬وقيامها‭ ‬بأدوار‭ ‬كانت‭ ‬فيها‭ ‬النصير‭ ‬والمداوي‭ ‬والحارس‭..‬

وأما‭ ‬العلاقة‭ ‬الأزليّة‭ ‬التي‭ ‬تربط‭ ‬الحيّة‭ ‬بالحياة،‭ ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬وبحوّاء،‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬ثانية،‭ ‬فهي‭ ‬من‭ ‬الأمور‭ ‬التي‭ ‬تدعو‭ ‬إلى‭ ‬البحث‭ ‬والتأمل‭. ‬فقد‭ ‬وجدتُ‭ ‬أن‭ ‬المعاجم‭ ‬العربيّة‭ ‬توقفت‭ ‬طويلًا‭ ‬أمام‭ ‬الحية،‭ ‬والحيّ،‭ ‬والحياة،‭ ‬فربطت‭ ‬بين‭ ‬الحيّة‭ ‬والنحوّي،‭ ‬أي‭ ‬الاستدارة؛‭ ‬وكذلك‭ ‬بينها‭ ‬وبين‭ ‬الطراوة‭ ‬والاهتزاز‭ ‬من‭ ‬النباتات،‭ ‬وبينها‭ ‬وبين‭ ‬الحياة‭ ‬الطويلة‭ ‬التي‭ ‬حيكت‭ ‬لأجلها‭ ‬بعض‭ ‬الأمثال،‭ ‬فقيل‭: ‬

‮«‬ما‭ ‬هو‭ ‬إلاّ‭ ‬حيّةٌ،‭ ‬وما‭ ‬هي‭ ‬إلا‭ ‬حيّة،‭ ‬وذلك‭ ‬لطول‭ ‬عمر‭ ‬الحيّة‭...‬‮»‬‭ ‬كأنما‭ ‬سمِّيا‭ ‬حيّة‭ ‬لطول‭ ‬حياتهما‭ (‬لسان‭ ‬العرب‭: ‬حيا‭). ‬وقيل‭: ‬‮«‬هو‭ ‬أبصر‭ ‬من‭ ‬حيّة،‭ ‬لحدّة‭ ‬بصرها،‭ ‬أو‭ ‬أظلمُ‭ ‬من‭ ‬حيّة‮»‬‭.‬

ومن‭ ‬العلاقات‭ ‬التي‭ ‬تربط‭ ‬الحيّة‭ ‬بالحياة،‭ ‬أو‭ ‬الحيّ،‭ ‬الإقبال‭ ‬والسرعة‭ ‬إلى‭ ‬الحياة،‭ ‬فكان‭ ‬حديث‭ ‬الأذان‭: ‬حيَّ‭ ‬على‭ ‬الصلاة،‭ ‬حيّ‭ ‬على‭ ‬الفلاح‭! ‬أي‭: ‬هلمّوا‭ ‬إليها،‭ ‬وأقبلوا‭ ‬مسرعين‭... ‬ألا‭ ‬يعني‭ ‬ذلك‭ ‬السرعة‭ ‬المذهلة‭ ‬التي‭ ‬تتمتع‭ ‬بها‭ ‬الحية،‭ ‬وهي‭ ‬منقضَّة‭ ‬على‭ ‬فريستها،‭ ‬أو‭ ‬مولِّيةٌ‭ ‬هاربة‭ ‬من‭ ‬عدوِّها؟

