فقــه المواطنـة!

فقــه المواطنـة!

ما حضّتْ رسالات السماء على أمرٍ – بعد الإيمان بالله - حضّها على التآلف، والأخوة، والمحبة. وما ندَّدتْ بشيء – بعد الإشراك - تنديدها بالاختلاف، والتناحر، والتنازع، والشقاق.
وقد استخلص العلماء من القصص القرآني أنَّ نهوض الأمم، وبناء الحضارات دعائمه روح المحبة والتعاون والإخلاص، وأنَّ من أسباب التدهور والانحطاط: التفرق، والتحزب، والتعصب البغيض. 
والمرء يتساءل - بحسرةٍ -: كيف تحول العالم العربي إلى بركانٍ مشتعل فوق أهله؟!
 كيف صارت «أرض الأنبياء، ومهبط الهدايات» مقبرةً جماعية، وجسراً من الجماجم، وبحراً من الدماء؟! 

ترى؛ مَن وراء هذا التناحر، والتنازع، والشقاق، والاختلاف الأهوج، والهوى الغالب الذي تطور وتضخم، وتعمقتْ أخاديده في القلوب، وتملَّكَ على الناس حواسهم وعقولهم، فنسوا المعاني الجامعة والكليات العامة، والغايات والمقاصد العليا لرسالات السماء، ونسوا أبجديات الخلق الإنساني؛ فاضطربتْ الموازين واختلَّتْ الرؤية، واختلطت الأوراق؛ فانتشر التفسيق والتكفير. وسقط ذلك «المريض» في هاوية التعصب الأعمى، وأظلمتْ الدنيا من حوله، فلا يرى إلا سواداً وظُلمة كالحة، انعكاساً لنفسيته المظلمة التي انطفأ فيها نور العلم، وخبت منها جذوة التعقّل!
   لقد احترقت الأوطان، وضاعت الأمة، بوحي من التعصب الأعمى، والمذهبيات المصطنعة، والطائفيات المفتعلة، التي تقطر سمّاً على الشعوب والجماعات!  
وإذا استمر هذا العوج النفسي، والانحراف الخُلُقي؛ فلا تنتظر إلا مزيداً من التراجع الحضاري، ومزيداً من الضمور الثقافي، والجدب العقلي، والشلل الفكري! 
   إنَّ مَنْ يطّلع على التاريخ لا يكاد يصدّق أنَّ هذا الخلف الطالح من ذاك السلف الصالح!
نعم؛ لا يصدّق أنَّ هذا الخلف الجامد المتحجِّر من ذاك السلف الحيّ المستنير! 
الغرب يعلم ذلك جـيداً، فاهتبل هذه الفرصة، واستخدم «حضرات المتعصبين» سلاحاً لمحاربتنا، ومعاول هـدم لاستنزافنا... ففريق يدَّعون المذهبية، وفريق يدَّعون اللامذهبية، وفريق ينتسبون إلى اليسار، وغيرهم ينتسبون إلى اليمين... وبين هؤلاء وأولئك تتبادل الاتهامات من التكفير والتفسيق والعمالة والخيانة، ونحو ذلك، مما لا يليق بإنسانٍ سويّ أن ينسب أخاه إليه بحال، فضلاً عن أن يعلنه على المنابر، وفي الصحف، وعلى الفضائيات... غافلين أوْ متغافلين أنَّ ما تتعرض له الأمة من محاولات استئصال أخطر من تلك الاختلافات!
إنَّ هؤلاء وهؤلاء في حاجة إلى من يردّهم إلى صوابهم، ويعيد إليهم عقولهم التي سلبتها منهم شياطين الإنس والجن على السواء!

التسامح والتعاطف جوهر الأديان
لقد شهد المؤرخون والقانونيون والباحثون والعلماء والفقهاء والأدباء – في مختلف العصور - على تسامح الأديان ورحمتها، ودعوتها للمحبة والتسامح والإخاء، وبُعدها عن التعصُّب والتنطُّع، وتحذيرها من سائر أشكال الكراهية والبغضاء. 
