الالتزام الدوائي... قطرة دم قد تكون هي الحل

الالتزام الدوائي...  قطرة دم قد تكون هي الحل

تتعدد طرق قياس مدى الالتزام الذي يأخذه المريض على عاتقه بالعلاج الدوائي، ولكن مع ذلك فإن مدى الالتزام كما تشير إليه الدراســــات مــازال منخفضـــاً، ويصل حسب الأرقام إلى 50 في المائة فقط عند أغلــــب المـــرضى المصابين بأحد الأمراض المزمنة، كالسكري أو ارتفاع ضغط الدم أو الربو وغيرها من الأمراض بعد ستة أشهر من بدء العلاج. يرافق ذلك قلة في صدقية الطرق المتبعة في قياس مدى التزام المريض بالعــــلاج الدوائي، بسبب كيفية الحصول على المعلومة أو ما قد يقوم به المريض فعلياً، ما يؤدي إلى تقدير غير حقيقي للمشكلة، وعدم القــدرة علــى تمييزها، وقلة السيطرة على الأمراض وتفاقمهـــا من دون تحـــديد المشكلة الأصلية، وهي عدم الالتزام بالدواء. 

 «إن لم تأخذ الدواء كما هو مطلوب، فلا توجد فائدة من العلاج»، مبدأ لا يختلف عليه اثنان، ولكن - مع الأسف - لا يدركه معظم المرضى الذين لا يلتزمون بالعلاج. فبقدر أهمية تناول العلاج بشكل منتظم وحسب ما هو موصوف، بقدر إمكان تحقيق أهداف العلاج، وتجنب المشكلات المرتبطة بعدم الالتزام. وقد يلقي كثير من المرضى باللوم على المعالج أو يرجع أسباب فشل سيطرته على المرض إلى أمور تتعلق بحياته، كالمشكلات الشخصية وضغط العمل أو نمط الحياة غير الصحية، كما أن بعض مقدمي الرعاية الصحية قد يبحث عن أسباب كثيرة لعدم القدرة على السيطرة على المرض، ومن ثم قد يقوم بزيادة الجرعة العلاجية أو إضافة دواء آخر أو إبدال الدواء من دون البحث عن الأسباب الأخرى، التي يكون مدى التزام المريض بأخذ العلاج الدوائي على رأس هذه القائمة.
في بحث أجري في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، أظهرت النتائج أن 10 في المائة من الأطباء فقط قادرون على تقدير عدم الالتزام الدوائي عند مرضاهم، ولم تزدد هذه النسبة كثيراً خلال الثلاثين سنة الأخيرة. وأشار تقرير صدر عن منظمة الصحة العالمية قبل عشر سنوات إلى أن ما يقارب نصف مرضى الأمراض المزمنة غير ملتزمين علاجياً، مع زيادة في المضاعفات والمشكلات المرتبطة بهذه الأمراض. واختتم هذا التقرير بتوصية بأن إيجاد حل لمشكلة عدم الالتزام العلاجي سيكون ذا تأثير أكبر من إيجاد علاجات جديدة للأمراض المزمنة. 
وأشارت الدراسات حول العالم في السنوات الخمس الأخيرة إلى أن مشكلة عدم الالتزام الدوائي موجودة فعلياً وتزداد بشكل كبير، وتعتبر عاملاً أساسياً في عدم السيطرة على الأمراض. وكانت من نتائج هذه الدراسات التي أجريت لقياس مدى الالتزام العلاجي عند مرضى السرطان والإيدز والسكري والربو وارتفاع ضغط الدم وأمراض القلب والأمراض النفسية والعصبية، أن عدم التزام المرضى بعلاجاتهم أحد أهم المسبّبات في حدوث مضاعفات المرض، بالإضافة إلى أن نسبة الوفاة قد ترتفع بشكل ملحوظ عند عدم الملتزمين علاجياً. 
قد تختلف أسباب التقصير المؤدية إلى عدم أخذ الدواء بحسب ما هو موصوف، فمنها غير المتعمّد، كالنسيان أو عدم فهم التعليمات الدوائية وبالتالي المعالجة بطريقة خاطئة كتناول الدواء مرة بدلاً مـــن مرتيــــن في اليوم، أو لأسباب متعمـــــدة كالخوف من الآثار الجانبية أو عدم الاقتناع بجدوى العلاج الدوائي. وهناك أسباب أخرى كعدم توافر الدواء في وقت تناوله، كما يحصل عند السفر أو أثناء الانشغال في العمل لساعات طويلة. وقد صنّف الباحثون عدم الالتزام إلى أسباب تتعلق بالمريض، أو بنوع المرض وشدته والأعراض المرتبطة به، أو بنوع الدواء وطريقة تناوله، أو تأثير المجتمع ونظرته، أو بنظام الرعاية الصحية المقدم.

