ذكريات ناصرية

ذكريات ناصرية

عندما قامت ثورة 1952 كنت في الثامنة من عمري، لا أعقل الأشياء أو أدركها بوعي ناضج، وإنما مجرد وعي أولي تنطبع على صفحته الفرحة الغامرة التي أبداها أهلي بسقوط الملكية والإقطاع، وإن كنت أعترف بأنني لم أكن أعرف الفارق بين الملكية والإقطاع. لكن أذكر محاولة اغتيال جمال عبدالناصر بإطلاق النار عليه، وهو يلقي خطاباً في المنشية. وكان محمود عبداللطيف الإخواني هو الذي أطلق النار على عبدالناصر الذي كان قد تخلى عن صداقته القديمة بالإخوان، وكان ذلك في السادس والعشرين من أكتوبر 1954، في سياق الاحتفال بجلاء الاحتلال البريطاني عن مصر، وانتهاء شهر العسل بين الإخوان المسلمين وضباط ثورة يوليو بقيادة عبدالناصر. 

وقدمت أم كلثوم أغنية بهذه المناسبة:
يا جمال يا مثال الوطنية
أجمل أعيادنا الوطنية
بنجاتك يوم المنشية
ولا أذكر بقية الأغنية، ولكن فعل تذكرها نفسه يلفت انتباهي إلى أن ثورة 1952 كانت تدرك كل الإدراك، خصوصاً من خلال الوعي القيادي لعبدالناصر، أهمية الفن والأدب والثقافة بوجه عام في ترقية وتنمية وعي الجماهير، والارتقاء بها إلى حيث تحلم القيادة التي تسعى إلى تأسيس زمن جديد، زمن تعلم القيادة كل العلم أنه لا حضور إيجابياً لها في وعي الجماهير إلا من خلال الأعمال الإبداعية. ولذلك كانت أغنية أم كلثوم هي أول ما ربطني بحضور عبدالناصر الطاغي بوصفه «مثال الوطنية».
هذه الصورة عن جمال عبدالناصر سرعان ما عادت لتستقر في عقلي المراهق سنة 1956، حين حدث العدوان الثلاثي على مصر، وذلك رداً على تأميم عبدالناصر قناة السويس وتحويلها إلى شركة مساهمة مصرية. وكان ذلك في يوليو 1956، فتحالفت إنجلترا وفرنسا وإسرائيل لغزو مصر، وإسقاط حكم عبدالناصر، وعودة القناة إلى الإدارة الأجنبية مرة أخرى. كنت أفهم ما يدور من حولي، فقد أصبحت في الثانية عشرة من عمري، وبدأت أدرك معاني الوطنية والقومية في آن. أما الوطنية فقد ارتبطت بحب الوطن والدفاع عنه بكل غال ونفيس، والتضحية بالنفس والجسد في سبيل سلامته وبقائه حراً عالية أعلامه التي ترفرف في كل مكان. هكذا كنت أنشد مع أقراني القصيدة التي كتبها الشاعر كمال عبدالحليم ولحنها علي إسماعيل، وغنتها الشابة فايدة كامل التي كانت وجهاً جديداً في ذلك الوقت، وكانت كلمات كمال عبدالحليم تثير حماستنا، فننشد مع فايدة كامل:
دع سمائي فسمائي محرقة
دع قنالي فمياهي مغرقة
واحذر الأرض/ فأرضي صاعقة
هذه أرضي أنا/ وأبي ضحى هنا
وأبي قال لنا/ مزقوا أعداءنا
أما القومية فتعلمناها من استجابات الشعب العربي في أقطاره المختلفة التي ثار أبناؤها تعاطفاً وتضامناً مع أشقائهم من أبناء الشعب العربي في مصر، وهكذا استرجعت النشيد الذي كنا نردده صغاراً، قائلين:
بلاد العرب أوطاني
من الشام لبغدان
ومن نجد إلى يمنٍ
إلى مصر فتطوان
فلا حد يباعدنا
ولا دين يفرقنا
لسان الضاد يجمعنا
بغسان وعدنان
ولن أنسى صوت عبدالناصر، وهو يخطب في الجامع الأزهر، وصوته شبه مختنق من الانفعال والحماسة، في الثاني من نوفمبر 1956: «أنا هنا في القاهرة ضد أي غزو محتمل، سأقاتل معكم... أنا هنا موجود في القاهرة، ولادي موجودين معكم في القاهرة، ما طلعتهمش برَّه، ومش حاطلعهم بره. وأنا موجود معكم هنا في القاهرة». هذه الكلمات كانت تنزل على وعي الفتى الذي كنته في نوفمبر 1956 كقطع الجمر التي تحفر لنفسها مكاناً لا يُمحى من الذاكرة التي كانت لاتزال غضة في ذلك العام الذي تباعد في الزمان بما يقرب من ستين عاماً.
