سبب الأشياء... العليّة في العلم والطب والحياة

سبب الأشياء...  العليّة في العلم والطب والحياة

لن يقنع الإنسان حتى يعرف «سبب» الشيء، هكذا ينطلق مؤلف هذا الكتاب من مقولة أرسطو، التي برهنت على أنها تظل أحد مساعي الإنسان حتى الوقت الحالي. يقول المؤلف موضحاً «سبب» مؤلفه هذا:
«أثناء عملي طبيباً نفسياً خلال الخمسة وثلاثين عاماً الماضية، طُرحت عليّ أسئلة حول العلة cause: «لماذا أصبحت مكتئباً؟»، «هل شيء ما فعلته أو كان يجب أن أفعله؟»، «أم تجربة مررت بها في الماضي؟»، «هل هو وراثي بما أن أمي كانت تتعالج من الاكتئاب؟»، «هل هذا عقاب من الله؟»، «لماذا أميل إلى مصادقة الناس الذين ينقلبون ضدي في النهاية؟»، «لماذا أتعرض لمشكلات تكراراً مع رؤسائي وأفقد عملي؟».

 

هذه الأسئلة الطبيعية جداً وغيرها التي تبحث عن أسباب وقوع أحداث كثيرة يتسع مداها من صغيرة إلى كارثية، من لماذا أنسى مكان الأشياء؟ ولماذا انقلبت السيارة؟ إلى لماذا وقع انفجار تشيرنوبل وفوكوشيما والحربان العالميتان؟ كل هذه الأسئلة كما يرى المؤلف طبيعية، ومن يطرحها مقتنع تماما بأن هناك إجابات عنها، ومع ذلك فإن الإجابات «معقدة ومتعددة العوامل. كيف يمكن أن نحصر أو ندمج عوامل متغايرة، مثل صمام تُرك مفتوحاً، والتعقيد complexity المتأصل في محطات  توليد الطاقة الصناعية متعددة النظم، وعجز الإنسان عن توقع كل الأخطاء المحتملة والأحداث المعاكسة في تشغيل نظام معقد؟ كيف يمكن أن نفهم أن الجينات والخبرات الحياتية المبكرة والأحداث المعاصرة هي أسباب تصيب شخصاً ما بالاكتئاب، لكنها لا تصيب شخصاً آخر؟ كيف يمكن أن يختار الشخص سبباً ما ليبدأ به؟ ما القوانين أو المعايير التي يمكن بها الحكم على judged الإجابات؟ هل هناك حتى معيار في الأساس؟ هل المهمة مستحيلة بما أنه ليس هناك طريقة للحكم على الإجابة الصحيحة؟».
يقدم المؤلف إسهاماً منهجياً جديداً للاقتراب نحو هذا السؤال «لماذا حدث هذا؟»، يسمي هذا الاقتراب بـ«الاقتراب التعددي»، ويفترض أن لكل سؤال هناك اقترابا هو الأفضل نحو تناوله، وأن وظيفة الباحث هي تحديد المنهج أو توليفة الاقترابات التي تناسب تناول السؤال على أفضل وجه. ويبرر المؤلف طرحه لهذا الاقتراب الجديد في ما يلي: أولاً: لقد خطر لي هذا النموذج لأن أي شخص مهتم باكتشاف كيف يمكن تبرير الإسناد العليّ لابد أن يتناول عديداً من التحديات الكبرى. ثانياً: لقد تنوع فهم العلة خلال الزمن وعبر الثقافات المختلفة. ثالثاً: لا يستطيع الشخص «إثبات» وجود مفهوم العلة أو العليّة. وبناء عليه، يقوم هذه الكتاب على مقدمة premise أن العلل توجد وأنه يمكن اكتشاف العلاقات العليّة وإثباتها.

