تحديات الناقد المعاصر

تحديات الناقد المعاصر

يثير الناقد الأدبي د. جابر عصفور في كتابه المهم «تحديات الناقد المعاصر» جملة من القضايا النقدية الجوهرية التي تنير أبرز التحديات التي يجابهها الناقد العربي مع ما يكتنز به المشهد الأدبي العربي من تحولات نوعية تطول أنساقه الثقافية والفنية، من جهة، ثم مع ما يجيش به العالم المعاصر من تحولات اجتماعية وسياسية وحضارية فارقة، تنعكس آثارها على العالم العربي، وتتحكم إلى حد بعيد في اختطاط آفاقه الثقافية والنقدية اللازمة لمواكبة متغيرات الحضارة البشرية من دون التفريط في الخصوصية التاريخية والثقافية، وهكذا يرى جابر عصفور أنه يمكن إيجاز أبرز التحديات التي يواجهها الناقد العربي في ثلاثة عناصر أساسية.

يأتي في مقدمة تلك التحديات التحدي النصي، والمقصود به من منظور جابر عصفور أنه مادام النص الأدبي هو مجال اشتغال الناقد، فإن هذا الأخير بات ملزماً باستيعاب أهم المتغيرات التي عرفها مفهوم النص الأدبي، حيث لم يعد منحصراً في أجناس الأدب المعروفة، من قصة ومسرح ورواية وشعر، بل اتسع هذا المفهوم ليشمل ما هو شفاهي أيضاً، ويحتضن نوعاً جديداً من الكتابة الأدبية متحرراً من التقسيمات الأجناسية القارة، وتنصهر داخله كل التقنيات والخصائص الفنية لخلق كتابة موازية معبرة عما يشعر به مبدعها في موقف من المواقف، كما تندرج ضمن هذا النوع من التحدي الذي وسمه جابر عصفور بـ «التحدي النصي» ضرورة إلمام الناقد العربي بأهم الفروق بين «وجهات نظر التيارات النقدية المختلفة في فهم النص ذاته وعلاقاته بالعالم»، بدءاً بمدرسة النقد الجديد التي كان من أعلامها ت. س إليوت وأرشيبالد ماكليش وكلينيت بروكس، وهي المدرسة التي رفضت تصور نظرية التعبير للنص الأدبي القائم على كونه نقلاً ومحاكاة لما يجيش به وجدان المبدع من إحساسات داخلية، وتصور الواقعية الاشتراكية للنص الأدبي المتشبث بكونه انعكاساً لمعطيات الواقع الخارجي، وصراعاته الطبقية والمادية، مشددة في المقابل على أن النص الأدبي كيان مستقل بذاته، يستقي وجوده من تحرره من شخصية وقصد منتجه، وسياقه الاجتماعي والتاريخي، وانطلاقاً من تماسك وانسجام عناصره الداخلية، وإذا كان هذا التصور للنص الأدبي قد امتدت تأثيراته للنقد العربي مع بعض النقاد، أبرزهم رشاد رشدي، فإنه مباشرة بعد هزيمة 1967م التي غيَّرت الوجه الأدبي والثقافي للعالم العربي، ستحل محل هذه النظرة النقدية المستميتة بإثبات الحضور المحايث للنص الأدبي نظرتان أو فهمان متناقضان، أولهما: وفق جابر عصفور؛ فهم البنيوية الشكلية التي اعتبرت النص الأدبي نتاجاً لمجموعة من العلاقات الشكلية التي تصنع أدبية الأدب، وينتظمها محوران أساسيان، محور رأسي تحكمه داخل النص علاقات حضور، ومحور أفقي تحكمه علاقات غياب، حيث لا تُفهم كلمات الجمل المتتابعة على المستوى الأفقي إلا في ضوء مقارنتها ضمنياً ولا شعورياً بما هو غائب عنها، وهو ما يؤشر إلى هشاشة هذا الطرح المغلق الذي قدمته البنيوية الشكلية للنص الأدبي، أما الفهم الثاني للنص الأدبي فهو الذي قدمته البنيوية التكوينية بزعامة منظِّرها البارز لوسيان جولدمان، وقد تميز تصورها للنص الأدبي بتأكيد أنه بنية متولدة عن رؤية عوالم بعينها، وأنه لا يمكن فهم بنائها إلا بردّ مكونات البنية الأدبية أو النص الأدبي إلى البنية الكبرى للوعي الاجتماعي الذي تولدت منه وعنه.