ففي هذا المعنى كتب فيلكس فارس مقالاً بعنوان «العيسوية والمحمدية» قال فيه: «أمَّا ديننا في مذاهبه السماوية الثلاثة، فهو واحدٌ من حيث الإيمان بالله، وباليوم الآخر، وما تختلف صلاةُ الموسوي عن صلاة العيسوي والمحمدي، وكلهم لا يرى في دينه ما يأمر بمُنكر، أو ينهى عن معروف... وأيُّ خلافٍ يمكن أن ينشأ بين ساجِدَين خاشِعَين يرتفعان بالروح إلى الدائرة التي تضمحل فيها أهواء الإنسان، وسفاسف الحياة؟ بل أيُّ مُوَحِّدٍ لله يُشرك بوحدة الإنسانية، دون أن يصبح مُشركاً بالله؟  لقد أبي الله أن يكون ما أنزل من وحي للناس مصدراً لشقاء الناس، ولكنَّ الأديان لم تسلم في تنظيمها للحياة من شوائب المدنيات، التي أرادت إصلاحها؛ فإنَّ تلك المدنيات لم تنقرض دون أن تترك للمجتمع ميراثاً ثقيلاً من ترهاتها»!
وفي قصيدة رائعة، يقول الشاعر اللبناني حليـم دَمُّـوس:
لعمركَ ما الأديانُ إلا نوافذ
 ترى الله منها مقلةُ المتعبّد
فألمحُ في القـــرآن عيسى بن مريم
وأشهدُ في الإنجيــل روح محـمـد!
ويحكي التاريخ أن المسلمين والنصارى واليهود العرب كانوا على قلب رجلٍ واحد في مختلف الأزمات الاقتصادية والسياسية التي عصفت بالأمة... بلْ إنهم جميعاً شاركوا في صناعة الحضارة الإسلامية في عصرها الذهبي!
ففي «مصر» عندما انخفض منسوب نهر النيل، اشترك «المسلمون والنصارى واليهود» في إقامة الصلوات والدعاء بجامع عمرو بن العاص، ابتهالاً إلى الله تعالى لنزول الغيث العميم، وحضر المعلم «غالي القبطي» ومعه جماعة كبيرة، من الأقباط وجلسوا في ناحية من المسجد للدعاء!
واستمع إلى ما قاله المؤرخ ابن عبدالحكـــم في كتابه «فتوح مصر وأخبارها»: «مَن أراد أن يذكر الفردوس أوْ ينظر إلى مثلها في الدنيا؛ فلينظر إلى مصر حين تخضرُّ زروعها، وتنمو ثمارها... وإنَّ قِبط مصر أكرم الأعاجم كلها، وأسمحهم يداً، وأفضلهم عنصراً».
بلْ إنَّ المؤرخ محمد بن أبي السرور البكري الصديقي أورد في كتابه «الكواكب السائرة في أخبار مصر والقاهرة» ثمانيةً وأربعين سبباً في تفضيل مصر أرضاً وأهلاً على غيرها من بلاد الدنيا، فقال عن أقباطها: «إنهم من ذرية الأنبياء عليهم السلام».
 وقد شهد المؤرخ القبطي حنا النيقوسي على سماحة المسلمين العرب الفاتحين؛ فقال: «ولكن عمرو بن العاص لم يأخذ شيئاً من ممتلكات الكنائس، وكذلك لم يرتكب عملاً من أعمال السلب والنهب، بلْ قام بحمايتها طوال ولايته على مصر».
وفي هذا الصدد يقول الرحالة فانسلب إنه «رأى على جدران الكنيسة المعلَّقة - بمصر القديمة - عهداً كتبه عمرو بن العاص بيده لحماية الكنيسة، وهو يلعن من يسعى من المسلمين إلى حرمان القبط منها»!
وقد أظهر تقرير جون بوزنج - المبعوث الإنجليزي إلى وزير الخارجية البريطاني في عام 1837م - مدى الوفاق والتقارب بين المسلمين والأقباط في مصر، فقال: «إن ثمَّة شيئاً من التعاطف بين القبط وأبناء العرب - يقصد المسلمين- لِما يتحلَّون به من حسن العشرة، وحب السلام، والفطنة والذكاء، ولا يكاد يوجد بينهم وبين النازحين من الأوربيين أيُّ اختلاط، ولا يُعرف عن عاداتهم المنزلية إلا القليل، شأنهم شأن المسلمين، فالحجاب مضروب على نسائهم، كما هو مضروب على نساء المسلمين... وإن التسامح قد خطا خطواتٍ فسيحةً، وإن الفوارق بين المسلمين والمسيحيين آخذةٌ في الاختفاء، وإن المسيحيين يرقَون إلى أرفع المناصب في الدولة، ولا يوجد من يتعرَّض لأقل مضايقة بسبب عقيدته... وإذا ظلَّت الأمور تجري على هذه السنن، فستنقطع هجرة الترك بعد سنواتٍ قليلة، انقطاعاً يكاد يكون تاماً، وتؤول مقاليد السلطة إلى الوطنيين وحدهم، مسلمين أو مسيحيين»!
