إلى أن نلتقي

  إلى أن نلتقي
        

هؤلاء.. هم أيضًا آباء الثورة

          هي إذن ثورات عربية التحمت بتراب المكان، لتنسج شتيلة الأمل من أوراق خريف تساقطت زمنًا طويلاً من سنوات الاستبداد والانتظار، ثورات ترنو إلى تحقيق مواطنتها، بعد أن تغذت طويلاً على وعود الساسة، وبعد أن ربت الغرور والخلود في نفوس حكامها بتصفيقها الدائم وولائها القبلي وبتقبلها الرحب للظلم والقمع والاستبداد،  لكون النسق الثقافي العربي العام كرّس صورة الطاغية في فكرها، بشكل خلق نوعًا من العمى الثقافي والسياسي لديها، هي ثورات صنعها أفراد بلا أيديولوجيات ولا زعامات سياسية  أو ثقافية أو إعلامية أو فكرية، كانت أكثر خفّة في تونس لخفة سنوات الاستبداد، على مدى ثلاثة وعشرين سنة، وكانت أكثر دموية في ليبيا لطول سنوات السلطة، لأزيَد من أربعين سنة، فأضحت السلطة الليبية نرجسية وحالة مرضية استبدت بالحاكم، بشكل يستعصي معه العلاج.

          لكن يخطئ مَن يظن أن هذه الثورات الفردية وليدة فراغ أو خواء فكري وروحي، أو أنها ابنة شرعية للغابة الافتراضية فقط، بل هي ثورات رضعت من ثديي مواقف وحالات وأعمال ومشاهد لفنانين ومبدعين وإعلاميين وكتّاب ومثقفين أصحاب مواقف وقيم سامية، تماما مثل شخوص ميلان كونديرا، كما يقول عنها: «أشخاصي لا تولد من أجساد أمهاتهم، كما تولد الكائنات الحية، ولكنهم يولدون من حالة أو من جملة أو من استعارة تحوي في داخلها برعم احتمال إنساني صميم»، وتربّت على صدى صراخ المعتقلات والسجون والمنفى لأبناء حاربوا القمع، لكنهم لم يجدوا سوى القمع والتنكيل، هي ثورات ترعرعت على صوت نشرات أخبار يومية بمشاهد دموية مقززة لشهداء فلسطينيين وعراقيين.. يجعلوننا نبكي بدل الدمع دمًا، هي ثورات ارتشفت من رحيق أشعار أحمد فؤاد نجم وأغاني الشيخ إمام وأشعار مظفر النواب ومحمود درويش ومحمد الماغوط وحسب الشيخ جعفر..، وتفتح وعيها ومداركها على أفكار متنورة لمحمد عابد الجابري وغالي شكري وبرهان غليون وجورج طرابيشي ومحمد سبيلا..، هم أبناء تسريبات ويكيليكسية نشرت غسيلنا على حبال العالم، وكشفت عن شلال من التصريحات والتقييمات السرية المتخفية في كواليس العسكر والدوائر الأمنية الأمريكية، هم خلاصة أفكار ومواقف وحالات وتسريبات صنعت الثورة وشكّلت وعيها وضميرها الجمعي وشذبت أفكارها، هم أبناء أعمال إبداعية صودرت ومنعت، لكنها قرئت خلسة في الجامعات والمؤسسات وبعيدًا عن أعين الرقابة، أعمال تناولت استبداد الحاكم بشكل مجازي أحيانًا ومباشر أحيانًا أخرى، هم أبناء برامج إعلامية صادمة متنورة لإعلاميين لا يخشون في الحق لومة لائم.. هم أبناء قنوات أكثر تفتحًا وتحررًا ومهنية في كشفها عن الاختلالات الفكرية والسياسية والاقتصادية هم أبناء مواقف ملتزمة وجريئة، موقف خوان غويتيصولو الذي رفض جائزة القذافي العالمية للآداب سنة 2009، معلقًا: «كيف يمكنني أن أقبل بهذه الجائزة من شخص تولى السلطة عن طريق انقلاب عسكري سنة 1969؟ هذا مستحيل تمامًا»، هم أبناء أفكار لمثقفين وأدباء رفضوا بأنفة وعزة وكبرياء الانسحاق تحت سطوة الأيديولوجيا والتحول لبوق دعاية للسلطة، اكتفوا بالصمت والنفي، ولم يساهموا في نحت تماثيل الحكام في الشوارع كفزاعات لكل مواطن تهفو نفسه للحرية والعدالة.
----------------------------------
* كاتبة من المغرب.

 

 

 

إكرام عبدي*