ثلاثي الأوجه للعليّة
إن الاقتراب التعددي الذي يقترحه المؤلف هو نموذج ثلاثي الأوجه للعليّة، ويمكن تلخيصه في ما يلي: الوجه الأول، ويتكون من نماذج مفاهيمية في المنطق العليّ. وهذه النماذج هي: المقولات نعم/لا... ومثال عليها: هل الصمام في حادثة تشيرنوبل هو السبب؟ وتكون الإجابة إما نعم وإما لا. النموذج الثاني وهو التدرجي والاحتمالي، وينطبق على تطور الاكتئاب على سبيل المثال لا الحصر لدى الإنسان، ويتمثل في الإسهام الجيني، ثم العلل الناشئة واللاخطية، التي تتمثل في تعرض الشخص لإجهاد ما بعد سلسلة طويلة من تعرضه لعوامل ضغط متوسطة أو حادة، وفي هذا المثال لا يصح تناول أسباب الاكتئاب بالاقتراب الأول المقولاتي. 
الوجه الثاني: يصف أربعة مستويات من التحليل، وهو اقتراب أول من وصفه أرسطو. ويعطي المؤلف مثالاً على تطبيقه في حادثة فوكوشيما وإعصار تسونامي: «كانت العلل المهيئة هي التدريب المعيب والإدارة المهملة، أما إعصار تسونامي فهو علة مُعجّلة. إن التعقيد المتأصل في عديد من النظم التفاعلية التي تكون محطة توليد الطاقة النووية هو علة برنامجية، أما الاستعلاء البشري فهو علة غائية».
أما الوجه الثالث والأخير: فهو يصف قوانين المنطق الثلاثة التي يتم اكتساب معرفة العلة بها. ويستخدم المنهج الإمبريقي البحث العلمي، فمثلاً تعيين أن هناك تنوعاً جينياً في أعضاء متعددة من العائلة التي تشيع فيها الإصابة بالاكتئاب. ويستخدم المنهج التقمصي empathic method منطق الترابط السردي،  لدعم الاستدلال بأن عوامل ضغط  معينة يمكن أن تكون سلبية الأثر بالنسبة لشخص والعكس لشخص آخر. وأخيراً المنطق الإكليركي (الديني) ecclesiastic logic، ويمكن أن يوظفه مؤمن يعزو العلة إلى انحراف فعلي، في مشاركته الطويلة في قواعد دينه.
وكما يقر المؤلف نفسه، فإن النموذج الثلاثي الأوجه المقترح نموذج معقد بل وحتى شاق، ويقع على عاتق الكتاب تبرير هذا الاقتراب المعقد. وهو ما يفعله من خلال الكتاب، حيث يكرس لكل وجه من الأوجه الثلاثة الفصول التي تفي بتوضيحها، ثم يعطي في الفصل الأخير أمثلة تطبيقة ترسم منفعة نموذجة المقترح والمطروح للنقاش وحدوده القصوى على السواء. وتتناول الأمثلة التطبيقية المسائل التالية: ظهور فيروس نقص المناعة البشري (الإيدز) كاعتلال وبائي في جميع أنحاء العالم، والعليّة في قانون الولايات المتحدة،  وتطور الأنواع وارتقاؤها مفهوم عليّ، مرض الزهايمر، العدوان الإنساني، الأسباب العلمية لمرض الاكتئاب.
وقبل أن نعرض باختصار تناول المؤلف لمسألة العدوان الإنساني مثالاً تطبيقياً، يجب أن نذكر أن المؤلف بهذا الفصل التطبيقي يحاول أن يفند مزاعم بعض الباحثين والمفكرين، الذين لم يروا في مفهوم العلة إلا وسيلة ملائمة أو مريحة لا معنى لها سوى استخدامها في الخطاب اليومي والعلوم التطبيقية والمنطق والدين، ودليلهم على هذا هو التنوع الغني للعلية عبر الثقافات، الذي يرونه تقليداً أكثر منه بنية تتمتع بالصحة العلمية أو بالكلية.

