ڤيتنام سيِّدة البَحر

ڤيتنام سيِّدة البَحر

في عام 960 م وُلدت الفتاة ماتسو لين في مقاطعة فوجيان الصينية، لتعيش حياة قصيرة امتدت 27 ربيعاً وحسب. بعد وفاة ابنة عائلة لين، أصبحت ماتسو أسطورة يتبرَّكُ بها الملايين. كانت ماتسو تسعد بمراقبة القادمين من البحر، وكأنها تبارك عودتهم سالمين، وهي ترتدي زيها الأحمر. بل ويذكر مؤرخو طريق الحرير البحري أنه بين عامي 1119م و1126 م، وقع البحَّار لو يوندي في أيدي عاصفة خطرة أثناء رحلته إلى كوريا، ولكن روح ماتسو، كما روى، هي التي أنقذته. وهكذا أصبحت ماتسو أيقونة يتذكرها البحَّارة الصينيون في الموانئ التي تقصدها سفنهم، قبل أن يتحول ذكرها إلى تقديس فتُبنى لها المعابد على سواحل بحر الصين، حتى بلغت 1500 معبد في 26 بلداً، تبدأ بالصين وتنتهي في أستراليا وتمر بماليزيا وهونج كونج واليابان والماكاو وميانمار والفلبين وسنغافورة وتايوان، بل والولايات المتحدة! 

في القرن التاسع عشر، شيَّد أبناء مدينة كولون، المهاجرون إلى ڤيتنام الحالية، وكانت تابعة لكانتون الصينية، معبداً للسيدة ماتسو أسموه تيان هاو، وهي ترجمة حرفية لاسمها الصيني: سيدة البحر، يقع الآن في الحي الخامس (الحي الصيني)، بقلب مدينة هو تشي منْهْ، سايجون سابقاً، عاصمة الجنوب الڤيتنامي. 
حين دخلنا ذلك المعبد كانت هناك امرأة تشعل زوجاً من الشمع الأحمر الذي لايزال يحمل اسم سيدة البحر بالحروف الصينية؛ ألفباء اللغة التي عاشت هنا ألف عام قبل أن تستبدل بها الأبجدية اللاتينية الهجينة الحالية. 
تقدمت السيدة من خادم المعبد فاشترت ورقة وردية داكنة ومستطيلة، منقوشة عليها أسماء وأدعية بالحروف الصينية، أعطاها الرجل قلماً لتسجل أمنياتها، وأخبرنا دليلنا الشاب «كان» بأن الأمنيات ستتحقق خلال أسبوع من تدوينها!
بعد تسجيل الأمنيات، توجهت السيدة إلى علبة بها عود طويل من البخور مدور على هيئة الدوامة، أصبح يشبه المخروط حين أخرجه الرجل من مكمنه، وثبت الأمنية برأسه، وأشعل ذيله، وبدأ خيط دخان البخور يتسلل إلى الهواء قبل أن يرفعه إلى سقف المعبد بعصا أُعدت لذلك الغرض. سيستمر دخان البخور حياً مدة أسبوع، تنضج عليه الأمنيات حتى تتحقق، لكن الفتاة بعد أن أنهت طقس الشعائر اتجهت لتبدأ طقس الحياة، فقد تركت الأمنيات لسيدة البحر، أما هي فعليها أن تواجه الواقع، وضعت خوذتها على رأسها، وركبت دراجتها النارية، وانطلقت إلى عملها. ما حدث أمامنا يوجز صورة الحياة في ڤيتنام؛ يقدس المواطنون في المعابد عاداتهم وتقاليدهم، ويمارسون خارجها، بجد كبير وود أكبر وهمة لا تضاهى، أعمالهم وأشغالهم. 

ملايين الدراجات والبشر
الشارع المزدحم في «هو تشي منْه» قد يذكرك بحواضر كالقاهرة. فالمدينة يسكنها عشرة ملايين نسمة، وربما يبرز الاختلاف في انتشار الدراجات النارية، ففي المدينة نحو 6 ملايين دراجة نارية، معظم ركابها من الشباب. 
