«أمي سميكة - سندريلا»... صياغات ثقافية متشابهة لوجدان إنساني مشترك*
كلنا سمعنا بسندريلا. بعضنا قرأ قصتها مصورة، في إحدى الطبعات الكثيرة المتنوعة لها - شخصيا كانت المكتبة الخضراء للأطفال مصدري - وبعضنا شاهدها فيلماً أنتجته ديزني، أو مسلسلا تلفزيونيا متعدد الحلقات، وكلنا رأى المنتجات الاستهلاكية المستوحاة من قصتها تملأ الأسواق. ولكن كم واحدا منا سمع عن سندريلا العربية؟ أو الخليجية؟ أو العمانية؟
هل روت لكم جداتكم قصة «بديحتي» العمانية، أو «يمه سميكة» الكويتية، أو «فاطمة الجميلة» السودانية، أو «برق» المغربية؟
هل فكرتم في المقارنة بين القصة العربية ونظيراتها في التراث العالمي؟ الدكتورة حصة الرفاعي من الكويت فعلت. هكذا حظينا بكتابها الشائق «أمي سميكة- سندريلا... دراسة مقارنة في الحكاية الخرافية».
هذا الكتاب ليس مجرد بحث تاريخي في الحكاية الشعبية – الخرافية، بل غوص حقيقي متعمق في أبعاد الحكاية الاجتماعية والثقافية والنفسية، إنه كتاب يمتلك الجرأة لاستنباط وشائج الصلة التي تجمع ما بين الحكايات في التراث العالمي، مدللا على وحدة الفكر الإنساني. توضح الرفاعي في مقدمتها فكرة تماثل التراث الإنساني: «الإنسان يعيش في ظل ظروف حياتية شبيهة، بعضها يتسم بالقسوة والمعاناة، وليس من وسيلة للتحرر من ذلك إلا بتخيل صورة العيش الأفضل. ولا مانع من أن يتحقق له ذلك عن طريق كائنات خارقة تملك القدرة على تغيير ذلك الواقع المزري في لمح البصر. ولكن ذلك التحول الخيالي من حالة إلى أخرى لا يكون إلا بموجب معايير ثابتة، أهمها التحلي بالأخلاق الفاضلة، والقدرة على تحمّل الشدائد والأهوال».
إذن فهناك حكايات «سندريلا»، وليست حكاية واحدة غربية، جمعت الرفاعي ما يربو على مئة وعشرين حكاية، بالإنصات إلى الحكاءات من النساء اللواتي توارثن الحكاية لأجيال، وأسمعنها للباحثة، وبالاستعانة بالأرشيف الخاص بموسوعة الحكايات الشعبية التابعة لأكاديمية العلوم بجامعة جوتنجن بألمانيا، ولعلها ليست مصادفة أن الأخوين وليم وجاكوب جريم اللذين أسس كتابهما عن الحكايات الشعبية هذا الاتجاه -كانا أستاذين في جامعة جوتنجن.
وعلى الرغم من التشابه المدهش بين «طرز» حكايات سندريلا، فإن الكاتبة تميل إلى الرأي الذي يرى أن الحكايات المتشابهة في التراث الإنساني التي تشيع في ثقافات كثيرة لا تجمعها بالضرورة علاقة مصدرية، فمن غير المجدي التشبث بوجود عن أصل واحد لها، كما حاول أن يفعل بعض القدماء، بل يمكن أن تتعدد أصولها وفقا للبيئة والظروف الثقافية، والأقرب إلى التصور وجود عناصر قصصية مشتركة تربط بين هذه الحكايات، ولكنها لا ترقى إلى درجة اشتقاق حكاية من أخرى.
يحفل الكتاب بنسخ عدة من حكاية سندريلا، من الشرق والغرب، تفجؤنا السمات الكثيرة المشتركة فيها. وتقارن الكاتبة في ما بينها استنادا إلى الطرز التي تنتمي إليها. كما تقارن القصص المختلفة من البرتغال واليونان واسكتلندا والمكسيك والهند والدنمارك والصين واليابان والتبت والمغرب والسودان ومصر والعراق ودول أخرى مع القصة الكويتية، مركزة على اختلاف سمات البطلة ومواقفها.