ولكنّ‭ ‬هذه‭ ‬المعاجم،‭ ‬لم‭ ‬تُول‭ ‬العناية‭ ‬اللازمة‭ ‬لتوضيح‭ ‬العلاقة‭ ‬اللغوية‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬الحية‭ ‬وحواء‭... ‬فغاب‭ ‬الكلام‭ ‬على‭ ‬حوّاء،‭ ‬فيما‭ ‬عدا‭ ‬إشارة‭ ‬عابرة‭ ‬وخاطفة،‭ ‬وردتْ‭ ‬في‭ ‬لسان‭ ‬العرب‭ ‬بقوله‭: ‬‮«‬وحوّاء‭: ‬زوج‭ ‬آدم،‭ ‬عليهما‭ ‬السلام‮»‬‭ (‬اللسان‭: ‬حوا‭). ‬بينما‭ ‬قال‭ ‬ابن‭ ‬دريد‭: (‬حوّاء‭: ‬أنثى‭ ‬أحْوى‭). ‬والأحوى،‭ ‬هو‭ ‬الأسود‭ ‬من‭ ‬الليل‭ ‬أو‭ ‬الشَّعر،‭ ‬والحوّاء‭ ‬والحاوي‭: ‬صاحبا‭ ‬الحية‭.‬

وليس‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬سبب‭ ‬لغياب‭ ‬كلمة‭ ‬‮«‬حوّاء‮»‬‭ ‬عن‭ ‬المعجم‭... ‬أهو‭ ‬اسم‭ ‬أعجميّ،‭ ‬سُمِّيت‭ ‬به‭ ‬المرأة‭ ‬الأولى،‭ ‬قبل‭ ‬تكوّن‭ ‬العربية؟‭ ‬الاشتقاق‭ ‬اللغوي‭ ‬لا‭ ‬يؤيد‭ ‬هذا‭ ‬الافتراض‭.‬

أما‭ ‬العلاقة‭ ‬الأولى‭ ‬بين‭ ‬الحيّة‭ ‬وحوّاء،‭ ‬فقد‭ ‬بدأت‭ ‬من‭ ‬جرّاء‭ ‬دخول‭ ‬إبليس‭ ‬في‭ ‬جوف‭ ‬الحيّة،‭ ‬بعد‭ ‬طرده‭ ‬من‭ ‬الجنة،‭ ‬واستجابة‭ ‬حوّاء‭ ‬له‭ ‬بعصيان‭ ‬الأمر‭ ‬الإلهي،‭ ‬والأكل‭ ‬من‭ ‬الشجرة‭ ‬التي‭ ‬نُهي‭ ‬عنها‭ ‬كلٌّ‭ ‬من‭ ‬آدم‭ ‬وحوّاء‭... ‬وهي‭ ‬أوّل‭ ‬فتنة‭ ‬دخلت‭ ‬على‭ ‬الرجال‭ ‬من‭ ‬النساء‭ (‬القرطبي‭ ‬ج1‭/ ‬308‭).‬

مهما‭ ‬يكن،‭ ‬فإنّ‭ ‬العلاقة‭ ‬الأزلية‭ ‬بين‭ ‬الحيّة‭ ‬وحوّاء،‭ ‬وثيقة‭ ‬وعميقة‭: ‬كلتاهما‭ ‬تملك‭ ‬صفات‭ ‬ومقومات‭ ‬متشابهة،‭ ‬وأحيانًا‭ ‬متطابقة‭.. ‬كلتاهما‭ ‬شغلت‭ ‬الرجل‭ ‬والإنسان،‭ ‬واحتلّت‭ ‬الحيّز‭ ‬الأكبر‭ ‬من‭ ‬التفكير‭.‬

وإذا‭ ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬فرق‭ ‬يذكر‭ ‬بينهما،‭ ‬فهو‭ ‬أن‭ ‬الحيّة‭ ‬شرٌّ‭ ‬مُحدق‭ ‬على‭ ‬الدوام،‭ ‬يتجنّبه‭ ‬الإنسان‭... ‬وقانا‭ ‬الله‭ ‬من‭ ‬شرِّ‭ ‬الحيّات،‭ ‬في‭ ‬عالَميْ‭ ‬الحيوان‭ ‬والإنسان،‭ ‬

وأكسبَنا‭ ‬منها‭ ‬نعْمة‭ ‬تسبيحه‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬أودعه‭ ‬في‭ ‬خلْقه‭ ‬من‭ ‬لطيف‭ ‬الأسرار،‭ ‬وعظيم‭ ‬الاعتبار‭! ‬.