وقد سجَّل جورج يونج في كتابه عن مصر في القرن التاسع عشر أنه: «لا توجد في مصر تفرقة طائفية ضد الأقباط، من تلك التي عانت منها الأقليات الضعيفة في أوربا. وأن الكتاتيب مفتوحة للأقباط لكيْ يتلقوا فيها تعاليم دينهم، وأنه في الأقاليم التي تزيد فيها نسبة الأقباط كانت الحكومة تُقَدِّم للمدارس القبطية إعانات لها أثرها. وعندما لا يتمكن الأقباط من الوصول إلى المجالس النيابية المحلية، كان يتم ضم عددٍ منهم بالتعيين إلى هذه المجالس. وأنه منذ قرونٍ لم يحدث اضطهاد لهم... وأن تاريخ الأقباط يكشف عن أنهم عانوا ضيماً من أهل ديانتهم المسيحيين الأرثوذكس أو الكاثوليك، ولم يعانوا من أهل وطنهم المسلمين... وأنه من المثير للفضول أن يُلاحَظ أن العلاقة بين العنصريْن أوثق ما تكون في المناسبات الدينية؛ إذْ يبني الأقباط مساجد المسلمين، كما يُعيد المسلمون بناءَ الكنائس القبطية، ويشترك الشيوخ والقساوسة في الاحتفالات الدينية، وما بقي من مظاهر الديانات القديمة، مثل عبادة النيل. ويذهب المسلمون والأقباط إلى زيارة الأضرحة ذاتها للأولياء والقديسين المحليين، ويتناقلون الأقاصيص ذاتها، ويهزجون بالأغاني ذاتها، ولهم الفضائل عينها، والصفات ذاتها، ووجهات النظر ذاتها عن الحياة»!
وفي شهادةٍ قوية يعترف آدمون رباط في بحثه «المسيحيون في الشرق» بأنه: «للمرة الأولى في التاريخ انطلقت دولة، هي دينية في مبدئها، ودينية في سبب وجودها، ودينية في هدفها، ألا وهو نشر الإسلام عن طريق الجهاد بأشكاله المختلفة، من عسكرية وتبشيرية، إلى الإقرار في الوقت ذاته بأن من حق الشعوب الخاضعة لسلطانها أن تُحافظ على معتقداتها، وتقاليدها، وطُرُز حياتها، وذلك في زمنٍ كان يقضي المبدأ السائد بإكراه الرعايا على اعتناق دين ملوكهم، بل حتى على الانتماء إلى الشكل الخاص الذي يرتديه هذا الدين... كان لابدَّ إذن لهذه السياسة الإسلامية المتحدرة عن القرآن الكريم من أن تُسفِر عنها نتيجتان حاسمتان، ما لبثت آثارهما ماثلةً في الشعوب العربية، وهما قيام الطوائف المسيحية، على أساس الطوائف من جهة، ودخول سُكّان الأقطار التي فتحها العرب في دين الإسلام من جهةٍ أخرى!».
وقد خاطب رفاعـة الطهطـــاوي الشعب المصري بجميع طوائفه وعناصره للمّ الشمل تحت راية الوطن الواحد، قائلاً: «فليكن الوطن مكان سعادتنا أجمعين، نبنيه بالحرية والفكر والمصنع»!
وعندما أُشيع أن البطريرك كيرلّس الرابع يطلب إعفاء أقباط مصر من الخدمة العسكرية في زمن الخديوِ سعيد باشا، قال صراحةً وبكل وضوح ووطنية: «البعض يقول إني طلبتُ من الباشا أن يُعْفِي أولادنا القبط من الخدمة العسكرية؛ فحاشا للهِ أن أكون جباناً بهذا المقدار، فلا أعرف للوطن قيمةً، أو أفتري على أعزِّ أبناء الوطن بتجريدهم من محبة أوطانهم، وعدم الميل لخدمته حق الخدمة، والمدافعة عنه، فليس هذا ما طلبتُ، ولا ما أطلبه»!
وفي إحدى خُطَبه عام 1897م، قال الزعيم مصطفى كامل: «إنَّ المسلمين والأقباط شعبٌ واحد، مرتبط بالوطن، والعادات، والأخلاق، وأسباب المعاش، ولا يمكن التفريق بينهما»!