العدوان الإنساني نموذج تطبيقي
سوف يكتفي عرض هذا المثال بالوجه الأول من النموذج المقترح مع إشارات سريعة أينما أمكن للوجهين الآخرين. يستهل المؤلف عرض مسألة العدوان الإنساني بما يلي: «إن العدوان ملمح من الشرط الإنساني هيمن فترة زمنية طويلة، وهو أحد التحديات العظيمة في زمننا. (....) يتخذ أشكالاً متعددة من الاعتداء والحرب والإبادة الجماعية وسوء الاستغلال الجنسي والجسدي والتنمر. شغلت عديداً من المفكرين العظماء في الماضي أسئلة حول أصل السلوك العدواني وترياقه. على المستوى البسيط، تظهر سرديتان متناقضتان من تلك الكتابات: «البشر كخيرين بطبيعتهم، والبشر كعدوانيين بطبيعتهم». انطلاقاً من العرض المقولاتي البسيط لمسألة العدوان الإنساني، يمضي المؤلف ليطبق النماذج المفاهيمية الواردة في الوجه الأول، فعلى المستوى الإمبريقي تدعم البيانات ادعاء أن البشر يتسمون بنزعات متأصلة للتصرف بنمط عدواني تجاه الآخرين، فعلم الحفريات أثبت أن السلوك العدواني تجاه الإنسان الآخر كان موجوداً في الإنسان العاقل منذ عشرات آلاف السنوات. وفي معظم الثقافات المدروسة، اتسم الذكور، خاصة الشباب، بعنف أكبر من الإناث، وتربط خيوط متعددة من البينة مستويات أعلى من التيستوستيرون وهرمونات أخرى ذات صلة بالسلوك العدواني. إن ارتباط البلوغ بارتفاع مستويات التيستوستيرون في الذكور يقدم صلة واحدة من بين تلك العوامل. من ناحية ثانية، لا يتسم كل الذكور بالعدوانية، ولا تفسر مستويات التيستوستيرون التنوع الواسع في مستويات العدوان والعنف في أفراد مختلفة أو مجموعات أو عصور. كما تربط بينة العلوم الطبية والبيولوجية السلوك العدواني بمنظومات دماغية متمايزة عدة تتفاعل مع أحدها الآخر. هناك كذلك منظومات دماغية وهرمونية متعددة تبطن التفاعلات الإنسانية الإيجابية، مثل رعاية الآخر وحل الصراع. كما تتفاعل منظومتا العدوان والرعاية، كل منهما مع الأخرى، لتشكل شبكة معقدة. وفي حين أن تلك المنظومات توجد في كل الأفراد، تتنوع وظيفتها عبر الأفراد وحسب الموقف. إذن من وجهة نظر الجهاز العصبي، تصح وجهتا نظر روسو وهوبز على السواء: إن البشر يتسمون بالرعاية وبالعدوانية طبيعياً.
يبرهن كذلك الدليل الإمبريقي على الصلات بين نطاق من الأحداث والظروف الاجتماعية والاقتصادية ورجحان الصراع على مستوى الجماعة. تبرهن دراسات متعددة على المعدلات المتزايدة من تنوع الأفعال العدوانية التي ترتبط بالحرمان الاقتصادي، و«قمع» مجموعة لمجموعة أخرى، والوضع المتدني للنساء، وانعدام الديمقراطية، والقومية، والانتشار واسع النطاق للتمييز ضد الأقليات. لا تدلل تلك الصلات على العلية، لكن ما يقوي رجحان العلاقة العليّة التفسيرية هو استخدام مناهج الواقع المضاد، والإحصائية التي تستبعد أسباباً محتملة أخرى لتلك الصلات ومضاعفة تلك النتائج في مجموعات متعددة وعهود متباينة.
ويربط الاستدلال التقمصي عديداً من الأحداث التاريخية والشخصية الداخلية والخارجية بالعنف. إن التاريخ عامر بأحداث مثل حروب أشعلها شعور جماعة واحدة ما بالغبن والكره أو الحسد. تدعم المعقولية السردية كذلك روابط عليّة بين المعدلات الأعلى من العدوان والمتغيرات الاقتصادية والاجتماعية التي وردت في الفقرة السابقة.
يوطد الاستدلال الإكليريكي نداءات عدة للسلام والعنف. ترتبط مزاعم «الحق/الصواب» المعطى بمصادر قدسية/إلهية، وتفوق فيزيقي/أخلاقي. تستخدم المنظومات الإيمانية التي تتجذر في مبدأ السلام والمقاومة السلمية والحق الإلهي/المقدس والدستورية والوطنية والدين الرسمي والروحانية، لتبرير أفعال العنف وأفعال السلام، ويستشهد بها هؤلاء الذين يقبلون ويروجون تلك المنظومة على أنها علّة الأفعال السلمية أو العنيفة. بالنسبة لهؤلاء الذين يشتركون في معتقدات معينة، فإن الحقيقة لا جدال عليها، ويعكس رفضها اختلافاً جوهرياً يمكن أن يؤدي إلى اشتعال الصراع. 
هكذا يوضح تناول العدوان الإنساني تعددية الجوانب والمناهج والاقترابات، التي يرى المؤلف وجوب أخذها في الاعتبار عند دراسة أي حدث ما، للوقوف بقدر المستطاع على معرفة أسبابه الشاملة. وهذا قد يعني عدم إغفال أي منهج من المناهج المعرفية والسعي وراء إدماجها معا كما قدم من خلال نموذجه المقترح ■