مؤكد أن اندحار العدوان الثلاثي وهزيمته قد ارتفع بمشاعرنا الوطنية إلى الذروة. وأهم من ذلك أنه أكد المشاعر القومية التي تجمع بين الشعوب العربية فترتفع موجة المد القومي إلى أبعاد غير مسبوقة، ويكثر الحديث عن الأمة العربية والوطن العربي على نحو لم يكن موجوداً من قبل. ولم يكن من قبيل المصادفة أن تصدر دولة الكويت العزيزة أشهر مجلاتها «العربي» بعد الانتصار على العدوان الثلاثي وارتفاع الوعي القومي إلى أبعد حد، فتأتي «العربي» لتصبح «مجلة شهرية عربية مصورة، يكتبها العرب ليقرأها كل العرب». ويشهد العام الذي صدرت فيه «العربي» أول تجربة وحدة سياسية بين مصر وسورية، أملاً في أن تكون هذه الوحدة بداية تحقيق الحلم الذي يليق بأحلامنا، عندما كنا نهتف: «شعب عربي واحد» أو نكرر كلمات الأغنية الحماسية «وطني حبيبي الوطن الأكبر» من كلمات أحمد شفيق ولحن محمد عبدالوهاب وغناء عبدالحليم حافظ وصباح وهدى سلطان وشادية ونجاة الصغيرة. ولاأزال أذكر البداية الجميلة: «وطني حبيبي الوطن الأكبر/ يوم ورا يوم أمجاده بتكبر/ وانتصاراته مالية حياته/ وطني بيكبر وبيتحرر/ وطني وطني». كانت إذاعة الأغنية سنة 1960 مع الاحتفال بوضع حجر الأساس للسد العالي الذي كان علامة على أفق جديد واعد من الآفاق التي فتحتها الناصرية مع مطلع الستينيات. 
أذكر أنني استمعت إلى أغنية «الوطن الأكبر» في بلدتي المحلة الكبرى التي رحلت عنها بعد ذلك بشهور لألتحق بكلية الآداب، جامعة القاهرة. وكان هدفي محدداً، الالتحاق بقسم اللغة العربية، حيث يوجد طه حسين، مثلي الأعلى الذي اخترت المضي في طريقه، ووهبت نفسي لهذا الهدف. وكانت المشكلة الأولى التي تواجهني هي ارتفاع رسوم الالتحاق بالجامعة. كان طه حسين قد حقق حلم مجانية التعليم قبل الجامعي وبقي التعليم الجامعي بنفقات عالية. احتملت أسرتي عناء تدبيرها في الفصل الدراسي الأول. وقال والدي: عندما يأتي الفصل الدراسي الثاني ييسرها الله. وما إن اقترب الفصل الدراسي الثاني حتى بدأت أحمل الهم، وأفكر في ما سوف تتحمله أسرتي من مكابدة، كي يدبروا المبلغ المطلوب. وأذكر أنني لم أنم من أرق التفكير في هذه المشكلة الكبيرة (في ذلك الوقت) وذهبت إلى الجامعة، فوجدت أحد زملائي يقول لي مبتسماً: هل عرفت آخر الأخبار؟ فقلت: وما هي؟ فقال الرئيس أصدر قراراً بأن يكون التعليم كله بالمجان، سواء الجامعي أو غير الجامعي. ولم أفرح فقط، بل قفزت من الفرحة. وهذا هو الوجه الأول من أوجه تميز عبدالناصر. إنه كان دائماً مع الفقراء ومحدودي الدخل فعلاً لا قولاً. وبفضل هذه المجانية انطلقت في التحصيل بكل ما أستطيع من جهد، وغدوت الأول على الصف الذي كنت فيه، وينتبه إليّ الأساتذة العظماء الذين شرفت بالتتلمذ عليهم: سهير القلماوي، عبدالعزيز الأهواني، شكري عياد، عبدالمحسن بدر، عبدالحميد يونس، شوقي ضيف، رحمهم الله جميعاً.