مواكبة
فضلاً عن هذه التصورات التي زخر بها المشهد النقدي العالمي للنص الأدبي، يلح جابر عصفور على ضرورة مواكبة الناقد العربي لما قدمه خطاب ما بعد البنيوية للنص الأدبي من تنظيرات فارقة خلخلت ما كان مكرَّساً من طروحات نقدية سائدة، وتنبع أهم مغايراتها اللافتة من خلال تشديد تيار التفكيك على أن النص الأدبي يمتاز بخاصية التناص، التي تعني انفتاح بنية النص على غيرها من النصوص، وكون دواله لا تتسم بالثبات والتعالق مع مدلولات محددة، بل هي في مراوغة مستمرة لمعانيها، ما يؤشر إلى أن بنية النص ليست بنية مفتوحة فحسب، لا يمكن تثبيتها في دلالات محددة، ولكنها حاملة لمجموعة من التعارضات والتناقضات التي تستدعي قراءات متعددة تتنوع بتنوع مداخلها للنص الأدبي، وطرق تأويلها للمعاني المنسابة خلف دواله الحائمة.
ويندرج ضمن هذا التصور القرائي المنفتح للنص الأدبي تصور اتجاه التلقي ونظريات الهرمينوطيقا المختلفة التي يوحد بينها النظر للنص الأدبي، باعتباره رسالة موجهة من مرسل إلى مستقبل، وأشكال استقبالها وتأويلها متغيِّرة بتغيرات السياقات الحاضنة لعملية التلقي، وهو ما ينم عن أن المعنى في النص الأدبي لا يتسم بالجهوزية، بل هو حصيلة لتفاعل القارئ مع سيروراته التدليلية التي تُشرع منافذه على إمكانات تأويلية لا محدودة.

