«إرَم» ذات العماد ... موطن قوم عاد

«إرَم» ذات العماد ... موطن قوم عاد

اختلف المؤرخون والجغرافيون في موقع الأحقاف، وهو موطن قوم عاد، إلا أنّ أغلبهم قد حدّد أنّ أرض اليمن كانت لهم موطناً، بين حضرموت وعُمان والربع الخالي، وهي اليوم أرض قاحلة. وقوم عاد من أقدم القبائل العربية، وهم من أطلق عليهم المؤرخون «العرب البائدة».

كان أول ملوكهم عاد بن عَوْص بن إرَم بن سام بن نوح عليه السلام، ثم جاء بعده ابنه البِكر شديد، ثم مُلّك أخوه شدّاد بن عاد، وهو الذي بنى مدينة «إرَم»، لتكون عاصمة الدولة بعد الأحقاف. وعلى الرغم من أنّ الله تعالى قد أورد لقوم عاد ذكراً في القرآن الكريم، فإنّ كثيراً من الأساطير قد نُسجت من لدن الإخباريين، قصّاص ومؤرخين، السبب الذي اختلطت فيه الحقيقة بالخيال، وأحاطت الخرافة بواقع الماضي حتى جعلت التصديق به صعباً. الأمر الذي جعل الباحث في هذا الموضوع يكتفي بما ورد ذكره في القرآن الكريم وكتب التفاسير، تلك الكتب التي استند فيها المفسرون إلى ما ورد في كتب التاريخ، من دون تحقيق أو تمحيص. ولنعلم بأنّ القرآن الكريم هو كلام الله المُنزَّل على سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم) عن طريق جبريل عليه السلام، وهو كتاب هداية وعظة يدعو إلى الإيمان، لا نستطيع أن نُحَمِّل نصوصه علوماً ليست ثابتة، كالتاريخ والجغرافيا أو الطب أو العلوم الطبيعية الأخرى، حيث إن الأساس الذي انبنى عليه القرآن الكريم هو «اليقين»، واليقين ثابت لا يتغير، أما العلم فيقوم أساسه على الشكّ، تجربة ومشاهدة واستنتاجاً، كوسائل للوصول إلى الحقيقة، أي إنّه متغير وغير ثابت. ولكننا –على الرغم من ذلك- نستطيع أن نستنبط من آيات القرآن الكريم ما يفيد الرواية، من دون معارضة أو مخالفة للنص القرآني. إنّ اليقين الذي نستطيع أن نبني عليه المعلومات الأكيدة عن قوم «عاد» هو ما ورد ذكره في القرآن الكريم مرّات عديدة، بأنّ زمانهم كان بعد طوفان سيدنا نوح عليه السلام ووفاته، وقبل صعود نجم قوم ثمود {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} (سورة الأعراف: 69). كما يضيف القرآن الكريم من ضمن آياته، أنّ الله تعالى قد أعطى قوم عاد قوة في حاستي السمع والإبصار، إضافة إلى القدرة العقلية في التفكير والتحليل {وجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} (سورة الأحقاف: 26). كما أنعم الله عليهم بقوة وضخامة بالأجسام، {وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً} (سورة الأعراف: 69)، فكانوا بتلك القوة على جميع القبائل المجاورة لهم. واستطاعوا من خلال قوة وصحة أجسامهم تلك، بناء عمران فريد، لم يسبق لقوم من قبلهم أن اتخذوا مثله بناء، حيث شيّدوا بيوتهم ومبانيهم بطريقة هندسية عظيمة، وذلك باتخاذ أعمدة داعمة تسند ضخامة بنيانهم، ما ميّز مدينتهم عن بقية المدن، {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ}  (سورة الفجر: 8). إنها مبانٍ ذات عماد، تقام عليها أسقف ماكنة مستقرة، لم يكن الإنسان قد عرف مثلها من قَبل ذلك في أي عمران. كما استطاعوا حبس مياه الأمطار في حُفَرٍ ذات حوائط عازلة، يسميها العرب، وأهل اليمن خاصة «المصانع»، وبها سقوا الزرع والضرع، {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ}(سورة الشعراء: 129). ورغم ما أنعم الله عليهم به من رجاحة العقل وحُسن التفكير، عبَد قوم عاد الأصنام، وجادلوا بغير الحقّ نبي الله هوداً عليه السلام في عبادتهم، ولم يؤمن به من القوم إلا قليل. وكان أشهر أصنامهم: صمود وصداء والهباء. وفي «مروج الذهب/ج2»: ص145-146»، يذكر المسعودي ما يلي:
«إلا أنّ القوم دخلت عليهم شُبَه بعد ذلك لتركهم البحث واستعمال النَّظَر، ومالت نفوسهم إلى الدّعة، وما تدعو إليه الطبائع من الملاذ والتقليد، وكانت في نفوسهم هيبة الصانع، والتقرب إلى الله بالتماثيل وعبادتها، لظنهم أنها مُقرّبة لهم إليه»... وفيهم يقول مَرْثد بن سعد:
عصت عاد رسولَهُمُ فأمسوا
عِطاشاً لا تَبُلّهم السماء
ألا قبّحَ الله حُلُوم عادٍ
فإنّ قلوبهم قفْرٌ هواء
لهم صنمٌ يقال له صمود
يقابله صداء والهباء
كان الجفاف أوّل نذير لقوم عاد، حيث أمسكت السماء ماءها عن إرم ذات العماد، وذهبت صلوات أهلها وقرابينهم لآلهتهم سدى. ورغم ما أحاط بهم من الأذى والعنت، لم يستجيبوا لدعوة نبي الله هود عليه السلام، الذي أشار عليهم بالتوبة والرجوع إلى الله الواحد الأحد، لينفك عنهم عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، بل استكبروا وكذَّبوه، {قَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} (سورة الأنعام: 29). 
دعاهم خيفة لله هود 
فما نفع النذير ولا أجابوا 
فلما أن أبوا إلا عتواً 
أصابهم ببغيهم العذاب
فلما أيقن هود عليه السلام بكفرهم، وأن لا رجوع لأحد منهم إلى الله، تركهم بعد أن حذَّرهم بعذاب من الله شديد. صحب هود عليه السلام أهله والمؤمنين بدعوته مرتحلا عن «إرم» إلى الحجاز، فأرسل الله عليهم ريحاً عاصفة {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} (سورة الذاريات: 41)، فلما رأوها من بعيد استبشروا بالمطر فقالوا: {هذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا} (سورة الأحقاف: 24)، فقال لهم هود عليه السلام: {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ  رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ}(سورة الأحقاف: 24). استمرت الريح الجافة الحارقة ثمانية أيام، بغبارها وحرارتها لتجفف ما تبقى من مياه المدينة وتخنق أنفاس سكان «إرم». قيل إن تلك الريح كان لها صفير مزعج، مؤذٍ ومتواصل من دون توقف، وهذا قد أفقد القوم حسَّهم وتفكيرهم، ما أدى إلى اضطرابهم، ومن ثم هلاكهم، حتى أصبحوا كجذوع نخلٍ خاوية. وقيل إنّ تلك الريح أتتهم يوم الأربعاء وزالت في اليوم التالي، لذلك كره العرب يوم الأربعاء، وعدوه يوم شؤم.