ولا أنسى في عامي الدراسي الأول أنني شهدت ذات صباح مجموعة من المتظاهرين في الحرم الجامعي، فيهم عدد لا بأس به من الطلبة العرب، فقد كانت الجامعة المصرية في مطلع الستينيات جامعة كل العرب تقريباًً، ولذلك كنت تسمع فيها كل لهجات الأمة العربية. وجذبت التظاهرة انتباهي، ودفعني الفضول إلى الانضمام إليها، فلم أكن قد رأيت تظاهرة من قبل في مدينة المحلة الكبرى. وشيئاً فشيئاً، وجدت نفسي مندمجاً في جو التظاهرة التي سارت إلى مدخل القاعة الكبرى للجامعة، وصعد قادة التظاهرة الدرج ليخاطبوا في المتظاهرين. 
وصعدت إلى جوارهم من قبيل الفضول، وربما لكي أكون قريباً منهم. وفجأة وجدت حركة غير عادية، وتلفتُّ حولي ففوجئت بقامة مهيبة إلى جانبي، وتلاقت عيناي وعينا عبدالناصر، فشعرت بالوجل، ولكنه تصرف كالأب الذي يربت على كتف ابنه كي لا يخاف، وفي هذه الأثناء، أتوا له بميكروفون أشبه بما يحمله رجال شرطة المرور. وأخذ يخاطب في جمع المتظاهرين الذين كانوا حوالي مائة قبل ظهور عبدالناصر، فإذا بهم يتحولون إلى آلاف مؤلفة، وامتلأ حرم الجامعة بالطالبات والطلاب بحيث لم يعد هناك مكان لقدم، وأعجب من ذلك ما حدث خارج سور الجامعة من أتوبيسات النقل العام، فقد كان السائقون يتوقفون، وينزل الركاب معبِّرين عن فرحهم بمجرد علمهم بأن الرئيس يخطب في الجامعة. وبالطبع، مع الزحام، تباعدت عن مجاورة الرئيس، لكني حرصت على موقع لي في مدخل القاعة الكبرى للجامعة، كي أرى الآلاف المؤلفة تمتد من داخل الحرم الجامعي إلى خارجه في منظر مهيب لم أر مثله إلا في ثلاثين يونيو عام 2013 يوم خرجنا كمصريين لإعلان رغبتنا في انتهاء حكم الإخوان المسلمين.
ومضت سنواتي الجامعية بهيجة مفعمة بالأمل في المستقبل، وكنت واثقاً بتفوقي وتعييني معيداً في الجامعة، فقد كنت أَصِل الليل بالنهار في البحث والاطلاع. ولم يعكر صفو شعوري بالبهجة والثقة بالغد الواعد ما نقله لي بعض زملائي المنتمين إلى اليسار عما يحدث في السجون الناصرية. فقد كان ما أراه حولي يملأني أملاً في الغد. وحتى المعتقلين من اليسار أُفرج عنهم سنة 1964، وأخذ حضورهم يظهر في الإعلام، مما يضيف إلى الشعور الواثق بغد مشرق.
ولكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن، فأتخرج في يونيو 1965، ولكن لا يصدر قرار بتكليفي معيداً في قسم اللغة العربية، وذلك لأن أساتذتي كانوا منقسمين إلى جناحين: جناح شوقي ضيف وجناح سهير القلماوي. وكان القسم قد أصدر إعلاناً عن تعيين معيدين قبل تخرجي بسنوات معدودة. واختلفت الأقطاب في الاختيار، الأمر الذي أوقف أي تعيين في القسم. ومن ثم كان عليّ أن أبحث عن عمل إلى أن يتفق الأساتذة. وانتهت بي الحال إلى أن أعمل مدرساً للغة العربية في قرية من قرى محافظة الفيوم اسمها طبهار. وخلال الأشهر المعدودة التي قضيتها في التعليم عانيت ما يعانيه مدرس صغير بلا واسطة من اضطهاد وتمييز وظلم وفساد. وأذكر أنني كنت جالساً إلى منضدة في غرفة متواضعة استأجرتها، فإذا بعبدالناصر يلقي إحدى خطبه، ويتحدث كعادته عن العدل والمساواة، فإذا بي أشعر بالغضب والثورة الداخلية، ووجدت نفسي أكتب إليه خطاباً في كراسة تحضير الدروس شارحاً ما آلت إليه حالي، وكيف لم يراع أحد تفوقي الاستثنائي، الأمر الذي انتهى بي إلى أن أكون مدرساً في مدرسة طبهار الإعدادية المشتركة، وبعد فراغي من كتابة الخطاب، طلبت من بقال القرية الذي كان يواجه نافذة حجرتي، أن يعطيني ظرفاً وطابع بريد. ووضعت ما كتبته في الظرف الذي كتبت عليه: القاهرة، رئاسة الجمهورية، السيد الرئيس جمال عبدالناصر. وأعطيت الخطاب إلى بقال القرية لكي يضعه في صندوق البريد المعلق على الحائط بجوار دكانه.