وفي صحيفته «الأستاذ» كتب عبدالله النديم: «إنَّ الإخاء طبيعة في الأمة الواحدة، فطرة فيها، فقد ثبت أن الأمة المصرية من دمٍ واحد، وجنسية واحدة، وصورة واحدة، يصعب معها على الأجنبي أن يميز بين القبطي والمسلم»!
بلْ إنَّ أحمد ماهر باشا، عندما أصبح رئيساً لوزراء مصر، أصدر بياناً، جاء فيه: «إنه لم يكن لنا في جهادنا دعامة أقوى من دعامة الاتحاد... وهي قضية رسمناها في صدر جهادنا، وهي الدين لله، والوطن للجميع. فالأقباط هم بُضـعةٌ منا، يؤلمنا ما يُؤلمهم، ويسرنا ما يسرهم، لهم ما لنا، وعليهم ما علينا».
وقد شهد الإمام محمد عبده لوطنية الأقباط في الثورة العرابية، فقال: «هل يقدر أحد أن يشك في كون جهادنا وطنياً صرفاً بعد أن آزره رجال من جميع الأجناس والأديان، فكان يتكالب المسلمون والأقباط واليهود لنجدته بحماسٍ، وبكل ما أوتوا من حولٍ وقوة...»؟
ويقص القمص باسيلي قصة المعلم جرجس الجوهري - عميد الأقباط- أثناء الحملة الفرنسية على مصر، فيقول: «لقد زادت علاقات التراحم والود، في العصور القريبة، بين الأقباط والمسلمين، حتى إن المعلم جرجس الجوهري كان يحتفل بقدوم شهر رمضان، مشاركةً منه لإخوانه المسلمين، ويسجِّل له التاريخ أنه كان يُعطي العطايا، ويُفرِّق على جميع الأعيان الشموع والسكر والأرز والكساوى، والبن، ويعطي ويهب»!.
ويشهد القمص بولس باسيلي قائلاً: إنَّ الذي علّمني الوطنية الحارّة الزعيم أحمد حسين في حركة مصر الفتاة، عندما كنت سكرتيرَ شُعبتِها في حي شبرا.

شهادات حول فقه المواطنة
ليس هذا فحسب؛ بلْ تعالوا بنا نستمع إلى شهادات نفر من النوابغ والعباقرة والفلاسفة في العصر الحديث – باختلاف معتقداتهم - لنتعلم منهم «فقه المواطنة»، ومبادئ الأخوة، ونستلهم منهم الحكمة وفصل الخطاب، كيْ نطفئ تلك النيران المشتعلة هنا وهناك! 
فقد كتب الفيلسوف القبطي د. نظمي لوقا قائلاً: «الأمة مرجعيتها واحدة، وهي الإسلام، من تراث وعقائد وأصول. والأساس هو أن يكون للأمة مرجعية واحدة؛ فإذا كانت الأمة إسلامية فمرجعيتها الإسلام، وإذا كانت كونفوشيوسية؛ فمرجعيتها الكونفوشيوسية. إنَّ أغلبية الأمة مسلمون، والمطلوب هو توجيه الجهود للعمل مع الأغلبية، التي لاتزال مرجعيتها التاريخية، على تراثها الحضاري، وعلى عقيدتها، وإن كانت المرجعية الإسلامية هي مرجعية الجميع، تنته المشكلة. فالمطلوب، هو أن يكون مشروعنا حضارياً، من حضارتنا، وحضارتنا إسلامية؛ فالمطلوب أن يكون الإسلام هو المرجعية العامة للجميع».
وأكد الزعيم الوفدي مصطفى النحاس هذه الحقيقة بقوله: «إن رصاص الإنجليز لم يُفَرِّق في سنوات الكفاح من أجل الحرية والاستقلال بين مصري مسلم، ومصري قبطي؛ فلا مجال للتمييز بينهما في سنوات الحكم وجني الثمار»!
وكتب الزعيم القبطي مكرم عبيد باشا سنة 1939م، يقول عن الجامعة الوطنية: «المصريون عرب... والوحدة العربية من أعظم الأركان، التي يجب أن تقوم عليها النهضة الحديثة، في الشرق العربي... إنها حقيقة قائمة وموجودة، ولكنها في حاجة إلى تنظيم لتصير أوطاننا جامعة وطنية واحدة».