يفد إلى المدينة بحثاً عن الرزق آلاف من الأجيال الجديدة سنوياً، وليس هناك من عمل للجميع، فلكل عشرة وافدين هناك وظيفة واحدة فقط، ولذلك يقبلون بأدنى الرواتب، كل أملهم أن يشتروا دراجة، وأجر عام يجعلهم يحققون تلك الأمنية، فالدراجة اليابانية ثمنها ألف دولار، أما الذين لا يستطيعون توفير ذلك الثمن فيلجأون لنظيرتها الصينية التي يمكن العثور عليها بمائتي دولار فقط، ولكن الأخيرة لن تعمِّر طويلاً.
الدراجة نفسها أصبحت مصدر دخل، فكثير من ملاَّكها يأخذون خلفهم ركاباً لمسافات تطول أو تقصر، بل ومنهم من يؤجرها للقيام برحلات سياحية من مدينة لأخرى، ومن موقع أثري لسواه، سرعة الدراجة النارية ناجزة، حتى أنه بات من الطبيعي أن تجد أصحاب «الريكشا»، (العربة التي يجرها سائقها يدوياً، أو يقودها بعجلاتها الثلاثية)، بانتظار من يجرب حظه معهم، وهم يدورون به من شارع إلى آخر. 
ذات ليلة جربنا الريكشا، وضع الرجل ستاراً من البلاستيك الشفّاف أمامنا حتى لا نستقبل بوجوهنا رذاذ المطر، نظرت إلى الشارع المزدحم، تبدو الطرق والزحام وكأنها لعبة إلكترونية لا تصطدم مكوناتها أبداً، قال لنا «دو تي»، وهو دليل آخر، عليك أن تمشي في الطريق من دون أن تنظر للسيارات والدراجات وعجلات الريكشا، إنهم سيقدرون سرعتك ولن يلمسوك أبداً. كان مُحقاً، ففي اللحظة التي توجه انتباهك ستخاف، وحين تخاف لن تصدر القرار الصحيح، وقد تعود من حيث أتيت، وقد تصطدم! 
على الدراجة النارية حياة كاملة، عائلة يذهب كبيرها للعمل، وصغارها للحضانة والمدرسة، سيدة تنقل أغراض متجرها، أو منتجات زراعية من القرى المحيطة بالمدن للأسواق، في الفترة التي عشنا فيها بالمدن الڤيتنامية لم نعثر على متسول واحد، الكل يعمل، حتى أن البائسين يخترعون أعمالاً بسيطة، لكنهم لا يمدون أيديهم أبداً، حتى للسياح الذين تمتلئ بهم البلاد. على شاطئ «ناه ترانج» سترى سيدة في عقدها السابع أو الثامن تسلق الذرة في الماء المغلي تحمله في إناء مغطى باليد اليُمنى وتبيع «أكوازها» للمصطافين، وها هو شاب يعاني شلل الأطفال، لكنه يحمل حقيبة مليئة بالكتب الجديدة والتاريخية عن ڤيتنام وأعلامها. بل وستجد فناناً ترك مرسمه وجاء بألوانه ولوحاته على الرمال ليعرضها عليك، لتأخذ منها رائحة البلاد والعباد في الشرق الأقصى.
وحكاية الفنان بام منه هونج نموذج لذلك الدأب من الجميع بالعمل على مدار الساعة. تنقَّل في صباه وشبابه بين مدن وموانئ هوي ودالات، وسايجون، وفونج تاو، حتى استقر في ناه ترانج في 1994م. طبيعة شخصيته المنفتحة وإنجليزيته المفهومة جعلتا تواصله مع القادمين من أوربا والولايات المتحدة يسيراً. هنا يأتي روس وأمريكيون وفرنسيون مثلما يأتي منغوليون وأوزبكيون وصينيون (الأخيرون لايزالون يعتقدون أن ڤيتنام أرض صينية، حتى أن مصطافة تزور ناه ترانج قالت لنا: أهلاً بكم في الصين!). عدا عن التجريد في لوحات هونج، يرسم الفنان المشاهد الأثيرة للحياة في ڤيتنام: شواطئ هالونج باي، شوارع هو تشي منْهْ، بيوت الريف والجبل، الطبيعة الصامتة والبساط الأخضر الحي أينما ولينا الوجوه. 