وانتهى اليوم، وجاء الصباح مؤذناً بيوم آخر من أيام مدرس اللغة العربية، ومرت بعد هذا اليوم أيام. وتكاثرت الأيام المتلاحقة إلى أن نسيت الخطاب الذي أرسلته. وانشغلت أكثر بدخولي السنة التمهيدية للماجستير التي أعادتني إلى الدرس والتحصيل. وكنت لا أزال محتفظاً بغرفتي في مسكن يشاركني فيه زميل. وما إن رآني زميلي حتى تهلل وجهه، وقال: لقد أرسلت لك الدكتورة سهير القلماوي «فرَّاش» القسم ثلاث مرات، كي تذهب لمقابلتها على وجه الضرورة، فقلت له: لعلها أفلحت في إقناع رئيس الجامعة بإزالة الظلم الواقع عليّ وسوف أذهب لمقابلتها في الصباح. 
وبالفعل ذهبت في صباح اليوم التالي للقائها في مكتبها بقسم اللغة العربية بكلية الآداب، جامعة القاهرة. وعندما رأتني تهلل وجهها بابتسامة مشرقة، قائلة لي: مبروك يا ابني، انتهت مشكلتك، فاذهب إلى رئيس الجامعة واشكره على قرار تعيينك معيداً في القسم. وملأني الفرح، وظللت أشكر لها ما فعلته. وهرولت إلى مكتب رئيس الجامعة الذي فشلت في كل محاولات مقابلته من قبل، ولكن هذه المرة كان هناك شيء مختلف، فما إن علم مدير مكتبه باسمي حتى هبَّ واقفاً، وأدخلني إلى رئيس الجامعة الذي كان بشوشا حنوناً إلى أبعد حد، مستنكراً الظلم الذي وقع عليّ. وبعد أن فرغت من شراب عصير الليمون الذي أصرَّ على طلبه لي، وأصر على أن أشربه، تركني لكي أذهب إلى أمين الجامعة الذي أصبح صديقاً عزيزاً لي في ما بعد.
الطريف أنني عندما أخبرت أمين الجامعة الأستاذ غباشي عن اسمي، صاح ضاحكاً: أهذا هو أنت الذي أقام الدنيا ولم يقعدها؟! فاستغربت من التعليق، وقلت له: أنا شاكر لأستاذتي د.سهير القلماوي على جهدها في إقناع رئيس الجامعة، فبدت ملامح الاستنكار والسخرية على وجهه، وقال لي: ما لها الدكتورة سهير القلماوي يا ابني. ألست أنت الذي كتبت هذه الشكوى إلى الرئيس جمال عبدالناصر؟ وفتح الدرج الأوسط في مكتبه، وأخرج الورقة التي انتزعتها من كراسة التحضير، وعليها تأشيرة مكتوبة بخط عبدالناصر: الأستاذ الدكتور وزير التعليم العالي للتعيين والتحقيق، وبعدها تأشيرة من وزير التعليم العالي إلى رئيس الجامعة بالتعيين فوراً والتحقيق. وعندما رأيت ورقتي وبعدها تأشيرة عبدالناصر غامت عيناي ولم أستطع مقاومة دموعي. وانتظرني الأستاذ غباشي كي أهدأ. 
وقال لي: وقِّع على تسلمك عملك معيداً في قسم اللغة العربية بكلية الآداب، وبعد أن وقَّعت، طلب مني أن أكتب تاريخ اليوم، فكتبته تحت التوقيع 16/3/1966. وهكذا بدأت حياتي الجامعية التي لاتزال مستمرة بإذن الله ومشيئته. 