وأكد مكرم عبيد تزامل العروبة والإسلام في تشكيل هوية الشرق، بكل أبنائه ودياناته: «نحن مسلمون وطناً، ونصارى ديناً، اللهمَّ اجعلنا نحن نصارى لك، وللوطن مسلمين»!
وقال المفكر القبطي أنور عبدالملك: «منذ الفتح العربي الإسلامي دخلنا بالتدريج في إطار دائرة أسميناها، منذ إنشاء جامعة الدول العربية سنة 1945م، الدائرة العربية، ولكنها في الواقع هي دائرة الحضارة الإسلامية... فالإطار الحضاري للإسلام يشمل المرحلة القبطية، أيْ المسيحية المصرية، كما أن لغتنا هي العربية، لغة القرآن».
وقد شهد الأنبا موسى - أسقف الشباب بالكنيسة الأرثوذكسية المصرية - بحقيقة الوحدة الوطنية، والهوية الحضارية الإسلامية الجامعة لنسيج الأمة، فقال: «من جهة الهوية العربية، نحن مصريون عِرقاً، لكن الثقافة الإسلامية هي السائدة الآن. لقد كانت الثقافة القبطية هي السائدة قبل دخول الإسلام، وأيّ قبطي يحمل في الكثير من حديثه تعبيرات إسلامية، يتحدث بها ببساطة، ودون شعور بأنها دخيلة عليه، بل هي جزء من مكوناته. نحن نحيا بالعربية، لأنها هويتنا الثقافية، ومقتنعون بالطبع بأن فكرة العروبة فكرة سياسية، واقتصادية، وثقافية، بالإضافة إلى وحدة المصير المشترك. ومصر دائماً دولة مسلمة، ومتدينة، ولكن من دون تطرف! ونحن نرفض المسيحية السياسية، لأن السيد المسيح  -  - قال: «مملكتي في السماء». ولو حدثت المسيحية السياسية، فستصبح انتكاسة على المسيحية»!
وأعلن الأنبا يوحنا قلتة -نائب البطريرك الكاثوليكي بمصر - انتماء المسيحيين الشرقيين إلى الحضارة الإسلامية، وفخرهم واعتزازهم بهذا الانتماء، فقال: «أنا مسلم ثقافةً مائةً في المائة، وكلنا مسلمون حضارةً وثقافة، أنا عضو في الحضارة الإسلامية، كما تعلمتها في الجامعات المصرية... تعلمتُ أن نبيَّ الإسلام سمح لمسيحيي اليمن أن يُصلُّوا صلاة الفصح في مسجد المدينة... إنها الحضارة الإسلامية، التي تجعل الدولة الإسلامية تحارب؛ لتحرير الأسير المسيحي... والتي تُعلي من قيمة الإنسان كخليفة عن الله في الأرض... وإنه ليشرفني، وأفخر أنني مسيحي عربي، أعيش في حضارةٍ إسلامية... وفي بلدٍ إسلامي، وأُساهم وأبني مع جميع المواطنين، في هذه الحضارة الرائعة»!
وكتب د. غالي شكري عن الهوية الحضارية الإسلامية الواحدة للمصريين، يقول: «إن الحضارة الإسلامية هي الانتماء الأساسي لأقباط مصر... وعلى الشباب القبطي أن يُدرِك جيداً أن هذه الحضارة العربية الإسلامية هي حضارته الأساسية... إنها الانتماء الأساسي لكل المواطنين، صحيح أن لدينا حضارات عديدة، من الفرعونية، إلى اليوم، ولكن الحضارة العربية الإسلامية ورثت كل ما سبقها من حضارات، وأصبحت هي الانتماء الأساسي، الذي من دونه يصبح المواطن في ضياع... إننا ننتمي- كعرب من مصر- إلى الإسلام الحضاري والثقافي، ومن دون هذا الانتماء نُصبح في ضياع مطلق... وهذا الانتماء لا يتعارض مطلقاً مع العقيدة الدينية... بالعكس، لأنَّ الإسلام وحَّد العرب، وكان عاملاً توحيدياً للشعوب والقبائل والمذاهب والعقائد»!