ولعل السؤال الذي يدور في أذهاننا ونحن نقرأ سندريلا وقصصا مثلها من الحكايات الشعبية هو: لماذا تموت الأم في كل هذه الحكايات وتلعب زوجة الأب الأدوار الشريرة؟ وكتاب حصة الرفاعي يحمل إجابات غنية لهذا السؤال، تتلخص في أن موت الأم ضروري لتعيش البنت تجاربها الخاصة، فموت الأم يعني انتفاء شخصيتها الإنسانية الإيجابية لتحل محلها شخصية غيبية تؤدي دورها تجاه ابنتها. فقد تذهب الأم (الإنسان)، وتبقى روحها لمساعدة ابنتها، وتفوق قدرات الأم (الروح) إمكاناتها الواقعية بكثير، بامتلاكها بعد موتها قدرات سحرية. ويعكس هذا التصور إيمان الإنسان بوجود قوة غيبية تنصفه من ظلم الواقع بعد مماته، وفي القصص الشعبي يوظف هذا المعتقد لخدمة الإنسان في الحياة الدنيا. كما أن موت الأم دال على انفصال الفتاة عنها، وعدم تشبهها بها على الرغم من بقاء الصلة الروحية بينهما، تلك الصلة المتمثلة في تقمص روح الأم ظاهرات طبيعية أخرى ذات قدرات خارقة. فهناك استمرارية لمساعدة الأم ابنتَها بعد موتها، وذلك عن طريق سلسلة التحولات التي تمر بها. ويكون هذا التمازج بين عوالم الكائنات مسألة مسلَّما بها في مجال الحكايات التي تعكس إيمان الناس بالجن وقدرته على التشكل.
أما سوء معاملة زوجة الأب ابنة زوجها، فما هو إلا مدخل لتحقــيق السعادة للثانــــية، فهي تتعلم مــــما يُسند إليها من أعمال وتعــــتــــمد على قوتها الذاتية التي يـــــرمز لها بمساعدات قوى مانحة من الكائـــــنات التي تعيـــــنها. بــــينمــا يكون موقف زوجة الأب المتســامح مع ابنتها ذا أثر سلبي، فتعتاد الكسل والخمول ولا تستمع إلى صوت دوافعها الذاتية فينتهي الأمر بكارثة.
ينفتح هذا الكتاب أيضا على عوالم «الشخصيات المانحة» في نصوص سندريلا.في بعض حكايات سندريلا الغربية تكون الشخصية المانحة بقرة أو خروفاً، باستثناء النص الفرنسي، حيث تكون عرابة جنية. أما في النصوص الصينية والعربــــية فالشخصية المانحة سمكة. كما تشير الكاتبة إلى نصوص سويدية وإيطالية تــكون فيها الشخصــــية المانحة سمكة كذلك، موضحةً أن بعض الباحثين يفترض وجود علاقة بين السمكة والعقيدة الطوطمية، لاشتمال الحكايات على بقايا معتقدات قديمة. فالعقيدة الطوطمية شجرة أو حيوان مقدس يُعدُّ الأصل السلالي الذي تحدرت منه القبيلة، فيُعبد ويحرم قتله وأكله. والسمكة أصل طوطمي وروح حارسة يجب الحفاظ عليها.
ونكتشفُ مع كتاب الرفاعي أن هناك اختلافات حتى في النهاية، فليست كل القصص تنتهي بالزواج، بل هناك قصص مركبة تمتد فيها الحكاية إلى ما بعد ذلك، إذ تتدخل زوجة الأب مرة أخرى، فتتدخل الشخصيات المانحة من الأسماك وغيرها، كما يحدث في قصتي البرق المغربية، وزوجة الأب الشريرة السودانية.
لقد تجاوز كتاب الرفاعي حدود الدراسة الوصفية إلى البحث المتعمق القائم على الوعي التام بمكونات الحكاية المحلية من جهة، والعناصر التي تربطها بنظائرها في التراث الشعبي العالمي من جهة أخرى، آخذا بعين الاعتبار أهم السمات البيئية التي شكلت وحدات القصة الجوهـــرية، واستمرت فاعلة على الرغم من انتــــقالها إلى بيئات جديدة. ونحن – في العالم العربي- بحاجة إلى مزيد من هذه الدراسات التي تكشف عن صياغات ثقافية متشابهة تحكم الوجدان الجمعي الإنساني .