لكن ما ظل يحيرني هو كيفية وصول هذا الخطاب إلى يد الرئيس عبدالناصر، وكيف قرأه وذيَّله بالتأشيرة الحاسمة التي كتبها. ظلت الإجابة مجهولة لا أعرفها إلى أن مرّت سنوات عديدة وتوفي عبدالناصر، وجاء بعده السادات ليختار طريقاً مناقضاً أدى بنا إلى الكوارث التي نعانيها إلى اليوم. وكنت ضد معاهدة كامب ديـفيد ورافضاً لها مع المعارضين للسادات، فقرر السادات الخلاص منا، فسجن البعض، وطرد عدداً كبيراً من أساتذة الجامعة الذين نقلهم من وظائفهم الأكاديمية إلى وظائف إدارية، وكنت واحداً من هؤلاء الأساتذة. وقد نقلت إلى وزارة الشؤون الاجتماعية، حيث ألحقوني بمكتب رئيس مجلس الإدارة. وكان من الطبيعي أن أفكر في مغادرة الوطن الذي تحوَّل إلى جمر، فقبلت دعوة للعمل أستاذاً زائراً في جامعة استكهولم بالسويد. وهناك رحَّب بي سفير مصر الرجل النبيل عمر شرف، عليه رحمة الله، الأخ الأكبر لسامي شرف، مد الله في عمره ووهبه الصحة. وبالمصادفة أقام السفير شرف مأدبة غداء دعاني إليها، وتعمَّد أن يجلسني إلى جانب شقيقه سامي شرف، سكرتير الرئيس عبدالناصر، وكان قادماً إلى السويد ليستجم بعد عملية جراحية خطرة أجريت له في باريس. 
وما إن انفردت بالأستاذ سامي شرف حتى سألته عن كيفية وصول خطابي إلى عبدالناصر وسط الآلاف من الخطابات التي تصل إليه يومياً، فأخبرني الأستاذ سامي شرف أنهم كانوا يقرأون كل الشكاوى التي كانت تصل إلى الرئاسة. ويتم تلخيص كل شكوى في سطر أو سطرين، وتعرض الملخصات في ورق عرض مستقل على الرئيس ليعرف مضمون الشكاوى، وإذا استوقفته شكوى فإنه يضع علامة عليها، كي يقرأ الشكوى كاملة، ويعلِّق عليها بما يرى. هكذا وصلت شكواي إلى يدي الرئيس عبدالناصر، فأنصف الشاب الذي لم يكن قد أكمل عامه الثاني والعشرين، وفتح الطريق أمام هذا الشاب ليصبح الدكتور ثم الأستاذ الدكتور الذي لم ينس لعبدالناصر أنه لولاه لما أكمل تعليمه الجامعي، بعد أن قرر مجانية التعليم الجامعي، ولولاه لما أصبح هذا الشاب أستاذاً جامعياً، يتدرج في المناصب إلى أن يصل إلى أعلاها، من دون أن ينسى عبدالناصر وفضله على الملايين من أمثاله. وكم كانت سعادة هذا الشاب كبيرة عندما عمل أستاذاً في جامعة الكويت، وكان الطريق الذي يصل إلى الجامعة بقلب المدينة يحمل اسم جمال عبدالناصر... رحمه الله.
الطريف أنه بعد تعييني في الجامعة لم أبعث بخطاب شكر إلى رئاسة الجمهورية لأشكر الرئيس الذي لولاه – ربما- ما كنت أكتب في هذه المجلة إلى اليوم. لقد مر على هذا الحادث حوالي نصف قرن. وقد حكيت واقعة تعييني في الجامعة أكثر من مرة. وفي كل مرة لم أكن أفكر في الأمر إلا من منظور الرئيس العادل الذي لا يتردد في إنصاف واحد من أبناء شعبه. 
لكني اليوم، أنظر إلى الموضوع من زاوية المواطن الذي أنصفه الرئيس، فنسي هذا المواطن أن يشكر الرئيس. ولذلك أسأل نفسي في هذا المقام، وبعد كل هذه السنوات، هل أنستني الفرحة أن أكتب شاكراً إياه، أم أن الفرحة قد أربكتني فنسيت واجب الشكر... هل هو الخجل؟ هل هو الخوف؟ لا أعرف إجابة مقنعة. لكن ما أستدركه الآن على نفسي، هو أنه كان من حق الرئيس أن أشكره. لكن الأمر كان مرجعه صفة من الصفات التي ألصقناها بعبدالناصر، فقد كان جيلي ينظر إليه بوصفه الأب القادر على كل شيء، الأب الذي يسهر على الوطن لينام أبناؤه في اطمئنان، والأب الذي يحمل عن الأبناء كل مطالبهم وأحلامهم، من دون انتظار لأي شكر.