الآثار العلاجية
من أهم الأمور التي لابد أن يدركها كل مريض أن عدم الالتزام بتناول الدواء قد يكون في أحيان كثيرة أشد خطورة من عدم العلاج أصلا لدى عديد من المصابين بأحد الأمراض المزمنة. فأجسامنا تتكيّف بعد فترة من العلاج الدوائي بشكل جيد للسيطرة على المرض وعدم تفاقمه، ولكنها تكون معتمدة على الدواء في ذلك لعدم قدرة الجسم وحده على السيطرة على أعراض المرض. وعند التوقف عن تناول العلاج لفترة قد تتراوح من يوم إلى أسبوع، فإن مضاعفات الأمــــراض ستظهـــــر بقوة، لأن الجسم أو العضو المعالج يكون فقد المسيطر الأساسي على المرض بشكل مفاجئ. وقد يؤدي ذلك لدى مرضى القلب مثلا إلى مضاعفات خطيرة تقود إلى دخول الطوارئ أو حتى الوفاة. 
كذلك الحال مع مرضى الربو، حيث تسجل كثير من حالات الدخول إلى أقسام الطوارئ نتيجة التوقف عن استعمال الدواء لفترة معينة. كما أن الوضع قد يسوء لدرجة كبيرة لدى المرضى النفسيين عند التوقف عن الدواء لفترة، ويحتاج ذلك لفترة طويلة للعودة إلى الحالة المستقرة التي قد تمتد إلى شهور. وقد يسرع ظهور المضاعفات عند المرضى المنقطعين عن الدواء لفترة كما يحدث مع مرضى السكري والكلى والأمراض المناعية. 
من ناحية أخرى، يمثل عدم الالتزام الدوائي والتوقف عن استعمال الدواء قــــبل اكــتمال الفترة العلاجية أهم أسباب حدوث مشكلة مقاومة المضادات الحيوية وبالتالي عدم فاعليتها. 
كما أن الانقطاع حتى ليوم واحد قد يكون كافياً لفشل العلاج كلياً لدى مرضى نقص المناعة، وكذلك الحال، فإن فاعلية منع الحمل من خلال الأدوية قد تفشل كلياً عند التوقف عنها ولو ليوم واحد.

الآثار المادية 
كما هو معروف أن العلاج هو من أكثر الأمور المكلفة مادياً في قطاع الصحة بشكل عام، وعلى الصعيد الشخصي بشكل خاص. لذلك، فإن عدم الالتزام قد يؤدي إلى هدر كبير في الموارد التي تصرف على أدوية الأمراض المزمنة، لأن تأثيرها بشكل أساسي ناتج عن استمرارية العلاج اليومي، وإن أي تغير في جدول العلاج بها قد يؤدي إلى فقدان فاعليتها، وبالتالي فقدان الفائدة منها. 
ومن المؤكد أن التوقف عن تناول العلاج - كما هو معروف - يؤدي إلى فقـــدان السيطرة على المرض، وبالتالي زيادة شدته، أو حصول المضاعفات المرتبطة به، التي تؤدي بشكل عام إلى زيادة المصاريف على المرض نفسه وعلاج مضاعفاته. كما أن هذه الزيادة قد تأتي بشكل غير مباشر من فقدان قدرة المريض على العمل والإنتاج وزيادة تكلفة الرعاية الصحية التي يحتاج إليها والوقـــت الذي يقضيه لغرض العلاج، وكذلك ما قد ينتج عن فقدان الشخص بسبب العجز والآثار المترتبة على ذلك أو الوفاة.
 