كشوفات نقدية
واتساقاً مع هذه التحولات المتسارعة التي طالت النص الأدبي، والتي تُلزم الناقد العربي بتمثل تفصيلاتها النقدية لتنسيب آليات اشتغاله وتطويرها، يتوقف جابر عصفور عند الكشوفات اللماحة التي أثرى بها خطاب ما بعد الاستعمار الممارسة النقدية، وقد تجسَّدت في تعرية الخطاب الاستعماري الغربي، وفضح ما تبطن به من تمثيلات جوهرانية مغرضة وجاهزة عن كل ما هو لا غربي، لتنميطه في دائرة ما هو دوني ومنحط وهامشي، من أجل تسويغ الإمبريالية، وتغليف طابعها الاستيطاني بنزعة تحضيرية وتهذيبية، ولا يفوت جابر عصفور في عرضه مكتسبات خطاب ما بعد الكولونيالية النقدية ربطها بإبدالات النقد الثقافي التصورية والتحليلية للخطاب الأدبي المنبجسة من ترهينها فاعلية الممارسة النقدية المنتجة بتأويل مناطق النص الصامتة والمسكوت عنها، واستبطان ما تختزنه من أنساق ثقافية مضمرة تشي بعلاقة المعرفة بالسلطة والذات والهوية والآخر.
وتأسيساً على هذه التحولات التي اعترت مفهوم النص طوال مسار النظرية الأدبية من النقد الجديد إلى نظريات الخطاب المهيمنة حالياً على المشهد النقدي العالمي، يترتب عن هذا التحدي النصي تحدٍّ ثانٍ أكثر أهمية وخطورة يسمه عصفور بالتحدي المنهجي، والمقصود به سؤال المنهج الذي يختاره الناقد، ويتشرب منطلقاته الفكرية وأولوياته التحليلية في النفاذ إلى روح النص الأدبي، والكشف عن أسراره التي تظل دائماً في حاجة إلى الكشف، ومما يضاعف من صعوبة هذا التحدي المنهجي وفرة المناهج النقدية المعتملة في المشهد الثقافي العالمي، وسرعة تحولها وانتشارها تزامناً مع مد النزعة الكوكبية الجديدة، حيث انصرم ذلك الزمن الذي كانت تهيمن فيه المذاهب النقدية والأدبية لفترة طويلة من الزمن، كما هي الحال مع الكلاسيكية الجديدة التي غلبت على القرن الثامن عشر الأوربي والرومانسية على امتداد القرن التاسع عشر، موصولة بتجليات الواقعية النقدية، فما إن نصل إلى منتصف القرن العشرين حتى تشهد النظريات النقدية إيقاعاً لاهثاً وسريعاً من التغير، حيث لا تكاد تشغل البنيوية الوسط النقدي العالمي منذ عام 1955م، ويفتتن النقاد بمفاهيمها البراقة عن العالمية، وإغواءاتها عن الصرامة والعلمية المنهجية حتى تكون سنة 1968م إعلاناً عن نهايتها بعد هتاف الطلاب بسقوطها، وظهور موجة من التيارات النقدية الجديدة التي انتقدت تصورها المغلق للنص الأدبي، وما تنطوي عليه من بنية ميتافيزيقية قبلية تؤمن بالنسق الكلي للنصوص الأدبية، متغاضيةً عما تمتاز به النصوص من اختلاف وتفرد في بنياتها، وهو ما تجلى مع تيار التفكيك ونظريات القراءة والهرمونيطيقا التي ما كادت بدورها تبسط مفاهيمها في معترك النقد الأدبي حتى طفت على الساحة الأدبية نظريات الخطاب التي هالها ما تحمله تيارات ما بعد البنيوية من إغراق في متاهة التأويل ولا نهائيته جراء تمسكها بالطابع المفتوح للنصوص الأدبية، وتدثرها بمناطق ثرة من الفجوات والشروخ النصية القابلة لافتراع مداخل قرائية متعددة، مشددة بالمقابل في فهمها للنص الأدبي على تاريخيته، وطابعه الدنيوي المتواشج مع أسئلة الواقع الاجتماعي واشتراطاته السياقية.
وهكذا، فموازاة مع سرعة إيقاع التغير الذي أضحت النظرية الأدبية المعاصرة به، ويتأدى عنه تنوع في مناهجها النقدية المتباينة من حيث خلفياتها الابستمولوجية، ومفاهيمها التصورية والإنجازية، تطرح أمام الناقد العربي وفق جابر عصفور مسألة المنهج المناسب لمقاربة النص الأدبي، واستبطان أنساقه الفنية والمرجعية المترعة بنسغ ما هو معيش ومجتمعي منسرب في محاضنها التاريخية، وفي هذا النطاق يشدد عصفور على جملة من الشروط اللازمة والخلاقة التي يجب على الناقد العربي التوفر عليها في تفاعله مع المنهج الذي ينجذب لكشوفاته المعرفية والتحليلية، حتى يكون تفاعله مطبوعاً بالأصالة والإضافة. وأولى هذه الشروط الإيمان بالطابع النسبي للمنهج وعدم توثينه وتصنيمه، لكي يظل فعل الممارسة النقدية متجرداً من هالة التقديس والشمولية، ومنفتحاً على المساءلة النقدية المتجددة، وثاني هذه الشروط هو عدم الأخذ الحرفي بجهوزية المنهج حتى لا يقع النقاد في شرك التقليد والاجترار والامتثالية الصماء لمنواليته التنظيرية الناجزة، بل إن الناقد العربي مطالب من منظور جابر عصفور بتفريد ممارسته النقدية انطلاقاً من إعادة إنتاج مغايرات المنهج أو النظرية النقدية إنتاجاً جديداً، يستجيب لروح النص الأدبي، وما يرشح به من قيم فنية ودلالية مائزة.