المثير أن الزحام الذي وجدناه في الحياة، سنجده في الفن أيضاً. فالمشاهد التي تتوزع في معابد سيدة البحر وغيرها تقدم ذلك الزخم الكبير، سواء كانت مصوغة من الحجر أو محفورة بالخشب، أو منقوشة على الصخر أو معجونة من الجص، أو مرصعة بالحجر الكريم والمعدن الثمين، أو مطلية بالحبر الصيني أو مزخرفة بالألوان المائية. يكفي أن تتأمل موكباً في معبد تيان هاو، لمجموعة من الفنانين الذين يتقدمون على أرض مفروشة بالورد، ومنهم من يدفع السيدة التي تحمل مروحتها - أهي سيدة البحر ماتسو؟ - تحمل مروحة يد، ومنهم من يمشي وهو ينفخ في بوقه، أو يضرب دفه ويحمل رايته، ذات الحروف الصينية، ومنهم من يضرب طبلته الصغيرة، وربما يغني، وفيهم الوقور الذي يركب الحصان القصير الذي رأينا مثله في ڤيتنام، يجر عربتنا بإحدى جزر نهر الميكونج. 
كان جميعهم حفاة إلا السيدة وراكب الخيل، وكلهم حاسرو الرأس عدا الراكبة والراكب، وقد صبغ العمال في الموكب شعر الرأس، وصففوه بقرنين على الجانبين، وكأنه مشهد من حكاية أسطورية، وليس ذلك سوى جزء من ألف جزء وجزء، كثيرة الزحام، بالتماثيل الخشبية والتنانين الحجرية، والأواني الحديدية العملاقة، التي يدفن في رمالها زوار المعابد أعواد بخورهم وأدعيتهم وأمنياتهم. 

في الجو والبر والبحر 
بعد هبوط طائرتنا في هانوي؛ العاصمة الڤيتنامية، انطلقنا في رحلة بحرية إلى خليج هالونج، حيث عرفنا على مدى يومين جغرافيا ذلك المكان الساحر، بدأت بقارب صغير تجدف صاحبته بقدميها وتحمل المظلة بيد، وتتحدث في الهاتف بيدها الأخرى. مهارات بحارتنا وجدناها لدى الجميع حولنا، المصور الذي تابع رحلتنا وهو يجدف بقدميه ويلتقط صورنا قبل أن نجدها جاهزة مطبوعة في ألبوم عند الشاطئ، بائعات العصائر والخضراوات والمصنوعات التقليدية، حتى ونحن نمر في كهوف مظلمة لا نكاد نرى فيها أصابع اليد. 
قبل أن ننتقل إلى مركب كبير يأخذنا في رحلة بين ألف جزيرة وجزيرة، تتباين أحجامها، وتدفع عشاق الأساطير لابتكار حكايات حول أشكالها، وبينما كانت هناك صخرتان في الماء يسميهما الدليل «الدجاجتين المتواجهتين»، يفرد نسران عملاقان في الارتفاع الشاهق أجنحتهما وهما يتوجهان إلى عشهما أعلى الجبل، ويعلو صوت البط عند الشاطئ مبتهجاً.
من خليج هالونج رجعنا إلى هانوي لنركب الطائرة إلى هوي، ومنها بالسيارة - عبر رحلة جبلية مثيرة - إلى هويان، لنركب الطائرة مجدداً إلى ناه ترانج، ومنه بالطائرة إلى هو تشي منْهْ، وبعدها بالسيارة إلى نهر الميكونج، قبل أن نعود إلى هو تشي منْهْ، لنحلق مجدداً عائدين إلى هانوي، فنزور ما فاتنا في لقائنا الأول، ولنختتم رحلة 15 يوماً، ركبنا فيها الجو والبر والبحر. 