مشكلة مراقبة الالتزام الدوائي
تشير المصادر التاريخية إلى أن مشكلة الالتزام العلاجي عرفت منذ القدم، حيث تبين المصادر أن الطبيب اليوناني أبقراط أشار إلى أهمية الالتزام العلاجي في إحداث الأثر العلاجي في إحدى المخطوطات قبل ألفي عام. وفي عصرنا الحالي، فإن أول الدراسات المنشورة بدأت قبل ما يزيد على خمسة عقود من الزمن، وأشارت إلى وجود خلل كبير في الالتزام العلاجي. وبشكل عام، فإن هذه الدراسات لم تحدد سبباً معيناً أو شريحة محددة أو مرضاً ما ليكون مسبّباً لعدم الالتزام العلاجي، ولكن نتائج الخمسين سنة الماضية من الأبحاث تشير إلى أن الكل يساهم في مدى الالتزام العلاجي لدى المرضى. 
فقد يلعب مقدمو الرعاية الصحية من أطباء وصيادلة دوراً أساسياً في تحسينه، والعكس صحيح في حال عدم قيامهم بالدور المطلوب. كذلك، فإن على المريض مسؤولية مباشرة عن مدى التزامه، فهو الشخص المعني في الأول والأخير بهذا الأمر. كما قد تلعب الأسرة والمحيط الاجتماعي للمريض دوراً في تحسن مدى الالتزام العلاجي. وتلعب عوامل أخرى أدواراً متباينة لها تأثير مهم في مدى الالتزام، مثل معرفة المريض بالعلاج وإدراكه لكيفية السيطرة على المرض ونــوع وشدة أعراض المرض وأسباب أخرى لا يتسع المجال لذكرها. 
إحدى أهم المشكلات التي قد تواجه مقدمي الرعاية الصحية هي صدقية الطرق المستخدمة لقياس مدى الالتزام العلاجي لدى المرضى. هناك عديد من الطرق المباشرة وغير المباشرة التي تستعمل لمراقبة مدى الالتزام العلاجي، فمنها ما يعتمد على ما يذكره المريض من خلال استبيان أو مجموعة أسئلة توجه إلى المريض أو المسؤول عن رعايته، وهناك طرق أخرى تعتمد على مراجعة ملف المريض الطبي الدوائي ومراقبة مدى التزامه من خلال حصوله على الدواء. كما أن هناك طرقاً تعتمد على فحص عينة من دم المرضى الذين يتناولون دواء معيناً لمراقبة تركيز هذا الدواء وتحديد مدى التزام المرضى علاجياً. كما تطورت الطرق مع تطور وسائل الاتــــصال الحديــثة، وبدأ بعض مـــــقــــدمي الرعــــاية الصحية بتقديم خدمة متابعة أخذ الدواء عن طريق تطبيقات على الهواتف الذكية. وهناك طرق أخرى قد تستعمل بشكل محدد على بعض المرضى، كمراقبة تأثير الدواء بشكل أسبوعي لمعرفة مدى استجابة المريض للعلاج، أو عن طريق مراقبة مواد معينة في الجسم لتحديد مدى التزام المريض بالعلاج. 
لكن ما قد يقلل من استعمال هذه الطرق هو صدقية هذه الطرق أولاً، حيث هي أن إحضار الدواء من الصيدلية قد لا يعني أن المريض قد تناوله فعلياً. كما أن إجابات المرضى قد تكون غير مكتملة، وذلك لأسباب تتعلق بالنسيان والإحراج أو حتى الفهم الخاطئ لطريقة تناول الدواء أو لتجنب اللوم من الأطباء والمحيطين بهم. وقد يعمد بعض المرضى غير الواثقين بالعلاج الدوائي أو غير المقتنعين أو المدركين بإصابتهم بالمرض أو الذين لديهم خوف من العلاج الدوائي نتيجة الآثار الجانبية التي قد يعانون منها أو سمعوا بها، إلى عدم ذكر معلومات حقيقية لتجنب الإحراج أو الأسئلة المتعلقة بعدم التزامهم بالعلاج. الأمر الثاني هو التكلفة المادية والمجهود الذي قد يبذله المريض في حالات المراقبة عن طريق الدم أو متابعة تأثير الدواء بشكل يومي أو أسبوعي. 
وأشارت بعض الدراسات التي أجريت على العينة نفسها من المرضى وباستخدام أكثر من طريقة لمتابعة الالتزام الدوائي إلى وجود اختلاف في النتائج. ففي دراسة نشرت عام 2013 في مجلة مرض الصرع الأمريكية بعد فحص عينة من المرضى الأطفال المصابــــيــــن بالــــصرع، أشارت إلى أن مدى التزام المرضى اختلف بتنوع الطرق المستخدمة لجمع المعلومات. حيث سجلت طريقة السؤال المباشر للمرضى من الأطفال نسبة 82 في المائة، وسجلت نسبة سؤال أولياء أمورهم نسبة 94 في المائة، في حين سجلت طريقة التأكد من مدى التزامهم عن طريق فحص سجلات المرضى نسبة 80 في المائة ملتزمين علاجياً. كما بينت دراسات أخرى وجود اختلافات في مدى الالتزام باختلاف الطرق المستخدمة لفحص الالتزام العلاجي باختلاف المرض وطريقة العلاج، ما قد يبين أن أغلب الطرق المستخدمة لمراقبة الالتزام الدوائي قد تؤدي إلى نتائج متباينة. 