مشكلة القيمة
أما أخطر هذه الشروط وأكثرها تحدياً للناقد العربي المعاصر فيتعلق بمشكلة القيمة، حيث يرى عصفور أنه في ظل تهرب بعض النقاد من تقييم النصوص وتحديد معيارها في سلم القيم الأدبية، إما مجاملة لكتابها أو خوفاً من الرقابة السياسية، وفي ظل تنصل بعض المناهج النقدية من مسألة تثمين قيمة العمل المنقود كما هو الشأن مع البنيوية الشكلية تحديداً التي أناطت نجاعة الممارسة النقدية بالاكتفاء بتوصيف شعرية النصوص، وتشريح كيفية تعاضد مكوناتها اللغوية والتركيبية الداخلية التي تمنحها طابع الأدبية، من دون مساءلة لخصوصية الأنساق المرجعية والإنسانية المتناسجة مع هذه المكونات الفنية المحايثة.
وهكذا ففي ظل هذه المعطيات يلح عصفور على أن فعل الممارسة النقدية لا يكون خلاقاً ومنتجاً إلا عن طريق تشبث الناقد العربي بعد انتهائه من عمليتي تحليل وتفسير العمل الأدبي المنقود بضرورة الحكم على طبيعة ما يلتحف به من قيم جمالية وإنسانية، ومقارنة هذا العمل مع غيره من الأعمال المعاصرة له، أو تلك التي أجمع النقاد على تفوقها وتميزها، وكل ذلك من أجل احتفاظ النقد الأدبي بوظيفته الإنسانية والتنويرية المُحددة جوهر الإبداع الأصيل بما يدافع عنه من قيم مثلى تتجلى في الحق والخير والجمال.

التنويري
بجانب التحديات السابقة الخاصة بسؤالي النص والمنهج يتوقف جابر عصفور عند تحدٍّ أخير يجابهه الناقد العربي المعاصر في اشتغاله بمجال النقد الأدبي تنظيراً وممارسة، وهو التحدي الاجتماعي والسياسي، حيث يرى الناقد المصري اللامع أنه جراء ما يخيم على العالم العربي من مناخ قمعي يتخذ عدة أشكال من التسلط، أبرزها التسلط السياسي الممعن في رقابة الإبداع ومحاصرته، والتسلط الديني المتصاعد مع مد الأصولية، والمُصادر لروح الاجتهاد والاختلاف، فإن الناقد العربي مُطالب دوماً بعدم الخضوع والامتثال لهذه الأنواع من الرقابة السياسية والدينية، والحرص على السير في المسالك الآمنة خوفاً من مجابهتها، لأن ذلك يفرغ الممارسة النقدية من جوهرها المتمثل في البحث دوماً عن الابتكار الخلاق الأصيل من دون أي تقيد بتوجيهات ومطلقات مسبقة، هذا فضلاً عن ضرورة الانحياز للقيم المجيدة المتجسدة في الحرية والاختلاف، وهو ما لا يتحقق من منظور عصفور إلا عن طريق سعي الناقد العربي الحثيث إلى أن يظل فعله النقدي فعلاً إنسانياً تنويرياً، يربط الأدب بالحياة، ويؤمن ببعده الكوني، إضافة إلى منافحته المتجددة عن قيم التنوع البشري الخلاق، وهنا يلتقي جابر عصفور في مناداته بمفهوم الناقد التنويري مع تصور الناقد العالمي إدوارد سعيد لوظيفة الناقد الأدبي الكشافة والمثمرة من خلال مناداته بدوره بمفهوم الناقد الدنيوي أو المدني الرافض لأي تدجين سياسي ومؤسساتي وحزبي، والحريص على تكسير أسوار ما هو تقني وحرفي، لتشبيك أسئلة النقد مع ما تنضح به النصوص الأدبية من أنساق ثقافية وتخييلية منزرعة في عالمها المعيش، ومستغورة لشروطه الحياتية والمجتمعية، وممهورة بصراعاته السياسية والأيديولوجية ■