وإذا كان من الڤيتناميين من يقدسون سيدة البحر، ويتبركون بأمثالها أصحاب المعابد الكثيرة الممتدة في طول البلاد وعرضها، فإنني رأيت هناك قداسة أخرى للمرأة التي تشارك الرجل في العمل بكل المهن، فلم تكن هي فقط من تقود المركب الصغير في خليج هالونج، وتغني بجزيرة العسل والتماسيح في نهر الميكونج، أو تكتفي بكونها مضيفة الطائرة، ودليلة الرحلة، وبائعة الفاكهة، ولكنها أيضاً المزارعة والعاملة في المصنع والمنخرطة في الجيش والعالمة والأكاديمية. 
فالحرب التي انتصر فيها الڤيتناميون على الولايات المتحدة منذ 40 عاماً لم يخضها الرجال وحدهم، بل وقفت المرأة جنباً إلى جنب مع الرجل، في خندق المعركة، وفي الغابة، وبين ممرات الجبال، وهي من حفر الآبار التي ارتوى منها الأهل في حرب استمرت سنوات، وحين انتهت المعركة، واصلت دورها في الحياة، لكي تكون مشاركتها في بناء بلادها حقيقة لا شعاراً.
في ڤيتنام، وخاصة هانوي، كان مشهد عمارة البيوت صغيرة المساحة لافتاً، فالأرض الضيقة جعلت المعماري الڤيتنامي يسعى إلى الاستغلال الأمثل للأرض بالامتداد الرأسي، مادام مجال الامتداد الأفقي غير متاح. دقة أحجام الڤيتناميين تجعل تلك التجربة المعمارية ناجحة بكل المقاييس. 
في مساحات اللون الأخضر، وبكل طريق عبرناه، كانت هناك نماذج لبيوت صغيرة جداً، عرفنا أنها شواهد مقابر، صنعت غالباً من الخشب، ومرات من الحجر، وأحياناً من القصدير أو الطوب. سألنا عن سر انتشار مقابر الأموات بين مساكن الأحياء، فكان الجواب أن وصايا الڤيتناميين كانت تقضي بدفنهم في حديقة البيت، أو بجوار مزارع الأرز، حتى يراهم الأهل كل يوم، فيتذكرونهم دائماً. إن الأسر تعيش على الذكرى، والعائلة لا يفرق بين أفرادها شيء، حتى الموت!

زواج قرب السحاب
سألَنا السائق إن كنا نفضل أن تكون الرحلة بين هوي وهويان قصيرة، عبر النفق السريع، أم طويلة عبر الجبال، وكان اختيارنا منحازاً للجبال التي أخذتها قرب السحاب. طرق مدهشة تتلوى بين الأرض الخضراء شاهقة الارتفاع، يبين البحر مرة إلى اليمين وأخرى على اليسار، تصعد جبلاً وتهبط آخر، تنظر إلى الطرق التي عبرتها فلا تصدق أنك كنت هناك، والسيارات فيها تبدو من مكانك كأنها نملة تعبر خطاً أبيض على جدران متنوعة الخضرة.
في منتصف الطريق تماماً، ونحن نلمس السحب، كان المشهد خلاَّباً، حيث ارتفعت قمة لبرج تاريخي، تهدم أغلبه، وبجانبه كانت هناك قبتان لمخبأين بناهما الأمريكان، ليمكناهما من رصد الأفق في الشمال والجنوب. توقفنا لالتقاط الأنفاس، وإراحة القدمين، بالحركة والتريض، والتقاط الصور، وكان هناك مشهد آسر، لم يخل من مغزى عميق.