ضرب عصفورين بحجر واحد 
قد تكون هناك عديد من الطرق الحديثة ولكنها في الغالب ليســت بدقة عالية جداً لكونها قد تتضمن بعض المحددات التي قد تؤثر في نتائج التعرف على الالتزام العلاجي الفعلي. 
كما ذكرنا سابقاً، توجد طرق مباشرة تعتمد على تحليل مستوى الدواء في دم المرضى لمعرفة مدى تركيزه ومن ثم تحديد مدى الالتزام لديهم. لكن هناك بعض المحددات لهذه الطريقة، تتمثل في كمية الدم الواجب الحصول عليها، التي تتراوح بين 10و15 ملليجرام، وهي تحتاج إلى مختص لغرض سحب الدم، وكذلك وجود المريض في المختبر الطبي أو عيادة الطبيب لغرض الحصول على عينة الدم. وقد تكون غير مناسبة في أحيان كثيرة لبعض المرضى كالأطفال وكبار السن والمرضى المصابين بأمراض مستعصية مثل السرطان.
لكن باحثين في المملكة المتحدة يعملون على تطوير طريقة جديدة تسعى إلى معرفة كل المعلومات المتعلقة بتركيز الدواء في جسم المريض عن طريق قطرة من الدم توضع على نوع خاص من الورق وترسل عن طريق البريد إلى المختبر ليحدد تركيز الدواء في دم المريض باستخدام أدوات التحليل المناسبة، وبالتالي تحديد مدى التزامه العلاجي. 
وقد يضاف إلى هذه الطريقة إمكان الحصول على قطرات دم عدة لأيام مختلفة يمكن من خلالها متابعة مدى التزام المريض في أيام مختلفة. وكل ما يحتاج إليه المريض هو تعلم كيفية الحصول على قطرة دم من أصبعه ووضعها على الورق المصمم لهذا الغرض، ومن ثم ترك قطرة الدم لساعات عدة لتجف وإرسال العينة بالبريد إلى العنوان المطلوب. وعملية الحصول على قطرة الدم تشبه كثيراً ما يقوم به مرضى السكري عند فحص سكر الدم من خلال وخز طرف أحد الأصابع بإبرة صغيرة للحصول على قطرة دم لا يزداد حجمها في الغالب على 0.015 مل. يمكن لهذه الطريقة أن توفر صدقية كبيرة من حيث تحديد مستوى الدواء في الدم، وبالتالي معرفة مدى التزام المريض علاجياً، وكذلك تحديد ما إذا كانت هناك أسباب أخرى قد تعيق أخذ الدواء، مثل عدم قدرة الجسم على امتصاص الدواء أو طريقة تعامل الجسم مع الدواء. وقد طبقت هذه الفكرة فعلياً على عديد من الأدوية، وأثبتت قدرتها على تحديد عدد المرضى الملتزمين بأخذ أدويتهم بفاعلية.
وستقدم هذه الطريقة أداة مهمة يمكن من خلالها مراقبة مدى التزام المريض بالدواء وبالتالي تحديد هذه المشكلة وحلها قبل الشروع في إجراء أي تغيير على العلاج قد يكون أشد تأثيراً على المريض أو أكثر تكلفة مادية. كما قد تعمل مثل هذه التطبيقات على تطوير الرعاية الصحية من حيث زيادة الالتزام العلاجي الدوائي لدى المرضى وبالتالي زيادة السيطرة على الأمراض المزمنة.
سيبقى هدف تحسين الالتزام لدى المرضى قائماً في سبيل تحسين النتائج الصحية، ولكن الجهود في كل الأحوال لابد أن تكون موحّدة من قبل المريض والعاملين في مجال الرعاية الصحية وشركات الأدوية لتقديم الحلول لتبسيط طرق تناول الدواء ومراقبته، وزيادة وعي المرضى لتحقيق أفضل النتائج المرجوّة من العلاج والابتعاد عن أي مشكلات قد تؤدي إلى تدهور حالة المرضى وزيادة التكلفة المادية للعلاج ■