ويؤكد القمص بولس باسيلي في كتابه «الأقباط وطنية وتاريخ» وحدة النسيج الوطني المصري، المسيحي والمسلم قائلاً: «إن أعظم الصروح التي بُنيتْ عليها مصر، منذ آلاف السنين، صرح الوحدة الوطنية، إنها الصخرة التي ناطحتها الجبال، وصارعتها الفِتن، وعركتها الأحداث، وأقوى المحن، ولكنها ظلت صامدةً راسخة، لأنها وحدة بنيت على الوفاء والحب، والحب خالدٌ لا يفنى، لأنه صفة من صفات الله عزَّ وجلَّ، فعلى مدى الأجيال المتفاوتة والأقباط يتعايشون بالحب مع إخوانهم المسلمين».
وقد وصف هذه الروح الجميلة من الحب والتسامح الأنبا غريغوريوس، فقال: «إننا نؤمن أن صلة المصريين بالله تعالى - أصل كل علم ومعرفة وهدى - صلة عريقة ممتدةٌ جذورها في أعماق الزمن... إننا شعبٌ واحد، وعائلة واحدة، ننتمي إلى أرضٍ واحدة، ونشرب من نيلٍ واحد، ولنا وجدان ديني واحد»!
ويقول د. ميلاد حنا، في كتابه «نعم أقباط ولكن مصريون»: «الأقباط موجودون جنباً إلى جنب مع أشقائهم المسلمين، في كل مكان وموقع... ويمثلون كل أنواع الثقافة والتعليم».
وشهد الكاتب الإسلامي فهمي هويدي بأن: «موقف الكنيسة القبطية في مصر دائماً ظل مُشرِّفاً، وفوق أيّ شبهة»!
 وقد عبَّر البابا شنودة الثالث تعبيراً صادقاً عن هذه الوحدة العضوية بين الطرفين، عندما قال: «لقد عشنا أزيد من أربعة عشر قرناً من الزمان، في أُلفةٍ ومحبةٍ وتعاون، فامتزجنا واندمجنا، واتحدنا، وصار لنا شكل واحد، ولغة واحدة، ولهجة واحدة، فضلاً عن المصير الواحد... إننا نحمل جميعاً في مصر لقباً واحداً، هو أننا مصريون، بانتماءٍ واحدٍ، فإن الدين لله، والوطن للمصريين جميعاً، بلا تفرقة»!
ويؤكد الناقد أحمد رشدي صالح - مؤرخ الأدب الشعبي - أن الأدب القبطي العامي واللغة الدارجة القبطية مازَجَا الأدب العربي، واللهجات العامية العربية، واستوى في ذلك مزاج عربي قبطي، أو قُلْ استوى مزاج قبطي عربي... كذلك حدث تزاوج بين الروح الإسلامية والفن القبطي في مصر.
* *  *
الحق أقــــول: الحديث ذو شجون، فكل قصة تهتف بقصة، وكل حكاية تأخذ بتلابيب حكاية... حسبنا أن نعلم أنَّ اختلاف المعتقدات لا يدعو إلى التقاتل والتباغض، بلْ وسيلة للتنوع المعرفي، والتلاقح الثقافي؛ أشبه ما يكون بالرياح التي تهبُّ على البحيرة، فلا تأسنْ مياهها.  
وقد عبّر جــــبران خليل جبران عن روح التعايش مع أهل المِلَل والأديان، موجِّهاً نداءً للبشرية، للإخاء الإنساني قائلاً للآخر أياً كان: «أنت أخي، وكلانا ابن روح واحد قدوس كلي، وأنت مماثلي، لأننا سجينا جسدَين جُبِلا من طينةٍ واحدة، أنت رفيقي على طريق الحياة، أنت أخي وأنا أُحبك، ساجداً في جامعك، راكعاً في هيكلك، مُصلِّياً في كنيستك؛ فأنت وأنا ابنا دينٍ واحد هو الروح»!
ويقول جـــبران عن الدِّين: هو ما أنار القلب، ومتى كان ضمير جاري كنور الشمس حياً نقياً، وقلبه كوردة تتفتح في الفجر لتستقبل ندى السماء، فلا فرق إذْ ذاك عندي إنْ ذُكِر بين الدراويش أوْ سجد مع اليسوعيين، أوْ اغتسل في نهر الكنج مع البوذيين»! 
وما أجمل ما قاله د. طه حسين في هذا الصدد: «لعلَّ الاختلاف بين المسلمين والمسيحيين في الدِّين أشبه بالاختلاف الذي يكون بين الأنغام الموسيقية؛ فهو لا يُفسِد وحدة اللحن، وإنما يقويها ويزكِّيها ويمنحها بهجةً وجمالاً»!.