على قمة أحد المخبأين، صعد على سلَّم معدني شاب وفتاة يحتفلان بزفافهما، وهما يرتديان ثياب الفرح. كانت الصورة صامتة، لكنها تقول الكثير: هل يحتفل العريس وعروسه بالزواج، وحسب، أم أنهما اختارا تلك البقعة بالذات ليسجلا فرحة الڤيتناميين كلهم بالتحرير الذي تم لهم منذ أربعة عقود؟ 
هل يعني ذلك أنهما تجاوزا - بفرحهما - تعاسة الماضي، الذي راح ضحيته الملايين من الآباء، أم أنهما يبدآن حياتهما الجديدة بتوجيه رسالة إلى جيل الآباء بأنهما لم ينسيا التضحيات؟ كانت الصورة الملونة تنطق برسائل تطير مع غطاء رأس العروس وهو يرفرف مثل حمامة بيضاء، تعبيراً عن السلام، إنها الحمامة نفسها التي سنراها في متحف بقايا الحرب، في «هو تشي منْهْ»، حيث يسجل هزيمة ورحيل الأمريكان بصور على الجدران، وحضورهم مع معظم جنسيات العالم سياحاً بين مقتنيات المتحف. 
وإذا كان عروسا الجبل العالي يلتقطان الصور التذكارية أمام أثر حرب أمريكي، فإن عروسين آخرين في «هو تشي منْهْ» كانا يلتقطان صوراً تذكارية مماثلة، ولكن أمام أثر ديني فرنسي؛ أعني به كاتدرائية نوتردام. تقع الكاتدرائية، وكان اسمها كنيسة سايجون، في قلب المدينة، على مرأى من مكتب البريد، وقد شيدت بين عامي 1863 و1880م، بعد الغزو الفرنسي لجزر الهند الصينية، وأنشئت لتقديم الخدمات الكنسية للمستعمرين، الذين مارسوا شعائرهم الكاثوليكية على أطلال معبد، قبل أن يتم تصميم الكاتدرائية الجديدة وتشييدها باستيراد جميع مواد البناء من فرنسا، فالجدار الخارجي للكاتدرائية - مثالاً - مبني بالطوب القادم من مرسيليا. وقد تكلفت مليونين ونصف المليون فرنك - آنذاك - وسميت بكاتدرائية الدولة، لأن ميزانيتها كانت من ميزانية فرنسا. 
في عام 1895، تمت إضافة برجين لأجراس الكاتدرائية، ارتفاع كل منهما 57.6 متراً مع ستة أجراس برونزية. في عام 1959، ارتفع أمام الكاتدرائية تمثال سيدة السلام المصنوع في روما من الجرانيت. خلال شهر أكتوبر 2005، ترددت الأنباء عن ذرف التمثال للدموع، أسفل الخد الأيمن من الوجه، مما جذب الآلاف لمشاهدته وأجبر السلطات على وقف حركة المرور حول الكاتدرائية، ورغم عدم تأكيد رجال الدين في ڤيتنام أن تمثال العذراء أمام الكاتدرائية قذ ذرف الدموع، فإنهم فشلوا في تفريق الحشود، مما جعل المنطقة، حتى يوم زيارتنا قبل أسابيع، للمشاة فقط، يلتقط الجميع أمامها الصور التذكارية.

حروب الألف عام
بدأ احتلال ڤيتنام من الخارج في عام 111 قبل الميلاد، حين ضمت أسرة هان في الصين الأراضي الڤيتنامية إليها، في تبعية استمرت ألف سنة، كما قال لنا المؤرخ كوان دانج كو. هذه السنوات الألف تخللتها محاولات للانفصال، كانت قصيرة ومتباعدة، لعل أطولها الفترة من 544م - 602م، حتى جاءت معركة نهر باتش دانج، سنة 938 م، التي هزم فيها الصينيون، وأعاد حكام أسرتي لي وتران تسمية بلادهم داي فييت، أي فييت العظمى، وصدت داي فييت غزوات المغول لها، ثلاث مرات. توسعت ڤيتنام جنوباً، بين القرنين الحادي عشر والثامن عشر، في عملية نام تيان  (التمدد باتجاه الجنوب)، لتغزو مملكة جامبا (كمبوديا) ومناطق من مملكة الخمير، كما يظهر في بعض الخرائط التي تنتمي لهذه الفترة. 