لقد كان عبدالناصر ابن الطبقة الوسطى في أنبل قيمها وأخلاقها العظيمة وإبداعاتها الخالدة. ولذلك عندما جاءت كارثة 1967 لم نحاسب أحداً إلا إياه، ولم نغضب من أحد إلا منه، لماذا؟ لأنه كان يختزل في حضوره ومهابة سمته وهيئته، كل الخصال الجليلة والقيم الجميلة لأبناء الطبقة الوسطى. وبقدر حبنا له كان غضبنا منه بعد تلك الهزيمة. ومع ذلك فعندما قرأ علينا بيان التنحي عن الرئاسة، عقاباً لنفسه على الهزيمة، لم نقبل انسحابه وأصررنا على أن يبقى لأننا كنا نؤمن أن الذي أغرقنا في 1967 قادر على إنقاذنا من الغرق. ولم يكن أمامه إلا أن يستجيب لنا. وبالفعل، قام في السنوات الأخيرة من حياته بتحقيق معجزتين، وما كان سواه بقادر على فعل ما فعل. المعجزة الأولى هي استكمال بناء السد العالي مشروع مصر الأكبر، والمعجزة الثانية هي إعادة بناء وتأهيل القوات المسلحة. وقبل أن يقوم السادات – بعد وفاة عبدالناصر - بمأثرة حرب أكتوبر 1973، قاد عبدالناصر معارك الاستنزاف التي هي أمجاد لم يعرفها الناس بعد.
وفوق ذلك أعاد عبدالناصر النظر في الاستراتيـجـية التي تمضي عليها مصر، فقد شعر بأن الميثاق لا يكفي، وأنه لابد من إضافة جديدة. هكذا كان بيان 30 مارس 1968 واعداً بأفق جديد في طريق مصر. ولن أنسى – في حياتي التي اقتربت من نهايتها - ملامح وجهه المرهقة، وصوته الأكثر خفوتاً، وهو يلقي خطابه الأخير في احتفالات يوليو 1970. لقد بدا هذا الخطاب كما لو كان خطاب وداع وكشف حساب، فلقد قال للملايين التي تحبه إن الجيش أصبح قادراً ومستعداً لحرب التحرير، وإن الافتتاح الرسمي للسد العالي سيتحدد في أقرب وقت. وكانت سنوات ما بعد 1967 هي سنوات انفتاح فكري وتسامح إبداعي، ولذلك لم نعرف اعتقالاً لمبدعين، كما حدث في سنة 1959. وكان الحوار حول بيان 30 مارس مفتوحاً ديمقراطياً إلى أبعد حد. ولأول مرة طرح عبدالناصر فكرة التعددية السياسية والفكرية بدل واحدية الحزب الواحد التي بدا له أنها لم تعد ملائمة. ولم يكن من المصادفة أن تكون التعددية هي أحد شعارات السادات بعد ذلك.
مؤكد أن عبدالناصر تغير بعد كارثة 1967، ومؤكد أنه دفع ثمن الهزيمة غالياً من صحته وروحه. وما أبعد الفارق بين خطبه قبل 1967 وما بعدها. اختفى الصوت الهادر وحل محله صوت حكيم محزون، واشتعل الرأس شيباً، وبدا عرج خفيف في السير يتزايد، والقلب تثقله طبقات فوق طبقات من الهموم. لكن عزيمة التحدي لم تهن والقدرة على مواجهة المسؤولية لم تضعف، إلى أن عرفنا أننا فقدناه في الثامن والعشرين من سبتمبر 1970، في آخر تحد لم يتردد في مواجهته، فخرجت مع ملايين المصريين نودّع أبانا الذي كان كل شيء في حياتنا. ولاأزال أذكر تيارات الدمع التي كانت تنهمر مني ومن كل من حولي في جنازته التي لم أشاهد مثلها منذ خمسة وأربعين عاماً، ولا أظن أني سأشاهد أو أسمع هدير الحزانى: الوداع يا جمال يا حبيب الملايين .