ومع ظهور أسرة ماك التي تدعمها الصين، بدأ نفوذ أسرة لي معرضاً للخطر، وانتهت الحروب الأهلية لأربعة عقود بمرحلة من الضعف أدت إلى تقسيم البلاد بين لوردات شمال البلاد (ترينه) وجنوبها (نجوين)، حتى ظهرت فرنسا في المشهد وقامت بسلسلة من الغزوات العسكرية منذ عام 1859 حتى عام 1885، حين أصبحت ڤيتنام ضمن مستعمرة الهند الصينية - الفرنسية، وهو الاستعمار الذي يعزو إليه المؤرخ كوان دانج كوا النقلة الثقافية في المجتمع الڤيتنامي، وجاء ذلك على وجهين؛ نظام التعليم وشيوع الديانة المسيحية.
الاحتلال الفرنسي جابهته حركة وطنية قادها كل من المناضلين فان بوي تشاو وفان تشو ترينه وفان دنه فونج، وظلت فرنسا مهيمنة على المستعمرات حتى  غزو اليابان للهند الصينية - الفرنسية عام 1941 للسيطرة على المحيط الهادي خلال الحرب العالمية الثانية، بعد إنشاء إدارة فيشي الفرنسية الحليفة للإمبراطورية اليابانية التي استغلت موارد البلاد لأغراض اليابان العسكرية.
في العام نفسه، 1941م، ظهرت حركة التحرر الشيوعية القومية (فيت مين) بقيادة هو تشي منْهْ، التي سعت إلى الاستقلال التام لڤيتنام عن فرنسا ومقاومة احتلال اليابان، حتى أن عُشر سكان البلاد آنذاك (مليوني نسمة) لقوا حتفهم جراء المجاعة، ولم ينته الاحتلال الياباني إلا بهزيمة الإمبراطورية في الحرب العالمية الثانية، في أغسطس 1945، لتعلن قوات فيت مين في هانوي الحكومة المؤقتة.
كان ذلك في سبتمبر 1945، وها نحن نتجول في كل مكان فنرى علم البلاد يرفرف، جنباً إلى جنب مع علامة الحزب الحاكم الواحد، تحتفل بمرور 70 عاماً على ذلك الاستقلال، الذي جاء غالياً، بالدم، وكأن لسان حال دليلتنا «ني» في هوي يقول: لقد عشنا حروباً كثيرة، وهذا السلام الذي نعيشه اليوم هو ابن هذه الحروب. 
انتهى الاستعمار في الهند الصينية بعد تفكك مستعمرات فرنسا، ووفقاً لاتفاقيات جنيف 1954، تم فصل الجنوب عن الشمال، وإنشاء منطقة منزوعة السلاح بينهما، كان الشمال ڤيتنام الديمقراطية الشعبية مع هو تشي منْهْ، أما الجنوب، فكان للإمبراطور باو داي، قبل أن ينصب رئيس وزراء دولة ڤيتنام نغو دينه ديم رئيساً لجمهورية ڤيتنام. سيدعم الشمال الاتحاد السوفييتي (سابقاً) والصين، وستدعم الولايات المتحدة الأمريكية الجنوب لتنشب حرب ڤيتنام، مباراة دموية بين الشيوعية والرأسمالية، لم يكن فيها الڤيتناميون مشاهدين، بل ضحايا، قبل أن يُجبر الأمريكيون على الانسحاب في  مارس 1973م، من مدينة سايجون، ولتتحد مرة أخرى ڤيتنام، الشمال «فييت»، والجنوب «نام».
هكذا عانت ڤيتنام مرارات الاحتلال، من الشرق والغرب، وعاشت قساوة الانفصال، بين الشمال والجنوب، وذاقت حلاوة الفوز بالحرب والسلام، ونهضت بمقدراتها، فحافظت على تراثها وتقاليدها، وحين ذهب الصينيون والسوفييتيون والفرنسيون والأمريكيون، كمحتلين، بقيت آثارهم، وحين عادوا إلى مدنها كانوا سياحاً، تخاطبهم لافتات التوجيه بلغاتهم. قد يحن إلى ڤيتنام من عاش فيها لسنوات قضاها هنا وهناك، وربما جاء إليها من أراد دراسة التجربة الڤيتنامية، وطقوس شعبها وتحولاته. ولكن يبقى أن «سيدة البحر» لم تعد مجرد شخصية أسطورية، بل هي ڤيتنام الجديدة، التي تروي سيرتها بإباء، وتبني غدها بعمل لا يكل، وهي تحلم بغدٍ أفضل، وتحمي أبناءها تحت علم جمهورية ڤيتنام الاشتراكية الواحد، ليس فقط في المرافئ، بل على مساحة 690 ,331 كيلومتراً مربعاً، يسكنها 90 مليون ڤيتنامي. 

هو تشي منْهْ
في الشوارع المزدحمة تحولت الجدران إلى معارض مفتوحة تحكي لافتاتها وملصقاتها تاريخ البلد الصاخب. صور «هو تشي منْهْ» تحملك إلى ذكراه، وتجعلك تقارن بين حياته البسيطة التي عاشها، وتلك التي كانت لسواه ممن حكموا ڤيتنام. في البيت الخشبي الجبلي الذي سكنه، عوضاً عن القصر الذي رفض الإقامة فيه، قالت لنا المترجمة هان: لقد أحببنا كل شيء في العم هو تشي منْهْ إلا أمرين؛ أنه لم يتزوج، وأنه مدخن شره. 
هنا كان يجلس هو تشي منْهْ وهو يطلق دخانه إلى سماء البحيرة الأمامية التي يطعم أسماكها كل صباح، وهنا كان يتجول وهو يدخن، يلقي النظر إلى الحديقة الخلفية التي يزرعها كل يوم، وحين كان يخلد للنوم لم يكن لديه سوى سرير يتسع لشخص واحد، وحين كان يكتب ويقرأ كانت تعلوه صورتا لينين وماركس، اللذين اتخذهما مثالاً لغرس قيم الاشتراكية في بلاده. لكن أبناء ڤيتنام أخذوا منه ما هو أكثر، فقد بات لديهم في المدارس ما يسمى طريقة «هو تشي منْهْ» في الحياة، إنها التي تعلِّم الصبر لأبناء الجيل الجديد منذ سنوات التعليم الأولى، الصبر الذي كان سلاحه مع العلم والتأمل، بل والشعر، ليكون نموذجاً يقارنون أحياناً بينه وبين بوذا، كمعلم يجدر بالمخلصين أن يتبعوه. يظهر العم «هو تشي منْهْ» على وجه كل أوراق البنكنوت النقدية لعملة ڤيتنام المسماة دونج، والدولار يساوي 20 ألف دونج، ويمكنك أن تتعامل به في المناطق السياحية. أما على ظهر الأوراق النقدية فتوجد معالم ڤيتنام وتاريخها، القديم والمعاصر. 
في عام 1942، كان عمر هو تشي منْهْ 52 عاماً، حين ألقي القبض عليه، وهو رئيس لشمال ڤيتنام، بالصين، متهماً بالجاسوسية. ظل 14 شهراً مقيدة ساقاه في الأصفاد الحديدية، يتم نقله من زنزانة إلى أخرى، وهو يحتفظ بيوميات كتبها بصبغة الشعر وصيغته، يقول فيها:
تقافزتُ بين الجبال الشَّاهقة، 
وتسلقتُ القممَ العالية.
فكيف لي أن أتوقع 
أن السير بالسهول خطر أكبر؟
ففي الجبال، 
التقيتُ النمرَ وخرجت سالماً:
أما في السهول، 
فقد واجهت البشر، 
فألقي بي في السجن.
... ها أنذا أسمع أغنيات الطيور 
آتية من كل أنحاء الجبل، 
وأشم رائحة عطر الورد 
تملأ الغابة،
فمن يستطيع أن يمنعني من التمتع بها 
بكل حرية؟ .